النداء الهادئ لرأس المال الكبير
عندما يترك الزائر لباريس شارع «هوسمان» المزدحم بمحلاته التجارية الغنية ويتجه إلى نهاية شارع «لافاييت» سيجد إذا التفت يمينًا أو يسارًا شوارع خالية من المحلات التجارية والزبائن، مرصوفة بأحجار البناء الرمادية. وهذه الشوارع تختلف اختلافًا مفاجئًا عن الشوارع التي لا تبعُد عنها إلا بياردات قليلة، والتي تزدحم بالمحلات التجارية الكبيرة ذات المعارض الزجاجية التي تُعرض بها معروضات مختلفة الألوان. والمنظر الذي يواجه الزائر في تلك اللحظة مُمِلٌّ إلى درجة كبيرة؛ فهو عبارة عن عدد كبير من النوافذ ذات القضبان الحديدية في مستوى الأرض، تتخللها، من حين لآخر، أبواب على شكل بواكٍ مغلقة بإحكام في وجه عابر الطريق، ومسحة اللون الوحيدة التي يجدها هي اللون الأزرق والأبيض على اللوحات التي توجد في أعلى أو على جانب كل مدخل، وتحمل أرقامَ هذه المداخل، وأحيانًا لافتات صغيرة من النحاس تعلن في تواضع اسم الشركة أو البيت التجاري الموجود بالداخل، مثل شركة التأمينات العالمية، أو «دورانت وشركاه»، أو ربما في بساطة «د. وشركاه».
وإذا ترك الغريب فضوله يتغلب على خجله ودفع الباب الثقيل إلى المدخل المعتم الرطب وراءه، سيدلف إلى «باكية» تؤدي إلى فناء داخلي مهجور يفتح في جانبه على بابين آخرين أكثر تجهيلًا من الأبواب الأولى. فإذا استطاع في هذه اللحظة أن يقنع البواب الموجود بالداخل أن يسمح له بالتجوُّل في المبنى (وهذا من الأمور الصعبة؛ إذ إن أي شخص يدخل لعمل معين فإنه يُوجَّه مباشرة إلى هدفه) فإنه يجد نفسه في مبنًى مظلم مليء بالرخام ويغطي أرضه السجاد ويشبه إلى حد كبير منزلًا خاصًّا قديمًا أو شقة من طراز منتصف القرن التاسع عشر.
ولا يوجد في هذا البناء ما يدل على وظائف واختصاصات هذه المؤسسة التجارية؛ فالصالات تكاد تكون مهجورة إلا من شخص يسرع من باب مغلق إلى آخر. وبعض هذه الأبواب يؤدي إلى حجرات انتظار وحجرات اجتماعات عليها نقوش من العهد الفِكتوري. والكراسي مغطاة بالقطيفة الخضراء القديمة أو الجلد الناشف، والمناضد ناعمة الملمس لامعة لا يغطيها شيء والستائر الطويلة تغطي النوافذ في لطف، والحوائط مغطاة بالورق المنقوش عليه رسومات اختفت معالمها الصغيرة بسبب قلة الضوء، بالإضافة إلى عدد قليل من الصور المتوسطة الحجم التي تُبين جانبًا من ذلك العصر السابق وقد وُضعت داخل إطارات بيضاوية الشكل دكناء أو مستطيلة، وهي سمة تلك الفترة.
وهناك أبواب أخرى تؤدي إلى غرف، حيث يعمل رجال بجِد على مكاتب عالية مزدحمة بالأوراق ويجلسون على كراسي من الجلد. وتغطى رفوفُ المدافئ بأعداد كبيرة من الدوسيهات ودفاتر الحسابات. إن أدوات التجارة معروفة بنُدرتها وقِدمها. وعلى الجدران توجد نفس الصور الجافة، وقد ذبلت ألوان أوراق الحائط حتى في الضوء الساطع، ولا يقطع السكون الشامل إلا أصوات قلب الأوراق أو صوت احتكاك الأقلام بالأوراق عند الكتابة.
وهناك حجرة منفصلة عن بقية الحجرات الأخرى، لها باب مفتوح، وهي تُشبه، في منضدتها العالية وأقفاصها المحاطة بالقضبان، مكاتب البريد الحكومية أكثر مما تشبه شركة باريسية مشغولة. وعلى هذا القفص لافتة صغيرة مكتوب عليها: الخزينة.
إن بنوك التجارة أو بنوك «المعاملات الأجنبية»، كما تُسمى غالبًا، هي أصعب أنواع التخصص في أصعب أنواع المهن؛ فالحسابات المطلوبة لتبادُل الأموال بين سوقين أو أكثر لكل منهما عملات مختلفة تعتبر من العمليات المعقدة، وهي أصعب بكثير من الصفقات المشابهة في السوق المحلية، كما أن عمليات التمويل الدولية تتضمن في طبيعتها أخطارًا وتعطيلًا لا يوجد في البنوك الخاصة بالخدمات المحلية. وكنتيجة لذلك فان الممولين التجاريين كانوا دائمًا نوعًا خاصًّا من الممولين، وكان نشاطهم ووسائلهم دائمًا تختلف عن نشاط زملائهم «المنتظمين».
وكما يظهر من الاسم فإن الممولين التجاريين كانوا في الأصل تجارًا اضطرتهم مشترياتهم ومبيعاتهم في الدول الأجنبية إلى فَهم واستخدام وسائل الدفع الدولية، وخاصة الكمبيالة. والكمبيالة عبارة عن اعتراف بدَين ووعد بالدفع في المستقبل في مكان آخر وبعُملة بلد آخر. ولما كانت تعتبر في أول الأمر كنوع من أنواع السداد من المقترض إلى المقرض فقد أخذت في أوائل الفترة الحديثة شكلها المحدود كورقة مسحوبة للدائن على المدين يقبلها باعتبارها اعترافًا بصفقة تجارية. وبهذه الصفقة كانت الكمبيالة وسيلة مريحة لتصفية الحساب، وبتقدم التخصص في التجارة الخارجية وجد التجار الذين كانوا يسددون مشترياتهم في الخارج بمبيعاتهم أنه من السهل التركيز على عمليات الاستيراد، وأن يسددوا ديونهم بكمبيالات مسحوبة بواسطة مُصدِّرين محليين للسوق المعنية.
وفي أول الأمر كانت هذه العمليات تتم على أُسس مباشرة؛ فالتجار الذين تكون لديهم كمبيالات يرغبون في بيعها يجدون تجارًا آخرين مُحتاجين إليها. وبتقدم التجارة بدأت بعض شركات تتخصص في عمليات شراء وبيع الأوراق التجارية مستخدمين أموالهم لشراء هذه الأوراق التي يحملها المصدرون ويقومون ببيعها للمستوردين محقِّقين في تلك العمليات بعض الربح. وهذا النوع من الرجال الذي يجمع بين صفة التاجر والمموِّل — إذ إن القيام بوظائف التمويل لم تكن تعني ترك النشاط التجاري — بالإضافة إلى محولي النقود الذين أصبحوا حين نجحوا ممولين وجامعي ضرائب، هم الآباء الحقيقيون للتمويل الدولي الحديث.
وعندما حل منتصف القرن التاسع عشر كان لدى أصحاب البنوك التجارية في غرب أوروبا قرون من الخبرة وقدر كبير من النضج. ولقد ظل أساس المهنة الكمبيالة والشيكات المصرفية ثم أضيفت إليها خطابات الضمان التجارية والشخصية. وتعود صاحب البنك التجاري أن يشتري ويبيع الأوراق المسحوبة على أسواق خارجية، ويقوم بالسداد وبالتحصيل كما كان يمنح دفعات مقدمة على البضائع المرسلة، ويحول العملة ويشحن سبائك الذهب والفضة إلى الأماكن التي تشتد فيها الحاجة إلى هذه المعادن، ويرتفع سعرها بحيث تغطي فروقُ الأسعار تكاليف الشحن والتأمين وعمليات التعدين إذا لزم الأمر. وبالاختصار فإنه يقوم بجميع العمليات اللازمة لاستمرار سير التجارة الدولية في سهولة.
وللقيام بهذه العمليات فإن البنوك الحريصة كانت تتمسك بمبدأ هام وهو أن الدَّين التجاري لا بد وأن يكون مبنيًّا على صفقات تجارية. وعلى ذلك فإن جميع الكمبيالات المقبولة أو المخصومة يُفترض أن تكون سائلة بذاتها، أي صادرة عن نقل السلع التي تباع قبل استحقاق الأوراق، والتي تحقق من الربح ما يكفي لسداد القرض. وإذا كان دَين الساحب أو المسحوب عليه غير مضمون فإن البنك لا يصر فحسب على الكمبيالة، بل يطالب بالمستندات المؤيدة للصفقة التجارية ذاتها. وفي حالة البضائع المرسلة التي لم تُبَع فإن البنك قد يطالب بأن تكون فاتورة الشحن باسمه ولا يحولها للمرسل إليه البضاعة إلا بعد استلام المبلغ الذي يعادل السُّلفة المدفوعة للمُرسِل. ولكي يضمن البنك سداد الديون التي له فإن المبالغ التي يدفعها على البضائع غير المباعة كانت تحدَّد في عناية بنسبة بسيطة من القيمة المقدرة لتلك البضائع آخذًا في الاعتبار احتمال انخفاض الأسعار.
وأما بخصوص العملاء الذين يتمتعون بمراكز مالية قوية فإن البنوك قد تمنحهم تسهيلات أخرى تمكنهم من سحب حد أقصى من المبالغ قبل القيام بالعملية أو بأوراق مالية، وقد تفتح البنوك لهؤلاء حساباتٍ تُسمَّى «الحسابات المفتوحة»، أي إن الدين يتجدد تلقائيًّا بشكل دائري ما دامت الأوراق تسدد في مواعيدها، وفي هذه الحالات يفترض أن تكون القروض أو السلفيات من أجل صفقات تجارية حقيقية، أي أن تكون قائمة على عمل تجاري ولم يقصد بها أن تكون مجرد جميع سلفيات غير مشروطة، وفي كل الظروف لم يكن أصحاب البنوك مضطرين إلى سداد تلك القروض من أموالهم الخاصة.
