الطريق المسدود
إن فشل ديرفيو في أن يحل محل أوبنهايم كمُتعَاقد على قروض الخديوي كان مُخيِّبًا لآماله دون شك، ولكنه لم يكن كارثة. ففي ذلك الوقت كان شاغل ديرفيو الرئيسي هو أن يعيد تنظيم شركته على أساس جديد، وأن يستعيد مركزه المرموق عام ٦٣-١٨٦٤م. ومهما بدت محاولته الفاشلة في سوق المالية الدولية مُبشِّرة في أولها، إلا أنها لم تكن أكثر من نشاط تكميلي.
واستهدفت خطته الجديدة تحقيق الاندماج بين شركة إدوارد ديرفيو وشركاه وبين الشركة الزراعية والصناعية بمصر، وهي شركة لا يدل اسمها على حقيقتها؛ لأنها لم تكن زراعية أو صناعية. إن الشركة الزراعية — كما كانت تدَّعي — هي وليدة فترة رواج القطن، وهي شركة منحوسة الحظ بلا توجيه، استغلها مؤسسوها ومنشئوها إلى حد أنه بعد عامين من إنشائها (أي في ١٨٦٦م) تحولت إلى هيكل ليس إلا. وكان ديرفيو رئيس مجلس إدارتها.
وعندما أُنشِئت الشركة عام ١٨٦٤م كانت حلم «أنطوان لوكوفيتش» الذي أصبح حقيقة — وهو مهندس نِمسَوي أقام في مصر منذ عهد محمد علي، وفتح مَحجرًا يتعهد بتقديم الأحجار إلى شركة القناة — وكانت فكرة لوكوفيتش هي أن مصر في حاجة ماسة إلى المياه، وأن العقبة الكبرى في تطور مصر الاقتصادي هي عدم كفاية مياه الري، الذي ما يزال يتم باستخدام قُوى الإنسان والحيوان وبأساليب أقدم من الفراعنة. وكان الأسلوبان الشائعان في الري هما الشادوف والساقية. وفي الدلتا وحدها كانت توجد أكثر من ٥٠ ألف ساقية. وطالما كانت مصر منتجة للمواد الغذائية أساسًا، تزرع الغِلال والعدس للاستهلاك المحلي وتُصدِّر بعضه، فإن عجز أساليب الري سيظل غير محسوس بدرجة كافية. غير أن حلول رواج القطن بمحصوله النقدي وفُرَص الربح، يقدم حافزًا على التغيير.
إن القطن المصري نبات يحتاج إلى مياه كثيرة، وإغراقِ الحقل ثلاث مرات بالمياه هو الحد الأدنى للحصول على محصول طيب، ويُستحسن أن يكون الإغراق سبع أو ثمان مرات. فالحقل المروي جيدًا في القرن التاسع عشر يمكن أن يعطي حوالي ۱۰۰۰ كيلوجرام للهكتار، بينما يعطي نفس الحقل إذا كان الري ضعيفًا أقل من ٢٠٠ كيلوجرام. ومعنى هذا أنه عندما كان القطن يُباع في الإسكندرية بأكثر من فرنكين للكيلوجرام؛ يمكن أن يكون الري الجيد سببًا في إضافة ألفي فرنك عن الهكتار إلى الدخل السنوي، بل وسببًا في زيادة المساحة المنزَرِعة. ومثلًا كان لوكوفيتش يعتقد أنه يمكن أن يضاعف المساحة المنزرعة قطنًا في الصعيد (وهي ٤٤٠٠٠٠ هكتار من بين ١٤٧٠٠٠٠ هكتار متاح في الصعيد).
وكانت خطة لوكوفيتش في غاية البساطة: أن تحلَّ الآلة البخارية محل الإنسان والحيوان. وتتولى شركته تأجير المضخَّات للمُلَّاك، وتُركبها وتحافظ عليها، على أن يدفع المُلَّاك للشركة مبلغًا يتناسب مع الماء المقدَّم. وفي أوائل ١٨٦٣م قدم لوكوفيتش مشروعه إلى إسماعيل طالبًا الترخيص الرسمي به؛ وإذ رأى إسماعيل في المشروع محاولة لربط حكومته بالتزامات ووضع الأساس لمطالبات جديدة في المستقبل، رفضه. ولكن لوكوفيتش أصر قائلًا إنه لا يطلب من إسماعيل امتيازًا بالاحتكار أو معونة بأي شكل، وأنه ينوي تأسيس شركة مساهمة تخضع للقانون المصري، وأنه لا يحتاج إلا إلى الإذن المفروض أن تحصُل عليه كل شركة من هذا النوع في البلدان الأوروبية. وإذ كان إسماعيل محاصَرًا بسابقة الموافقة على شركة التجارية المصرية، اضطُرَّ إلى الموافقة في نهاية الأمر.
وفي نفس الوقت كان لوكوفيتش يتطلع حوله باحثًا عن التأييد المالي. وكان المصدر الواضح هو ديرفيو، الذي كان آنذاك في قمة مهنته. وفي ١٠ يوليو ١٨٦٣م اتفق الرجلان، وفي ١٩ يوليو تقدم لوكوفيتش بطلب الترخيص الرسمي، وبعد يومين حصل عليه.
