ذوو الدخل المحدود
دهَمَنا الانفتاحُ كالطوفان؛ أُناس طفَوا فوق سطح الماء الهادر، وآخَرون مضَوا يغطسون نحو القاع. بادئ الأمر فرحنا لانهزام الانغلاق. قلنا: ولَّت أيامُ الحصول على عُلبة ثِقاب بالطابور والبطاقة، وتسوُّل الأدوية من المُحسِنين. ولكن رويدًا رويدًا تَحرَّك القلق جارًّا وراءَه الخوف، وأخذَت تكاليف الحياة تَتجهَّم وتُكشِّر عن أنيابها، ولأوَّل مرة عرفتُ اسم طبقتي الجديد في العهد الجديد، وهو ذوو الدخل المحدود. قبل ذلك دُعينا بالبرجوازية أو الطبقة الوسطى، وقالوا عَنَّا إننا العقبة الكئود في طريق البروليتاريا المبشِّرة بالغد. اليوم البروليتاريا تصعد، وذوو الدخل المحدود يردِّدون في نفَسٍ واحد: عشانا عليك يا رب.
وأذهبُ ذات صباحٍ لأحلق شعري فأجد المحل مغلقًا، ثم يُخبرني أهل العلم بأنَّ صاحبه باعه بثَمنٍ خيالي، وأنه يُعَد الآن ليكون بوتیکًا. في عامٍ واحد تردَّدتُ في ثلاثةِ شوارعَ رئيسية على حلَّاقين سرعان ما يختفون کالأول، حتی تساءلتُ: تُرى کیف تعيش مدينةٌ بلا حلَّاقين؟ وما الحيلة لو تَبِعهم الحانوتية والترابية؟ وساءني الانفتاح أكثر في المكتبات التي كنتُ أُغازل الكتب في معارضها الخارجية؛ فقد كُتب عليها نفس المصير وتحوَّل غير قليلٍ منها إلى محالِّ أحذية، حتی قهوتي المفضَّلة انقلَبَت مطعمًا. هكذا تحسَّنتْ أحوال البروليتاريا وأصبحَت طبقةً جديدة ذات شأن، وتدهورت الوسطى في منحدر التقشُّف، وراحت تُفكِّر في وسائلَ دفاعيةٍ جديدة تُناسِب العصر، وتقتدي في حدودها برجاله العِظام.
وفرِح مَن فرِح، وحزِن مَن حزِن. وكان عم محمد العجوز من المحزونين، إنه صاحب محلٍّ صغير لتصليح الأحذية وتلميعها. يجلس في عمق دکانه المُستطيل وراء ماكينة الخياطة، ويُعاونه ثلاثة شُبانٍ لمسح الأحذية، يجلسون صفًّا أسفل الكراسي المتحركة، وبما أنه في طريقي اليومي، فإني زبونه من قدیم. وذات يومٍ غاب أحد العمال، ولمَّا طال غيابه سألتُ عنه فأجابني العجوز بصوتٍ لا يكون إلا لأصحاب الأفواه الخالية: سافَر إلى الخليج لتحسين الأحوال.
– وهل هم في حاجة إلى ماسح أحذية؟
– الأعمال كثيرة، والأرزاق على الله.
وعقب مرور شهرٍ اختفى العامل الثاني جريًا وراء الهدف نفسه. وبطبيعة الحال انصرف زبائنُ كثيرون عن المحل، وجعلتُ أنتظر دوري لمسح الحذاء كأنني في طابور جمعيةٍ استهلاكية. ثم ما لبث الثالث أن لحق بزميلَيه، فاضطُر عم محمد العجوز إلى هجر ماكينة الخياطة، والجلوس لمسح الأحذية. سألته مرة: لماذا لا تستخدم عمالًا جُدد؟
– أين أجدهم؟ .. العثور على شغَّالة اليوم أصعب من العثور على وزير!
ومضت الأيام، وحطَّت همومٌ جديدة على الحلاقة، ومسح الحذاء ومغازلة الكتب والذهاب إلى المقهی. جاءت هموم الخيار، والطماطم واللحوم، والملابس، والتيارات المنحرفة، والمخدِّرات. وعم محمد يتقدم في السن ويمسح الأحذية بيدٍ مرتعشة. وسرقنا الزمن حتى قال لي ذات صباح: هل تذکُر عمالي الثلاثة؟
ولما أجبتُ بالإيجاب قال: رجعوا على أحسن حال، وجاءوني يعرضون عليَّ خلوًّا لترك المحل!
سألتُه بقلق: وافقتَ؟
– المبلغ قيِّم، ويكفيني حتى آخر العمر؟
أدركت أن مسح الحذاء سيُجشِّمني إرهاقًا جديدًا، مثل حلاقة الشعر، ومثل كل شيء، وتساءلتُ: ألا يُوجد وسط بين الانغلاق والانفتاح؟ ألا توجد استراحةٌ لذوي الدخل المحدود؟