وكانت بعض البنوك تمنح الآخرين من أصحاب البنوك نوعًا خاصًّا من الحساب المفتوح. فإذا كانت الكمبيالات تقوم أساسًا على عمليات تجارية وكان النشاط التجاري في أغلب البلدان يميل إلى التفاوت من حيث الكمية والقدرة على الإمداد فإن سعر الكمبيالات بالتالي (وهو ما يُسمى فنيًّا سعر التبادل) في أي سوق خارجية يكون عرضة للارتفاع والانخفاض. ففي بلد زراعي مثلًا فإن الكمبيالات المسحوبة على عملاء يقومون بتصدير المواد الغذائية تزداد عقب الحصاد وتكون نادرة في الأوقات الأخرى من العام. أما إذا كان الطلب على استيراد البضائع المصنوعة ثابتًا فإن الحاجة إلى الكمبيالات لسداد قيمة الواردات يبقى مستقرًّا نسبيًّا، أي يرتفع في مواسم وينخفض في مواسم أخرى. وكل هذه الظروف لم تخلق الحاجة، فحسب، إلى خلق مصادر جديدة من وسائل الدفع التي تحتاج إليها التجارة العادية، ولكنها أيضًا خلقت فرصة جديدة للتعامل بالأوراق المالية بنجاح. وكان نتيجة ذلك ظهور التعامل بالكمبيالات المصرفية، وهي كمبيالات يسحبها بنك على أحد البنوك الأخرى، ويقوم البنك الثاني بدفعها بشرط أن يغطيها البنك الأول قبل ميعاد استحقاقها. وهو في هذه الحالة يقوم بتغطيتها بأوراق مالية اشتراها عندما كانت وفيرة في السوق وسعرها قليلًا. ويجب أن نؤكد هنا أنه من حيث المبدأ فإن الكمبيالات المصرفية لا تختلف عن الأوراق التجارية من حيث إنها تقوم على صفقات تجارية حقيقية، وإن كانت في هذه الحالة صفقات متوقعة وليست جارية. ومع ذلك فإن «حسابات التبادل»، كما كانوا يسمونها، كانت تُميَّز بعناية عن الصفقات التجارية العادية، وقد يقيم صاحب البنك نوعًا معينًا من العلاقة في إحدى المناطق دون الأخرى.
وكل هذه الأنواع من الحسابات المفتوحة — سواء أكانت دائرية أم غير ذلك — تتضمن من الأخطار أكثر من القروض القائمة على صفقات تجارية جارية، وليست هذه الأخطار ناتجة من عجز المقترض عن السداد في الميعاد بقدر ما هي ناتجة عن احتمالات استعمال هذا النوع من الحسابات. فالحسابات المفتوحة بطبيعتها لا يمكن السيطرة عليها سيطرة مباشرة مثل القروض العادية. ولذلك نجد أن بعض البنوك لكي تؤمِّن نفسها ضد هذه الأخطار كانت تشترط تحويل المستندات الدالة على العمليات التجارية باسمها وتقدمها كضمان، وإن كان هذا نادر الحدوث. أما أغلب البنوك فكانت تمنح الحسابات المفتوحة للعملاء الموثوق فيهم، كما أنها كانت تترك بدون تغطية، أي إن المقترض كان ملزمًا بتغطية قروضه بأوراق تجارية قابلة للتظهير قبل حلول ميعاد استحقاق الدَّين. ويمكن القول إنه لم تكن توجد سيطرة كاملة على الاعتمادات المصرفية. وفي مثل هذه الظروف فقد كان من الممكن استخدام هذه التسهيلات لا لصفقات تجارية، وإنما لمنح قروض قصيرة الأجل يمكن تحويلها بسهولة إلى قروض طويلة الأجل إذا كان الاعتماد من النوع الدائري، وكان المقترض حريصًا على السداد في الميعاد، أما عملية السداد الآلي التي كانت من الوجهة النظرية صمام الأمن لهذه العمليات والضمان لسداد الحسابات التي حل ميعاد استحقاقها، فقد أخذ بها من حيث المبدأ فقط ولكن غالبًا ما كان يُضحَّى بها في الواقع.
وقد ازدادت الأخطار الناتجة من مثل هذه الحالات بسبب الاستعمال الدائم لكمبيالات المجاملة، وقد سميت بهذا الاسم لأنها عبارة عن مجاملة من أحد رجال الأعمال لآخر، أي إن أحد رجال الأعمال يقبل كمبيالة مسحوبة عليه من تاجر آخر عن عملية تجارية لم تحدث أبدًا. وكمبيالة المجاملة لا تختلف عن الكمبيالة العادية في مظهرها. أما في حقيقتها فهي السند الإذني موقَّعًا عليها من شخصين، أي أنها أوراق تجارية سليمة إلا أنها غير قائمة على صفقات حقيقية. وقد كانت كمبيالات المجاملة أكثر خطورة من السندات الإذنية الحقيقية فهي تدعي لنفسها حقًّا ليس لها وعليها توقيع بالقبول بدون وجه حق.
ولقد كان استخدام كل من الاعتمادات المفتوحة وكمبيالات المجاملة انفجارًا ضخمًا في الأوساط المالية، فقد كان استعمالها يدفع البنوك إلى مواقف خطيرة بسبب بعض العملاء المستهترين أو الذين يدفعهم اليأس فيجدون في هذه الوسيلة طريقة سهلة للقيام بعمليات مالية، أو الأسوأ من ذلك للمضاربة بأموال الغير، ولكن معظم التجار المعروفين وأصحاب المصانع الحريصين لم يخاطروا بالقيام بمثل هذه العمليات التي كانت تعتبر غشًّا من الوجهة القانونية أو الناحية الأخلاقية. وعلى الرغم من ذلك فإن بعض الشركات الكبرى أساءت إلى سمعتها ومركزها بالدخول في مثل تلك العمليات. فعندما يدخل قادة الثقة التجارية في مثل هذه الأعمال المريبة فإنهم يفعلون ذلك على نطاق لا تأمل البيوت الأضعف في منافستهم فيها. وهكذا نجد اعتمادات مزيفة تتراكم فوق اعتمادات مزيفة وأوراق مجاملة تغطى بأوراق مجاملة، ثم غشاشين ومحتالين وكل الجهاز الذي يمكن أن تبتكره العبقرية وتقدمه في صورة قانونية فيحصلون بذلك على نقود عن سلع وصفقات تجارية لم تحدث أبدًا.
وزاد الأمر سوءًا أن بعض أصحاب البنوك كانوا مستعدين للتغاضي عن هذه الأمور، بل كانوا في الواقع يشجعون هذه التصرفات عندما يحاولون البحث عن وسيلة للحصول على فائض من الأرصدة. وكانت البيوت الناشئة في سعيها وراء ازدهارٍ سريع وحرصها على كسب عملاء، أقل حرصًا من منافسيها القدماء الثابتين. وأكثر ذلك، فإن الفضيلة لا تنفع. فأسوأ جانب في حسابات المجاملة والمبالغة الوهمية في الصفقات التجارية أن بعض تلك البيوت التجارية القليلة التي لم تفكر حتى في مجرد التستر على هذه الأعمال، وجدت نفسها قد استُدرجت إلى شبكة أوراق الاعتمادات التي أحاطت بها. وبعد نقطة معينة كان من المستحيل القول: أين يتوقف التعامل بالأوراق الزائفة وأين يبدأ التعامل بالأوراق الجيدة؟ وبالطبع كان من السهل الوقوع في الإفلاس الناتج من خصم الأوراق الزائفة بمثل السهولة التي تحررها بها تلك الأوراق.
ونتيجة لذلك، ففي الوقت الذي تصبح فيه النقود كثيرة والسوق سهلة فإن البناء الائتماني يتضخم بشكل أكبر بكثير من الاحتياطات الفعلية للتجارة والصناعة، إلا أن هذا التضخم كان في بعض الأحوال في صالح الاقتصاد. فأوراق المجاملة والاعتمادات الدائرية كانت المحرك الخفي للاستثمار، وقد مكنت من التوسع في بعض الأعمال التي لولاها ما ظهرت تلك الأعمال إلى حيز الوجود. ومن ناحية أخرى فإن الهامش بين التوسع الحقيقي والتوسع المصطنَع كان صغيرًا جدًّا، وكان من السهل جدًّا التوسع في الائتمان بدرجة كبيرة حتى يصبح معرضًا للانفجار بأقل لمسة.
وربما كانت أوراق المجاملة قديمة قِدَم الأعمال المصرفية التجارية ذاتها. فقد كانت تمثل مشكلة خطيرة في القرن الثامن عشر، لقد وجد أصحاب البنوك أنه لا يمكن الاستغناء عن تلك المسماة بكمبيالات التمويل في حالة عدم وجود التسهيلات المناسبة لإعادة الخصم، ولكنهم لم يستطيعوا حصر استعمالها في تلك الحدود.
وفي عام ١٧٦٣م اهتزت أمستردام وهامبرج بسبب أزمات لم يكن لها مثيل، وكانت شدة تلك الأزمات ترجع، إلى درجة كبيرة، إلى انهيار شبكة كبيرة ومعقدة من عمليات المجاملة المنظمة.
غير أن التطور الوئيد للبنوك المركزية التي أصبحت فيما بعد «بنك البنوك» جعلت هذه العمليات الخطيرة أقل ضرورة. وعندما حل القرن التاسع عشر كان التجار والصناع هم المذنبين الرئيسيين في هذا المجال. وأسوأ استعمال لها وقع في إنجلترا؛ حيث خلق التقدم السريع في الصناعات والتجارة طلبًا شديدًا على كمبيالات المجاملة، وفي حوالي عام ١٨٤٠م، أو ربما قبل ذلك، كان بعض الوكلاء يقومون فعلًا بعمل هذه الكمبيالات والإعلان عن عملاء لشرائها، وعلى الرغم من أن كل أزمة تجارية كانت تكشف عن ضحاياها وتؤكد خطورة التمويل المقنَّع وراء الائتمان التجاري. فإن كل عملية من عمليات الازدهار أظهرت حصادها من الأوراق الزائفة. ولم يحدث أن وقع صدام أقوى مما حدث عام ١٨٥٧م كنتيجة للاندفاع في استخدام الاعتمادات التجارية مما أدى إلى أن يوقِّع بنك إنجلترا عقوبات ضد سماسرة الأوراق التجارية الذين إليهم ترجع أسباب الكارثة. ومع ذلك ففي عام ١٨٠٠م عندما بدأت التجارة تنهض من كبوتها ازدهرت كمبيالات المجاملة مرة ثانية بنفس القوة السابقة، وهي أعظم الأخطار في مهنة خطرة.