وفي نفس الوقت تم تنظيم الشركة؛ إذ جمع ديرفيو خلاصة المجتمع المالي المصري — ريسينير، أوبنهايم، أنطونيادس … إلخ — ووضع لائحةً وأحالها للخديوي للموافقة. وعند هذه اللحظة حدثت المفاجأة، فقد رفض إسماعيل، الشركة الجديدة!
واستدعى إسماعيل ديرفيو إلى القاهرة، وأنَّبه على تدخله في هذا الموضوع، وطلب منه الانسحاب من الشركة الجديدة. وفي نفس الوقت، أمر إسماعيل موظفيه أن يعتبروا ترخيص الشركة لاغيًا، وأن يمنعوا لوكوفيتش وعملاءه من الإعلان عن نشاطهم أو ممارسته في داخل البلاد. وعلى ضوء موقف الخديوي انسحب أصحاب المشروع وماتت الشركة قبل أن تُولد.
لماذا انقلب إسماعيل ضد الشركة الزراعية؟ في ظل التفسيرات المتناقضة القائمة يبدو أن أفضل تفسير هو خشيته أن تعتدي الشركة بنشاطها على أثمن ضمان في يدِ أي حاكم لمصر منذ ستة آلاف عام: السيطرة على مياه الري. ولقد بنى إسماعيل — مُقتفيًا تقاليد سلفه — ثروته الضخمة إلى حد كبير بالتحكم في مياه الري. وهو لا يستطيع اليوم أن يسمح للوكوفيتش أن يقيم آلاته على ترع مصر وأنهارها، وأن يؤسس بينه وبين الفلاحين حقوقًا ملزِمة بكل قوةِ ونفوذ الدول الأوروبية، والأكثر من ذلك — وإن كان أقل أهمية — أن إسماعيل كانت لديه خططه الخاصة باستيراد المضخات البخارية وبيعها لزُرَّاع القطن. وعندما واجه القنصل الفرنسي إسماعيل بهذه الحقيقة، كتفسير لعداء الخديوي للوكوفيتش، أنكر إسماعيل هذا بقوة. ومن المحتمل أن الفكرة لم تكن قد اختمرت تمامًا في ذهنه بعد، ولكن الحقيقة تظل بعد كل ذلك أن إسماعيل — بعد وباء الماشية — أصبح أكبر مستورد للآلات البخارية في مصر، وأنه باع معظمها لكبار الملاك وأغنياء الفلاحين.
وفي نفس الوقت، استطاع لوكوفيتش أن يحقق فكرته ويحصل على ترخيصه. فإذ تخلى عنه المموِّلون في مصر، حول المهندس نظره إلى أوروبا؛ حيث نجح في إثارة اهتمام عدد من الرأسماليين الذين أغرتهم فرصة الربح أو إمكانية التعويض، ووافق لوكوفيتش على عرض رجل يُدعى كولونيل كومت دي كيس، الذي قدم ألف فرنك عربونًا على نواياه. عند هذه اللحظة أعرب ديرفيو وأوبنهايم عن استعدادهما للمشاركة في المشروع. وشعر كيس — رغم تردده — أن نفوذ هذين المصرفيَّين بالإسكندرية من الضخامة بحيث يستحيل تجاهله أو معارضته. وهكذا تكونت الشركة الجديدة على أساس الجمع بين مجموعة ديرفيو الأصلية واتحاد كيس، وأصبح لوكوفيتش المفتش العام المسئول عن العمليات. واتُّفِق على تسمية الشركة ﺑ «الشركة الزراعية الميكانيكية المصرية».
بعد هذا يصعب تحديد تاريخ الشركة؛ فكثير من الوثائق المتاحة (وبعضها أُعِد أصلًا لأغراض قانونية أو نزاعية) تتناقض تناقضًا واضحًا. فلوكوفيتش — الذي أبعده في النهاية حلفاؤه الأغنياء — يصور ديرفيو وأوبنهايم وبقية مجموعة الإسكندرية كأدوات في يد الخديوي، لم يهتموا بالشركة إلا بعد أن فشلوا في منع قيامها، أي أنهم جواسيس ومخربون. ولا تؤيد مراسلات القنصلية الفرنسية آنذاك ووثائق متأخرة وجهة النظر المتطرفة هذه تمام التأييد. إلا أن الأدلة توضح أن ديرفيو على وجه الخصوص كان خادم إسماعيل المطيع يشغله أساسًا أن يتناسب نشاط الشركة مع رغبات سُموِّه. وإذا كان ثمة ما يصر عليه إسماعيل، فهو أن تتخلى الشركة عن كل اهتمام بالري.
ولم يتم هذا التغيير دفعة واحدة. وبناء على طلب إسماعيل تغير اسم الشركة إلى «الشركة الزراعية الصناعية لمصر». وأعقب ذلك شهور من المفاوضات والتعديلات الجديدة. ولم يُقدَّم دليل الشركة للجمهور إلا في يوليو سنة ١٨٦٤م، أي بعد سنة كاملة من مفاتحة لوكوفيتش الحكومة المصرية. وحُدد رأس المال بمليوني جنيه، وسعر السهم عشرون جنيهًا، يدفع منها ٤ جنيهات فورًا. ولقد كانت عملية طرح القرض غير موفقة. ولم تلتفت سوق لندن إلى الشركة بتاتًا، ووجد المنشئون والمؤسسون أنفسهم مُثقَلين بكميات كبيرة من الأسهم التي لم ينجحوا أبدًا في التخفُّف عبئها. وفي أكتوبر قررت البورصة ألا تذكر أسعار أسهم الشركة الزراعية مؤقتًا.
