كيف انتهت المسرحية؟
انتهت مرحلة في تاريخ النشاط المالي الغربي في مصر. فانهيار رواج القطن في ١٨٦٥م، وتفجُّر وضع الشركات بعد ذلك بعام اكتسح أمامه مجموعة كاملة من البنوك وبيوت التجارة، ومعظمها لم يؤسَّس إلا منذ سنوات قليلة. وفي مكان هذه المجموعة حلت مجموعة جديدة من الممثلين شغلوا المسرح المصري.
فمِصر لم تكن أفلست بعد، وما زال هناك مال يمكن كسبه. وعلى الرغم من أن التجارة كانت أقل ازدهارًا من سنوات ١٨٦٠م الأولى إلا أنها ظلت على أهميتها، ولم ينخفض حجم الصادرات والواردات قط بعد ذلك إلى مستواه فيما قبل رواج القطن. وعلاوةً على ذلك، فأيًّا كان حجم الدين في ١٨٦٦م، وأيًّا كان اتساع وفوضى سندات الخزانة المجهولة القِيمة، وأيًّا كانت كمبيالات الدائرة السنية والأوراق الأخرى الرسمية، فإن الحكومة ظلت تحتفظ ببعض الأرصدة في السوق الأوروبي. وأرسلت بنوكٌ جديدة، مثل كريدي فونسيه، والشركة العامة، وروزتشايلد، مندوبين إلى مصر يَعرضون خدماتهم على إسماعيل. وجنبًا إلى جنب البنك الإنجليزي-المصري، والشركة التجارية المصرية نشأت بنوك جديدة، مثل الشركة العامة لمصر، والبنك النمسوي المصري، والبنك الفرنسي-المصري، وشركات مشابهة، لتسد حاجة التجارة الأوروبية وخزانة الخديوي. وحيث زها وانتفع فوق خشبة المسرح رجال من أمثال بريفي في يوم من الأيام، تولى مغامرون جُدد إحياءَ الكوميديا المصرية (أو المأساة إن شاء القارئ)، وخلف وزيرٌ جديد (يُدعى إسماعيل صديق المفتش) نوبارَ كرئيس للوزراء بشكل غير رسمي.
وفي نفس الوقت، مضت الشركات القديمة في طريق الموت التجاري المؤلم، وبعضها — الكبيرة منها — مضت إلى حتفها بضجَّة، ومعظمها اختفى في تكتُّم كامل، ولم تَترك خلفها أي أثر تاريخي. واستطاع عدد قليل منها أن يعيش، وإن لم يستطع أبدًا أن يستعيد مجده وازدهاره القديم. ولم يستطع غير أوبنهايم — ضمن المجموعة القديمة — أن يحتفظ بأهميته بين الشركات الجديدة التي حلت محل التي سقطت.
ولقد كان خروج الشركة الزراعية من المسرح مثيرًا. فلمُدة ثلاث سنوات ظلت هذه الشركة نوعًا من «مِسمار جُحا» كلما أراد المساهمون الفرنسيون والبريطانيون استخدام كل نفوذهم السياسي والتجاري لإجبار إسماعيل على تعويضهم. ولم تكن مهمة هؤلاء أو هؤلاء سهلة. فقد كان إسماعيل مُصمِّمًا على الصمود أطول مدة ممكنة، أولًا: بأمل أن يشجع بعض المساهمين على أن يبيعوا أسهمهم مقدمًا بخسارة، وثانيًا: لمجرد إغاظة دائنيه.
إلا أن الإغاظة هي سلاح الإنسان الذي فقد بالفعل المعركة، ولا شك أن استعداد إسماعيل لأن يشتري الأسهم وَفق نوع من «المساومة» يدل على أنه كان مقتنِعًا بحتميَّة الهزيمة. ولقد كان ديرفيو هو الدافع إلى التحول في موقف إسماعيل. ففي اللحظة التي اشترى فيها الخديوي أسهُم أوبنهايم، اعترف بمسئوليته قبل كل رأس مال الشركة الزراعية المدفوع. ولقد ركزت وزارتا خارجية فرنسا وبريطانيا على هذه النقطة. وقاد الفرنسيون — وهم ذَوو خبرة قديمة في هذا المجال — الهجوم. ونتيجة لهذا أخذ الفرنسيون أموالهم أولًا. أما وزارة الخارجية البريطانية فقد تراجعت إلى الخلف محاوِلةً أن تكون منصِفةً لكل الأطراف. ولكنها لم تكن تسمح أن يُظلم رعاياها، وأصرت في النهاية على أن يعوَّض رعاياها بنفس شروط الفرنسيين. فالإمبريالية سرعان ما تستغل النوايا الطيبة.
