كيف استقلت اليونان؟
فوجئت الدوائر السياسية في أوروبا في عام ١٨٢١م، باندلاع الثورة في ولايات الطونة ضد الدولة العلية، فكان ذلك فاتحة الاضطرابات والقلاقل التي توقف عليها مصير الإمبراطورية التركية، والتي تعرف في التاريخ بالمسألة الشرقية، وكان بعض الساسة يعزو معظم القلاقل في أوروبا إلى وجود تركيا في داخلها؛ لأنها تخالفها في الدين والعادات والأخلاق، ولكن لحسن حظ الترك لم توفق دول أوروبا قط إلى حل هذه المسألة، فإن خوف النمسا وإنجلترا من اتساع نفوذ روسيا، كان يفوق بكثيرٍ كراهيتها للأتراك.
على أنه لم يكن في ظاهر الأمر داعٍ حقيقي لقيام اليونان ضد الترك، إذ إن رعايا السلطان المسيحيين الأرثوذكس كانوا وقتئذٍ أحسنَ حالًا من فلاحي كثيرٍ من الدول الأوروبية الأخرى، ولكن ديانتهم كانت دائمًا تجعلهم يشعرون بأنهم عضو غريب في جسم الدولة العثمانية، وأن نبوغهم في الملاحة، وذكرهم مجد الإغريق الأقدمين ولد فيهم آمالًا وأحلامًا، حتى صاروا يمنُّون أنفسهم باسترجاع دولة الإغريق البيزنطية، واستعانوا على تحقيق أمانيهم بتأسيس الجمعيات السرية، وكان أهمها «جمعية هيتاريا فيليكي» (جمعية الإخوان).
أُسِّست الجمعية عام ١٨١٤م بعد أن علم اليونان أن مؤتمر فينا لم يعمل شيئًا لصالح رعايا السلطان المسيحيين، وكان غرض هذه الجمعية طرد الترك من أوروبا، وإعادة دولة الروم الشرقية، وقد سنحت لهم الفرصة للثورة ضد الترك، عندما رأوا أحد ولاة الأتراك، وهو علي باشا والي يانينا يخرج على الدولة، فشقوا عليها عصا الطاعة في ملدافيا والأفلاق في مارس سنة ١٨٢١م، بإمرة «ألكسندر هبسلنتي» أحد نبلاء اليونان، ولم يكن هبسلنتي هذا بالقائد الكفء، وكان كل اعتماده في الحركة على معونة الروسيا له، ولكن فاته أن قيصر الروسيا كان أكبر مؤيد لتحالف الدول، وأن مترنيخ زعيم ساسة أوروبا كان عدو كل حركة ثورية، وكان صاحب النفوذ على جميع ساسة أوروبا، فلم تلبث الفتنة أن نامت لعدم مؤازرة الروسيا لها.
على أن هذه الحركة لم تكن إلا نذيرًا بثورةٍ أخرى أشد منها هولًا وأعظم شأنًا، نشبت في المورة بقيادة «كولوكتروني» وغيره، وفيها أخذ الترك على غرة، فهزمهم الثوار في كل مكان حتى استولوا على حصن «تريبولتزا»، وفتكوا بالمسلمين فتكًا ذريعًا، فثأرت الدولة لنفسها بأن قتلت بطريرك القسطنطينية؛ إذ كان له دخل في الثورة، وذبحت كثيرًا من مسيحيي آسيا الصغرى.
ولما غلب الترك علي باشا على أمره، وقتلوه في فبراير سنة ١٨٢٢م، صفا لهم الجو، وجندوا كل قواهم لإخماد أنفاس الثوار، فاستولى الأسطول العثماني على جزيرة «خيوس»، وفتك بكثيرٍ من أهلها، وأسر معظم الباقين، ومن ذلك الحين انقلبت الحرب إلى مذابح دموية بين الفريقين، قضي فيها على معظم المسلمين ببلاد المورة، وازدادت خطورة الحالة حتى أصبح من المحتم تدخل الدولة في ثورة اليونان.
ولا شك أن اليونانيين وقتئذٍ لم تكن لديهم الوسائل والأسباب الكافية، لنيل استقلالهم بأنفسهم، فإن معظم زعمائهم كانوا من الثوار لا من قادة الحرب، وقوادهم البحريون لم يتدربوا على الحروب البحرية، ولو تُرك اليونان وشأنهم في هذه الحروب، لما نجحت الثورة ضد العثمانيين، ولكن هناك أسبابًا دعت إلى مؤازراتهم والأخذ بناصرهم، فإن الأوروبيين كانوا جميعًا يؤيدون اليونان؛ لما ارتكبه الأتراك من الفظائع انتقامًا لمذابح المورة، ولعطفهم على اليونان ورغبتهم في مساعدتهم عنهم لمجرد كونهم يونانيين؛ لذلك ظل النصر حليفهم مدة، بمعاضدة الشعوب الأوروبية، وتطوع الكثير من أبنائها في جيش الثوار.