ومنذ البداية كانت الشركة مزدوجة الشخصية؛ فلوكوفيتش يجوب أوروبا باحثًا عن مضخات وآلات، ويتعاقد مع وكلاء في داخل البلاد، وديرفيو والآخرون يستوردون آلات مماثلة لحسابهم الخاص بينما يستعدون لإعادة تنظيم الشركة. وعندما عاد لوكوفيتش في أكتوبر ١٨٦٤م إلى مصر فخورًا بنجاحه في التعاقد على آلات جديدة، وجد مجلس الإدارة لا يهتم بهذه الأنباء. وألقى ديرفيو خطابًا قصيرًا ذكَّر فيه المجتمعين بعلاقته بالخديوي، وحذر الحاضرين من خطر إغضاب الخديوي أو رجال الأعمال المحليين. وإذ كان لدى ديرفيو ما يدعو للقلق من هاتين الناحيتين، كانت تحذيراته حقيقية ومقنعة. وفي هذا الجو تم تطهير الشركة الزراعية، فدُفع بلوكوفيتش إلى منصب المراقب العام للشركة، وعُين ريتشارد كوينج (شقيق زوجة ديرفيو) مديرًا للشركة بمرتب ٣٧٥٠٠ فرنك في العام، وعين أنسيلين (موظف بالقنصلية الهولندية وواحد من حاشية روسينار) مديرًا تجاريًّا بمرتب ٢٥٠٠٠٠ فرنك سنويًّا. وإذا صدقنا رواية لوكوفيتش، فإن كل المجتمعين أثنَوا على ديرفيو وروسينار لرفض كل منهما التصويت على صنيعته، بينما أيد كل منهما صنيعة الآخر.
وهكذا في الربع الأول من العام تخبطت الشركة في محاولاتها المضي في طريقين في وقت واحد. وزادت الصعوبات المترتبة على انقسام الإدارة بعجز الإدارة المحلية في الإسكندرية، وإذا اتخذنا من سجلات بنك ماركوارد نموذجًا، نجد أن الشركة الزراعية كانت مهملة في مواجهة التزامها ومتسرعة في طلبات الائتمان التي تقدمها. ففي أول خطاب للشركة، سألت الشركة الزراعية بنك ماركوارد كم من المال يستطيع أن يضعه تحت تصرفها. وأجاب البنك بمحاضرته المعتادة عن دور الائتمان كشيء مكمل للعلاقات المالية المنتظمة، وأفاد بأنه يفضل أن ينتظر ويرى قبل أن يلتزم بأي شيء. وانتظر بنك ماركوارد أربعة شهور قبل أن يرى شيئًا، ثم وجد أن الصفقتين الوحيدتين اللتين تعرض لهما كانتا من التفاهة بحيث اضطر أندريه أن يسأل الإسكندرية إن كانت هاتان الصفقتان ستنتهيان إلى أي شيء ذي بال.
إن الإدارة الجديدة تسلمت الشركة الزراعية في أول عام ١٨٦٥م. ونتيجة لإصرار إسماعيل من ناحية، وعجز المديرين من ناحية أخرى فقدت الشركة أسباب وجودها وأصابها الخمول.
ومِن حسن الحظ أن إسماعيل الذي وقف ضد الشركة أراد بعد ذلك أن يساعدها حتى يجعل منها أداته لكل مشروعات العامة التي كان يخطط لها: تجميل مدينتي القاهرة والإسكندرية، تجديد ميناء الإسكندرية … إلخ، وقال إسماعيل إنه مستعد أن يعطي الشركة احتكارًا في هذا المجال.
وسُر ديرفيو من هذا التطور في الأحداث، وتصور سلسلة من العقود تمتد في المستقبل البعيد، كلٌّ منها يحقق أرباحًا مجزية، وكلٌّ منها يمثل فرصة لموظفي وأصدقاء الشركة للتعامل معها. وفي اجتماع مارس سنة ١٨٦٥م أعلن ديرفيو في سرورٍ البرنامج الجديد لمجلس الإدارة. وكنقطة بداية تتولى الشركة الزراعية شراء أعمال «ف. باسيفي، مقاولون وتجار أخشاب» الذين كانت لديهم عمولات من الخديوي وحده لم تُدفع بعد. واتفق على أن يدخل باسيفي الشركة الزراعية كمدير عام مسئول عن العمليات. إن مستقبل الشركة أصبح مضمونًا على ضوء الطلبات المقدمة فعلًا لها بما قيمته ٤٠٠ ألف جنيه وإمكانيات طلبات أخرى قيمتها ٦٠٠ ألف جنيه. ووافق معظم المديرين باستثناء لوكوفيتش على برنامج ديرفيو، وكذلك وافق حمَلة الأسهم.