لقد أُصيبت الشركة التجارية المصرية إصابة قاتلة من جرَّاء أزمة ١٨٦٦م، وإن ظلت وقتًا طويلًا لا تدرك ذلك. ولم يُنقذ الشركة مؤقتًا إلا دعوة المساهمين لدفع ٣ جنيهات عن السهم، ومساعدةٌ من إسماعيل جاءت في حينها. ولكن معظم أرصدتها ظلت مجمَّدة وانهار ائتمانها. وأراد بعض المساهمين أن يبحثوا الموقف. وفي ذلك قالوا إن لديهم ما يبرر اعتقادهم أن مديري الشركة بالإسكندرية متَّهمون بالفشل، إن لم يكن أسوأ من ذلك. ولكنهم هزموا بواسطة المديرين في اجتماع عاصف يمكن أن يُعتَبر تاريخًا نموذجيًّا في تدبير أعمال الشركات. وعينت لجنة لبحث الموقف برئاسة هيث من الشركة المالية الدولية، وهي الشركة التي رعت الشركة التجارية المصرية وكانت، على الأرجح، تملك جزءًا كبيرًا من الأسهم. ولكن مستر هيث، مع اعترافه بأن الشركة في «حالة مفزعة»، شعر بأن مديريها «يستحقون العطف أكثر مما يستحقون اللوم»، وذهبت نتائج تحقيق اللجنة أدراج الرياح. أما المساهمون المتذمِّرون، فقد وُصِفوا بلباقة بأنهم مشاغبون وأُلزموا أماكنهم. وقد أوضح هيث أن الوحدة والانسجام ضروريان حتى تجتاز الشركة المحنة، وأنه في «المفاوضات الدقيقة الصعبة» المقبلة عليه أن يكون مطمئنًّا لمن يعملون معه؛ فاللجنة المنقسمة على نفسها لن تحقق شيئًا. وهكذا كان الاختيار أمام المساهمين بين هيث الجبار وبين المتمردين. واختار المساهمون هيث بالطبع.
غير أن هيث لم يكن كافيًا لإنقاذ الموقف. ففي خلال عام كانت الشركة تُصفي نفسها بشكل غير رسمي، وكانت كل التقارير المرفوعة إلى المساهمين تسبب خيبة أمل جديدة من زاوية الأرصدة. وانخفض رأس مال الشركة بسبب دفع الجنيهات الثلاثة عن كل سهم، الذي دعت إليه الشركة في ١٨٦٦م، وضياع ١٣٠٠٠ سهم مدفوعة في شركة بريجز التي انهارت عام ١٨٦٤م. ولم تستطع الشركة أن تدفع المستحقات عليها إلا في أكتوبر ١٨٦٨م، وبدأت تستعيد رأس المال الأصلي. وفي هذا الوقت كانت بعض أرصدتها ما زالت مجمَّدة في سندات ما زال أمامها خمس سنوات. وتوقَّع المساهمون انتظارًا طويلًا واحتمال خسارة كبيرة.
ولقد كان وضع الشركة المالية بمصر أسوأ من ذلك؛ فالشركة لم تبدأ بعد، وقد بدأت تترنح حتى في قمة رواج القطن. وفي يناير ١٨٦٥م، قبل أن تبدأ البنوك الأخرى تحس بضغط الأزمة، اضطرت إلى دعوة المساهمين لدفع ٤ جنيهات عن كل سهم. ولم يدفع أحد. ولم يحل عام ١٨٦٦م حتى أوشكت الشركة أن تكون منسيَّةً. وفي آخر العام أُلصِقت إعلانات تحذر المساهمين المتقاعسين بأن الشركة ستضطر أن تبيع أسهمهم إذا لم يُلبُّوا نداءها. وكان هذا تهديدًا أجوف، فلا يوجد مساهم عاقل يرضى أن يدفع مليمًا واحدًا، ولا يوجد مستثمر عاقل يرضى أن يقترب من هذه الاسهم. وفي صيف ١٨٦٧م صوت المساهمون في باريس ولندن على إنهاء الشركة. ووزعت أول أرباح على رأس المال في نوفمبر من العام التالي: ٩٠ فرنكًا عن كل ٢٥٠ مدفوعة. أما بقية رأس المال فكان من الصعب تحقيقه. وفي أكتوبر ۱۸۸۹م طلب المساهمون البريطانيون من قُنصلهم أن يؤيد مطالبهم من الحكومة المصرية، وربما شجعهم على هذا ما حدث في موضوع الشركة الزراعية، وما أدركوا أن الخديوي كان قد ملَّ المطالب. وعلى أية حال فإن تصفيةً على طريقة تصفية الشركة التجارية ثبت أنها بطيئة ومُخيِّبة للآمال. وماتت الشركة كما عاشت، في صمت شبه كامل.
أما بنك مصر، فيكاد يكون الشركة الوحيدة التي لم تُصَب بأذًى كبير في أزمة ١٨٦٦م؛ فقد تركت مشكلة إلهامي البنك في حالة شلل بالدقة في السنوات التي كانت قمة الرواج، كأنه صبي في رحلة النقاهة اضطرَّ إلى الجلوس بجوار النافذة يراقب زملاءه وهم ينزلقون على الجليد. وكان أن اكتفى البنك بالعمليات التجارية المأمونة المعقولة بينما حقق منافسوه ثروات ضخمة من المضاربة وتمويل الخديوي. وكالصبى في مرحلة النقاهة أيضًا، لم يكن يستطيع هذا البنك أن يسقط فيدق عنقه. وفي قمة الأزمة ظلت أسهُمه ثابتة، وفي السنين التالية غرق البنك في لُجَّة من النسيان كانت مقياسًا وعوضًا لحرصه واحترام مركزه. ومن سوء الحظ أن الجيل التالي في البنك لم يكن مُستعدًّا — أو قادرًا — للمحافظة على نفس التقاليد التي أُرسِيت خلال المرحلة الحرجة الأولى، وانهار بنك مصر قبل الحرب العالمية الأولى مباشرة خلال أزمةٍ من أسوأ الأزمات المالية في تاريخ مصر.
