القرار الأخير
رجلٌ جادٌّ لا موضع فيه للمرح. رجلٌ يُحِبُّ الكمال بإفراطٍ مُهلك. وقيل عنه أيضًا إنه وحش، لم ينبض قلبه بنبضةِ رحمةٍ واحدة، ولو على سبيل الراحة. يومَ مات انتشَر الخبر في الحي کالشعاع الحارِّ مُفجِّرًا مزيجًا من الدهشة والرهبة والارتياح. وثارت شكوكٌ حول حقيقة موته، فتهامس جيران بأنه قُتل. وتَصاعَد الهمس حتى شُرِّحت الجثة قبل دفنها. وثبَتَ أنَّه مات كما يموت كثيرون بنزيف في المخ، ورغم ذلك أُلصقَت بابنه تُهمة قتلِه، واشتُهر الشاب في كل مكان يحلُّ فيه بقاتل أبيه، وحلَّت به اللعنة في هالةٍ من عطفٍ كبير. ويهتف الشاب: كل واحد يعرفُ أنَّ التهمة كاذبة، ولكن كيف أدفع اللعنة؟!
ألم يلكُمْ أباه فيَطرحَه أرضًا؟ ماذا يهمُّ بعد ذلك أن يموت الرَّجل من أثر اللَّكْمة أو يموت حُزنًا وکمدًا؟! وعلى ذهول الشاب وكآبته فإنه لم يعلن ندمه، وصارَحَ كل مخلوق بأنه كَرِه أباه حيًّا وميتًّا. كان رجلًا يستحِقُّ المقت. قيل إنه عَشِق الكمال، وأصَرَّ على أن يتحلى بالكمال كلُّ من خرج من صُلبه، فمَن كان ذلك الرَّجل الذي هام بالكمال لحد الجنون؟ کاتبٌ حكومي لا أكثر، الابتدائية غاية تحصيله، قرأ بعض كتب الروَّاد فراودَتْه أحلام بأجنحة وبلا أقدام. أفلتَت منه الفرص، وذاب في الزحام، فأراد أن يجعل منا؛ أنا وأخي الكبير، وأختي أمثلةً حية للكمال البشري. صدِّقوني، لم يكن إلا مجنونًا. لا خبرة له على الإطلاق بالتربية، ويؤمن بأنَّ القوة هي الوسيلة السحرية لخلق المستحيل. كم من مرة صب زوبعةً غاضبة على أمي لأنَّ طبق طعامٍ بات دون غسيل، أو خُصلةً من شعرها الكستنائي تسرَّبتْ من حافة المنديل. أخي الأكبر جُلِد بقسوةٍ مراتٍ لأنَّ ترتيبه تأخَّر عن الأول، وأختي الجميلة تعرَّضَت لنفس العقوبة دون اعتبارٍ لرقَّة أعضائها وتوفُّر نضجها. وهو يجلد إذا جلَد بوحشية المُتعطِّش للانتقام لا حكمة المربِّي الزاجر. ولم يكن يبتسم، دائمًا يعلوه الحزن، وكأنما يتوقَّع قدوم موتٍ وشيك. عشنا في رعب، عشنا بلا حب، نتبادل نظرات التشکِّي، وأمنا تتأوَّه باكية وتصيح: أنت تُهلِكُ الأولاد، ربنا لن يُسامحكَ أبدًا.
فيردُّ عليها بصوتٍ كالرعد: اسكتي يا داعية الانحلال.
وقالت له مرةً: أنت أسوأُ أبٍ.
فصاح بها: ما أنتِ إلا امرأةُ سوء .. والموت عندي خير من الضياع.
وذاعت أخبار بيتنا بين البيوت، قالوا إنَّ في بيتنا محكمةَ تفتيش منعقدةً بصفةٍ مستمرة. ولم يكن لديهم ما يأخذونه عليه كجار؛ فهو يُشيِّع الأموات، ويعود المريض، ويُبرِق مُهنئًا في الأفراح. لكنَّه لا يذهب إلى المقهى، ولا يوثِّق علاقة بأحد، ولا صديق له. يؤدِّي فريضة الجمعة في المسجد، يتبادل بعض التحيَّات في تحفُّظ، وسرعانَ ما يَرجع إلى مسكنه. وتجرَّأ عليه جارٌ يومًا، فاعترض سبيله ليعترف له بأن صُراخ أبنائه يُكِّدر صفو حياته، وأنَّ التربية تقوم على الحزم والرَّحمة معًا، ولكنه عبَس ومضى مقاطعًا الحوار. وبلَغ حزنُنا مداه عندما قَبِلَت أختي زيجةً غير مُتكافئة لا لشيءٍ إلا أن تهرب من قبضة أبيها الحديدية. لا السن مناسبة ولا الشكل، ولكنها وجدَت في جواره الكئيب النجاة. وذهب أخي الأكبر ذاتَ يومٍ ولم يعُد. اختفى من حياتنا فلا هو حي، ولا هو ميت. وتحطَّم قلبُ أمي. أما أبي فقد ثار غضَبه طويلًا، ووجم أحيانًا، ودارى هزيمتَه بكلمةٍ فظَّة انطلقَت من فيه كالحجر، صاح: في داهية!
هل يتَغيَّر سلوكه مع الابن الأصغر؟ لا يُبشِّر وجهه بأي خير. والولد على صِغَره لم يَسلم من الجلد، ولكنه استعد للدِّفاع بطريقةٍ تلقائية. راح يُدرِّب جسمه تدريبًا رياضيًّا ويتمرَّن على الملاكمة. واتسع له المجال في ذلك داخل المدرسة وخارجها. واصَلَ استعداده لمواجهة يومٍ أسودَ أغبَر. والرجل رغم کهولته متين البُنيان، وتمده التقاليد بقوةٍ متجددة. والولَد من ناحيته حزينٌ على أمه وأخته وأخيه حزين. وعمل ألف حسابٍ ليوم ظهور النتيجة، ولكنه انتظَره بعضلاتٍ متوتِّرة وقبضةٍ متمرِّسة. كرهتُ بسببك العلمَ والحياة. أتخيَّلُكَ تمامًا وأنت تنتظر قدومي، إليك بالأخبار.
قلتُ دون تحية: سقطتُ.
صمَت وقتًا ثقيلًا ثم تساءل: هل تعرف ماذا يعني هذا؟
فقلت بنبرةٍ حادَّة لم يسمعها من قبلُ.
– لا يهمُّني أن أعرف!
هَبَّ قائمًا أحمر البصر. أقبل نحوي بسرعة، وبكل ثقله. تلقَّى أول لكمةٍ في حياته من حيث لا ينتظر. تهاوی وهو يشهَق فيما يُشبه الإغماء. أمي صوَّتتْ. لم أنبِس بكلمة. غمرني شعورٌ باليأس والتحدي. جاءت أمي بقارورة کولونيا، وجعلت تُدلِّك وجهه. ساعدَته على القيام ومضت به نحو الفِراش وهي تصيح بي: أنتَ مجنونٌ وملعون.
وانفجَرتْ باكية. فكَّرتُ في الاختفاء مثل أخي، ولكنَّ موتَه لم يُمهلني. وثَبتَ أنني لم أقتله، ولكنَّني قاتلُ أبيه في نظر الجميع حتى المتعاطفين معنا. أورثَنا موتُه همًّا لا يقل عن جنونه حدَّة. وطُلِّقتْ أختي، ورجع أخي دون أن يستقر في عملٍ يليق به، وماتت أمي، وكنتُ الوحيدَ الذي أتمَّ تعليمه وتوظَّف، ولكني أَتعسُ الجميع.