إن الاندماج مع باسيفي كان يعني، بل يفرض، انفصالًا كاملا عن لوكوفيتش فقبل ذلك بثلاثة شهور، عندما عُين ريتشارد كوينج مديرًا، حاول المهندس النمساوي أن ينسحب من الشركة، ولكنه لم يجد من يشتري أسهمه. أما الآن، فقد كان ريتشارد مستعدًّا لأن يشتري هذه الأسهم، فأعطى لوكوفيتش القيمة الأصلية لأسهمه مضافًا إليها مبلغ ألف فرنك عن اﻟ ٦٪ التي تمثل نسبته في أرباح الشركة، وعن عدد من العقود مُنحت له شخصيًّا قبل تكوين الشركة، ثم رفضت الحكومة أن تفي بها.
ووفق رواية لوكوفيتش، كان ريتشارد يتصرف في هذه المسألة كممثل لبنك ديرفيو وشركاه، الذي بدأ في إعادة بيع هذه العقود للشركة الزراعية بربح قدره ٪۳۰.
إن لوكوفيتش كاتب يمتاز بالمزاح المُر، وقد يسبب هذا بعض الخلط في ذهن قارئه. وهو يقول عن مزاحه هذا إنه مزاح المهرج الذي يفضل الضحك على البكاء. فليس من الواضح مثلًا ما يعنيه بعبارة «٣٠٪ ربح»، وإن كان من المؤكد أنه لا يعني سعر الشراء (الألف فرنك). ولا يمكن أن يمنح الطابع الخلافي لروايته عن تاريخ الشركة الزراعية، اتهاماته أيَّ تأكيد. ومع ذلك فنحن نعرف أن ديرفيو وشركاه قد تنازلوا عن عقود الشركة الزراعية بربح قدره ٥٠٠ ألف فرنك. ولم يكن يعتقد ديرفيو أن ثمة شيئًا غير أخلاقي في مثل هذه الصفقة. فكما كتب لأندريه، توقع ديرفيو أن تحقق الشركة الزراعية حوالي مليون فرنك من هذه العمليات.
ولكن لكي تحقق الشركة الزراعية أرباحًا كان من الضروري أن يكون لها عملاء قادرون على الدفع. ومن سوء الحظ أن عميل الشركة الأساسي كان في ضائقة مالية. وبسبب نقص الأرصدة اضطر إسماعيل إلى أن يؤجل بعض مشروعاته التي يعتزُّ بها، بل إن بعض الأشغال التي منحت بالفعل عقودها قد أُوقِفت. وهكذا أوقفت العقود التي باعها لوكوفيتش إلى ريتشارد وعقود باسيفي أيضًا. وفي هذه الحالة الأخيرة أدى رفض الحكومة للترخيص بالبدء في العمل المتفق عليه إلى التهديد باتخاذ الإجراءات القانونية، وكان إسماعيل هو الذي اقترح فكرة دمج شركة باسيفي مع الشركة الزراعية كأسلوب في شراء مضايقيه بأموال الآخرين. ولقد تجاهل المديرون هذا الجانب من الصفقة وهم يعرضون الموقف على حملة الأسهم، ولكنهم لم يتجاهلوا هذا الجانب بعد ذلك عندما أرادوا أن يثبتوا مسئولية إسماعيل عن خسائر الشركة.
وكان معنى هذا في الواقع أن الشركة الزراعية كانت تنفق مبالغ كبيرة على عقود يمكن أن تكون مُجزية، وإن لم تنفذ بعد؛ وهي تعتمد بالكامل على كرم ونزوات الخديوي. وفي نفس الوقت كانت أحوال الشركة المالية سيئة تمامًا. فقد أنفق جزء كبير من رأس المال على مشروعات لوكوفيتش في الري التي تم التخلي عنها، وأنفق جزء آخر على شراء إقطاعية بالقاهرة ما زالت في يد إسماعيل، وكانت الشركة تنوي تقسيمها إلى قطع صغيرة وبيعها بأرباح مجزية. وبعض هذه القطع بيعت بالفعل بأثمان مجزية مقسَّطة على عدد من السنوات، وبالتالي بدأت الشركة الزراعية تُدخل هذا الدخل المقبل في حساب أرباحها عن الشهور الثمانية الأولى، وتوزع الأرباح على هذا الأساس. وبضياع معظم رأس المال بهذا الشكل لم يكن غريبًا أن تضطر الشركة إلى دفع ثمن شراء شركة باسيفي سنداتٍ، بدلا من النقد.
لقد كان هذا الحدث يمثل إهمالًا مفزعًا، أسوأ بكثير من طلب الائتمان في ١٨٦٤م. وفرض أندريه قواعد قاسية على الشركة أن تراعيها. فأولًا: لن يتعامل بنك ماركوارد في السندات المصرية بعد ذلك، وكل السندات المرسلة من الشركة الزراعية لن تُقبل إلا على أساس أنها غطاء لصفقات تجارية وبضمان بنك ديرفيو. ومن الضروري أن يغطي كل سحب على هذه الضمانات بسندات قصيرة الأجل قبل حلول الموعد.