إن التبادل الدولي والاعتمادات التجارية، سواء أكانت حذرة حريصة أم مندفعة، من صميم أعمال بنوك التجارة، ومع ذلك لم تكن هي النشاط الوحيد المهم عند أصحاب البنوك التجارية، الذين كانوا من المهارة بحيث ينتقلون بمرونة وبسرعة لانتهاز فرصٍ جديدة، ويميلون مع رياح التغير الاقتصادي.
وفي نهاية القرن الثامن عشر كانت أكبر الفرص الحديثة تتمثل في هذا النوع من العمليات المالية المعروفة عادة باسم «التمويل الاستثماري».
إن التمويل الاستثماري هو عبارة عن تقديم أرصدة لاستخدامات طويلة الأجل، وقد تأخذ شكل التعاقد على إصدار سندات حكومية أو تمويل سندات صناعية أو عقد قروض برهن. والشيء الهام في ذلك، أنه إذا قورن بالتمويل التجاري الذي يهدف إلى تمويل عملية تجارية معينة ذات أجل محدود، نجد أن التمويل الاستثماري يستهدف خلق رأس مال ثابت أو استخدامه، وهو يعني بالضرورة تعبئة أرصدة الممول أو المستثمر النهائي خلال فترة طويلة نسبيًّا.
ومن الصعب أن يكون هذا مجالًا لنشاط أصحاب بنوك الإيداع الذين يقتضي واجبهم إزاء عملائهم الاحتفاظ بمبالغ كبيرة لعملائهم دون صرفها، أو مجالًا لنشاط أصحاب بنوك الإصدار الملتزمين بأن يدفعوا قيمة الأوراق عند تقديمها، إلا أن هذا المجال هو بالدقة ما يهم بنوك التمويل التجاري التي يعتبر أصحابها وكلاءَ أحرارًا إذا قورنوا بغيرهم. لقد كانت رءوس أموالهم ملكًا لهم، وأوراقهم وكمبيالاتهم المقبولة تستحق الدفع في مواعيد محددة، وإذا كان لدى الشخص الذي يمارس تلك العمليات المهارة الكافية فإنه يستطيع أن يوازن بين مقبوضاته ومدفوعاته، بحيث يجعل الدخل يسبق المنصرف دائمًا. وأخيرًا فإن تلك الأرصدة التي كان العملاء يتركونها في حسابات جارية كانت تستعمل في عمليات إدارية أو في عمليات استثمارية وتُستَحق عند طلب محدد. وبالاختصار فليس هناك في أرصدته المدينة ما يستحق الدفع بدون إخطار سابق. ويمكنه كذلك إذا كانت لديه القدرة والأعصاب أن يدخل في العمليات التي تحتاج إلى مخاطرة، والتي هي محظورة على بنوك الإيداع والإصدار خلقيًّا وقانونيًّا.
وإذا أردنا تعريف التمويل الاستثماري في أوسع معانيه، فيجب علينا أن نرجع إلى أولئك التجار الذين كانوا يعيشون في أواخر العصور الوُسطى وأوائل عصر النهضة وهم: باردي، بيروزي، ميديسي، جاك كير، وآخرون، الذين ارتبطت وساهمت قروضهم في قيام الدولة الحديثة، وكمهنة منظمة مختلفة عن مجرد إقراض النقود فإن التمويل الاستثماري ليس ممكنًا إذا لم يتوفر الحق في تحويل الأموال وسوق من المستثمرين لشراء الأوراق. وهذه الشروط لم تكن قائمة حتى القرنين السابع عشر والثامن عشر، عندما أدى تضخم الدين الوطني في إنجلترا وفرنسا وهولندا — وظهور شركات كبيرة قانونية لاستغلال التجارة الخارجية — إلى ظهور عدد كبير من الضمانات القوية القابلة للتداول. وقد شاهدت هذه الفترة أيضًا ظهور الأسهم لحامله التي صدرت في أشكال وأنواع تتناسب ورغبات المضاربين في سوق الأوراق المالية والمستثمرين.
وقد منحت الثورة الفرنسية ونابليون دفعة جديدة لهذا التطور، فسنوات الحرب والاضطرابات السياسية والاقتصادية وما نتج عنهما من القروض والإعانات، كانت نتيجتها أن عاشت عمليات التمويل بدرجة لم يكن في الإمكان تصورها من قبل. وقد ظهرت بنوك جديدة في جميع الأسواق المالية في أوروبا كما أن البنوك القديمة تعلمت حيلًا جديدة، وبينما انهارت بعض البيوت المالية التي أَثْرت حديثًا بأسرع من قيامها، صمد غيرها وبقي، وما زال بعضها قائمًا حتى اليوم.
وإذا كانت الثورات والحروب في صالح عمليات التبادل الخارجي فإن السلام كان أفضل في هذا الصدد. لقد أدى انتهاء الحرب إلى انخفاض في النفقات العسكرية مع تضخم عدد المستثمرين، الشيء الذي نتج عنه هبوط كبير في الأسعار ثم كساد في التجارة، إلا أن انتهاء الحرب كان يعني من ناحية أخرى تعويضات وإعادة بناء وقروض دولية. وفي العشر السنوات منذ سقوط نابليون إلى ١٨٢٥م تدفقت كثير من الأوراق المالية في أسواق العالم، وعلى الأخص في لندن، بشكل لم يسبق له مثيل في القرن السابق كله. ولم تكن القوى الكبرى فقط هي التي تقترض (أمثال: فرنسا، وبروسيا، وروسيا، والنمسا) ولكن كانت هناك دول أخرى من الدرجة الثانية لجأت إلى الاقتراض، مثل إسبانيا، ودول في طريق التكوين، مثل اليونان، ودول مزعومة، مثل جواتيمالا ونيكاراجوا، ودول وهمية، مثل بوياس.
وفي نفس الوقت فإن تقدم وانتشار النظم الحديثة في الصناعة وفي النقل أدى إلى زيادة الطلب على رأس المال الاستثماري وفتح له فُرصًا جديدة. وفي كثير من الأحيان كانت هذه الفرص تواجه من جانب بعض الشركات الكبيرة بالعجز أو اللامبالاة. إن البيوت المالية التي أظهرت مبادرة ملحوظة في خلق سوق دولية للسندات الحكومية، هي نفسها التي تجنبت التعامل مع شركات السكك الحديدية والتعدين باعتبار أصحابها مدينين ليسوا أهلًا للثقة. وفي كل غرب أوروبا كان على الوافدين الجدد من المهندسين والناشرين والصناعيين والمخترعين أن يفتحوا الطريق أمام القوى المالية المستترة. وفي إنجلترا عندما أيَّد أصحاب البنوك أخيرًا تكوين الشركات الجديدة، لم يكن بنكًا من بنوك التجارة هو الذي قام بهذه العملية، بل أحد أصحاب البنوك الخاصة (وهذا هو الشاذ الذي يثبت القاعدة) وهو جورج كارجاين الذي ضرب المثل.
ومع ذلك فبمجرد أن انتهى هذا التقاعس المبدئي، اندفعت بنوك التجارة إلى العمل بعزيمة قوية، وخاصة في فرنسا؛ إذ لم توجد شركة أو مؤسسة لها أهميتها (قنوات سكك حديدية، أو منافع عامة) دون أن يكون لأصحاب بنوك التجارة مكان هام ضمن المؤسسين لها، أو في مجالس إدارتها.
وفي ألمانيا كانت البيوت المالية الكبيرة في فرانكفورت وكولون بارزة في عمليات التصنيع والتَّعدين في الروهر وصناعات النسيج، في وتنبرج، وأرض الراين، وفي بنوك الإصدار التي أنشئت في أنحاء الاتحاد. وفي إنجلترا؛ حيث كان عليهم أن يشتركوا مع الوافدين الجدد الذين سبقوهم في هذه الميادين، وكذلك مع أصحاب البنوك الخاصة، الذين نحَّوا التقاليد جانبًا، واشتركوا في هذا العمل على مسئوليتهم الخاصة، واستطاع أصحاب البنوك التجارية من الأجانب أن يأخذوا نصيبًا كبيرًا من النشاط الصناعي في الخارج أكثر منه في الداخل.
•••
وعلى الرغم من أن جميع الأوراق التجارية، من أجنبية ومحلية، لها مخاطرها، إلا أن عمل بنوك التجارة الخارجية كان أكثر خطورة؛ أولًا: لأن المسافة والمدة التي يستغرقها عدد الصفقات كانت تتسبَّب في تأخير السداد وتسوية الحساب، كما أنها كانت تقدم فُرَصًا لإساءة الاستعمال، ومن ناحية أخرى فإن البُعد الطبيعي بين صاحب البنك وعملائه في البلاد الأخرى جعل من المستحيل عليه أن يعرفَهم أو يراقبهم بالشكل الذي يعرف به عملاءه المحليين ويراقبهم. وزاد الأمر خطورة بالتعامل مع رجال أعمال في بلاد تحكمها قوانين وعادات غريبة، فلم تكن هناك وسيلة لإجبار مَدِين على سداد دينه، وأحيانًا، فإن ما يعتقد صاحب البنك أنه حق مكتسبٌ له لم يكن كذلك في المجتمع الآخر.
