مؤامرة
الجو يقطُر ظلامًا، ولكن الأشباح تترامق في رجوم. السيد يتطاير غضبه شررًا، والأتباع بين يدَيه يقومون في ذلَّة وكآبة، ويهدرُ السيد قائلًا: يا لها من هزيمة لم تخطر لي على بال طيلة الأجيال المُتَعَاقبة! ها نحن نتخبَّط في مستنقع البطالة السافرة.
وسَرتْ همهمةٌ مليئة بالاكتئاب، حتى قال أحد الأتباع: ما قصَّرنا ولا أهملنا ولا تردَّدنا، عني شخصيًّا فقد تَخيَّرت رجلًا صالحًا لا تُقارِبه الإشاعات، وموضعُ ضعفِه لا يخفى على أحد، فهو ذو دخلٍ محدود وأعباءٍ ثقيلة، أغريته بالمال رشوة، أو اختلاسًا، ولكنه أبى بصلابةٍ عجيبة، عَرضتُ عليه اقتراحًا برَّاق المظهر؛ أن أُقرِضه مُبلغًا محترمًا ليستثمره في مصرف أو شركة، فتَسُد الفوائد القرض، ويبقى له بعد ذلك رزقًا حلالًا، فأعرض عني في استياء وكبرياء!
فتساءل السيد: ألم تذكِّره بما يجري حوله؟
– إنه يعرف كل شيء، حتى الأسماء يحفظُها عن ظهر قلب.
وتحوَّل نظر السيد إلى التابع التالي فقال: انتقيتُ رجلًا يُعتبر مثالًا في التقوى والعفة، واستبشرتُ خيرًا بحيويَّته الدفَّاقة وقوَّته الموفُورة، سلَّطتُ عليه امرأةً يذوب الصخر في دفء عينَيها ورشاقة بنيانها، ولكني لم أَدرِ من أين واتته المناعة الراسخة!
فصاح السيد: لعل الخطَّة لم تكن مُحكمة، ألم يزِلَّ أبُوهم وهو في كنَف ذي الجلال؟!
– صدِّقني يا مولاي، تحدَّتني صلابة تُفجِّر اليأس في ينابيع الأمل.
وجاء دور التابع الثالث فقال: عثَرتُ على أرملةٍ جميلة وتعيسة، تُكرِّس حياتها لتربية أربعةٍ من الأبناء، وتشقى بأكثر من عملٍ وبلا مُعين، اعتقدتُ أنَّها لُقطة لمن يريد أن يغوى، وأنَّني خُصصتُ بمهمةٍ يسيرة، ولکني وجدتُ الخيبة في بيت الرَّجاء، رغم تعدُّد الوسائل، وكثرة القوَّادين، والشقق المفروشة، كأنها ليست من ذرية حواء!
فتفكَّر السيد مليًّا وعيناه تتوهَّجان في الظُّلمة ثم قال: حسبُنا ما سمعنا، لا نُريد مزيدًا من القرف، أنا نفسي مُنیتُ بالفشل، ولكن لا شيء يدعو لليأس؛ فالمسألة أنه إذا وجدَت قلَّةٌ صالحةٌ في محيط من الفساد، فلا بد أن تكونَ على درجةٍ من المناعة يتعذَّر غزوها، فلندَعْهم في سجنهم الاختیاري، ولنَلتفِت إلى الفاسدين.
فقال أحد الأتباع مُحذِّرًا: ليسوا في حاجة إلى إغواء، إنهم يسبقوننا إلى السقوط قبل أن تبدُر منه حركةٌ واحدة.
فضحك السيد بمرارة حتى تطاير الشَّرَر مِن فِيه، وقال: هنا يكمُن سِرُّ أزمتنا، لم يعُد الشر بحاجة إلى مهارتنا؛ لذلك انضممنا إلى زُمرة العاطلين، وعلينا أن نُنقِذ أنفسنا من شَرك البطالة.
تضمَّن حديثه دعوة إلى إبداء الرَّأي دون إفصاح، فقال تابع: لنُعِد الكَرَّة بتصميمٍ أشد.