ولما ضاق الحال بالسلطان، ورأى أن اليونان ستفلت من يده، استنجد بمحمد علي باشا والي الديار المصرية، فأرسل محمد علي جيشًا كامل العدد والعدة بإمرة ابنه إبراهيم باشا، ولم تمض إلا مدة وجيزة حتى تغير مجرى الحرب، وأصبح النصر في جانب الترك بفضل تدخُّل الجيش المصري.
وفي أثناء ذلك كان تحمُّس الشعب الإنجليزي لليونان شديدًا، لاعتقادهم أنهم مدينون لسكان هذه البلاد الأقدمين بكل علومهم ومعارفهم، وكل ما ينمُّ عن الجمال والشهامة والمروءة، فإن «جورج كاننج» وزير الخارجية الإنجليزية، رغم تمسكه بسياسة التزام إنجلترا الحياد، كان يعطف على اليونان عطفًا شديدًا، وطالما انكب على مطالعة آدابهم القديمة، التي كان يحبها حبًّا جمًّا، كذلك كان موقف الشاعر الإنجليزي «اللورد بيرون» معهم، فكان يذكي بأشعاره نار الحماسة في قلوب مواطنيه للأخذ بناصر اليونان، وذهب بنفسه متطوعًا في الجيش، فمات هناك وهو يدافع عن القضية اليونانية.
وكان نجاح محمد علي وانتصاره على اليونان، فاتحة طور جديد في هذه الحرب، فإن نقولا الأول قيصر روسيا الجديد، الذي تولى العرش في أواخر عام ١٨٢٥م، عاد إلى سياسة بطرس الأكبر وكترين الثانية، وهي التي تقضي بتقويض أركان الدولة العثمانية، فمال إلى مساعدة اليونان، وأراد أن يسير جيشًا لمقاتلة الترك، ولكن إنجلترا بزعامة جورج كاننج، كانت تأبى أن ترى روسيا تمزق أوصال الدولة العثمانية، أو تنفرد بحل المشكلة حسب أهوائها.
ولذلك فقد اضطرت إلى نبذ سياسة الحياد، التي اتبعتها في أول الحرب، وقررت وجوب التدخل في الأمر لحماية تركيا من الروسيا، وانضمت فرنسا إلى ذلك الرأي، أما النمسا وبروسيا فكانتا تعارضان كل تدخل في مشكلة اليونان.
وبعد مفاوضاتٍ طويلة أبرمت إنجلترا وفرنسا وروسيا «معاهدة لندن» (يوليو سنة ١٨٢٧م)، وفيها تَقرَّر وجوب تدخل أوروبا في مشكلة تركيا، كما اتُّفق على الشروط التي لا بد أن تمنح لليونان، فأعلن أنه لا يجوز لدولةٍ من الدول التي وقَّعَتْ هذه المعاهدة أن تستهدف من ورائها أي توسع في أملاكها أو تجارتها، وعرضت الشروط بعد ذلك على تركيا، وفحواها أن تستقل اليونان بإدارة شئونها، مع اعترافها بسيادة الدولة، وأمهلتها شهرًا لقبول هذه الشروط.
وكان كاننج لا يزال يسعى إلى حل المشكلة بالطرق السلمية، ولكن عاجلته المنية في خلال ذلك، وحدث أن تركيا لم تجب جوابًا مُرضيًا على العرض الذي قدم إليها، فسيرت إنجلترا وفرنسا والروسيا أساطيلها إلى المياه التركية، وصدرت الأوامر إلى كلٍّ من قائد الأسطول الإنجليزي والفرنسي، بأن يحاول حل الخلاف بين الترك واليونان، بالطرق السلمية ما استطاع إلى ذلك سبيلًا.
وفي هذه الآونة كان الأسطول التركي المصري راسيًا في مياه خليج «نوارين»، وإبراهيم باشا ماضٍ في فتوحاته، غير مكترث باحتجاجات الحلفاء، فدخلت أساطيلها هذا الخليج، لترغم تركيا على الاستجابة لما طلب منها، وحدث خلاف بشأن موضع بعض القطع التركية، فتبادل الفريقان بعض طلقات نارية أدت إلى الاشتباك في موقعةٍ هامة، أسفَرَتْ عن تحطيم الأسطول التركي المصري في ٢٠ أكتوبر سنة ١٨٢٧م، وأثارت النكبة غضب السلطان وحنقه، حتى إنه أعلن الجهاد على كل المسيحية وخاصة الروسيا عدو الدولة القديم، فعرضت الروسيا على الحلفاء أن يستمر الجميع في الحرب، ولكن أَبَتْ إنجلترا الاستمرار في عملٍ قد يكون من شأنه إضعاف تركيا، وقَفَا أثرها في ذلك فرنسا، فانسحبتا من الحرب، وهكذا خلا الجو لروسيا لمنازلة تركيا على انفراد.