•••
لقد كان آل أوبنهايم السَّحَرة الحقيقيين للمالية المصرية. فلم تُوجد شركة غير شركتهم استطاعت أن تُحافظ على مثل هذا المركز الهام لهذه المدة الطويلة في مثل تلك التقلبات المتطرفة، وكأنهم كانوا يملكون مصباحًا سحريًّا.
وفي ١٨٦٥م أغضبوا إسماعيل غضبًا مزدوجًا حين انسحبوا في آخر لحظة من أحد القروض بعد أن خدعوه في قرض آخر. واستشاط الخديوي غضبًا، وهاج وماج، وأقسم بكل مقدَّس أنه سيحرر نفسه من مخالبهم الخائنة مهما كان الثمن. ولكن آل أوبنهايم زادوا الطين بلَّة عندما قبلوا عقدًا جديدًا ثم عدَلوا عنه، وحبسوا أرصدة الحكومة المصرية لإجبارها على الموافقة على شروط أفضل! أيمكن أن يتحمَّل جسد إنسان أو رُوحه أكثر من هذه الإساءات؟
نعم يمكن! ففي ١٨٦٧م احتاج إسماعيل إلى عدة ملايين من الجنيهات، فكان أن دبر له بنك أوبنهايم والبنك العثماني الإمبراطوري قرضًا بفائدة ٩٪، وفي ١٨٦٨م، عندما كان المطروح على وشك الغرق ومعه الخزانة المصرية؛ كان آل أوبنهايم هم الذين تولوا طرح قرض جديد لإسماعيل مقداره ۱۲ مليون جنيه في لندن وباريس وأمستردام وفرانكفورت وبرلين والإسكندرية في آن واحد، ولم يتقاضَ منه إسماعيل غير سبعة ملايين جنيه.
ولم يكن هذا كافيًا لإسماعيل، الذي كان يقترض دائمًا لسداد ديون حل ميعادها، وفي آخر ١٨٦٨م كان الخديوي يُرتب بعض القروض لتغطية نفقاته العاجلة، ولم يكن هذا الوضع كافيًا أيضًا لآل أوبنهايم الذين كانوا يشعرون بأن تحقيق أرباح طيبة لا يستبعد تكرارها. وهكذا، فعندما تحول إسماعيل آنذاك إلى مصادر أخرى لمساعدات مالية صغيرة، شعر آل أوبنهايم بالإهانة لأن تقع هذه التفاهات المالية في أيدٍ غير أيديهم. وانتقامًا، بدءوا يثيرون مطالبهم التي نامت طويلًا ضد الشركة الزراعية. ففاتورة بخمسين ألف جنيه ستُعلم إسماعيل أن الممول الذي يقدم أقل الفوائد ليس بالضرورة أرخص الممولين. وبينما آلم هذا المسلك الخديوي بشدة، إلا أنه لم يمنعه من اللجوء إلى بنك أوبنهايم مرة أخرى في ١٨٧٣م، عندما بُذِل جهدٌ ضخم أخير لتجميد الدين المصري.
والحقيقة أنه لم يكن هناك مصباح سحري في يد آل أوبنهايم؛ فأولًا: كانت لهم في سنواتهم الأولى ميزة الاتصال بالشركات الأوروبية الهامة النشيطة، التي كانت مستعدة دائمًا لمساندة عملياتهم في السوق الوحيدة ذات الأهمية: لندن. وفي نفس الوقت كان آل أوبنهايم يعرفون عميلهم؛ فهم يتكلمون اللغة الوحيدة التي كان إسماعيل يفهمها: النقود، لا الصداقة أو الولاء، أو العطف والود. فعندما يريد الخديوي أن يُنفق كان آل أوبنهايم مستعدين لتنفيذ طلباته مقابل أجر. وعندما يريد الخديوي أن يقترض كانوا مستعدين لإقراضه مقابل فائدة وعمولات ومصاريف متنوعة. ولكن عندما يكون الخديوي مرهِقًا أو مثيرًا للمتاعب، عندما يتباطأ في الدفع أو في الاقتراض، عندما يكون جَحودًا إلى حد البحث عن النقود في مكان آخر، عندئذٍ يستخدم آل أوبنهايم الضغط؛ بقطع أرصدته، أو بتهديده بقضية، أو بالإساءة إلى رصيده في أوروبا. وبالطبع لم يضغط آل أوبنهايم على إسماعيل أكثر من اللازم، فقد كان هدفهم إرجاع السفيه إلى صوابه وإلى الحظيرة، لا أكثر ولا أقل. ولكنهم كانوا يدركون أن الضربة الواحدة — في وجه مُبذِّر لا أمل فيه كإسماعيل — تعادل مليون كلمة، وأن قرضًا طيبًا واحدًا يُقدمونه له بعد ذلك يمكن أن يمحو مئات الإهانات.