وبسبب هذه العوائق كان التمويل لدى بنوك التجار مسألةً تعتمد، إلى درجة كبيرة، على العمل الشخصي، فإذا لم يكن هناك مقياس موضوعي للقدرة التجارية في البلد الأخرى، فإن البنك كان مضطرًّا عند التعامل مع عملاء جدد أن يعتمد على أخلاقهم الشخصية. وفي تقييم هذه الأخلاق الشخصية لم تكن هناك شهادة أبلغ من تزكيةٍ من شخص يعرفه البنك ويثق فيه، ولا توجد تزكية فعَّالة أكثر من تزكية مراسلي البنك الخصوصيين، وغالبًا ما يكون المراسلون أصحاب بنوك، وفي بعض الأحيان رؤساء شركات تربطهم بالبنك مصالح خفية وأحيانًا أخرى مرءوسين يديرون وكالاته، وهؤلاء المراسلون هم أعمدة أي عمل من أعمال التجارة الدولية. فهم يستحيل الاستغناء عنهم كمعاونَين ماليِّين، يرسلون المدفوعات ويتسلمون الكمبيالات ويُحصِّلون الديون ويقومون بعمل خطابات الضمان وغير ذلك. كما أنهم الأعيُن والآذان لشركائهم البعِيدين، وكانوا أشخاصًا أذكياء، مكَّنهم مركزهم الاستراتيجي في بلاد العملاء من مساعدة البنوك الأجنبية على العمل في هدوء وأمان مع رجال أعمال لم يروهم قط.
وبالنسبة لتلك البنوك التي كانت تقوم بصفقات الاستثمار، أو تقدم قروضًا للخارج، أو تساهم في إنشاء مؤسسة صناعية، كانت مشاكل الاستعلام عن العملاء والتعاون معهم أكثر حدَّة. فالحكومة المقترضة عميل، إلا أنها عميل من نوع خاص، وهي معرَّضة لنفس الاستقصاء الذي يتعرض له العميل الخاص، ولا شك في أن هذا الاستقصاء كان أكثر صعوبة وأهمية بسبب العوامل السياسية الخارجية التي تُعقِّد الموقف. وأكثر من ذلك فإن الاستقصاء ليس إلا بداية، فهناك بعد ذلك مهمة إتمام وضمان القرض بكل ما يتطلبه هذا من ارتباطات ونفوذ.
وللمشروعات الصناعية مشاكلها الخاصة؛ فعلاوة على طابعها المضارب كضمان، كان هناك كثير من المستثمرين في منتصف القرن التاسع عشر لا يحبون التعامل في الأوراق المالية الصناعية تحت أي ظرف من الظروف، فإنها تتضمن أمورًا خفية فوق مقدرة البنوك العادية. كما أن إنشاء الشركات الصناعية في تلك الفترة كان أشبه بعمل سياسي، مثله في ذلك مثل عقد القروض الحكومية. وفي كل مكان، ما عدا بعض المناطق في الولايات المتحدة، كانت الشركات المساهمة حتى الفترة ما بين ١٨٥٠–١٨٦٠م تعتبر انحرافًا عن قواعد تنظيم الأعمال التجارية، انحرافًا يتطلب الموافقة الصريحة من الدولة. وهنا أيضًا — كما هو الحال في عقد القروض — كانت الحاجة ماسةً إلى بعض المندوبين أو المعاونين محليًّا للحصول على المعلومات، وإيجاد رجال الأعمال المحليين وموظفي الحكومة.
لذلك فإن بنوك التجارة — سواء أكانت بنوك استثمار أو تبادل — كانت بطبيعتها نشاطًا جماعيًّا.
وقد تتكون هذه الجماعة من نواة من اثنين أو ثلاثة من المندوبين في الأسواق الهامة؛ مثل لندن – أمستردام أو باريس – فرانكفورت – ليفربول – بوسطن – نيويورك، ترتبط بها، إما منفردة أو مجتمعة، بيوتٌ خارجية في مراكز تجارية أخرى. وهذه الشركات الخارجية تعمل بدورها مع شبكتها الخاصة من المصرفيين المحليين والأجانب في المنطقة، والذين كانوا يتعاملون عادةً مع بيوت تجارية عالمية بشكل غير مباشر. وهكذا فإن قوة هذه الوحدات في مثل هذه الشبكة الواسعة تتناسب عكسيًّا مع البُعد عن المركز. وهذه الشركات كلها تُكوِّن سلسلة قوية، كل حلقة فيها مرتبطة ببعضها، وفي نفس الوقت تفصل بين الحلقتين الأُخرَيَين في الجهتين، وتتدرج من المراسلين الموثوق فيهم في المواني الكبرى ومخازن الإيداع إلى البنوك الصغيرة المحلية في المراكز الصناعية والأسواق الزراعية إلى السماسرة ومُقرض النقود في بلاد الهند البعيدة.
•••
وهؤلاء كانوا يُكوِّنون جماعة قويَّة وجريئة من الممولين، الذين كانوا بين قادة أسواق النقود ورأس المال في القرن الماضي، والذين استمر بعضهم يسيطر على ثروات كبيرة حتى هذه الأيام.
وأقل منهم تأثيرًا كانت تلك الجماعات التي ربطتهم أواصرُ الصداقة والثقة والخبرة الطويلة في التعاون. ويمكن أن نذكر في هذا الصدد أن الرابطة الأعم هي رابطة الأصل الوطني الواحد. فغالبية الجماعات التجارية أو المالية كانت تتكون من نواة تاجر مهاجر وصديقه أو أصدقائه في الوطن الأصلي. وحيثما كان هناك تدفُّق في السلع يتدفق التجار من أحد أطراف الخيط إلى الطرف الآخر، يشترون أو يبيعون لمواطنيهم. وفي أوائل الفترة الحديثة كانت الشركات التجارية، مثل شركات بروجز أو آنتوورب، عبارة عن رابطة وطنية يعتمد أعضاؤها في أعمالهم على علاقتهم ببلادهم. وبعد ذلك دفعت الفُرص المشابهة الفرنسيين إلى لبنان وسوريا لبيع الأقمشة وشراء التوابل والبُن والقطن، وسافر سويسريُّون إلى مَرسيليا لشحن منتجات البحر الأبيض وما وراء البحار إلى وسط أوروبا، وسافر الألمان إلى اسكندنافيا لشحن الأخشاب والحديد إلى بلادهم، ويمكن أن نذكر أمثلة أخرى بدون نهاية، إلا أنه يمكن القول إن الإنجليز والاسكُتلنديين كانوا أكثر حركة، فلم يكد يحل القرن التاسع عشر حتى كانوا في كل مكان.
وقد نمت بعض هذه الارتباطات من هجرات أوسع ليس لها طابع العمل التجاري، فمثلًا نمت التجارة الألمانية-الأمريكية بسرعة بعد هجرة ١٨٤٨م. وغالبًا فإن التجار كانوا يسيرون في اتجاه تحوُّل التجارة، ويمكن أن نلاحظ طابع التحوُّل في الهجرة التجارية إلى بوردو من الهولنديين في القرن السابع عشر، والألمان والإنجليز في القرن الثامن عشر، والألمان في القرن التاسع عشر. وفي كل هذه الحالات فقد أدت التجارة إلى التبادل والائتمان، وأصبح محور التجارة محورًا ماليًّا في نفس الوقت.
وغالبًا ما كانت الروابط الوطنية تدعم بروابط دينية. فالدِّين المشترك كان أقوى من أي رباط. وفي المهن ذات الطابع الدولي بطبيعتها، والتي تعتمد على الثقة القوية جدًّا، فإن تفوق جماعة من المضطَهَدين ذوي قيم مشتركة وطرق معيشة واحدة، تربطهم من الداخل. وضغوط مشتركة تفرض عليهم الوحدة من الخارج؛ كان أمرًا إيجابيًّا.
ولا يوجد مثلٌ أوضح لهذا كله من اليهود، الذين كانوا يومًا شعبًا من المزارعين والرعاة يشغلون جزءًا صغيرًا من الشرق الأدنى، ثم شتَّتَتْهم الحروب والاضطهاد في جميع أنحاء البحر الأبيض المتوسط وغرب آسيا، ثم رحلوا بعد ذلك إلى أبعد أماكن الدنيا. وحيث أقاموا كانوا يستفيدون من الرابطة التي بينهم، التي تغذيها البغضاء والشك من جانب غير اليهود المحيطين بهم، وفي داخل جماعتهم كانوا مضطرين أن يساند بعضهم البعض في حالة الشدة، ويعملون مع بعضهم في وقت الرخاء، وكانوا يسافرون من بلد إلى آخر، واليهودي الذي ينزل على غيره من اليهود لم يكن يُعتبر غريبًا أبدًا، لقد كان اتصالهم بإخوتهم في الدين يعني ارتباطًا ثمينًا ولا أحد غيرهم يستطيع أن يحدد بسهولة البلادَ التي في حاجة إلى سلع، أو الفرص القائمة للربح، وأكثر من ذلك، فلم يكن عند أحد غيرهم مثل هذه الشبكة الكاملة والنشيطة من المخابرات في أنحاء العالم لشئون السياسة أو شئون التجارة.
ولم تكن جماعتهم هي مجرد وحدة عقيدة دينية فقط، ولكن كانت هناك عادةُ الزواج من نفس الجماعة، بطريقة رشيدة تتكاتف لكي تنتج طبقة من رجال الأعمال اليهود، هي تقريبًا قبيلة واحدة، يزِنون بعناية المبلغ المدفوع عند الزواج، والرابطة العائلية والمستقبل وجميع العوامل الأخرى التي تؤدي إلى وجود رابطة معقولة، فابن صاحب البنك يتزوج ابنة التاجر، وأمستردام ترتبط بفرانكفورت وباريس وكولونيا بروابط الدم والمصاهرة. ولم يكن هذا دائمًا بطبيعة الحال، ولكن كان من الطبيعي أن يعرف الأقارب بعضهم جيدًا، وكان أبناؤهم يتعلمون في محلات بعضهم، وبنوكهم، حتى يصبحوا أصدقاء في طفولتهم وزملاء في شبابهم، وكانوا ينتقون مراسليهم وشركاتهم من بين أفراد القبيلة. ومن بحر الصين إلى البوابة الذهبية، ومن ساسون إلى سلجمان كانت هناك سلسلة متصلة من بنوك اليهود التجارية يربطها الدم أو العمل المشترك، وغالبًا الاثنان معا.