فرمقه بازدراءٍ ناري وقال: بل علينا أن نُغيِّر الخطَّة من جذورها.
فتطلَّعوا إليه بانتباهٍ مُرکز فقال: لم يَبقَ لنا إلا أن نرتدي أردية التقوى، ونسير في الأسواق لنُوقِظ الضمائر من جديد.
وتبادَلوا نظراتِ الذهول فواصل السيد: للضرورة أحكام كما يقول بنو آدم.
– ولكن لِمَ نُوقِظ الضمائر الميتة؟
– کي يکثُر الصالحون، فيتَّسِع مجال الإغواء أمامنا.
فقال تابعٌ بعد تردُّد: أفكار مولانا دائمًا صائبة، ولكنَّنا لم نُدرَّب على إيقاظ الضمائر!
– من السهل تعلُّمها بالاندساس في الجوامع، ومُتابعة أجهزة الإعلام.
– يا سيدنا ومولانا، لو أنَّ للكلام أثَره المُجدي لما تردَّى الحالُ إلى ما تردَّى إليه.
– بقوة سحري نحصل على نتائجَ مشجعة.
وقال تابع: هل يكفي الكلام وحده؟ .. هناك سلسلةٌ من الأزمات الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، تستل عن أي كلام فعاليته؟
– أعلم ذلك، وأعلم ما لا تعلمون، دعوا الأزمات؛ فقد تسندنا فيما بعدُ، وكما وجدَت قلةٌ صالحة في مُناخٍ فاسد، لن يتعذَّر علينا مضاعفة أعدادها، انطلَقوا فتعلَّموا الوعظ والإرشاد، وبُثُّوه بسحري الذي لا يُقاوَم وسوف تَرونَ.
– يا له من جِد! ولكنه بالمزاح أشبه.
فضحك السيد وقال: خيرٌ من اليأس والبطالة، بادروا إلى عملكم دون إبطاء؛ فالوقت من نار.
•••
بعد حين من الدهر جمع الظَّلامُ السيد وأتباعه على حالٍ جديدة من الإشراق، وقال السيد في شيءٍ من المرح: هاتوا ما عندکم.
قال أكبر التابعين: الحق أنني وجدتُ صعوبة في ممارسة دوري الجديد، ولولا تأیید مولاي وسِحره ما ذُقت طعم التوفيق، ولكنَّني درستُ الوعظ بهمَّةٍ عالية، وانتفعتُ كثيرًا بما يُنشَر في صحف المُعَارضة، وما تلهج به الألسنة في الشوارع، وكان في المدينة رجلٌ من ذوي المعاشات يُقيم في بيتٍ قديم ذي فِناءٍ غير ذي زرع، له من الأبناء أربعة، يشغلون مراکزَ مَرْموقة رغم أنَّهم من ذوي الدخل المحدود، الرَّجل يا مولاي طيبٌ أبيض الصفحة، وذو دین ومبادئ، ولم يكن معاشه يكفيه أسبوعًا أمام الغلاء الوحشي، ولكنه وجَد في بِر أبنائه ما جنَّبه أسباب القلق، وفي ظل تلك الطمأنينة تزوَّج من أرملة تُجاوِره في المسكن، وتَصغُره بعشر سنوات، تسللتُ إليه في مَشرب عصيرٍ على كثَبٍ من مسكنه، واقتحمتُ خلوتَه قائلًا بجرأة الدراويش: لديَّ ما أقولُه لكَ.
فنظر إلى جلبابي الأبيض، وعِمامتي الخضراء، وابتسامتي الحنون، وتساءل بفتور: من تكون يا حضرة؟
فقلت بهدوء وثقة: ناداني صوتُكَ الحارُّ، وأنت تضرع إلى الله عقب صلاة العشاء «ربي اكتب لي ولأبنائي الرِّضا في الدارين».
ودُهِش الرَّجل ودبَّ في عينَيه الاهتمام ولم ينبِس فقلتُ: تأثَّرتُ لضراعتكَ، وقلتُ هذا رجلٌ طيب يندُر وجوده في هذا الزمان الكالح، والله لأزورنَّه.