ومن ناحية أخرى لم يكن آل أوبنهايم الوحيدين الذين استخدموا الوسائل العنيفة في التعامل مع إسماعيل؛ فمصر كانت مليئة برجال الأعمال الذين كان فكرهم مشابهًا. ولكن تفوُّق آل أوبنهايم على الجميع كان، دون شك، يعود إلى مهارتهم بقدر ما يعود إلى دقتهم ووقاحتهم. وفي كلمة كان آل أوبنهايم يعرفون متى يستخدمون الإغراء ومتى يستخدمون العصا! فإذا كان إسماعيل يريد أن ينفق أكثر مما هو معقول، من وجهة نظرهم لا من وجهة نظره، لم يفرضوا عليه حدًّا؛ إذ كانوا يعرفون جيدًا أنهم إن لم يساعدوه فسيساعده شخص آخر، وإن «المهارة مع مدين كالخديوي تتمثل في إرخاء اللجام حتى لا يشعر بالألم، وإن هذا أفضل في السيطرة عليه». وإذا هاج الخديوي وماج، كما حدث في مشكلة قرض السكة الحديدية، كانوا يعرفون كيف يُقدمون التنازلات، وأن الزمن كافٍ لإعادته إلى صوابه عندما تهدأ الانفعالات. وخطابات ديرفيو ذاتها تتحدث في مناسباتٍ مختلفة عن زيارات سريعة لهيرمان أوبنهايم للقاهرة، وعن اصطدامات عنيفة تنتهى بمحادثات ودية في الوقت المناسب. وليس بالصدفة إذن أن تعمل شركات مساهمة كبيرة، مثل الشركة العامة بباريس والبنك الإمبراطوري العثماني في مصر، من خلال هذه الشركة الصغيرة الخاصة التي تكون أقل في مواردها، وإن كانت تفوقها في الخبرة والمهارة.
ورغم كل مهارتهم ونشاطهم كمصرفيين لم يجعل آل أوبنهايم من العمل المصرفي كل حياتهم. ففي ١٨٦٦م، أو حول ذلك الوقت، استقرَّ هيرمان في باريس؛ حيث أصبح إحدى الشخصيات الاجتماعية المرموقة في الإمبراطورية الثانية المتدهوِرة. واشترى فندق «سكريب» في مقابل ٤٠٠٠٠٠ فرنك، وامتلك قصرًا في الريف، وملأ بيوته بصور الفنانين الكبار والتحف الغالية، وفعل كل ما تفعله الشخصية الاجتماعية المرموقة: ركوب الخيل في غابة بولونيا، وإقامة الولائم التي تَظهر صورها في الصحف … إلخ. وأقام لإسماعيل أعظم استقبال في ١٨٦٩م، وفي هذا الاستقبال نظَّم، بين وليمة الغداء ومسرحية المساء، حفلة رقصٍ مليئة بالشخصيات، عزف فيها أوركسترا القصر الإمبراطوري. وبعد هذا الانتصار بسنوات قليلة مات أوبنهايم، أي مضى وهو في القمة كما يقول الرياضيون.
أما هنري أوبنهايم فقد كان ذا طموح آخر. ففي ١٨٦٨م تزوَّج جورجينا بتلر، ابنة جيمس بتلر وحفيدة لورد دانبوين الثالث عشر. وعلى الرغم من نشاطه في المالية المصرية حتى إفلاس ١٨٧٦م، فقد استقر في لندن. وهنري أوبنهايم هو الذي أخبر الصحفي جرينوود (ومن خلاله دزرائيلي) بِنِيَّة إسماعيل في بيع أسهم القناة. وفي سنوات تالية اهتم هنري أوبنهايم بالسياسة، واشترى جزءًا من صحيفة «ديلي نيوز»، وأصبح مؤيدًا قويا لحزب الأحرار، وأوشك أن يكون لوردًا. وعندما بدا في ١٩١١م أنه لا يمكن حل الأزمة الدستورية إلا بحل مجلس اللوردات، كان أوبنهايم في قائمة مرشحي أسكويت. ومات بعد ذلك بعام تاركًا ثروة تُقدر بنصف مليون جنيه، وهي ثروة كبيرة، وإن كانت غير فاحشة.
•••
ومن الطبيعي أن يكون نجاح آل أوبنهايم على وجه الخصوص مثيرًا لحقد ديرفيو، لا لأنه سبقهم في الإسكندرية، بل وساعدهم على أن يوطِّدوا أقدامهم في المالية المصرية فحسب؛ وإنما لأنه كان من المنطقي أن يظل هو في رعاية الخديوي لا آل أوبنهايم، فديرفيو لم يكن يعدِل عن عقوده ويحبس أموال الخديوي كما يفعلون، وديرفيو لم يكن يُسيء إلى رصيد مصر، بل ظل إلى قرب النهاية لا يهدد إسماعيل بالإجراءات الدبلوماسية أو يُهاجمه بالدعاوى القانونية. وعلى العكس ظل ديرفيو لسنوات عديدة يُظهر تواضعًا وخضوعًا يُذيب قلب فرعون. ولكن إسماعيل لا يستطيع إنفاق خضوع ديرفيو، بينما يستطيع إنفاق نقود أوبنهايم. ففي اليوم الذي لم يعُد فيه ديرفيو قادرًا على تدبير عمليات مالية هامَّة للحكومة، لم يعُد له في مصر مكان.
ولم يكد يحل عام ١٨٦٨م حتى كان ديرفيو مستبعَدًا. وليس أدلَّ على استبعاده من ميدان المالية الدولية مِن مثل هذه الفقرة من خطابه إلى أندريه في ١٣ يونيو بخصوص قرض ذلك العام: «هل أنت مشترك في اتحاد أوبنهايم؟ في هذه الحالة، هل يكون كثيرًا أن أسألك ما هي شروط الاشتراك؟ لقد وعدني أوبنهايم بنصيبٍ وأخلف وعدَه. ولهذا أسألك هذه المعلومات.» لقد فقد ديرفيو مكانه على المائدة ولم يكن أمامه إلا أن ينتظر على الباب مؤمِّلًا في الفُتات. ولقد ألقى إليه أوبنهايم بقايا قيمتها ٧٥۰۰۰ جنيه.
