رجلٌ أفلس
غادر البيت الكبير ممتنًّا. تَوجَّه نحو الطريق الذي أشار إليه الوكيل عند حافة القرية. إنه طريقٌ طويل ضيق يشقُّ الخَلاء بين ترعةٍ تجري إلى يمينه، وحقولٍ تترامى إلى يساره، ويُفضي في النِّهاية إلى البيت الصيفي حيث يخلو صاحبه إلى نفسه أو يجتمع بنفَرٍ من خاصَّته. الجو يَعبَق بحنان الصيف المُولِّي وبشائر الخريف، والشَّمس على وشكِ الاختفاء وراء الأفق ماسية اللون رفيقة الحاشية. المشوار غيرُ قصير، والأرض مُتربة، ولکنه سيلقى الصديق الكبير بعد أن سُدَّت السبل في وجهه واكفَهرَّ الجو، والفضل لعم محمد وكيل البك في تيسير مهمته وإرشاده إلى مقر صديقه. قال: ما كنتُ أدُلُّ غيركَ على مكانه.
فشكره مُنوِّهًا بمَودَّتهما القديمة. سار على هُدَی الخط الذي رسمَتْه عجلات سيارة البك في الأديم المُترب، والمساء يهبط وئيدًا مُجلَّلًا بهدوءٍ عميق، يُكدِّره نُباح كلابٍ مُتقطِّع، والنَّخلات القليلة المُبَعثرة تذوب على مهَل في الظلام الزاحف. وتراءى لعينَيه شبَحٌ يتقدَّمه لا يدري من أين أتی. تباطأ في سَيْره ليبتعد عنه، ولكن الشَّبح تباطأ أكثر فيما بدا حتى قَصرتِ المسافة بينهما، فوضحَت معالمه عن امرأة تلتفُّ بثوبٍ أسود من العنق حتى الكعبَين، وتدُس رأسها في شالٍ أسود كذلك، ولما التفتَت نحوه طالعَتْه بوجهٍ ناضج في أواسط العمر، مقبول المنظر فياضٍ بالأنوثة، وتأخَّرتْ حتى حاذته في مسيرته، وقالت: أنت ذاهبٌ إلى لقاء جلال بك؟
فأجاب: نعم، هذا الطَّريق لا يُوصلُ إلا إلى بيته الصيفي.
فقالت وهي تتَنهَّد: وأنا كذلك، ولكنَّني لم أبلُغه إلا بعد التحايُل للفِرار من أعيُن الرقباء.
فتساءل الشاب: ولكن لماذا يمنعونكِ من مُقابلته؟
– إنه غاضبٌ عليَّ، وأنا مظلومة وأوَدُّ أن تُتاح لي فرصةٌ للدفاع عن نفسي ليجري عليَّ ما قطع من الرزق.
فقال الشاب صادقًا: الحق أني لا أفهم شيئًا.
– أنا أنتمي في النهاية إلى أُسرته، من الفقراء الذين كان يطولهم إحسانه، وبعد طلاقي أساءت إليَّ ألسنة السوء عنده، فقطع إحسانَه عني، وأصبحتُ أخشى أن ينالني سوءٌ أكثر.
فقال الشاب: على أي حالٍ فها أنتِ في الطريق إليه، وهو رجلٌ معروفٌ بالأخلاق الكريمة، والرَّحمة الواسعة، وربنا معك.
فقالت المرأة بقلق: لن يسمح لي الخفير بمُقابلته.
– لا تُقدِّري البلاء قبل وقوعه.
– أنا على يقينٍ من تعاسة حظي.
فصمَت الشاب مُتَضَايقًا لا يُحير جوابًا، فقالت المرأة برجاء: لعلَّك صديقُه، فاذكُرني عنده بما يفتح لي باب الرَّجاء، قلبي يُحدِّثني بأنني لم أعثُر عليكَ صدفة، ولكن الله أرسلكَ إليَّ لتُفرجَ كُربتي.
كان الظلام قد أخفاهما تمامًا، فما يشعر إلا بيدها تخطف يده لتلثمَها في توسُّلٍ حارٍّ. والتصقَت به مستعينةً به. بتلك الحركة انتقل الشاب من حال إلى حال. طيلة الوقت، وهو يتهرَّب من تأثيرها، ولكنَّ التأثير استفحل في الوحدة والظلام، وبلغ ذروته في التلاصُق. إنَّها صاحبة حاجة، هو أيضًا صاحب حاجة، تربطهما تعاسةٌ من نوعٍ ما، ورغباتٌ خفية. وشدَّه الطريق وتناسى هدفه إلى حين، فأسكَرتْه الرَّغبة. ومدَّ ذراعه فطوَّق خصرها فأشعل جنونَه استسلامُها. وجذبها إلى جانب الطريق فرأتهما النجوم التي بدأَت تومض في السماء الصافية. ورجعا إلى الإحساس بالظلام في هَدْأَة الصمت الثقيل، وهمسَت: لا تنسَني.