تمتم الرَّجل: إنكَ ولا شك من أولياء الله الصالحين!
– دعنا من إغداق الصِّفات، إنما جئتُ لأُنقِذكَ.
– تُنقِذُني! .. ولكن الدنيا بخير.
– ليست كما تبدو، كان يجب أن تسأل نفسك من أين يجيء أبناؤكَ بالمال الذي يكرمونكَ به!
فقال الرجل مُقطِّبًا: إنهم يشغلون مراکزَ كبيرةً كما لا بد أن تعلَم.
– في زماننا هذا لا ينفع مرتَّب ولا بنون!
– ماذا تعني؟
– کلامي واضح، أبناؤك مُنحَرفُون والانحراف مغبَّته وخيمة.
فهتف الرَّجل: أعوذ بالله من الشَّيطان الرَّجيم، أنا لا يُداخِلُني شك في أبنائي.
– من أجل ذلكَ جئتُكَ ناصحًا.
فقال الرجل بحرج: أنا لا يمكن أن أَمَسَّ ذلك الجانب من حياتهم.
– أفهمكَ جيدًا، ولن أُطالبكَ إذا اجتمعوا عندكَ إلا بأن تدعو لهم بالنَّجاة من شر الزمان.
فقال الرجل بارتياحٍ عابر: هذا ما أفعلُه دائمًا.
– ولكنني سأبثُّك قوَّةً من عند الله قادرةً على تحويل الصخر إلى ماءٍ عذب.
وتناولتُ راحته بين يديَّ وضغطتُ عليها طويلًا.
وسأله السيد في صمتٍ من اهتمام التابعين: ولمَ لَم تقصد الأبناء مُباشرة؟
فقال التابع بزهو: اصطدتُ أربعة برميةٍ واحدة!
فقهقه السَّيد قهقهةً تطاير منها الشرر، وقال: أحسنتَ.
وواصل التابع حديثه في ارتياح وطمأنينة: وتابعتُه من موقعي يا مولاي، لم يَحلُم العجوز الطيِّب بما لدعائه الجديد من أثَر، ولا خطَرتْ بباله العواقب المتوقَّعة، لم يَدرِ أنه أصبَح أبًا لأربعة من التائبين المستغفرين، ولكنه شعر بمُعَاملةٍ أخرى قوَّضَت حصن سلامه السعيد، عجز الأبناء عن مواصلة البِر به، تلقَّى أعذارًا وتأوُّهاتٍ كثيرة ونقودًا قليلة، لا تُغني ولا تُجدي، ودبَّ الشِّقاق في بيوت الأبناء فشمل الزوجات والأبناء، أمَّا العجوز فانقلَبتْ حياتُه عناءً متصلًا حتی ضاق بزوجته، كما ضاقت به، ووجدتُ في ذلك الكرب ما عزَّاني بعض الشيء لممارسة خيرٍ لم أُخلَق لممارسته، وسوف نجد في ذلك المناخ المتوتِّر المشحون بالقنوط ما ينفعنا عندما نَرتدُّ إلى أداء رسالتنا الأصلية!
فهتف السيد: جميل .. جميل .. جميل.
وتقدَّم تابعٌ ثانٍ فقال: أمَّا أنا فتبِعتُ السيدة الجميلة حتى استقرَّتْ في الشقة المفروشة، استعدَّت تنتظر صاحب الحظ، فرأَتني أمامها في زِي عظيمٍ من رجال الشرطة، فزعَتْ فزعًا شديدًا، حتی جحظَت عيناها، استحلفتني بأولادي أن أستُر عِرضها رحمةً بأُسرتها .. وتظاهرتُ بالتأثُّر وقلتُ لها: في وسعي أن أسوقكِ إلى القسم لتنالي جزاءكِ، ولتعترفي هناك بالدَّور الخسيس الذي يلعبه الوغدُ زوجُكِ.
فاشتعلَت حرارتها في توسُّلاتٍ دامعة حتى خُفتُ عليها الموت، وعندها دعوتُها للتوبة، وتقويم المعوَجِّ من سلوکها، ثم غادرتُ الشقة وهي لا تصدِّق، ما حدث بعد ذلك لم أتوقَّعْه؛ فقد تمرَّدتْ على زوجها ورمَتْه بما يستحقُّه، فنَشبَ بينهما نزاعٌ عنيف، وانساق الرَّجل مع غضبه، فانهال عليها ضربًا ورکلًا حتى فارقت الحياة.