في هذه اللحظة استشاط غضب إسماعيل؛ إذ شعر أن ديرفيو خدعه واستغلَّه. ويبدو أن عنف غضب إسماعيل لم يكن مُتناسبًا مع الجريمة، فقد كان عديد من الأوروبيين في مصر جمعوا ثرواتهم من خداع الحكومة واستغلالها. ولهذا فالمرء مضطرٌّ أن يستنتج أن ديرفيو (الذي كان خبيرًا في ملاطفة إسماعيل أكثر الضغط عليه) لم يكن لَبِقًا في اللجوء إلى الضغط الدبلوماسي في آخر لحظة، أو أن الخديوي قد اتخذ من ديرفيو كبش الفداء لكل سخطه على المستعمَرة الأوروبية، أو أن هناك ما لا نعرفه في هذا الموضوع. ومن المحتمل أن إسماعيل كان مُستاءً من تغيُّر تكتيك ديرفيو أكثر مما هو مُستاءٌ من التكتيك ذاته.
وعلى أية حال، فقد هدأ غضب إسماعيل في النهاية، وفي سنوات تالية استطاع ديرفيو أن يجدد علاقاته به، وأن يقدم له مرة أخرى خدماته المالية. وفي ١٨٧١م حاول عبثًا أن يقترح إصدار ١٠ ملايين جنيه من سندات البلدية بضمان الأشغال العامَّة القائمة والمقترحة في الإسكندرية والسويس. وفي ١٨٧٥م كان ديرفيو هو الذي خيَّره إسماعيل طوال أسبوعين في شراء أسهم شركة القناة التي انتهت في نهاية الأمر إلى دزرائيلي. وعلى الرغم من مفاوضات مُضنِية، لم يستطع ديرفيو أن يغري البنوك المساهمة والخاصة على أن تتجمع وتُقدم لإسماعيل شروطًا مناسبة. وعلى نطاق أضيق، قدم بنك أندريه ديرفيو وشركاه (وهو البنك الذي خلف البنك الأصلي، في الإسكندرية) سُلَفًا عديدة قصيرة الأجل لإسماعيل خلال هذه السنوات، فقد كان الخديوي في حاجة دائمة إلى مبالغ صغيرة بين القروض الكبيرة، ولقد عقد آخر هذه القروض في ١٨٧٦م عشيَّة إفلاس مصر؛ وهو عبارة عن ٧٠٠٠٠٠ جنيه لخمسة شهور بفائدة ٢٤٪ في العام، بالإضافة إلى ٦٪ عمولة.
وغني عن البيان أن ديرفيو وإسماعيل لم يعودا أبدًا إلى صداقة الماضي وودِّه. والكتابان اللذان كتبهما ديرفيو في ۱۸٧٠م، ۱۸۷۱م كان كلٌّ منهما هجومًا على المالية المصرية والسياسة المالية. وتاريخ قروض الدائرة السنية على وجه الخصوص يوضح كيف استخدم الخديوي زمنًا طويلًا أرصدةَ الخزانة لدعم ثروته الشخصية. وهكذا ظلت العلاقات بين الرجُلَين بعد ذلك نادرة وعلى أُسس عملية تمامًا.
وفي ١٨٦٩م، بدأ ديرفيو بناء بيت فخم بباريس في مواجهة قبة بارك مونسو. وعلى الرغم من خسارات ديرفيو في الشركة الزراعية وشركة شقيقه (دفع لشقيقه ٤٠٠٠٠٢ فرنك لإنقاذه من الإفلاس) استطاع ديرفيو أن يوفر حوالي ٥ ملايين فرنك من نشاطه في مصر. وفي ۱۸۷۲م، افتتح بنكًا في باريس، استطاع بعد ذلك أن يساعد في تأسيس مشروعات صناعية عديدة، من بينها شركات تعدين في اليونان وجنوب ويلز والشركة العامة للكبريت الكيميائي بباريس. وفي بعض هذه المشروعات كان ديرفيو مُرتبطًا برجال عرفهم في مصر من قبل، مثل سابتييه وأوتري، اللذَين كانا يومًا ما قُنصلين في الإسكندرية ثم اشتهرا بعد ذلك كرأسماليين وأصحاب مشاريع. وفي شركة الكبريت كان شركاء ديرفيو هم ماليت وهوتينجر وفيرن … وكلهم من ألمع الأسماء في المالية العالمية.
وفي ١٨٧٨م كان ديرفيو واحدًا من أصحاب مشروع بنك الاتحاد العام، والبنك الإنجليزي-العالمي في ۱۸۸۰م، والبنك التجاري الصناعي في ١٨٨١م، الذي أصبح بعد ذلك واحدًا من أهم بنوك فرنسا، واتخذ اسم بنك الائتمان الصناعي والتجاري. وكان هذا قمة نشاطه في باريس. ولقد انهار بنك الاتحاد العام في ۱۸۸۲م، وعلى الرغم من أن ديرفيو كان قد استقال من مجلس الإدارة في ١٨٧٩م لخلافات في السياسة، إلا أنه كان قد أخطأ وترك أمواله في البنك. وفي نفس الوقت فقد ديرفيو ٤٠٠٠٠٠ فرنك في شركة أخرى، ۹٠٠٠٠٠ فرنك اختلسها صديق كان محلَّ ثقته. وفي السنوات التالية كانت هناك خسارات أخرى، وفي عام ١٨٨٧م كان على ديرفيو أن يوقف أعماله. وخلال عام واحد دفع ديرفيو ديونه بالكامل مستهلكًا ثروته خلال السداد.
