الغد قادم أيضًا
فيلَّا؟ لا والله إنها لسراي. تشغل حيزًا هائلًا فوق جبل المُقطَّم. ويُضفي عليها طرازها العربي مذاقًا خاصًّا من الأُبَّهة والعظمة. حديقتها زهراءُ مترامية، تشمل ثُلثَي المساحة الكلية، وحمَّام السباحة في الوسط علامةُ عزٍّ نادرة، جلسنا من حوله للعشاء، ولسماع نخبة من المغنِّين والمغنِّيات، يصُبُّون الكلمات المصرية في أوزانٍ إفرنجية، تحت عناقيد المصابيح الكهربائية المغروسة في الغصون. الداعي صديقٌ قديم، هو اليوم نَجمٌ سينمائي يحظى بشهرةٍ مُتطايرة ومحبةٍ آسرة، أراد السميع العليم أن يُمتعَه وهو في عِزِّ الرجولة والجمال.
واختصَّت مائدتنا بنفَر من الرجال، لا يمتُّون للفن بصِلَة، ولكنهم يُمثِّلون صداقة الصبا والزَّمان الأول. جلسنا في شبه غربة نتهامَسُ في غمار صخَب الوسط الفني، ونتطلَّع إلى الوجوه فنقول هذا فلان، وهذه فلانة، وذاك بينَ بين. ولا نكُفُّ عن الأكل والسمر. الحقُّ أنَّ عريس الليلة الذي يحتفل بافتتاح مقامه الجديد أغدَق علينا ألفةً وأُنسًا بوفائه، وتمسُّكه بأصولٍ ماضيه، رغم انهماكه في العمل المُتصل ما بين السينما والمسرح والتلفزيون. وعمَّق من جذور الصلة القديمة أن أحدَنا يعمل محاسبًا لضرائبه، ومستشارًا ماليًّا له، وآخر تزوَّج من عمَّته في الأيام الخالية.
رحتُ أراقبه وهو يتنقَّل بين الموائد مُرحِّبًا ضاحكًا مُداعبًا مؤانسًا، يكاد يتوهج تألُّقًا وجمالًا وصحة وعافية. هي السعادة عندما تجود بنفسها بسخاء، وتجعل من الواقع حلمًا من أحلام اليقظة.
وقال أحدنا بحرارة: ربنا يديم عليه النعمة.
فقلنا آمين. وحَلَّ بعدها صمتٌ مُبَاغت كأنما لم يجئ مصادفة. وتجلَّى في الأعين نظرةٌ جادة كأنها لون الصمت. هل رُحنا نتذكَّر تقلُّبات الدنيا، وما حفظناه في ذلك من الشعر والنثر؟! وتذكَّرتُ زُملاءَ كانوا مثالًا للوجاهة، وكيف عصفَت بهم الثورة، وحوَّلَتهم إلى صعاليك تعافُ النَّفس منظرهم. وليست الثورة وحدها التي تعبَث بالمصائر، فلأي حشرة دَورٌ، ورُبَّما لفحة هواء أو نزق النشوات. ما علينا، اللهم احفظنا، واحفظ لنا صديقنا الوفي الكريم. وإذا بصديقٍ يعبُر الصمت متسائلًا: هل تتذكَّرون؟
نظرنا نحوه مُستطلِعين بقلوبٍ خالية إلا من السرور، فابتسَم مُواصِلًا: ليلة الشطرنج في مقهى إيزيس!
وأكثر من صوت قال: عليكَ اللعنة، ماذا ذكرَّكَ بها؟
وندَّت عَنَّا ضحكاتٌ خافتة تُنَاسب المقام، فعاد الصديق يقول: الذكرى مُقيمة في أعماق ذاکرتي.
ونحن أيضًا مثله، ولكنَّها لا تكاد تخطُر بالبال! إلا كل حين ومين. كان صاحبنا يُلاعبني شخصيًّا، وسط حلقة من المشاهدين. بدأتُ بتحريك جنديَّين وانتظرتُ أن يبدأ. لكنه لم يبدأ، بل نظر في وجوهنا نظرةً غريبة وقال: سأغادر دنیاکم بعد دقائق!
ظَننَّاه يمزح، ولكن وضح لنا أنَّ وجهه شديد الشحوب، وأنَّ نظرةً خابية تُطِل من عينَيه. مع ذلك قلتُ له مازحًا: العَبْ أو سلِّم!
سرعانَ ما انطرح جذعُه إلى مَسنَد الکرسي، وشَهِق شهقةً مُخيفة ثم غاب عن الوجود. من ينسى ذلك المنظر؟ من ينسى ارتباكَنا وفزعَنا؟ من ينسى ضیاعنا في قصر العيني، حتى صباح اليوم التالي؟ ما كان أيأسكَ يا صدیقي في تلك الأيام! ألم نطلق عليك بحقٍّ الشاکي الباکي؟ دائمًا تشكي من عمك الوصي عليك، كما تبکي حُبَّك الخائب، ولكن ماذا، هل أفلتَتْ منا بعض التفاصيل؟ يقول أحدنا: كان الحب وراء محاولة الانتحار.
فيؤكد آخر: بل عمه، كان فظيعًا حقًّا وصِدْقًا.
لا أهمية الآن لذلك. المُهم أنَّ صديقنا الذي أرجعَنا إلى الماضي تساءل: ألا يعني ذلك أنَّ الانتحار خدعةٌ وخُرافة؟!
وخُضنا في حديث الانتحار طويلًا، وهو ذو إحصائياتٍ مثيرة وخاصة إذا تعلَّق بالأمم الراقية، ولكن الجو الجميل الذي نتنفَّسه دفعَنا إلى التهوين من شأنه ووحشيته.
– اليأس حالٌ تمُر وكأنه لم يكن.
– تصوَّروا لو لم تُنقِذه العناية، فمن كان يحظى بالنجومية؟ ومن كان يُشيِّد هذه السراي؟ ومَن كان يَنعَم بهذه السعادة؟!
واقترح أحدنا أن نُذكِّره بلَيلة الشطرنج، ولكنَّا رفضنا الاقتراح رفضًا قاطعًا. وإذا بالعريس يُقبِل نحونا، وجلس بيننا وهو يتساءل: هل ينقصكم شيء؟
فشَكَرنا، وأثنينا عليه بما هو أهلُه، وقال أحدُنا: لا مَطْلب لنا إلا أن يُديم الله عليكَ نعمته.
فحَمِد الله، ودهمَه صمتٌ مريب، ثم قال بنبرة اعتراف: صدِّقوني، أشعر أحيانًا بأنني نلتُ فوق ما أتمنى، وأتمنی ولو للحظةٍ عابرة أن يأخذَني الله من فوق قمة السعادة!