وأكثر تركيزًا من الناحية الجغرافية — وإن لم يكونوا أقل من اليهود تأثيرًا، وارتباطًا بالعقيدة، وطريقة الحياة، والاضطهاد وسوء المعاملة — هم الكلفانيون، فهؤلاء هربوا من فلاندرز وفرنسا في القرن السادس عشر، واجتُثُّوا من وسط أوروبا أيام حرب الثلاثين، ثم طُرِدوا مرة ثانية من فرنسا بعد أن سحب لويس الرابع عشر عام ١٦٨٥م الميزات التي منحها لهم لويس الرابع عام ١٥٩٨م، فانتشر هؤلاء اللاجئون في أنحاء أوروبا، وتجمعوا عند مراكز التجارة وفي المواني الكبرى وفي فرانكفورت، جنيف، بازِل، وجِنوة، ولندن. ومثلهم مثل اليهود، كانوا، أينما حلُّوا، متداخلين مندمجين، يكوِّنون قوة من الخارج، طموحين متحررين من القيود، وقد أقاموا المحلات التجارية والمخازن وأنشَئوا صناعات جديدة، وحسنوا الصناعات القائمة، واشتغلوا في عمليات خصم الأوراق التجارية والتجارة الخارجية، وقد ركزوا على بناء رخائهم بالتعاون مع إخوانهم على هذا العمل المنظَّم المدهش، الذي تم عن طريق الروابط الدينية والعقائدية، والذي كانت قوته ومدى الثقة فيه تساند إحداها الأخرى.
فمثلًا ما كاد الكلفانيون الفرنسيون — من أهل لاهاي — يستقرون في مدن اللاجئين حتى أرسلوا أبناءهم إلى فرنسا مرة ثانية؛ لا كفرنسيين معرَّضين للاضطهاد، ولكن كأجانب تحميهم الجنسية السويسرية أو الهولندية. وفي بداية القرن الثامن عشر ظهرت في باريس مستعمرة من أصحاب البنوك الكلفانيين، وكانت علاقتهم الوثيقة بأقاربهم في الخارج تدعمها الروابط القوية مع البروتستانت الذين لم يتركوا البلاد. فعلى الرغم من المحاولات القوية التي اتُّبعت لإخمادهم إلا أن السلطات لم تنجح أبدًا في إيقاف كنيسة الإصلاح. وقد بقي كثير من الكلفانيين الذين لاقوا العذاب والاضطهاد، فكرَّسوا أنفسهم للصناعة والتجارة ونجحوا في ذلك نجاحًا كبيرًا … وقد بدا نجاح هؤلاء البروتستانت واضحًا على الأخص في الجنوب، لا في أنوناي وديلنت ومازاميت فحسب، وإنما في ليون ومَرسيليا وبوردو ومونت بلير ونيم، حيث استقر أبناؤهم في الأراضي السهلة والمواني، وتغلبوا على جيرانهم الكاثوليك الكثيرين.
ولقد أصبح هذا التدفق المستمر من الكلفانيين التجار وأصحاب البنوك، وخاصة من سويسرا، من مميزات الحياة التجارية في فرنسا. وقد بدأت باريس في السنوات الأخيرة من النظام القديم تصبح ذات أهمية في سوق رأس المال، حتى إن نفوذ وثروة رجال، مثل بيرجو ونيكر وكالفير، هي التي أدت إلى المثل القائل: «إن كل واحد من أهل جنيف يساوي ستة من اليهود، وكل واحد من الكلفانيين يساوي ستة من أهل جنيف».
وقد هدَّأت الثورة حركة المال، وبدا كأن الموقف غير ملائم لعمليات التبادل العادية، ولكن بينما فقد كثير من أصحاب البنوك القديمة ثروتهم بقي كثيرون غيرهم، وانضم إليهم قادمون جدد وجدوا في انعدام الاستقرار السياسي والفوضى النقدية فرصة للربح تفُوق ما يلاقونه من أخطار. وقد استمرت هذه الهجرة في عهد نابليون، وبعضهم، مثل أندريه في جِنوة، أغلق محلاته ونقل مكاتبه إلى باريس، أو مثل هينتسك في جنيف، الذي وجد من ينضم إليه في باريس، أو مثل ماركوارد في برن وسيرابو في ميلان، الذين اشتروا بيتًا من البيوت الفرنسية المالية. وأحيانًا وصل القادمون الجدد، مثل باكارد أو داسيي، إلى فرنسا وليس معهم سوى الروابط العائلية، وهي تساوي في دوائر الكلفانيين أكثر من العملة الصعبة.
فهنا أيضًا كانت الروابط الاجتماعية هي روابط دم، وكلاهما كان يعني التعاون الاقتصادي. وقبل الثورة كان اللاجئون في المنفى يتزوجون من بعضهم، مختارين شركاء حياتهم بعناية فائقة لتقوية ثروة العائلة والشركة. بل إن البروتستانت في فرنسا، الذين وجدوا صعوبة في الصلاة علانية، وفي الزواج والتعليم من داخل عقيدتهم؛ كانوا يرسلون أولادهم إلى الخارج كلما أمكن، وذلك ليتعلموا حرفتهم، وربما يجدون زوجة في متجر أحد أصدقائهم الذين يعتنقون مذهبهم. وقد استمرَّت هذه الحالة حتى أصبحت شائعة في القرن التاسع عشر، وخاصة أنها كانت طريقة ممتازة لتعلم اللغات وزيادة الاتصالات التجارية القيِّمة.
ونتيجة لذلك ظهرت في غرب أوروبا عائلات من رجال الأعمال الكلفانيين تتخذ من باريس مركزًا لها وتتصل عن طريق الأعمام وأولاد العم والمصاهرة أمامًا وخلفًا، عبر الأجيال من غزَّالي القطن في نورماندي إلى أصحاب البنوك في بازل، ومن صانعي الآلات في الألزاس إلى التجار في جِنوة. وفي هذا المجتمع البروتستانتي العالي — كما يسمونه في فرنسا — احتلت عائلات أصحاب البنوك أعلى المراكز. كانوا أقوياء ومحافظين ومتمسكين بعقائدهم وكرامتهم كأقلية دينية، فكوَّنوا بذلك كتلة قوية مرتبطة ببعضها، تتخذ من باريس وجنيف مراكزَ لها، وتتصل بكل الأسواق التجارية الهامة في القارة الأوروبية. وفي صفقات الخصم التجاري والمبادلات التجارية الخارجية كانوا يحترمون ويثقون في بعضهم، ويحصلون على نفس الثقة والاحترام في الخارج. وفي ميدان الإقراض والتنمية الصناعية سرعان ما يستشيرون ويشاركون بعضهم. وعلى الرغم من أنهم لم يكونوا فاحشي الثروة إلا أن حرصهم واعتمادهم على بعضهم البعض وتعاونهم مع بعضهم كمجموعة، كل ذلك أعطاهم قوة تفوق عددهم وأموالهم الشخصية، إلى درجة أن مصطلح «المالية العالية» و«المالية البروتستانتية» كان يعني شيئًا واحدًا في معظم الأحيان.
إن اليهود والكلفانيين كانوا بالطبع أوضح مثلٍ على تلك الظاهرة. إلا أن نفس هذه التأثيرات كانت حاسمة في نجاح اليونانيين، الذين دفعهم الاضطهاد في بلادهم، والفرص في الخارج إلى ترك الإمبراطورية العثمانية بحثًا عن الثروة في أوروبا والبحر الأبيض المتوسط، وقد لفت نشاطهم الانتباه في أوائل القرن السابع عشر، على أن أول هجرة كبيرة لهم في الأزمنة الحديثة وقعت في القرن الثامن عشر، عندما أعقب فشل بعثة أولوف وإخماد الثورة في المورة عام ١٨٧٠م إلى سنوات من النهب والسلب والتخريب على يد الألبانيين مسحت مُدُنًا بأكملها وشردت أهلها. وقد هرب أغلب اللاجئين إلى داخل الإمبراطورية الروسية والنمساوية؛ حيث رحبت بهم السلطات، وأتاحت محاصيل الحبوب الواسعة فرصًا كبيرة في التجارة. وفي ذلك الوقت بالذات فرضت روسيا على تركيا معاهدة كوتشوك كينارجي عام ١٧٧٤م، وفتحت الدردنيل لسفن البحر الأسود، وبذلك نشطت تجارة قوية بين منطقة تصدير المواد الغذائية في شرق أوروبا ومراكز الصناعة في غربها.
وكانت أغلب هذه التجارة في يد اليونانيين، ومثل أسلافهم في العهود القديمة وجد تجار اليونان في الأنهار الكبرى التي تخترق جبال شبه جزيرة البلقان ومراعي جنوب روسيا (السافا، والدانوب، ودينستر، ودنيير، ودون، وفولجا) مسالك طبيعية للثراء. ومن فيينا وفينسيا إلى نيجني-نوفجورود واستراكان انتعشت مستعمرات قديمة وظهرت مستعمرات جديدة، وفي نفس الوقت قامت البحرية التجارية اليونانية في ظل العلم الروسي واتسعت اتساعًا كبيرًا. وعندما طرد الأسطول الإنجليزي الفرنسيين من البحر الأبيض المتوسط في نهاية هذا القرن، حل اليونانيون محل الفرنسيين في سوريا ولبنان. وقد عاصرت المرحلة النابليونية تلك الفترة التجارية، وكان النظام الأوروبي بما يفرضه من موانع وما به من نقص فرصة رائعة للتجار اليونانيين، الذين كانوا في الواقع يملكون مفتاح أوروبا الخلفي، والذين حققوا ثروات كبيرة من بيع الحرير والقطن التركي والمصنوعات البريطانية الممنوعة.