فصاح السيد: ما أنتَ إلَّا غبي، كان يجب أن تُلقي الموعظة عليهما معًا في آنٍ، أمَّا أن تُقتل المرأة ويُعاقب الرَّجل، فقد ضيَّعتَ علينا فرصة عملٍ فريد.
فقال التابع بصوتٍ متراجع النبرة والشعور: معذرة يا مولاي، ما أنا إلا مبتدئٌ عديم الخبرة في طريق الخير.
وتحوَّل عنه والشرر يتطايَر من نَوافذِه إلى من يليه، فقال: ذهبتُ إلى رجلٍ تَحسبُه في حاجة إلى إغواء لا إلى موعظة، جذَّاب المظهر، نصف كلامه قرآن وحدیث، حمَّال لا يفتُر على الفساد والمنحرفين، مُتطوِّع كُلَّمَا سنحَت فرصةٌ لإلقاء خطبة الجمعة، كثيرون يظنُّونه داعية، رغم وظيفته المرموقة، هائم زوَّار للبقاع المقدسة، أما خطاياه فهو قوَّاد لكبار الفاسقين، وشحَّاذ مدَّاح في رحاب الأُمراء، وهو بعد ذلك خبير في المناقصات، ولولا أنني ذهبتُ إليه في زي خليجي لما أصغى إليَّ، ولكنَّني استطعتُ أن أُهرِّب إليه موعظتي، وتجلَّت أمام عينَيه صورتُه الحقيقية البشعة فاقتحَمه الاكتئاب وراح يتبَرَّع بالأموال الطائلة، حتى أَحرجَ المستثمرين أموالهم في الخارج.
وقال السيد بارتياح: إنجازٌ مُتقن.
وجاء دور الرابع فقال: وقع في يدي رجلٌ يدفع سيارة إلى الخلاء؛ ليغتصب فتاةً مغلوبة على أمرها، ترتعد إلى جانبه. وجداني أُطِل عليهما من المقعد الخلفي على هيئة رياضيٍّ مفتول العضلات، ذُعرَ الرجل، وتعلَّقتْ بي الفتاة، ولكنهما لم يلقَيا مني إلا خيرًا، کلماتٍ طيبة مُفْعَمة بالقوة الخفية عن الاستقامة، والاحتشام، والعفة، والشهامة، ثم رجعنا إلى العمار بسلام، وتفرَّقنا في وئام، وهما الآن يا مولاي مثالان للأدب، وموضوعٌ طيب للعمل!
وتتابعت الحكايات عن تُجَّار المخدرات، والمدمنين، والمهرِّبين، والعملاء، ووحوش الغلاء، والإرهابيين، والمتطرِّفين، واللصوص، وقُطَّاع الطرق .. وارتاح السيد لِما سمع ثم تساءل: هل لديكم أقوالٌ أخرى؟
فقال تابعٌ متحمس: تُوجد مجالاتٌ أخرى للعمل؛ فلا يخلو نشاط من أزمة يُمكن حلُّها من جذورها أو تخفيف وطأتها، فلا بد من جولاتٍ بين المسئولين!
فقال السيد: اسكت يا قصير النَّظر، إنَّ اقتراحكَ يفضي بنا إلى خلق مجتمعٍ صالح ومُناخٍ نقي يتعذَّر علينا فيه إغواءُ أحدٍ من البشر إلا بطلوع الروح، لنتركِ القلَّة الصالحة في صراعها مع الكثرة الفاسدة، ولندَعِ الإصلاح في مسيرته المتمهِّلة؛ ففي ذلك عونٌ لنا لا يصح أن نفقده.
وزفَر بارتياحٍ حتى ملأ الفراغ شَررًا وقال: يُمكِننا الآنَ أن نقول إننا تغلَّبنا على مشكلة البطالة، فهلُمُّوا إلى العمل.