ومنذ هذه اللحظة كان رصيد الشركة الزراعية متطابقًا مع رصيد بنك ديرفيو وشركاه. وانقضت بقية ١٨٦٥م دون صعوبات بفضل المدفوعات من السندات المصرية، التي مكنت الشركة من متابعة أعمالها التي لا تعطي ربحًا سريعًا، مثل تجديد ميناء الإسكندرية، وإصلاح القلعة، وحفر ترع الري، وبناء قصور جديدة.
وإلى حد كبير، ضاع الصيف دون عمل، وأدت الكوليرا إلى توقف كل شيء. وعلى الرغم من أن الدكاكين والمحلات قد ظلت مفتوحة بناء على طلب الحكومة لتقليل البطالة والتذمر، لم يتحقق الكثير. وفي نهاية سبتمبر وافق اجتماع لحمَلة الأسهم على أن يدفع المساهمون أربعة جنيهات جديدة عن السهم. ولقد أُعلن هذا القرار في إنجلترا وفرنسا في أكتوبر، ولكن كثيرًا من المساهمين لم يستجيبوا.
وفي نهاية العام كانت أحوال الشركة الزراعية سيئة مرة أخرى، ولم يكن من الغريب أن يفكر ديرفيو، وهو الذي يتدهور شخصيًّا، في ضم الشركة المريضة الخاضعة إلى بنكه حتى تصبح أداة في محاولاته للنهضة. وفي ديسمبر ١٨٦٥م عاد من رحلة طويلة في أوروبا وقد أعد خططه لدمج بنكه والشركة الزراعية في شركة جديدة تُدعى «الشركة المصرية للائتمان والصناعة».
لقد كان على الشركة الجديدة أن تجمع أفضل الصفات؛ فهي بنك كبنك ديرفيو وشركاه، يتعامل مع الحكومة المصرية وتجار الإسكندرية والقاهرة. وهي — كالشركة الزراعية — تتعاقد مع الأشغال العامة. وأخيرًا فهي اتحاد تجاري يتخصص في استيراد المواد والآلات للبناء والزراعة، كما كان يحلم لوكوفيتش.
ومن وجهة نظر ديرفيو فإن للشركة الجديدة مزايا غير اقتصادية هامة. فمن بين المذكرات التي أعدها لتبرير الدمج كانت هناك واحدة بعنوان «مقدمة سياسية». وقد أوضحت هذه المذكرة أن إنجلترا وفرنسا قد تنافستا دائمًا على النفوذ والمركز في مصر، وأن إنجلترا قد كسبت هذه المنافسة اقتصاديًّا. لماذا؟ بسبب الفارق في الطابع الوطني بين البلدين:
«إن روح الفروسية لدينا، وطابعنا في الاندفاع نحو نصر التقدم والمدنية، وطموحنا النبيل في تعريف شعوب العالم بالتطورات الفكرية والروحية التي نعتز بها. كل هذا أدى بنا منذ حكم محمد علي إلى اعتبار أنفسنا حُماة مصر. إننا أقل اهتمامًا بمصالحنا المادية، وأكثر انشغالا بإنهاض بلد تربطنا به ذكريات عظيمة، ولهذا زودنا مصر لأكثر أربعين عامًا بالمعلمين من جيشنا وبَحَريتنا، وبالمهندسين والأطباء والأساتذة والفنانين الذين ساهموا بشكل ضخم في إدخال نسمة حياة جديدة إلى مصر القديمة المريضة لعدة قرون.
أما إنجلترا فقد استهدفت هدفًا مغايرًا تمامًا؛ فهي أقل انشغالًا بالنهضة الروحية لشعب وصلت به العبودية والفقر إلى الحضيض، ولم ترَ إنجلترا في يقظة مصر وطموحها الجديد إلا الجانب المادي والتجاري. لقد أغرقت إنجلترا السوق المصرية بالمنسوجات القطنية والآلات والفحم، وبذكاء عملي لا يمكن إنكاره توقعت إنجلترا الحركة الصناعية والزراعية التي كان حتمًا أن تنتهي إليها سياسة محمد علي ولم تخشَ إنجلترا أن تدفع لحساب المستقبل الذي ينتظر مصر، وأن تقدم لها المال الضروري لتحولها.
ولا ينبغي أن نخفي على أنفسنا أن تصرف إنجلترا قد أكسبها عطفًا يفوق العطف علينا، من جانب شعب ما زال جاهلا وما زال يحمل علامات العبودية الطويلة. إن أفكارنا العظيمة ومشاعرنا الكريمة لا تستطيع أن تنتشر على نظام يرضي المصالح المادية التي خلقها رخاء غير متوقع في أعقاب فقر مُدقع.»
إن هذا الموضوع يعتبر في عام ١٨٦٥م قديمًا، وهو يذكرنا باحتقار نابليون «لأمة أصحاب الحوانيت». وإن الإنسان يتساءل عن رد فعل هذا الكلام على رجل مثل ألفريد أندريه.