وقد جاءت الهجرة الثانية الكبيرة عقب ثورة اليونان عام ١٨٢١م والاضطهاد التركي الذي أعقبها. فذهب أغلب هؤلاء اللاجئين إلى الجنوب وإلى الغرب؛ إلى مصر وفرنسا وانجلترا. وبينما استقرَّ أغلب الذين ذهبوا إلى أوروبا الغربية في المواني الكبرى (تلك هي الفترة التي شهدت تكوين المستعمرات اليونانية في مَرسيليا ولندن)، واستقر كثير من المهاجرين إلى أفريقيا فيما وراء المدن في داخل البلاد. وفي هذا يكمُن سر قوتهم؛ فقد فضَّل منافسوهم من الفرنسيين والإنجليز المتعة والراحة في الإسكندرية. أما اليونانيون، فعلى الرغم من أنهم لم يهملوا الميناء إلا أن بعضهم رحل إلى الجنوب، فمنهم من ذهب إلى القاهرة؛ حيث ساعدوا على أن تكون العاصمة السياسية مركزًا تجاريًّا كذلك، وآخرون ذهبوا إلى الجهات البعيدة في الصعيد والسودان، يبيعون الأقمشة والمصنوعات الرخيصة والأدوات المنزلية المعدنية للمزارعين العرب والبدو، ويقرضونهم بشروط قاسية، ويشترون منتجات تلك المناطق ويرسلونها لمواطنيهم في الإسكندرية لتصديرها إلى الخارج.
وقد وصل بعض هؤلاء المهاجرين اليونانيين من بحر إيجه ومعهم ثروات ضخمة. وآخرون (خصوصًا أولئك الذين جاءوا من كايوس) كانوا فلاحين مهرة، لا يملكون من رأس المال شيئًا غير ذكائهم الشخصي وقدرتهم وشجاعتهم. وبعضهم لم يكونوا لاجئين وإنما كانوا أعضاء في بيوت تجارية قديمة في القسطنطينية وسالونيكا وأزمير، أُرسلوا إلى الخارج ليُنشئوا فروعًا جديدة ويوسعوا عمليات الشركة الأصلية.
هنا أيضًا كان اتحاد هؤلاء المشتتين المفتاح إلى النجاح. فاليونانيون الذين لم يهاجروا أثْرَوا من التجارة بسبب نشاط إخوانهم في الخارج. ولقد قال أحد المراقبين عام ١٨١٢م: إن بعض فروع العائلات المهاجرة بقي في تركيا بسبب أملاكهم في البلاد، أو لملاءمة هذا البقاء لكل من الطرفين من وجهة النظر التجارية. فالجزء الأكبر من تجارة تركيا الخارجية في تبادل السلع كانت تقوم بها بيوت يونانية لها أتباع في الداخل وفروع في مختلف بلدان أوروبا، يساعد بعضها البعض، وتوسع من أعمالها أكثر مما كان يمكنها عمله في تركيا وحدها.
وحيثما استقروا كانوا يظهرون روحًا من التمسُّك كانت محل إعجاب عالم التجارة والمال؛ ففي أوقات الرخاء كانوا يعملون معًا كي تكون صفقات كل واحد منهم أكثر ربحًا … يبيعون ويشترون متضامنين متماسكين، ويدعمون أرصدتهم بقبول أوراق بعضهم المالية وخصمه، ويحتفظون بالرسوم لمواطنيهم. وفي وقت الأزمات كانوا يعتبرون سمعة كل شركة هي سمعة المجموعة كلها، ويبذلون الجهود لإنقاذ بيت تجاري يوناني في محنة.
وطبعًا على الأقل في حالتين من هذه الحالات — اليهود والكلفانيين — (ويمكن إضافة الكويكرز الذين احتلوا مركزًا مرموقًا في أعمال البنوك الإنجليزية المحلية) لم يكن النجاح في الأعمال التجارية يتوقف على مجرد التعاون والوعي بالجماعة الدينية أو الوطنية، ولكن في كل هذه الحالات نجد أن وجود القواعد الدينية التي تنظم، السلوك المعقول، يقويها الانفصال الاجتماعي والثقافي عن بقية المجتمع، بكل ما خلقته التفرقة السياسية والدينية والمهنية، قد منحتهم دفعة قوية للنشاط الرأسمالي. ومن ناحية أخرى فإن التشابه بين اليهود وأهل لاهاي من جهة والكويكرز من جهة أخرى يبين أهمية الفرق الرئيسي. فالتشتت الجغرافي للجانب الأول، يقابله التركيز القوي للجانب الأخير، جعل لكل منهما مكانه الخاص به في دائرة النشاط المصرفي.
•••
وعلى الرغم من أن الروابط الاجتماعية والشخصية كانت عاملًا رئيسيًّا في تجميع القُوى المالية، إلا أنه من الخطأ أن نغالي في تقدير أهميتها. فحتى الروابط الدينية كانت تميل إلى الضعف كلما تحقق النجاح. ومثل هذه العلاقات كانت ذات أهمية كبرى بالنسبة للمبتدئين، الذين لم تكن لديهم القوة أو الاتصالات التي يمنحها الزمن والثروة. فقد يجد صاحب البنك المستتر أنه يفضل زملاءه في الدين أو الوطن، إلا أنه ليس في حاجة إليهم. وقد يفضل أحيانًا أن يستغني عنهم. فكثير من اليهود الأغنياء ضحَّوا بعقيدتهم الدينية من أجل أطماعهم الاجتماعية وبذلوا جهدهم لينفصلوا عن زملائهم في الدين.
والأكثر ذلك أهمية في هذا المجال تلك الروح العملية لهذه المهنة المالية. فالجماعات المصرفية أوجدتها اعتبارات عملية، وعاشت من أجل اعتبارات عملية، وروابط الأسرة والصداقة والعادات مهما كانت قوية إلا أنها كانت فعالة بقدر ما تفيد في خدمة هذه الأغراض العملية. وباستثناء حالات الرباط المحدد؛ كأن يكون لأي المصرفيين مصلحة خفية في شركة مصرفي آخر، فإن كل عضو من أعضاء الجماعة كان مستقلًّا ويتصرف وفق ما يتراءى له. ومن الطبيعي في حياة التجارة أن يتفق أحد أصحاب البنوك في ألمانيا، مثلًا، مع شريكه في إنجلترا بخصوص حساب أحد العملاء أو بخصوص تقدير قوة السوق، وأكثر من ذلك، فقد تكون هناك اختلافات موضوعية بين مركز أحد أصحاب البنوك وآخر، أو بين إحدى الأسواق وأخرى.
إن هذا يفسر سبب التعقد المتشعب لشبكة التبادل التجاري، ففي أي منطقة كان لكل عضو من أعضاء المجموعة الصغيرة الحرية المطلقة في التعامل مع مندوبه الخاص الذي يفضله (أو مندوبيه) وحتى لو كان في نفس المنطقة أحد الأقارب؛ إذ لم يكن هناك إلزام باستخدامه كمندوب، على الرغم، طبعًا، من أن مساعداته ونصيحته هي محل ترحيب، وهكذا نجد أن إخوان براون في نيويورك قد اعتمدوا لعدة سنوات وكيلًا خاصًّا في بالتيمور بدلا من شركة ألكسندر براون وأولاده التي هي الشركة الأم.
وتتضح مرونة هذا النظام عندما نلاحظ التفرقة الفائقة بين الأعمال التجارية المنتظمة وبين التمويل الاستثماري. وكما أوضحنا سابقًا، فإن التمويل الاستثماري كان نشاطًا إضافيًّا، وغالبًا ما كان مذهلَ الأرباح، ولكنه لم يكن محل ترحيبِ كثير من الممولين المحافظين. وفي بعض الحالات لم تكن المسألة مسألة ترحيب أو عدمه، وإنما المسألة أن ما هو مربح في سوق معينة قد لا يكون مربحًا أو ممكنًا في سوق أخرى. وعلى أي حال فإن أعضاء مجموعات التبادل الخارجي كانوا أحرارًا في تجنُّب العمليات الاستثمارية دون خوف من الإساءة إلى أعضاء المجموعة الآخرين.
وبالمثل فإن التمويل الاستثماري كان دائمًا يتطلب تعاونَ الآخرين من الخارج. وفي عمليات عقد القروض كان لا بد أن يكون هناك رجل اتصال (تاجر – مصرفي – وسيط – أو إنسان محل ثقة) من الذين ينصِت إليهم الحاكم أو الوزير، ولا يمكن الاستغناء عن مساعداتهم. وفي هذا الصدد نذكر هابر في ألمانيا. وهرش في الإمبراطورية العثمانية، وأوبنهايم في مصر. وفي ميدان الاستثمار الصناعي كان هناك أخصَّائيون جعلتهم خبرتهم الفنية حلفاء مهمين في أي عملية في محيط عملهم الفتيِّ، فنجد بلونت في ميدان عمليات السكك الحديدية في القارة الأوروبية، وسيليير في ميدان الحديد والصلب، وأوبنهايم في التعدين غير الحديدي.
وأكثر من ذلك، نجد أن طبيعة عمليات التمويل الاستثماري كانت في حاجة إلى تكوين اتحادات أكثر اتساعًا وتنوُّعًا من المجموعات التجارية الصغيرة؛ فقد كان هناك الإحساس بضرورة توزيع المخاطر بين الجميع، وكانت هناك الحاجة إلى الدخول في أسواق جديدة لتحقيق مبيعات كبيرة، وكانت هناك مشكلة التنافس على العقود والامتيازات، وكان من الأسهل امتصاص المنافسين بدلًا من محاربتهم.
بسبب كل تلك الاعتبارات الشخصية واعتبارات السوق، فإن تكوين مجموعات لعمليات الاستثمار كان أمرًا مختلفًا عن تكوين مجموعات للتجارة الخارجية، وقد عملت البنوك في كلٍّ من المجالين مع تلك البيوت التجارية التي كانت أفضل من غيرها. وهكذا نجد أن عائلة روزتشايلد، بينما كانت وحدة متماسكة وفعالة إلى حدٍّ كبير في عمليات التمويل التجاري إلا أنها انشقَّت حول مشكلة التمويل الصناعي. فلم يكن بيت العائلة في لندن أو فرانكفورت يتحمَّس لتمويل عمليات السكك الحديدية على الرغم من أن ناتان روزتشايلد في إنجلترا كان يقِظًا إلى حد أنه أوصى إخوته في القارة أن يأخذوا تلك العمليات. وفي النمسا نجد أن سليمان روزتشايلد كان أول تقدم لإنشاء نوردبالم، كما وسع نشاطه الصناعي فشمل المناجم ومصانع الحديد التي ساعد إنتاجها على إنشاء سكك حديدية وملء عربات البضاعة التي يملكها. ولقد كان جيمس هو الممول الصناعي الكبير للعائلة، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى نفوذ المبتكرين في الصناعة، مثل أوجين بيرير، والمهندسين مثل تالبوت، كما يرجع إلى المساعدات القيِّمة والضمانات المقدمة من الدول، الأمر الذي جعل جيمس يساهم بشكل كبير في إنشاء عديد من خطوط السكك الحديدية الفرنسية، وامتلك أهم تلك الخطوط: خط الشمال.