ولم يعُد بعد ذلك إلى النشاط المالي أبدًا. وفي ١٩٠٥م مات ديرفيو في ظروف متواضعة … رجل لطيف أبيض اللحية فوق الثمانين. وكان دائمًا ورِعًا تقيًّا، أدت تبرعاته السخية للكنيسة الكاثوليكية إلى أن يمنحه البابا في ١٨٨٠م لقب كونت روماني. وما زالت عائلته تذكره حتى اليوم لإخلاصه ومحبته التي دفعته إلى التضحية بمبالغ كبيرة من أجل رخاء أقاربه الأقل منه. ومن زوايا عديدة يُعتبر ديرفيو أقدر وأذكى التجَّار والمموِّلين خلال مائتي عام من عهد التجَّار والمموِّلين. ولقد أوشات مرتين في حياته المهنية أن يكسب له مكانًا في الدائرة الخاصة للمالية الدولية. ولكن الخطأ في هذه الحالة يكلف ميلًا أو أكثر. لقد وصل ديرفيو إلى أبعد الحدود، ولكنه خسر كل شيء.
•••
ومثل ديرفيو لم يحقق ألفريد أندريه هدفه في المالية المصرية أبدًا. فالبنك القومي لم يتحقق، ولم ينجح هو في باريس في أن يلعب نفس الدور الذي لعبه فروهلنج في لندن. فأولًا: كان أندريه من الحرص بحيث رفض أن يُعرِّض نفسه لأخطار عمليات طرح القروض إلا في الحالات المواتية تمامًا. فقد كان أندريه يُشبه البحَّار الذي لا يُبحر إلا إذا كان الجو مثاليًّا ويلجأ إلى الشاطئ عند هبوط البارومتر. أضف إلى ذلك أن أندريه لم يكن يستطيع أن يُقدم موضوعًا هامًّا في باريس بدون مساعدة بعض زملائه. فالطلب محدود جدًّا، ولا يأمل أصحاب المشروعات في خلق سوق واسعة إلا بضم عُملاء عدد من البيوت الخاصة. ولكن أصدقاء أندريه في «المالية العالية» كانوا أكثر حذرًا منه فيما يتعلق بالضمانات المصرية. ولقد طلب في مناسبات عديدة مساعدة ماليت وهوتينجر وبيليت وبل والآخرين، ودائمًا كانوا مُهذَّبين وودودين في ردودهم وإن لم يفعلوا الكثير.
ومع ذلك، فحتى بعد مغادرة ديرفيو لمصر استمر بنك ماركوارد يُقرض الحكومة المصرية على نطاق ضيق. وفي ١٨٦٨م تعاقد البنك من الباطن على نصيب من قرض أوبنهايم في ذلك العام، وفي ١٨٧٢م ساهم بنك ماركوارد في اتحاد مع أوبنهايم والبنك العثماني الإمبراطوري وآخرين لإقراض إسماعيل ستة ملايين جنيه لفترة متوسطة. غير أن أهم عمليات البنك في مصر هي تلك التي لم تتحقق أبدًا. فقد حاول أندريه أن يغري إسماعيل على أن يبيع أسهُمه في القناة. وكان الخديوي راغبًا في ذلك، ووضعت الخطط بحيث يمكن بيع الأسهُم بدون خفض السعر. غير أن إسماعيل اضطرَّ إلى استبعاد المشروع في مواجهة إشارة من بريطانيا بمعارضة العملية. وفي الدبلوماسية تكون الإشارة في كثير من الأحيان بمثابة الأمر.
أما ألفريد أندريه نفسه، فقد بدا في أُخريات حياته يجمع بين السياسة والعمل المصرفي. وفي ١٨٧٠م رُشح ليكون نائبًا عن الدائرة التاسعة بباريس، وفي العام التالي انتُخب في المجلس؛ حيث ظل حتى عام ١٨٧٦م، مصوتًا بشكل عام إلى جانب «الجمهوريين المحافظين» كما كانوا يسمونهم. وفي نفس الوقت كان أندريه واحدًا من المتفاوضين مع ليون ساي في تعويضات حرب ۱۸۷۱م، وفي ١٨٧٤م عين في المجلس الأعلى للتجارة والصناعة. وكل هذه الاهتمامات السياسية استغرقت جزءًا كبيرًا من وقته، ولكنه كسب في مقابل ذلك علاقات جديدة وأعمالًا جديدة كذلك. فمثلًا شهدت سنوات ما بعد ۱۸۷۰م نشاطًا كبيرًا لبنك أندريه في الإشراف على قروض الحكومة الفرنسية والحكومات الأجنبية. وفي سنوات ۱۸۷۱–۱۸۸۰م حقق البنك أرباحًا صافية قدرها ١٤٦٩٤٠٠٠ فرنك مقابل ١٠٦١٠٠٠٠ في العقد السابق.
عند ذلك الوقت كان ألفريد أندريه يُمنح كل الألقاب التي يتطلع إليها المصرفي الفرنسي عادة؛ كان وصيًّا على بنك فرنسا، ولا يوجد في ميدان الأعمال في فرنسا مركز له مثل هذه الأهمية والسمعة، وكان مديرًا في سكة حديد باريس-ليون البحر الأبيض، وفي شركة المسيجاري ماريتم، والشركة السويسرية للصناعة، وشركة التأمين الأهلية، والبنك العثماني الإمبراطوري … إلخ. وعندما اعتزل أخيرًا في ١٨٨٧م كان رجلًا عجوزًا عظيمًا وواحدًا من أقدم السياسيين في المالية الفرنسية.