وعلى أية حال فقد كان ديرفيو كما هو، الوطني العظيم الذي وجد في فشل بلاده تجاريًّا فشلًا له هو. ومضت المذكرة توضح أن البريطانيين يتكفَّلون بثلاثة أرباع الصادرات والواردات المصرية، وأن الفرنسيين لا يتكفلون إلا بالثُّمن. وصحيح أن الإنجليز يرسلون سلعًا سيئة النوع، ولكنهم أكبر استعدادًا لتكييف منتجاتهم وفق الذوق المحلي. أما المصدِّرون الفرنسيون فهم مشهورون بعدم المرونة. والبريطانيون يُقرضون النقود بسخاء — ١٨٥ مليون فرنك خلال سنوات قليلة — أما الفرنسيون فما زالوا يترددون في ذكر أي قرض مصري.
لقد شعر ديرفيو أن الوقت حان لطرح الضمانات المصرية على نطاق واسع. والشركة الجديدة تستطيع أن تقدم نفسها للجمهور وفي يدها عقود حكومية بأكثر من عشرين مليون فرنك، وتوقعات بأكثر من ٣٥ مليونًا، وهي عقود تحقق ما بين ٢٥ إلى ٣٠ في المائة ربحًا. ومن المؤكد أن الحكومة المصرية ليست في الوضع الذي يسمح لها أن تدفع عن هذه الأعمال نقدًا، ولكنها كانت مستعدة أن تحول السندات التي يمكن أن تباع بدورها في أوروبا. لقد أرادت الحكومة أن تدفع فائدة منخفضة على هذه الضمانات، ٪۷ مثلًا. وكان ديرفيو يشعر أن على الشركة أن تقبل هذا، وأنها ستجد في العقود المجزية والمزايا غير المباشرة تعويضًا كافيًا لها. كتب ديرفيو يقول: «بهذا يمكننا أن ننجح في دفع الخديوي إلى الطريق الذي يود بكل قلبه أن يمضي فيه، وأن نحتكر كل أشغاله.» وتمضي المذكرة فتذكر طموح إسماعيل إلى الشهرة والعظمة، ورغبته في أن يضع الإسكندرية والقاهرة في نفس مستوى مدن أوروبا، وفي أن يجذب الغربيين إلى بلاده. وتوضح المذكرة أنه يمكن كذلك للشركة أن تحقق ثروة في التعامل مع العملاء الخصوصيين، وعلى وجه الخصوص في استصلاح وبيع الأراضي الزراعية.
وأصبح ديرفيو مديرًا لشركة الائتمان الجديدة، وكان رأس مالها مليون جنيه، بما في ذلك ٤٠٠٠٠٠ من حمَلة أسهم بنك ديرفيو وشركاه، الذين رحب معظمهم بالاندماج باعتباره فرصة لتحويل استثمارهم إلى أسهم لحامِلِه قابلة للتداول في السوق. وبالمثل كان من المتوقع أن يرحب أصحاب الشركة الزراعية بالاندماج؛ إذ إنه يحررهم من الالتزام بدفع ١٢ جنيهًا عن كل سهم.
ومع ذلك فقد افترض أن ٤٠٪ من مُلَّاك الشركة الزراعية سيرفضون فكرة الاندماج. وعلى ذلك لم يكن ديرفيو يعتمد على أكثر من ٢٤٠٠٠٠ جنيه من هذا المصدر. أما إسماعيل، المشجع دائمًا على إنشاء مؤسسات ائتمان في مصر، فقد وعد بدفع مبلغ إضافي قدره ٨٠٠٠٠ جنيه. وأصبح المجموع بذلك ۷۲۰۰۰۰ جنيه، وهو أقل من رأس المال المعلن عنه، بل أقل من المبلغ الكافي لبدء العمليات وهو ٨۰۰۰۰۰ جنيه. غير أن ديرفيو كان واثقًا من تدبير بقية المبلغ دون عناء كبير. وأخبر أندريه أن شركات فروهلنج وجوش وكافان، ولوبوك وشركاه والشركة التجارية المصرية وأوبنهايم-نيفي، كلها مستعدة لإضافة مبالغ كبيرة إلى المبالغ التي لها في الشركة الزراعية. ثم هناك بيوت أخرى في مصر وأوروبا ذات مصالح هامة في الشركة القديمة، بحيث تدعوها هذه المصالح إلى المساهمة في الشركة الجديدة.
وصل ديرفيو إذن إلى الإسكندرية مملوءًا بالثقة، فالسنوات العجاف قد انتهت. وفي خطاب بتاريخ ۱۲ ديسمبر أعلن مسرورًا أن مشاكل شركته قد رتبت، وأنه، حتى وَفق أشد التقديرات تحفُّظًا، ستدفع شركة ديرفيو وشركاه ٪۱۰ ربحًا عن السنة المنتهية في يونيو ١٨٦٥م، بالإضافة إلى ١٥٪ عن التصفية في ٣١ مارس التالي. وبالإضافة إلى ذلك، وبصرف النظر عن مصالحه الخاصة ومصالح بنكه، يكفيه أن يحمل في حقيبته خلاص أُناس عديدين آخرين.
كتب يقول: «إني آتٍ إلى مديري الشركة الزراعية كالمسيح. فنشاطهم كسيح لنقص رأس المال والإدارة، وأنا أحضر لهما هذين.»