وبعد عام ١٨٥٥م عندما أقيم الهيكل الأساسي لشبكة السكك الحديدية الفرنسية، وبدأ رأس المال الفرنسي يبحث عن استثمارات في الخارج، في ذلك الوقت كان جيمس مشغولًا في إنشاء الخطوط الحديدية في إيطاليا وإسبانيا ثم على الأخص النمسا، ذلك لأن مركزه كرئيس للعائلة، وكذلك سيطرته على سوق باريس، جعلته يتفوق على ابن عمه أنسلم. ومن البداية كان لجيمس مساعدون من بيوت لندن وفيينا، وقد تعاون مع أخصائيين في السكك الحديدية، مثل شارل لافاييت وإدوارد بلونت وصمويل لينج الإنجليزي. ومن ناحية أخرى كان لأمشيل ماير في فرانكفورت شركاء في العمليات، بينما تحمَّل وحده عددًا كبيرًا من القروض الشخصية لأمراء وسط أوروبا، الأمر الذي كان شائعًا في سوق فرانكفورت. وبنفس الطريقة فإن الثلاثي: بارنج – هوب – هوتنجر، الذين كانوا مجموعة قوية في التبادل التجاري الخارجي أصبحوا اثنين في عمليات الخطوط الحديدية الفرنسية؛ إذ إن هوب كان يفضل عدم الاشتراك في مثل هذه العمليات، ولم يكن أمرًا شاذًّا أيضًا أن ينفصل هوتنجر في بعض عمليات التمويل الأمريكية، التي كان يعمل بها بارنج وهوب أو بارنج بمفرده بالتعاون مع بيوت أمريكية، مثل برايم، وورد، وكهنج، أو في سكك كندا الحديدية مع جلين – ميلز – هاليفكس.
•••
إن تأكيد العمليات المصرفية (وعلى وجه الخصوص التمويل الاستثماري) لاعتبارات عملية من هذا النوع كانت القوة الموازنة للقيم الخاصة التي تحكم المهنة. ولكي نكون أكثر دقة، فإن العناصر التي تبدو على السطح متناقضة عالميًّا وشخصيًّا كانت يدعم بعضها البعض. فإذا كان أصحاب البنوك يركزون كثيرًا على العلاقات الشخصية (على مشكلة من هو الشخص ومن أين جاء) فإن سبب ذلك، بلا شك، أنهم سيبوحون له بأسرارٍ عمَّا يمكن أن يعمله، وكيف يمكن أن يفعل ذلك.
وفي التحليل النهائي عندهم يكون المحك هو التنفيذ، وتزداد أهمية هذا المحك كلما طغت عمليات الاستثمار والمشروعات مع العمليات التجارية القديمة. وشيئًا فشيئًا أخذ بناء المجتمع المصرفي الدولي يعكس أهمية التنفيذ والإنجاز في مقابل الروابط الشخصية والعائلية. ولم يكد يحل منتصف القرن التاسع عشر حتى كان هناك اختلاف جوهري بين المجموعات الصغيرة نسبيًّا من المموِّلين للتجارة والاستثمارات، وبين الجمهور الكبير من المتطلعين في كل المراكز التجارية الكبيرة والصغيرة في أنحاء العالم. ولا شك أنه كان يجمع بين روزتشايلد وزملائه البروتستانت والكاثوليك في المالية الفرنسية العالية أكثر مما كان يجمع بينه وبين أهل عقيدته، الذين كانوا يناضلون في المجالات الدنيا للمبادلات الصغيرة وتوقيعات الدرجة الثانية أو الثالثة، أو ينتهزون الفرص المهمة في بعض المجتمعات المتخلفة على شواطئ أفريقيا. والأكثر إيضاحًا لهذا المعنى أن هؤلاء الأشخاص أنفسهم كانت يربطهم بزملائهم الإنجليز والألمان، الذين لهم نفس القوة، أكثر مما يربطهم بمواطنيهم الأقل منهم، وإن كانوا يدينون بنفس العقيدة.
إن التمويل التجاري في أرقى صوره لم يكن مجرد مهنة؛ لقد كان أسلوبًا في الحياة. فمن ناحيةٍ نجد أن المخاطر الكبيرة في التبادل الأجنبي، ثم التركيز على التضاعف المستمر البطيء للحد الأدنى من المكاسب، والطبيعة الخاصة لتلك الصفقات، كل ذلك قد أدى إلى قيم خلقية فضائلها الأولى الفِطنة والتدبير والتواضع الهادئ، ومن ناحية أخرى نجد أن أهمية العنصر البشري أدت إلى تركيز غير عادي على الأخلاق الشخصية. وفي بعض الحالات تأتي نظافة اليد بعد التقوى. أما في التمويل التجاري فإن الأمانة تأتي بعد الثروة.
ولقد كان حذر أصحاب هذه البنوك مضرب الأمثال؛ فكل كمبيالة كانت تُفحص بمنتهى الدقة، وكل دَين كان يُغطى تمامًا، وجميع الحسابات كانت تراقب مراقبة دقيقة في أصغر تحركاتها؛ هل كان سداد العملاء فوريًّا دائمًا؟ هل كانت توقيعاتهم تشاهَد دائمًا في السوق؟ وهل يبحثون عن قروض في مكان آخر؟ وكم قيمةُ هذه القروض؟ وهل يقترضون أكثر من قدرتهم؟ وعند أول إنذار (لأن صاحب البنك الحريص يفترض فيه أن يتوقع المتاعب) تُقيد الاعتمادات أو تُلغى، وتُستعاد البضاعة وتباع الضمانات أو تبادل بأوراق تجارية. وأكثر من ذلك، فإن أي التزام يفرضه المموِّل على عملائه كان يفرضه على نفسه أولًا. وإذا كان هناك أي شك من ناحية عملية شخص آخر، أو من ناحية عملية خاصة به يُضحي بها مهمًّا؛ كان إغراء الأرباح الناتجة عنها. فالمحافظة على الأموال أصعب من الحصول عليها.
وبطبيعة الحال فإن الفِطنة لا تتناقض مع الخيال أو المبادرة، وإنما تفترض مقدمًا حسابًا دقيقًا وخفض المخاطر إلى الحد الأدنى. وفي هذا المجال كانت تظهر بوضوح مهارة وقدرة مندوبي المالية العالية. إنها مهنة الذين لا يثقون في الناس ويحذِّرون زملاءهم ويشكون في المستقبل. فإذا كانوا جميعًا، في وقت أو في آخر، قد أصابتهم الخيبة والخسائر، فلم يكن ذلك بسبب قلة التفكير أو الحذر الذي هو ميزة المصرفي الخبير.
وهناك طبعًا بعض أصحاب البنوك المبذرين، وهم الأغنياء من أبناء وأحفاد جامعي الملاليم، فأصبحوا يمتلكون العربات والخيول التي لم يفكر آباؤهم في الحصول عليها، ويقيمون الولائم وحفلات الرقص التي لم يشتهِها آباؤهم من قبل، أو لم يكونوا يجسرون على إقامتها حتى إذا اشتهَوها. ورغم كل ذلك فقد بقي الإحساس الدقيق بأهمية العادات القديمة عند هؤلاء الذين لم يُكوِّنوا ثروتهم بعد. في عام ١٨٣٥م كتب المندوب الأمريكي لبنك بارنج إلى رؤسائه عن عميل معين «إنه رجل يمتاز بالفطنة في شئون المالية، وأحكامه صائبة عمومًا، إلا أنه يهوى الرياضة وصيد الأسماك والحياة الرغيدة.» وكلمة «إلا» هذه هي كلمة هامَّة تمامًا؛ فأصحاب البنوك مشهورون بمعارضتهم للحياة الرغيدة.
أما بخصوص التواري وعدم الظهور، فإن بعض البنوك القوية، مثل روزتشايلد على وجه الخصوص، وجدت أنه يستحيل تجنب عين الجمهور. ولكن مثل هذه الدعاية، سواء أكانت ملائمة أو غير ملائمة، كانت ثمن النجاح، وكانت سمعة روزتشايلد من القوة بحيث تستطيع تحمُّل أي ضغط. ليس هذا فحسب، بل تستفيد منه. وبالنسبة لبيوت الاستثمار الأخرى كان من الصعب التمييز بين الدعاية والشهرة المزعومة، ولم يكن أحدهما يتلاءم مع السرية التي لا غنى عنها في العلاقة بين صاحب البنك وزملائه، أو صاحب البنك والعملاء. وأسوأ من ذلك، فقد كان أصحاب البنوك هدفًا لمدعي المعرفة أو الباعة الثرثارين أو أولئك المخادعين المفلسين، الذين يحاولون خلق حسابات من الهواء أو من المضاربة. وكانت الشركات المحترمة في غير حاجة إلى مثل تلك الحِيل أو الخدع، إن عمليات أصحابها تتحدث بنفسها عنهم، وكانت تزكيتهم هي رضا العملاء عنهم. فالبنك الحسن السمعة مثل المرأة الفاضلة؛ لا يثار حوله كلام، سواء أكان مدحًا أم ذمًّا.
أما الأمانة فهي خلاصة كل تلك الفضائل. وأكثر من ذلك، فقد كانت هي الاعتبار الذي لا يسمح لصاحب البنك أن يطاوع نفسه أو يسيء استعمال التسهيلات التي يمنحها له زملاؤه. إن الأمانة هي التي تمنعه من التستر على إصدار الأوراق الزائفة. إنه الإخلاص والثقة التي تجعله يُقلِع، لا عن الكذب فحسب، ولكن عن أنصاف الحقائق، والتي تجعل كلمته كتوزيعه، والتي تجعل منه صديقًا حاميًا لعميله ومخلصًا لزملائه. ولما كانت أعمال هذه البنوك ذات مخاطر كبيرة، وكانت هناك أسباب كثيرة تدعو إلى الشك وكانت الثقة في أفراد قلائل فعَّالة تمامًا، كان الشخص ذو السمعة الطيبة أثمنَ من الذهب.