فأجاب بفتور: من الأوفقِ أن تنتظري هنا حتى أُمهِّد لكِ السبيل.
فقالت برجاء: عين الصواب.
ومضى في سبيله واجمًا حتى اعترضه الخفير تحت تكعيبة العنب المُحيطة بالبيت الصغير، فذكَر له اسمه، فغاب الرَّجُل دقيقة ثم عاد ليدعوه إلى الدخول. رأى صديقه على ديوان في صدر الحجرة الشرقية تحت قنديلٍ مُضاء، وبين يدَيه طبقٌ كبير فيه تفاح وجوافة وموز. قام جلال بك مُرحِّبًا به، فتعانقا، وأجلسه إلى جانبه وهو يقول: مضى وقتٌ على آخر لقاء، كيف حالُكَ؟
فأجاب الشاب: نحمده على كل حال.
– لكنكَ لا تبدو في أحسنِ أحوالكَ.
وجاء الخفير بالشاي فراحا يحسُوَانه، ويتناولان بعض الفاكهة، ويستَحضِران ذكرياتٍ من الأيام الماضية. وأخيرًا قال جلال بك: حدِّثني عن أحوالك.
فقال الشاب: الحق أنها سيئةٌ جدًّا.
– لماذا لا سمح الله؟
– إني على حافة الإفلاس.
– أعوذ بالله، ما أكثَر ما تتردَّد هذه الكلمة في أيامنا!
– السوق راكدة.
– والعمل؟
– تَلزمُني سلفة، ولا بد لي من ضامن، هذه هي مشكلتي، وليس لي في الدنيا سواكَ.
فابتسم جلال بك وقال: طالما وجدتُ فيك المثَل الطيِّب للأخلاق النبيلة، وما عليكَ إلا أن تحضُر غدًا في الدار الكبير لتُنهِيَ المسألة مع المحامي.
أشرق وجه الشاب بنور الأمل وتمتَم: أنت ملاذي دائمًا في الشدائد.
فقال الرجل: إنك تَستحقُّ كل خير.
وساد صمتٌ مريح، فتذكَّر الشاب المرأة المنتظرة، ولكنه خشي أن يتجاوز بطلبه حدود الذوق، أو أن يُثير استياء صاحبه فقرَّر تجاهلها، ولما سأله صديقه: أي خدماتٍ أخرى؟
أجاب بحماسٍ: لم يَبقَ إلا أن أدعُوَ لك بطول العمر.
ولما هَمَّ بالذهاب قال له البك: سيارتي تحت أمرك؛ فالطريق طويل والظلام شديد.
فرَحَّبَ بذلك ليتفادى من لقاءِ المرأة المنتظرة.
وجاء في عصر اليوم التالي ليُنهي الموضوع مع المُحَامي، فقابله عم محمد، وجلس معه في الشرفة الكبيرة، وسرعان ما لاحظ أنَّ الرَّجل ليس على تلقائيته المألوفة. أخبره أنه جاء في الميعاد المُتَّفق عليه ليقابل المحامي، فقال الوكيل: يؤسفني أن أُبلغكَ أنَّ جلال بك عدَل عن رأيه.
نظر إليه نظرةً بلهاء وتساءل: ماذا تعني يا عم محمد؟
– لا محامٍ ولا عقد ولا ضمان.
فقال بذهول: ولكنه وعدَني ومنَّاني!
فقال الرجل بوجوم: الحقُّ أنكَ خيَّبتَ أملَه فيكَ.
– مستحيل يا عم محمد.
فقال الرجل مُقطِّبًا: ما كان يتصوَّر أن تفعل بامرأةٍ من أُسرته ما فعلتَ بشلباية في الطريق المُوصلِ إلى مقره، وأنت ذاهبٌ تطلُب معونتَه.
فذُهلَ الشاب وخرس فلم ينطق، على حين واصل الرَّجل: ولا كان يتصور بعد ذلك أن تتخلى عن تعهُّدكَ لها عنده!
اسْتَمَرَّ خرسه وهو يتساءل في باطنه عما فضحه عنده، هل فضحَتْه المرأة اليائسة؟ هل له عيونٌ في كل مكانٍ تُوافيه بالأسرار؟ وقال عم محمد: وقال لي البك: «أي إنسانٍ فاسد ذلك الصديق الذي لم أَعرِفه على حقيقته من قبلُ؟ لا عجب أن يُفلس، ولا عجب ألا يكون جديرًا بأي ضمان!»
وصمَت الشابُّ وهو يتخبَّط في يأسٍ عميق، ولكنه لم يَجِد أية بارقة أمل، ولم يستطع أن يُدافع عن موقفه المُخزي بكلمة.
وأخيرًا غادر القرية لآخر مرة.