وكالعادة خيب الواقع آمال وحماس ديرفيو. فعلى الرغم من تأكيده لأندريه أنه لن تكون هناك صعوبة في تدبير المبلغ الباقي من رأس مال الشركة المقترحة، وجد ديرفيو المستثمرين فاترين. وقد اعترف خطاب ۱۲ ديسمبر بالترحيب الشديد بأي مساهمة تأتي من فرنسا. وفي نفس الوقت تدهور الوضع المالي للشركة الزراعية بشكل يدعو إلى القلق. فقد كان هناك تجاهل لعيوب الشركة خلال أشهر الهدوء الطويلة. أما الآن فإن الجهد المبذول لإعادة دوران العجلات فضح تآكل الآلة ذاتها.
وفي نفس الوقت لم تكن حالة بنك ديرفيو وشركاه أفضل كثيرًا. فحساب البنك عن العام الذي ينتهي في ٣٠ يونيو ١٨٦٥م، كما أعد في نهاية ديسمبر يُظهر ربحًا صافيًا قدره ١٦٦٩٢٤٨ فرنكًا، مما يمكن البنك من دفع فائدة ٦٪ على رأس المال وأرباح أخرى قدرها ٦٪. ويمثل هذا الوضع تدهورًا حادًّا بالنسبة للسنوات السابقة. والأسوأ من هذا أن حساب البنك يوضح أن ربع ممتلكات البنك فحسب (وتقدر بحوالي ٢٢٤٣٦٥٦٠ فرنكًا) في حالة سيولة. أما الباقي فيتكون من بضاعة وآلات مخزونة، ومن قوارب بخارية، وأراضٍ، وأسهم في مشروعات أخرى، ومدفوعات للحكومة المصرية، وحسابات مشبوهة، وسحب زائد عن الحد من الحساب الجاري. وتحت هذا البند الأخير كان إسماعيل أكبر مرتكبي الإثم.
وجوهر الصعوبة هو عدم رغبة الحكومة المصرية والدائرة السنية في دفع ديونهما. والأولى كانت محرجة مؤقتًا نتيجة توقف أوبنهايم عن دفع دفعات قرض السكة الحديدية، والثانية كانت تنتظر في أمل أن تسفر عملية باستريه عن شيء. ولكن الشركة الزراعية لا تستطيع أن تنتظر. وحاول ديرفيو أن يصلح أحوالها عن طريق ائتمان كبير من بنك ماركوارد. وفي خطاب ٢ يناير ١٨٦٦م طلب ديرفيو ٥٠٠٠٠٠ فرنك، وحصل عليه بضمانه الشخصي، فقد كان أندريه لا يثق في الشركة الزراعية، واستهلك الائتمان قبل تأكيده.
وفي القصص الخرافية فحسب يستطيع الناس أن يوقفوا السدود بأصابعهم! ففي خلال أسبوع قرر ديرفيو أن الشركة الزراعية قد استعصت على الإصلاح، وأنه من الأفضل أن تُحل تمامًا وأن نستصلح منها الأجزاء القابلة للاستعمال. وبدلًا من تصفية بنكه ودمجه في الشركة الزراعية، قرر ديرفيو أن يُصفي الاثنين معًا وينشئ شركة جديدة. ولهذا التدبير ميزة تقديم العملية للجمهور كصفقة بين شريكين متساويَين. وهكذا أصبح من الواضح أن ديرفيو لم يعد سعيدًا بفكرة امتصاص الشركة الزراعية لبنكه.
وظلت المشكلة الرئيسية هي جمع ما لهاتين الشركتين لدى الخزانة المصرية. هنا كان لخطط ديرفيو عيوب جدية. فقد نُقل نوبار باشا من وزارة الأشغال العمومية إلى وزارة الخارجية، وكان تعيين نوبار في الخارجية بمثابة مكافأة له على جهده في مفاوضات القناة، وقد كانت النية متجهة إلى إجراء هذه الترقية منذ نوفمبر أو قبل ذلك. ولكن، بينما اعتمد نوبار على أنه سيظل في مقعده كوزير للأشغال العمومية (كانت لدى نوبار شخصيًّا مصالح مالية أراد أن يكون قريبًا منها) إلا أن عدم دقته في قرض أوبنهايم قد كلفه مقعده.
وأبرق ديرفيو بالأنباء السيئة إلى أندريه، ورد الأخير قائلًا إنه يأمل أن يكون ديرفيو قد استفاد من الأيام الأخيرة لنوبار في وزارة الأشغال بمنحه بعض العقود المفيدة. وضاع هذا الأمل، وكما اعترف ديرفيو في خطاب ٣ فبراير كان نقل نوبار «ضربة وقِحة».
«ومما يزيد الأمر خطورة أن الدافع إلى هذا النقل هو الاتهامات الباطلة التي قيلت ضد هذا الصديق وضدي. فالناس يقولون إننا اتفقنا سويًّا على رفع حساب، الفواتير واقتسام المبالغ. ولقد كشفت هذه الأكاذيب بسرعة واستعاد نوبار كل نفوذه عند الخديوي.»
