العود والنارجيلة
إنَّ ما يُثير الطفل وهو مُقبل على ذلك البيت، التمساح المحنَّط المعلَّق بالجدار، فوق هامة الباب. تبع أمه وهي تدخل، ثم وهي تميل إلى الحجرة على يسار الداخل. حيَّت المرأة، وجلَستْ على كنبةٍ جاذبةً ابنها للجلوس إلى جانبها. ترتدي ملاءة لف وبُرقعًا ذا عروسٍ مذهبة، والطفل يرتدي جلبابًا، وجاكتة، وطاقية، وصندلًا. قالت بعد أن نزعَت بُرقعها: إن شاء الله تكونُ أحسن.
ووقفَت قاطعة المسافة القصيرة بين الكنبة والفِراش المقابل لها في خطوتَين لتضع لفَّةً تحملها، ثم تمتمَت وهي تَرجعُ إلى مجلسها: جئتُكَ بالفطائر والبرتقال.
أجاب في إعياء الرجل الراقد فوق الفِراش: ربنا لا يحرمني منك يا امرأة خالي.
الحجرة صغيرة، مغطَّاة أرضها بكليمٍ مُزَرْكَش قديم، الفراش ذو أعمدةٍ نُحاسية، وإلى اليمين دولاب تستقر على سطحه نارجيلة وعود. الطفل مُعْجَب دائمًا بالنارجيلة، وزجاج قارورتها الملوَّن، كما يُذكِّره العود بالألحان؛ فهو يُحب الغناء على حداثة سنه. وثمَّة نافذةٌ نصف مفتوحة تُطِل على الطريق الضيِّق، ومن خلالها تُرى رءوس المارَّة. لم يَخفَ على المرأة تدهور صحة الرجل، تجلَّت عظام وجهه وشَحبَ لونه، وتوارى شبابه وراء غمامةٍ كئيبة. سأل الراقد: كيف حالكم يا امرأة خالي؟
– نحمده، شد حيلك أنت.
فأسدلَ جفنَيه قائلًا: لا أمل في الشفاء یا امرأة خالي.
– ربك كبير، ويأمر إذا أمر بالشفاء فلا رادَّ لأمره، وأم عبده .. ألا تواظب على المجيء؟
– تُنظِّف الحجرة، وتُعِدُّ اللُّقمة، ثم تتركُني لوحدتي، أمَّا أبي فنادرًا ما يزورني، غفر الله له، استعبدَته المرأة، وما كان كان، البركة في خالي وامرأته وأولاده.
وانطلَق الطفل يقول بصوته المسرسع: كنتَ تزورنا وتضربُ على العود، وتُغنِّي، متی تزورنا؟
فتَر ثغر المريض عن ابتسامةٍ أخفى من السر، وقالت المرأة: إن شاء الله ترجع الأيام الطيِّبة.
حتى الطفل لم يغب عنه الفارق الكبير بين الراقد أمامه، وبين القديم بشبابه ورونقه وضحكته العالية، وصوته وهو يغني:
وحطَّ الصمت فترة، والمرأة تتلو في باطنها آياتٍ من القرآن الكريم، حتى قال المريض: ما زالت المرأة القاسية تتسلَّل من حينٍ لآخر إلى النافذة لتُلقي عليَّ نظرةً مُتلهفة على موتي!
وهتفَت المرأة: لا حول ولا قوة إلا بالله، ولكن الحق على والدك، وربك كبير، ورحمته فوق كيد الكائدين.
واستغرق الطفل في أفكاره فسألَه: متى تزورنا وتُغنِّي «يا ريت زماني مرة»؟!