تلك هي فضائل أصحاب البنوك الكبار: «التعقل – التدبير – التواضع، وفوق كل ذلك الأمانة». ولكن، كأغلب القيم الاجتماعية، كانت هذه الفضائل، مثلًا، غير قابلة لتعريف محدَّد وخاضعة لتفسيرات متنوعة؛ فقد كانت تختلف تبعًا لاختلاف لون الأفراد الديني أو الاجتماعي، والأهم من ذلك الوطني. وليس هذا هو مجال التوسع في تحليل الاختلافات في المواقف والسلوك بين رجال الأعمال في غرب أوروبا، ويكفي أن نقول: إنه في مسائل الفطنة كان الفرنسيون أسبق الجميع، وكان أهل لاهاي أسبق من الفرنسيين، وكان الإنجليز والألمان أكثر شجاعة في التكيُّف وفق الأحوال الجديدة التي خلقتها ثورة الإنتاج والنقل. وقد تميزت فرنسا خصوصًا بتقاعُس أصحاب البنوك عن الابتعاد عن نشاطهم العادي في التبادل، والانتقال إلى النشاط الأكثر مغامرة في عمليات التمويل والاستثمار الصناعي. ولم يوجد بلد كإنجلترا (على الأقل قبل عام ١٨٧٠م) في جُرأته في تقديم الاعتمادات الخاصة بالتجارة الخارجية. وتاريخ الأزمات التجارية في القرن التاسع عشر مليء بالأوقات الحرجة لبعض البيوت التجارية المحترمة في حي السيتي بلندن.
وفي الحرص والتواضع، كانت البنوك الفرنسية حريصة على المحافظة على تقاليدها؛ فكلما كان البيت المالي أقدم وأكبر ثروة كلما اهتم أكثر وأكثر بالمحافظة على مبناه القديم، واشتد تقتيره على شركائه، وازداد غموض اسمه خارج دائرة ارتباطاته المهنية. فالشركة التي سوف تلعب دورًا قياديًّا في قصة هذا الكتاب: دي نيفليز، شلومبرجر وشركاه، واسمها الآن ماركوارد وأندريه وشركاه، تركت أخيرًا مكاتبها القديمة في الحي المالي المعتِم الذي وصفناه في بداية هذا الفصل إلى مبنًى حديث في موقع ممتاز في أحد أركان ميدان البورصة الخاوية. ومع ذلك فعندما هُنِّئ أحد موظفي البنك على هذا التقدم الواضح ابتسم في خجل وأسًى قائلا: «ألست تجده مبنًى واضحًا أكثر مما يجب؟»
«كل هذه التغييرات والتحسينات كانت مثلًا صادقًا لشيء واحد — ربما كان من سوءات هذا العصر — حب الظهور الذي يؤدي في النهاية إلى زيادة المصروفات، وأحيانًا إلى الحرج. وقد شوهدت في لحظات عديدة أخطار كبيرة هي نتاج هذه الحالة في الميل لتشجيع رغبة الإسراف، التي تسري في كل طبقة وفي كل ظرف من ظروف الحياة … إننا نعطي مثلا يُحتذى للموظفين وللمساعدين، أو للأجيال الناهضة بهذا التظاهر المرتبط بالإسراف أكثر من ارتباطه بالبنوك الحريصة المتزنة، التي تزيد أموالها.»
ومع ذلك، وكما يُبيِّن هذا اللوم، فإن هذه الطرق الحديثة لم تُقبل دون احتجاج، وقد بقيت أغلب البيوت الخاصة القديمة متمسكة بالخُلق التجاري القديم. ولقد كان أصحاب البنوك التجارية على وجه الخصوص أعمدة المحافظة على التقاليد، ربما لأنهم واجهوا منافسة أقل من الشركات المساهمة بمصادرها الكبيرة وفنونها الظاهرة.
ومع ذلك فإن هذا التحفظ كان نوعًا من التمسك السطحي بالماضي يتلاشى مع أول تغيير حديث. إن الفطنة والحرص والتواضع كانت فضائل تاريخية بأكملها، ونظامًا اجتماعيًّا بأكمله، وهو، وإن كان يختفي تدريجيًّا، إلا أنه في عام ١٨٦٠م كان الجزء الأكبر من المجتمع الأوروبي ما زال مخلصًا له. إنها فضائل عالم تسير فيه الأمور ببطء، وفيه تتمثل ثروة الإنسان في الأرض والمباني، وكان الناس ثابتين في المراكز التي حصل عليها آباؤهم من قبلهم؛ لم يكن عالمًا ثابتًا تمامًا، وقد خلق تطور التجارة والصناعة طرقًا جديدة للحركة، وأوجد تغيُّرات عدَّلت بشكل ملحوظ قيم وآمال المجتمع الزراعي القديم. ولكن التجارة كانت ما تزال بطيئة، والصناعة صغيرة، حتى في بريطانيا، حيث مضى الاقتصاد إلى حد بعيد في طريق الثورة الصناعية، بقيت أساليب السلوك التقليدي بعد انتهاء ظروفها المادية. إن الرجل البرجوازي الإنجليزي في عام ١٨٦٠م كان ما يزال مثله مثل أسلافه في القرن السابق غنيًّا عاقلًا، صورة نموذجية لجون بول الثابت بقدميه على الأرض.
إن البرجوازي في إنجلترا أو في القارة الأوروبية قد شق طريقه خلال سنوات من الجهد، وكل ثروة حصل عليها من آبائه قد جمعت بنفس الجهد الشاق. لقد كان يفكر في الأجيال القادمة، وفي الزواج المقدر بعناية، وفي الصعود الشاق الطويل في السلم الاجتماعي، بل وفي المجهودات الشاقة لكي يحافظ على المكاسب التي حققها. لذلك كان يضمر الكراهية والحسد لرياح العصر الجديد ولكوبونات السوق المالية. إن الترَف والراحة التي أوجدها الثراء تحيط به، ولكنها كانت للأرستقراطيين والمبذِّرين المخادعين، لأناس بلغوا من الغنى إلى حد أنهم قد فقدوا كل فكرة عن معنى النقود، وللمغفلين الذين كانوا من ضعف العزيمة إلى درجة أنهم انحرفوا في الديون لمجرد البحث عن المظاهر الكاذبة، للمدَّعين الذين كانوا من السَّفالة بحيث كانوا يشترون الثروة ببذور الإفلاس! والذي يبيع الحرير للغير يجب عليه أن يلبس الصوف.
وإلى هذه الإغراءات المادية كان البرجوازي في بعض الأحيان يستسلم، وإن كان أكثر مما يجب. ولأولئك الذين لم يحيدوا عن الطريق كان الدرس شاهدًا على نفسه. «من الذي يجهل المثل القائل: ما يأتي بسهولة يذهب بسهولة.» هذا ما كتبَتْه مجلة «الإنجليزي» قولًا صحيحًا عن الثروة التي تزداد في الولايات المتحدة الأمريكية. «ومن الذين لا تشير خبرتهم إلى الحقائق العديدة التي لا يمكن حصرها «من العرق الذي على وجوههم أنت تأكل الخبز.» هذا ما قاله الكتاب المقدس، والثروة التي تتزايد بالعمل الطويل للعقل أو الجسم هي التي تبقى».
وبوصفهم المدافعين عن فضائل عتيقة، كان أصحاب المصارف التجارية جماعة عالمية تعلو فوق الحدود الوطنية والدينية، عالم منعزل بطريقته الخاصة في الحياة، محصن ضد الفساد الذي كان يأتي من الخارج. وبطريقة ما، وعلى الرغم من تشتته الجغرافي، فهو عالم صغير فيه يعرف كل فردٍ الفردَ الآخر الذي له أهمية، عالم من الأعمال الكبيرة والكلام القليل عن الحياة الخاصة لأعضائه، عالم فيه تتَّحد القدرة التنفيذية والخلق الشخصي، وتعتبر الحفلات الراقصة لأحد أعضائه في باريس، أو مقامرات شقيق أحد المصرفيين المحترمين في لندن، أو أعمال المضاربة الخاصة لشريك في أحد البيوت التجارية المشهورة؛ أمرًا يهم المصرفيين الآخرين، الذين يقيمون على بعد ألوف الأميال. إنه عالم مليء بالإشاعات التي كانت تعيش على الرغبة في السرية، عالم من الجلسات المسائية؛ حيث كانت الأسرار والإشاعات والأخبار غير الحقيقية تنتقل من فمٍ لفم، ومن الأحاديث التي كانت تُتداول على الموائد، حيث تناقش نفس الأخبار والتقارير في هدوء أكبر، عالم من المقابلات المهنية؛ حيث يمكن أن يقال بشكل خاص ما لا يمكن كتابته على الورق.
وخلف هذه النَّبالة المهنية، توجد بيوت قديمة، وإن كانت أقل غنًى، وأخرى جديدة، وكلها تميل إلى تقاليد الطرق التي سارت فيها البيوت الكبيرة، أما الآخرون الذين يمثلون اتجاهًا جديدًا وفنونًا تجارية حديثة فقد اتخذوا لنفسهم مقاييس أخرى، على أن كلًّا من المقلدين والمتمردين وقفوا بعيدًا عن المالية العالية. لقد كانت الحدود غير رسمية، أو كمعظم العوامل الاجتماعية والاقتصادية، كان من الممكن اختراقها. ومع ذلك فقد كانت تضع حدودًا ظاهرة بين نماذج من النشاط ومستويات من المراكز. إنها تعني الفرق بين التمويل الموثوق فيه وبين التمويل الذي يعتمد على المضاربة، بين توقيعات الدرجة الأولى وبين توقيعات الدرجة الثانية والثالثة والرابعة، بين الائتمان المحترم الذي يفوق ائتمان أعظم الأمم وبين الشهرة التي كانت لا تسلم من الشك، حتى بالنسبة للبنوك العظيمة جدًّا.