ولكن تفاؤل ديرفيو كان بلا أساس. فليس هناك مجتمع لا يعلق فيه مثل هذا الطين، والأكاذيب يمكن أن تكون قاتلة في مؤامرات القصور الشرقية، ولم تكن التأكيدات التي تلقَّاها نوبار وديرفيو، والابتسامات القلبية، والمصافحات الودية، تعني أكثر من أن إسماعيل قد قرر أن يخفي شكوكه مؤقتًا. وفي نفس الوقت أبعد نوبار عن كل الشئون المالية، ووجد ديرفيو أنه يستحيل الاقتراب من الخزانة.
«كنت في القاهرة مع عائلتي لمدة أسبوعين. وأنا أموت كمدًا من الصباح إلى المساء في وجه المصاعب التي أقابلها، وأؤكد لك أنني في حاجة إلى جرعة كبيرة من الصبر حتى لا أهدم المنزل. فإلى جانبي توجد نوايا الخديوي الطيبة والخيِّرة، ومع ذلك فلست أستطيع الوصول. فكيف تكون أحوالي إذن لو كان الخديوي معاديًا لي! وفي الحكومة فراغ وخمول وسوء نية إلى حد لا يصدق.»
وبينما طالب ديرفيو بإلحاح بملايينه الستة من الفرنكات، وخمسة ملايين أخرى للشركة الزراعية لدى الحكومة، وبينما ناقش كل المسئولين الذين كانت لديهم تعليمات أن يعاملوه بكل أدب ولا يدفعوا له قرشًا واحدًا، وبينما يطارد ديرفيو إسماعيل، الذي تجمد قلبه بالإفلاس المتوقع، وباختصار بينما استهلك ديرفيو نفسه محاولًا أن ينتزع الماء من الحجارة، ظهر بريفي فجأة في لحظة احتياج مصر معلنًا عن تأسيس بنك جديد مشمول بخطف الخديوي.
واستاء ديرفيو وشعر بالغيرة، وكتب إلى أندريه يقول إن بريفي كان من المهارة بحيث دفع إسماعيل إلى الاستثمار في شركته، ولكنه سيتعلم أن يأسف على هذا الشرف؛ فالخديوي وضع مندوبه في البنك كأحد الشركاء النشيطين. وفي نفس الوقت فإن هذا الدليل الجديد على خرافة عطف إسماعيل عليه لم تزد صديقنا إلا رغبة في مضاعفة جهوده للبحث عن نقود لإسماعيل في باريس، حتى يستطيع إسماعيل أن يدفع بعضها له وللشركة الزراعية.
والحق أن ديرفيو لم يكن في حاجة إلى الشعور بالغيرة، فقد فشل بنك بريفي قبل انتهاء العام.
•••
اقتربت الكوميديا من نهايتها. وعلى الرغم من استعداد إسماعيل لأن يقدِّم تشجيعًا شفويًّا (بل إنه كتب تزكية قوية لشركة ديرفيو المقترَحة) فإن المساهمات لم تتوالَ. والمبلغ الذي توقع أن يدبِّره بسهولة في مصر (١٢٠ ألف جنيه) ثبت أنه القشة الأخيرة. لقد فقد اسم ديرفيو كل سحره، ورجال الأعمال الآخرون كانوا أيضًا ينتظرون ليجمعوا مالهم عند إسماعيل. وثبت أن بنك ماليه وبيرييه لا يودَّان المساهمة في الشركة الجديدة، بل إن بعض حملة الأسهم في بنك ديرفيو وشركاه، الذين افترض تأييدهم للمشروع، كانوا ينتهزون الفرصة للهرب. وفي ١٧ مارس، أي قبل انتهاء المدة المحددة بأسبوعين لتكوين الشركة الجديدة، تقدم بعض حمَلة الأسهم في الشركة الزراعية طالبين محاكمة رئيس مجلس الإدارة بتهمة سوء استخدام وظيفته.
وهكذا وقعت إرادة الله. وفي خطاب بتاريخ ١٩ مارس كتب ديرفيو إلى أندريه عن «أيامه الصعبة» يقول:
«تخيل أنه كان عليَّ أن أظهر أمام محكمة البوليس في القنصلية الفرنسية مُتَّهَمًا بالتفريط وسوء استخدام الثقة! يبدو لي أني كنت في حلم وكابوس مفزِع.»
وصحيح أن ديرفيو كسب القضية، ولكن المحاكمة فرضت صدامًا بين أصدقائه ومُدَّعي صداقته. ومات عدد من الأوهام خلال هذه العملية. إنه يقول: «إن الامتحان الذي قبلته بارتياح كامل يثير اشمئزازي، رغم ذلك، من أُناس وأشياء في هذا البلد. وإذا أضفت إلى ذلك عدم تقدير الخديوي لوفائي المخلص، فإن كل ذلك يجعلني أتخلى عن فكرة إنشاء شركة جديدة.» وانتوى ديرفيو تصفية الشركة الزراعية وتحويل العقود المتوقَّعة إلى أوبنهايم، وأن يظل بقية مُدته كمدير لشركة ديرفيو وشركاه، «وأرجو أن تخبر ديبان أنني لن أكون آسفًا إذا لفت نظر م. بهيك إلى هذه المسألة.»
وهكذا بدأت عملية «صلب» ديرفيو، الذي عاد إلى مصر منذ ثلاثة أشهر فحسب «وكأنه المسيح!» كما وصف نفسه!