مسافر بحقيبة يدٍ
في الصباح المبكر تبدو المدينة هادئة، شبه خالية، نقية، تجودُ شمسُها البازغة بدفقاتٍ من الحرارة، تُلطِّف من جو الشتاء، اجتمعَت الأسرة في الفيات، الأم تقود، وهو بجوارها تفصلُ بينهما حقيبةُ سفرٍ يدوية، وفي المقعد الخلفي جلس الغلامان في زي المدرسة الرسمي. نظر الرجل إلى الطريق بارتياح وقال: شدَّ ما يُبدِّد الزِّحام من وقار الشوارع!
لم تُعلِّق، ولكنها دفعَت السيارة بشيء من السرعة، حتى بلغَت المدرسة في ربع ساعة. وغادرها الغلامان مسرعَيْن، فهمس الرَّجل «إلى الصيدلية»، فانطلقَت المرأة بالسيارة نحو الصيدلية الواقعة على كثَبٍ في الجانب الآخر من الطريق. مضى الرَّجل إلى الصيدلية وابتاع أدويةً مختلفة له ولزوجه، ورجع إلى مجلسه وهو يقول: لا تُهملي في تعاطي الدواء من فضلكِ.
فساقت سيارتها وهي تقول باسمة: إلى البنك وهو الأهم.
الحركة الآن انفجَرتْ في الطريق. إنها لا تجيء تدريجيًّا، ولكنها تنقَضُّ كزلزال، سيارات وباصات وشاحنات كأنما تندَفِع في سباق. وقطعَت الفيات طريقًا قصيرًا في زمنٍ طويل نسبيًّا. وغادرها الرجل إلى البنك، فوجده شبه خالٍ، فأخذ من حسابه رزمةً ودسَّها في جيب بنطلونه ورجع مسرعًا. ووضع الرُّزمة في حقيبة زوجه قائلًا: تصرَّفي في نطاقِ وقتكِ ودعي الباقي لي.
– تعود غدًا؟
– أو بعد غد على الأكثر.
ومضت به نحو المحطة؛ حيث وقفَت أمام مدخلها الشرقي وسألَته: هل أصحبُكَ حتى يقوم القطار؟
فقال بسرعة: لا .. ما وراءكِ أهَم، إلى اللقاء يا عزیزتي.
يُعجِبه في المحطَّة ألا يغمضَ لها جَفْن، هناك دائمًا مَن يدخُل ومَن يخرُج، ملتقًى دائم للغادين والراحلين. وتحت سقفها العالي تتضخَّم الأصوات وتتردَّد الأصداء، وتصدُر عن القطارات الواقفة نفثاتٌ حارَّة صاخبة تُحرِّك نوايا الوداع الكامنة. وخفَق فؤاده رغم انشغاله بما خلَّف وراءه، وبما ينتظره هناك. وتذكَّر رحلات ورحلات، ودموعًا وبسمات، ثم علَّق بلسان خاطره «سبحان من له الدوام». وفدَت نحوه جماعة من المسافرين، لمح وسطها امرأة في سن النُّضج جذَبتْ بصَره بقوة. ذُهل بعنف قبل أن يتمكن من استرداد توازُنه. كان يظن أنَّها انتقلَت إلى جوار الله من زمنٍ غير قصير، لا يتذكَّر الآن كيف استقَرَّت تلك المعلومة في رأسه. رُبَّما عن تشابهٍ خاطئ في الأسماء أو الخبر أُسيء فهمه. ولمَّا اقتربَتْ منه رأته بدورها فابتسمَت، وتلقائيًّا تصافحا. تمتم: مفاجأةٌ سارة!
فقالت ضاحكة: كم مضى؟! إنه عُمر.
وتبادلا التمنِّيات الطيِّبة، ثم سارت في سبيلها. ماج صدره بالانفعال. قال لنفسه: لو أنني رجلٌ آخر لكان لي معها شأن كالأيام الخالية. وتقدَّم في طريقه المحتوم نحو شباك التذاكر. ومضى نحو القطار المنتظر. هناك جماعة من المودِّعين، ولكن ما هذا! ثمَّة وجوه يعرفها، بل لا يُوجد وجهٌ غريب؛ فهم إما أقرباء، أو جيران، أو زملاء! وها هم يتجهون نحوه كأنهم ما جاءوا إلا لتوديعه. ما الحكاية؟ وما هي إلا رحلة يومٍ أو يومَين لا يعلم بها أحد. وما اعتاد أن يُودِّعه أحدٌ حتى في الرحلات الطويلة. وجرت المصافحة من يدٍ إلى يدٍ وهو يقول: أي مصادفة أن نُسافر جميعًا في قطارٍ واحد؟!
ولكن أكثر من صوتٍ قال: نحن جئنا لتوديعك!
فقال ذاهلًا: من أدراكم بسفَري؟ وما هي إلا رحلة يوم!
لم يعبأ أحدٌ بكلامه، وأحاطوا به بمَودَّة ظاهرة، ودَعَوا له بالسَّلامة فهتف ضاحكًا: أمرکم عجيب!
فقال له عمُّه، وكان أطعن الحاضرين في السن: ليتَه كان في الإمكان أن أُسافِر معكَ.
فقال بتأثُّرٍ شديد: شكرًا .. شكرًا .. يؤسفني إزعاجكم، والمسألة لا تستحق.
وسألَته خالته: لِمَ لم تصطحب أمينة هانم معك؟
– أنا ذاهبٌ لعمل، وهي البيت لا يستغني عنها.
ولم تكن الدهشة قد فارقَته فتساءل: ولكن كيف عرفتُم بالخبر؟ ولماذا تجشَّمتُم هذا العناء؟
وأكثَر من صوتٍ قال: أهذا كلامٌ يُقال؟!
وأطلَق القِطار صفَّارة كالنَّذير، فلَّوح لهم مُودِّعًا، وصَعِد إلى المقطورة، وصَعِد معه بعضهم فوضع حقيبته فوق الرف، ووقف بينهم يتبادَلُون كلماتٍ طيبة، وغادروا المكان واحدًا في إثْرِ واحد، وأُغلِق الباب، فتنَهَّد في ارتياحٍ واتخذ مجلسه. وتبيَّن له لأول مرة أنه وحيد في العربة كلها، وأنها خالية من الركاب. يا للغرابة! لم يحدُث أن قام القطار في الأعوام الأخيرة وبه مقعدٌ واحدٌ خالٍ. ماذا حصل في الدنيا؟ وكيف يَستقلُّ قطارًا خاليًا وكأنه الملِك في زمانه؟! حقًّا إنه يومٌ حافل بالمُذهِلات. وتحرَّك القطار .. انساب على مَهَل مُفارقًا المحطة والمودِّعين. وأخذَت السرعة تزداد، والإيقاعات الرتيبة تهزج بلا انقطاع. سيجد وقتًا لتأمُّل جميعِ ما مَرَّ به وفَهِمه. وتنهَّد متسائلًا: ما معنى هذا كله؟!