وكان آنذاك في سن الستين، وأمامه عدد من السنوات الفعَّالة المربِحة في مجال الأعمال. ولكنه كان يشعر أن الله قد منحه فُسحةً من الوقت لا يستطيع أن يُضِيعها في كسب المال. وهكذا كرَّس سنواته الأخيرة لأعمال الخير، والأعمال الإنسانية التي كانت دائمًا جزءًا هامًّا من حياته. ولم ينجب أندريه أبناءً يخلفونه من بعده وعلى الرغم من أن شقيقه الوحيد جورج يصغره بتسعة عشر عامًا إلا أنه سبقه إلى الموت. وعندما مات أندريه في ١٨٩٦م كان آخر رعيله، وهو رعيل من المصرفيين عاش أكثر من مائتي عام.
•••
وأخيرًا ضاعت مبالغ غير معقولة كتعويضات، وإجابة لدعاوى قائمة على النصب أو شبه النصب، وأسعار باهظة تقاضاها المتعهِّدون والمقاولون، وكل ألوان الرشوة التي تستهدف الحصول على التشريف الرخيص، أو الراحة من إرهاق المطالب. ولقد كانت شركة القناة خصوصًا متوالية المطالب دائمًا. ففي ١٨٦٨-١٨٦٩م، عندما كانت الشركة في ظروف مالية صعبة، حاولت أن تفرض على الخديوي أن يدفع نظير حقِّه في أخذ رسومٍ جمركية عن البضائع الداخلة إلى منطقة القناة. وكانت حُجة الشركة أن حقها الأصلي الوارد في الامتياز بأن تستورد «آلاتها ومؤنها» دون رسوم جمركية، يعني أن كل ما يستورده أي شخص في المنطقة يُعفى من الرسوم الجمركية كذلك! حتى القنصل الفرنسي لم يوافق على هذا التفسير، وتخلَّت الشركة عن هذا المطلب في النهاية. وتم الاتفاق مع دي ليسبس على أن يقتصر هذا الحق على موظفي الشركة فحسب، وهو امتياز لا مُبرِّر له، ويوضح إلى أي مدًى كانت مصر حريصة على تهدئة دي ليسبس وتهدئة الإمبراطور من ورائه. ودفع القنصل الفرنسي وظيفته ثمنًا لضميره الحي.
إن هذه الهزيمة الجزئية لدي ليسبس (وهي الهزيمة الوحيدة التي واجهها في معاملاته مع الحكومة المصرية) دفعته إلى البحث عن حجج أخرى للهجوم على الخزانة المصرية. ووجد حُجَّته فورًا (فخزانة الشركة لم تكن تحتمل التأخير) في كل النفايات التي لم تعُد مفيدة للشركة، أو أنها لم تكن ملكًا لها على الإطلاق. وهكذا، فوفق اتفاق ١٨٦٩م باعت الشركة للحكومة المصرية المعسكرات والمستشفيات والمباني التي أقيمت خلال فترة شق القناة ولم تعُد مطلوبة الآن، ومحجَر سمحت الحكومة للشركة أن تستغله لأغراض البناء، والحق الذي ذكرناه آنفًا في استيراد بضائع مُعفاة لحساب موظفي الشركة (وهو حق وَصَفه دي ليسبس بأنه عبء؛ إذ على الشركة أن تحتفظ بقُوة عمل كأمر واقع حتى تستفيد من هذا الحق!) وحق الشركة في الصيد وحدها في القناة والبحيرات المحيطة (وهو حق اعترف دي ليسبس بأنه لم يُمنح للشركة أبدًا) وسائر «الحقوق» الوهمية. وأخيرًا، وهذا هو الأهم لمصر، تنازلت الشركة عن أي مطالب أخرى. وإذ كانت القناة على وشك الانتهاء، شعر دي ليسبس أنه قد حان الوقت لأن يُوقف غزوات نهبه!
ودفعت الحكومة المصرية في هذا الاتفاق ٣٠ مليون فرنك. ولما كانت بلا نقود، تخلت عن حقها في فوائد وأرباح أسهُمها في الشركة لمدة خمسة وعشرين عامًا. وبدوره أصدر دي ليسبس ۱۲۰۰۰ سند بسعر ٢٦٠ فرنكًا للواحد تغطي الكوبونات المعزولة. وكان إجمالي ما حققته الشركة من هذه الصفقة حوالي ٦٠ مليون فرنك، بينما يأمل مشترو هذه السندات في فوائد قدرها ١١٠ ملايين فرنك خلال فترة الخمسة والعشرين عامًا. وكأن كل هذا لم يكن كافيًا، فوافقت الحكومة المصرية على أن تشاركها الشركة في مكاسب بيع الأراضي التي حول القناة بعد تحسينها، هذا على الرغم من أن قرار تحكيم الإمبراطور كان صريحًا في منع الشركة من أي مكاسب من هذا المصدر. والحق أن دي ليسبس كان مستعدًّا لأن يُبرِّر موقفه، على أساس أنه إذا كان قرار التحكيم قد حرم الشركة من تحقيق أي كسب من هذه الأراضي، فإن قرار التحكيم لا يمنع الشركة من هذا «الحق» لطرف ثالث! وإذ كان إسماعيل يعرف الكثير عن «عدل» المحاكم القُنصلية، فقد شعر إسماعيل أن نصف الرغيف أفضل من لا شيء!
