لحظةٌ عابرة
فِرارًا من حَرٍّ لافح ورطوبةٍ خانقة، لُذتُ بكافتيريا الكوكب المُكيَّفة الهواء. جميع الموائد مشغولة في المحل الصغير الأنيق ذي الجدران المُحلَّاة بالخشب والمرايا، والجو ساحرٌ مريح کحُلم. وقفتُ عند المدخل أجُول بعينيَّ مُفتِّشًا عن مكانٍ خالٍ، ومشفقًا من الاضطرار للعودة إلى الجحيم. جذبَتْني عينان في أقرب مائدةٍ إليَّ. نظَرتُ فتذكَّرتُ ولكنَّني تردَّدتُ. إنه ذلك الزَّميل القديم الذي يُرى كثيرًا في هذا الموقع من المدينة، والذي يُعَّد من زبائن المحل. لم نتبادل تحيةً مذ فارقنا. تُرى ما زال يتذکَّرني؟ منظرُه يُقصيه بعيدًا عن سكان کوکبنا، ولكن ما معنى نظرتِهِ نحوي؟ عجيبٌ أن تُوجَد ذاكرةٌ سليمة في رأس مُختلٍّ فصلَت صاحبها عن بقية البشر. لما التقَت عينانا ابتسمتُ، فأشار إليَّ يدعوني إلى مُشاركته في مائدته، فمضيتُ نحوه، وجلستُ دون أن أخلو من خوف: أشكرك.
فقال بأريحيةٍ وبصوتٍ مُتَهَدِّج تُصَاحبه صرخاتٌ عصبية في الوجه واليدَين: أنا الوحيد الذي يشغل مائدةً بمفرده.
زالت مخاوفي. لو كان خطرًا مع الآخرين ما تُرك حُرًّا طَوالَ ذلك الدهر.
قلتُ راجعًا إلى الماضي المشترك: الجو في الخارج لا يُطاق، ولكني لم أحلُم بلقاءٍ يُعيد لي ذكريات الماضي الجميل.
فقال بازدراءٍ واضح: الماضي! .. أنا ليس لي ماضٍ على الإطلاق!
لم أُدهَش كثيرًا، فنظرتُه تُطِل عليَّ من عالمٍ غريب عن عالمنا، حقيقتُه لا تخفى على إنسان من النَّظرة الأولى، ولكني قلتُ: أعني أيامَ شبابنا.
فقال بنفس الازدراء: أي شبابٍ يا هذا؟ أنا لم أعرف حضرتكَ من قبلُ.
ثُبتُ إلى الواقع قانعًا بالمجلس الذي فُزتُ به. حصل ما حصل على عهد الشباب، وبدء طريق العمل. كان بلا شكٍّ سليمًا، فقطَع مراحل التعليم بنجاح، واستقبل حياة العمل والأمل. وتَمَیَّز عنا بدخلٍ خاصٍّ وشيء من الجاه. ولم يتأخر عَنَّا خطوةً في اهتمامه بالحياة العامَّة، ولكن مضى يصدُر عنه ما يُعتبَر شذوذًا في القول والسلوك. واستفحل الأمر حتى اضطُر إلى الاختفاء. مأساة تُذكر، وما أكثر المآسي! قال بثقة: لا أهمية للحُلم الذي تُعجَبون به، يُوجَد حُلمٌ حقیقي واحد وهو مضنونٌ به على غير أهله.
أدركتُ وأنا أستقبل الدندورمة التي طلبتُها أنَّ عليَّ أن أُجَاريَه بحكمة وحذَر، فهززتُ رأسي هزَّةَ المُقتنِع. التفَتَ نحوي متسائلًا: ماذا تعمل؟
فقال بأدب: من رجال التربية والتعليم.
فقال باستخفاف: طظ.
فضحكتُ ولكنه تجهَّم قائلًا: هذا إجرام!
فقلتُ کالمعتذر: الناس العاديُّون في حاجة إلى ذلك.
– بهائمُ ضالةٌ وقعَت في الشَّرَك، وعَمِيَت عن النور الحقيقي!
فقلتُ مُلاطفًا: هذا النور لا يتطلَّع إليه إلا الخاصَّة.
– بل هو مُتاحٌ لكل قادر على النجاة من السجن.
– السجن؟
– أعني مخزن القمامة الذي تُسمُّونه العقل!
فقلتُ مداهنًا: صدَقتَ.
تُرَى ألم ينتَبِه إلى الأحداث التي عاصَرها؟ الحروب، المآسي، الغلاء، الديون، الفساد؟ تذكَّرتُ الأجيال؛ مَن اعتُقل، ومَن شُنق، ومَن هاجر، ومَن فسَد، ومَن يتعذَّب. تذكَّرتُ ضحايا الأزمات القلبية، والانفجارات المُخِّية. أكان الأفضل أن يهيموا في النور والملكوت؟ أهو جدير بالرِّثاء أم الحَنق؟ وألحَّ عليَّ سؤال فسأَلتُه: أأنتَ راضٍ عن حالِ بلدنا؟
فقال بغضب: كلُّ شيء جميلٌ إلا الناس.
فقلتُ كاظمًا غيظي: حدثَت أمورٌ خَطِيرة، وكلَّ يومٍ تحدُث.
– ما أنتَ إلا أسيرٌ للأشكال والألوان.
وسكَتُّ، فاستَدركَ: لم يحدُث شيءٌ على الإطلاق، هذه هي المأساة!
لم أعُد أجدُ فيه ما يُثير اهتمامي. سرعانَ ما تجاهَلَني سابحًا في فضاء المحل، وبصفةٍ خاصة في سقفه المُزَخْرف بالتهاويل. وندَّت عنه إشاراتٌ كأنما يُخاطِب المجهول. قلتُ لنفسي إنه الحي الميت أو الميت الحي. ورغمًا عني عقدتُ مُقارنة بين غيبوبته السعيدة، وأرقي المُرهِق، فحسَدتُه للَحظةٍ عابرة.
مجرد لحظةٍ عابرة.