البهو
إنه عيد الميلاد. عيد الحياة المُتجددة. يجمعنا البهو الكبير فتُدفئُه عواطفنا في عز الشتاء، حول كل ما لذَّ وطاب من مأكل، ومشرب، وعذب الألحان. نجيء فُرادى وأزواجًا وجماعات. يسوقنا الحب، وتربطنا المعاشرة الطيِّبة، ويُؤلِّف بين قلوبنا تقارُب الأمزجة. لسنا في حاجة إلى مطربين أو راقصات؛ ففينا من يُحسن الغناء ومن يُجيد الرقص. ما هي إلا انطلاقةُ تعبير عن فرحتنا بالحياة. أمَّا عن السمر والمزاح؛ فحدِّث ولا حرج. ويضوع المكان على سَعتِه بشذا الأزهار، ويتألَّق بالسرور والرضا. وتمتد السهرات حتى مطلع الفجر، ثم نمضي في الانصراف كما تتابعنا في الحضور، بجفونٍ أثقلَها الشبَع، وحناجر أرهقها الصخب، وأحلامٍ تحنُّ إلى النوم السعيد.
– نُقسِمُ ألا يُفرقنا إلا هادم اللذات. وهو بعيد فيما يبدو، ويوشك أن يُضفي علينا الأمان. أجل، بمُضي الأيام ينكمش العدد، وتختفي وجوه. للعمر حكمه وللظروف حكمها، وهل دام إلا الدائم؟ وفي غمرة السرور وحرارته نتناسى الخسائر، ونرضى بما قُسم لنا، مع شيءٍ لا مفر منه من الحسرات؛ ذلك الوجه الجميل الساحر!
– وصديقتها التي لم تكُن تكُفُّ عن الضحك.
– وصاحب الهمَّة العالية الذي نصَّب نفسه مايسترو لكل حفل.
– ونتفلسف ونقول إنها الحياة، وعلينا أن نقبلها كما هي. منذ عهد آدم وهي تتعامل مع الناس هكذا، فما معنى الدهشة؟
ولكن انتهى الجدل بأن فَرغ البهو من أبطاله. اليوم لا يجيء أحد؛ لا رجل ولا امرأة. وأنتظر وأنتظر لعل وعسى، ولكن بلا فائدة. ضقتُ بوحدتي كما ضاقت بي. ولا علم لي بما يجري وراء مجال البصر. لم تَبقَ إلا خيالاتٌ محنَّطة في توابيت الذاكرة. أحيانًا أُصدِّق وأحيانًا لا أُصدِّق. ليس في القلب إلا كدمات وجروح. وعطَف على ذلك الذي يقيم في داخلي فسأَلني: هل أُخبركَ بالحقيقة؟
فقُلتُ: تفضَّل.
قال: قبُض عليهم جميعًا، الحارس يؤدي واجبه، وأنت بذلك عليم.
– ولكنهم مختلفون، فكيف يُقبض عليهم بلا تفرقة؟
– إنه لا يُبالي بالفوارق.
فتساءلتُ في امتعاضٍ شدید: تُرى متى يُفرج عنهم؟
فأجاب بصوت حاسم بارد: لن يُفرج على أحد.
آه، إنه يعني ما يقول. لن يُفرج عن أحدٍ منهم. وها هو زمن الوحدة يُخيِّم ويستطيل. ولم يقف الأمر عند ذلك الحد، الحرکة دائمةٌ لا تتوقَّف. وكنتُ أُراقب فراشةً تدور حول مصباحي حين همس في أذني: حذارِ .. إنهم يتحرَّونَ عنكَ!
حقًّا؟! لا بد من صنع شيء، وإن طال السفر. ولم يمسَسْني الجزَع كما كان يفعل قديمًا. وأصغيتُ إلى همسه، وهو يقول: ثمَّة فرصةٌ للنجاة؟
أصغيتُ بلا مُبالاة. إنه يحرِّضُني على المستحيل، وكثيرًا ما يُعابِثني. ولم أشعُر بأي خوفٍ أو احتجاج. ولم أخلُ من سرورٍ غريب. قلتُ: لا.
ومضيتُ أُعِد حقيبتي.
وأُراوح بين إعداد الحقيبة، وبين التسلِّي بمشاهدة الرائح والغادي، ألتفُّ في روبي اتقاءً لبرد الشتاء، أقف وراء زجاج النافذة، الأرض لامعةٌ مظلَّلة بغصون الأشجار، والسماء مُتدثِّرة بالسُّحب وعيناي تترقَّبان. أكثر من مرة أراه وهو يعبُر الطريق بقامته الفارعة، التي لم يَحنِها الكبَر، ولكنه لم يقصد بیتي بعدُ. في صباي خُدعتُ بصداقة أبي له وثنائه عليه، ثم ماذا كانت النتيجة؟! ذلك الرجل العجيب. في فترة انخداعي بما بين أبي وبینه صادفتُه في الطريق قريبًا من بيتنا، وبكل براءة دعوتُه لزيارتنا كما يقضي الأدب فابتسم قائلًا: ليس اليوم، شكرًا لك يا بُني.
طالما تحيَّر الناس بين سُمعته الطيِّبة، وفِعاله القاسية. وفي حديث صحافي سألَتْه الصحافية عَمَّا يُوجَّه إليه من اتهامات فأجاب: إني أؤدي واجبي على أكمل وجه.
فأشارت إلى ما يقع من ظلم أحيانًا فقال: عملي يتَّسم بالعدل المُطْلَق.
– ألم تؤدِّ واجبكَ مرة وأنت كاره؟
– أبدًا، إني أُنفِّذ قانونًا كامل العدل.
– ثمة حوادث تستحق التفسير؟
– لو دخلنا في التفاصيل الفقهية فلن يستطيع القُرَّاء معي صبرًا!
وختمَت الصحافية الحديث بالتنويه بطمأنينته الكاملة. ذلك الرجل الذي ينفُخ اسمه الرعب في الأفئدة، الذي قال مرة جهرًا: أنا لا أذهب إلى النَّاس لأُلقي القبض عليهم، ولكنهم هم في الحقيقة الذين يجيئون إليَّ بأنفسهم.
كما أنكر بشدةٍ جميعَ ما يُقال عن التعذيب الذي يُمارس في السجون.
•••
ها أنا أقف وراء زجاج النَّافذة أترقَّب، في الدَّقائق القِصار التي أستريح فيها من إعداد الحقيبة.