وعلى أية حال، لم تكن شركة القناة إلا واحدة من مُطالبين عديدين. وفي كل عام أنفق الخديوي أكثر مما أخذ بكثير. والحق أن إسماعيل لم يكن ينقصه المقرضون، بل على العكس لقد زاد عددهم؛ إذ إن أرباح عمليات المالية المصرية تزيد كلما ساءت أحوال الخزانة. ولم يكن إسماعيل مستعدًّا لدفع نقود أكثر فحسب، وإنما فتح تضخُّم الديون الباب لأشد المضاربات جزاءً. وكان عائد هذه العمليات كبيرًا، إلى درجة أنه في أواخر عهد إسماعيل كان تبادل القروض الخاصة القصيرة والسندات العامة لنقل عبء هذه الديون إلى المستثمرين في أوروبا قد أصبح نظامًا محددًا. وأصبح مبدأ ديرفيو — القائل بأن طريق كسب النقود في المالية الخديوية هو إشباع جوع إسماعيل إلى المال، ودفعه إلى الحد الذي يصبح القرض العام هو الشيء الوحيد المنقِذ له — قانونًا لمن جاءوا بعده.
وفي النهاية انهار جبل الورق. وفي ١٨٧٣-١٨٧٤م كان قرض الاثنين وثلاثين مليونًا من الجنيهات نجاحًا كبيرًا للمتعاقدين — بفضل كرم إسماعيل في سحب الكستناء لهم من النار — وإن كان كارثة للخزانة المصرية. وكانت العمليات التالية أبهظ ثمنًا، وفي نهاية ١٨٧٥م واجهت مصر مسألة توقف الدفع. وحاول إسماعيل أن يوقف الكارثة بالموافقة على بيع كل أسهُمه في شركة القناة. ولم يحصل بعد ذلك إلا على أربعة جنيهات، وهو مبلغ صغير إذا ما قيس بما حدث لمالية بلاده. ولكنه كان محظوظًا بأن يحصل على هذا المبلغ.
وفي الأشهر الأولى من ١٨٧٦م كان إسماعيل يقترض بفائدة ٣٠٪، وبدأت بعض اللجان الأوروبية تبحث حالة المالية المصرية. وبسبب تقاريرها أنشئ صندوق الدَّين في مايو. وأدت تحقيقات أخرى في نوفمبر من نفس العام إلى إقامة الرقابة الثنائية؛ حيث أشرف مندوب إنجليزي على الإيرادات، وأشرف مندوب فرنسي على المصروفات. وفي نفس الوقت أعلن تدويل السكة الحديدية وميناء الإسكندرية. وفي ١٨٧٨م وُضعت الدائرة السنية في أيدٍ أوروبية.
وكان هذا الإجراء هو القشة الأخيرة. وحاول إسماعيل أن يخلص نفسه من هؤلاء الحكام الأجانب، فوافق على إنشاء وزارة دستورية تضمنت عضوين أوروبيين لهما حق الفيتو. وفي خلال سبعة أشهر اكتشف إسماعيل أن هذا الحل ليس أقل سوءًا من الآخر. وفي نفس الوقت ازداد سخط المتعلمين والمتحدثين من المصريين على هذه الاعتداءات على السيادة المصرية. ووقعت اضطرابات في القاهرة، وأصبح واضحًا أن الخديوي يواجه خطر العزل، لا من جانب الأوروبيين فحسب، وإنما من جانب رعاياه الوطنيين أيضًا.
وفي أبريل ١٨٧٩م حل إسماعيل مجلس وزرائه وشكل مجلسًا من المصريين فحسب. وكان هذا آخر جهد له في تحدي القوى الأجنبية. وقررت إنجلترا وفرنسا أن تتخلصا منه نهائيًّا، وعندما تجاهل التلميح له بالتخلِّي عن العرش، طلبت الدولتان من السلطان عزله!
ولقد كانت القسطنطينية سعيدة بتنفيذ هذا الطلب؛ إذ بتنفيذه تؤكد سلطنها على مصر، وفي ٢٦ يونيو وصلت إسماعيل البرقية الشهيرة الموجهة إلى «الخديوي السابق»، التي دعته إلى أن يترك العرش لابنه توفيق. لم يقاوم إسماعيل، ومثلما فعل فاروق أبحر إسماعيل إلى إيطاليا. واستطاع في النهاية أن يحصل على إذن له بالاستقرار في قصره على البوسفور … حيث مات في ١٨٩٥م.
لقد عاش إسماعيل حتى رأى بلاده مَحميَّة بريطانية، ورأى ماليتها تُدار في كفاءة لمصلحة حمَلة الأسهم الأجانب، ورأى شركة القناة تزدهر فوق كل خيال، والأسهم التي حاول في يوم من الأيام بيعها بسعر ٤٧٠ فرنكًا تُباع بسعر ٣٢٧٥ فرنكًا. أما الشيء الوحيد الذي لم يتغير فهو مصر وشعبها. فما زالت هناك الأرض والنهر والفلاح الكادح يعيش في قذارة وفقر لا مثيل لهما حتى في الهند أو الصين. وصحيح أن عبء الضرائب الثقيل الذي عُرف في أواخر أيام إسماعيل قد زال، وأصبح من النادر سماع صوت الكرباج، ومع ذلك فإذا كانت الآلام قد هدأت مؤقتًا فقد ظل البؤس والمرض كما هما، لا تخفف منهما المُتَعُ الحيوانية، وظل هذا نصيب الفلاح منذ بدء التاريخ.