ثم عادت إنجلترا فرأت أن وقوفها على الحياد، يمنعها من الاشتراك في حل المشكلة عند انتهاء الحرب، فقرر وزيرها «ولنجتون» إرسال قوة لإجلاء جيوش محمد علي عن المورة، وقد تم ذلك بمظاهرةٍ بحرية قام بها كدرنجتون أمام الإسكندرية، وفي هذه الأثناء هزم الروس الأتراك، واضطروهم إلى عقد «معاهدة أدرنة» في ١٤ سبتمبر سنة ١٨٢٩م، وبها أصبحت ولايتا الأفلاق والبغدان (رومانيا الآن) مستقلتين تقريبًا تحت حماية روسيا، كما صارت اليونان ولاية قائمة بذاتها، ليس لتركيا عليها غير السيادة الاسمية.
وفي يوم ٣ فبراير سنة ١٨٣٠م وقع في لندن بروتوكول المؤتمر الذي عقد من بريطانيا وفرنسا والروسيا؛ لبحث موضوع استقلال اليونان التام عن الحكم العثماني.
وقد نص البند الأول منه على أن تصبح اليونان دولةً مستقلة تتمتع بكافة الحقوق السياسية والإدارية والتجارية، التي يتضمنها الاستقلال التام.
أما البند الثاني فقد عين حدود الدولة اليونانية الجديدة.
ونص البند السادس على أن يمنح الباب العالي للرعايا اليونان، الذين يرغبون في مغادرة الأراضي العثمانية مهلة سنة يبيعون فيها ممتلكاتهم ويرحلون بعدها بحرية.
كذلك تمنح الحكومة اليونانية هذا الامتياز نفسه لمن يريد مغادرة أراضيها، والذهاب إلى الأراضي التركية.
وعقدت بعد ذلك اتفاقية أخرى بين بريطانيا العظمى وفرنسا والروسيا من جانب، وبافاريا من جانبٍ آخر بخصوص السيادة الملكية في اليونان، وقد وقعت هذه الاتفاقية الأخيرة في لندن يوم ٧ مايو سنة ١٨٣٢م.
ونص البند الأول على أن يعرض الملوك في بريطانيا العظمى وفرنسا والروسيا — بمقتضى الحق المخول لهم من الشعب اليوناني — التاج الوراثي في اليونان على الأمير فردريك أوتو البافاري ثاني أولاد ملك بافاريا.
ونص البند الثاني على أن يتقبل جلالة ملك بافاريا باسم ابنه المذكور، الذي لم يكن قد بلغ سن الرشد بعد، التاج الوراثي في اليونان طبقًا للشروط التي تتضمنها هذه الاتفاقية.
وفي أي حالٍ من الأحوال لا يتحد التاج اليوناني والتاج البافاري في ملكيةٍ واحدة.
ونص البند التاسع على أن يُعتبر الأمير أوتو البافاري ملك اليونان، قد بلغ سن الرشد حينما تنقضي سنَتُه العشرون من العمر، أو بعبارةٍ أخرى في أول يونيو سنة ١٨٣٥م.
وقد لاقت الدول صعوبة في انتخاب ملك لهذه المملكة الجديدة؛ إذ رفض عرشها الأمير «يوحنا السكسوني»، والأمير «ليوبلد كوبرج» الذي صار فيما بعد ملكًا على البلجيك، إلى أن تولاه الأمير البافاري «أوتو» سنة ١٨٣٣م، وهو في الثامنة عشرة من عمره، ولا شك أن تولِّي هذا المركز كان من أصعب الأمور، ولم يبد «أوتو» حذقًا في إدارة شئونه، وكثرت في أيامه الفتن والقلاقل، حتى اضطر إلى النزول عن العرش سنة ١٨٦٢م، فتولاه «جورج الأول» ثاني أولاد «كريستيان التاسع» ملك الدانمرك بوساطة إنجلترا، ولا يزال الملك في بيته حتى الآن.
هكذا انتهت المسألة اليونانية، ولقد كانت روسيا في بادئ الأمر ترغب في تحويل بلاد اليونان إلى ولايةٍ مستقلة بشئونها الداخلية مع خضوعها لسيادة السلطان، ولكن ولنجتون ومترنيخ خشيا أن يكون ذلك وسيلة لتدخل روسيا في شئون البلقان فيما بعد، ففضَّلا منح اليونان استقلالًا تامًّا، رغم أنهما كانا في مبدأ الأمر في مقدمة المتمسكين بمبدأ المحافظة على أملاك الدولة العثمانية.