الخاتمة
إن أسباب فشل ديرفيو النسبي في مصر عديدة مُعقَّدة (من الصعب أن نستخدم كلمة الفشل بالمعنى المطلق للكلمة في وصف رجل اعتزل في فرنسا ومعه ثروة قدرها ٥ ملايين فرنك). فسقوط بنك ديرفيو كان متضمَّنًا في طابع ازدهاره السريع. ومن ناحيةٍ أَسس هذا البنك ازدهاره على رواج القطن، وكان من المحتَّم أن يتأثر بانهيار الأسعار. ومن ناحيةٍ أخرى كان تفوُّق ديرفيو الشخصي في الإسكندرية ناجمًا عن علاقاته بالخديوي، وهي علاقات فرضت عبئًا ضخمًا على موارده. ولقد كانت الشركة تتحمل هذا العبء بصعوبة في أوقات الرخاء، فلما جاءت الأزمة انهارت من شدة الإجهاد. ومما عقَّد الموقف، اعتمادُ الشركة على تعاون ومساعدة المالية الأوروبية، التي توقَّفت قدرتها واستعدادها على المساعدة غالبًا على عوامل خارجة عن الموقف التجاري في مصر. وعلى وجه الخصوص زاد من قسوة اعتماد ديرفيو على أوروبا أن علاقاته الرئيسية كانت بباريس لا بلندن، وأن مُراسِليه في باريس كانوا من أشد المحافظين في سوقٍ محافظة.
تلك كانت، من جانب، الأسبابَ الموضوعية لفشل بنك ديرفيو وشركاه. ومن جانب آخر كان هذا الفشل من صُنع رجل بقدر ما كان بسبب تحالف مجموعة من الظروف غير المواتية. وبهذا المعنى كان ديرفيو أسوأ أعداء نفسه.
ومن الخطأ أن نُصوِّر هذا العامل الشخصي بأنه أقل في أهميته — أو أكثر — من الاعتبارات الموضوعية التي لحظناها فيما سلف. فالمؤرخ الذي يقترح مقارنة ووزن متغيراتٍ ذات طبيعة مختلِفة، أي الذي يحاول جمع وطرح التفاح والكمثرى، هو في غالب الأمر أكثر جرأةً وأقل حكمة. ولنقُل ببساطة إن سوء إدارة ديرفيو لشركته ومركزه كان عنصرًا أساسيًّا في فشله النهائي. ونحن لا نعني بسوء الإدارة الأخطاءَ التكتيكية التي ارتكبها من حين لآخر (فكل رجل أعمال يرتكب أخطاء)، وإنما نعني الأخطاء الاستراتيجية طويلة المدى، والطموح الخاطئ الذي دفعه إلى اختيار الطريق الخاطئ والأوهام التي قيدته إلى نهاية حياته المالية في مصر تقريبًا.
ولا يحتاج الطموح إلى تفسير، فكثير من الناس تطلَّع مثل ديرفيو إلى السماء. وككل رجال الأعمال تقريبًا في مصر كان ديرفيو انتهازيًّا، تُلقي أرباح المضاربة الضخمة والعمليات المالية الخطرة عنده ظِلًّا على التجميع الدءوب للمكاسب التجارية الصغيرة. وعلاوة على ذلك كانت الغاية عند ديرفيو أهم من الوسيلة في مجال العمل المالي. وبخلاف صديقه أندريه لم يكن ينظر إلى العمل المصرفي كأسلوب في الحياة بكل قواعدها وتبريراتها، وإنما رأى فيه سُلَّمًا إلى أشياء أكبر وأفضل، واعتقد أنه حُر في أن يُعدِّل ويُلغي القواعد كلما مضى الوقت. وفي النهاية اكتشف خطورة الصعود على سلم مُتَهاوٍ!
ولكن ماذا عن الأوهام؟ كيف يفسر الإنسان إصرار ديرفيو على الثقة بإسماعيل في مواجهة تحذيرات أندريه وحقائق التجربة المحزنة؟ أنقول نوعًا من سذاجة المشاعر؟ لا شك في ذلك، إلا أن ذلك وحده ليس كافيًا. بل على العكس فلأوهام ديرفيو — أو غروره — نتائج أبعد كثيرًا، وتلك أمور تستحق البحث بشيء من التفصيل.
فإذ كان ديرفيو رجلا أمينًا في أعماقه، فقد وفَّق في داخل نفسه بين دوافع الربح الأنانية عنده وبين رغبته المخلصة في مساعدة إسماعيل على أن يجعل مصر مُزدَهرة. وكان الاعتبار الأول أساسيًّا من ناحية الواقع، وكان الاعتبار الثاني أساسيًّا من ناحية المبدأ. وصحيح أن ديرفيو لم يذهب إلى حدِّ الاعتقاد أن قروضه لإسماعيل سنة ١٨٦٣م — التي استهدفت ضمان خضوع الخديوي ودفعه إلى فكرة القرض العام — كانت عملًا من أعمال الخير المنزَّه عن الغرض، ولا أن خدماته الشخصية لإسماعيل (كسكرتير خاص وكاتم سره … إلخ) قدمت بروح الكرم الذي لا أنانية فيه. ولكن ديرفيو كان معجبًا بما يصنعه هو لإسماعيل أكثر من إعجابه بما كان يصنعه إسماعيل له. وفي صفحة الحساب الذي قدره ديرفيو بشكل غير واعٍ لعلاقته بالخديوي كانت خدماته تفوق جزاءه. ومن هنا يتبين سبب إشارته المستمرة إلى الدين المستحَق له، وإشارته عندما تقدم الزمن وفترت عواطف الرجلين إلى الجحود الذي رآه.
ولا شك أن ديرفيو كان مخلصًا في موقفه هذا. فقد كان يعتقد بحق أنه بتقديم المال إلى الخديوي بفوائد عالية، كان يعطي أكثر مما يأخذ، وأن عمولة ١٠٪ والأسعار الباهظة المأخوذة عن البضائع المقدَّمة إلى القصر والحكومة ليست أمرًا مبالغًا فيه، وأن المصائب التي أدى إليها وضع أرصدته — عن وعي وإرادة — تحت تصرف إسماعيل هي خطأ إسماعيل. ولقد خاب أمله وتألم عندما أحس استعداد عميله الخديوي أن يتخلى عنه في وقت الحاجة، وبلغ استياؤه إلى حد استخدام وسائل الضغط السياسي وغيره من الوسائل التي كان قد أدانها من قبل. ولكن أشد ما يلفت النظر أنه حتى بعد خصامه المرير مع سيده، ظل يأمل ويتوقع أن يشمله إسماعيل برعايته ويساعده.
والخلاصة أن ديرفيو كان متفائلًا بالمعنى الدقيق للكلمة، فقد كان يعتقد في نُبل ذاته، وفي نبل الآخرين أيضًا. وشعر أنه كان طيبًا مع إسماعيل، وتوقع أن يكون إسماعيل طيبًا معه. غير أن هذا يؤدي بنا إلى السؤال الحقيقي: كيف أمكن لديرفيو أن يوفِّق بين حقائق سلوكه إزاء إسماعيل وبين مفهومه عن هذا السلوك؟
وربما لا يستحق هذا السؤال إجابةً لو كان الأمر متعلقًا بديرفيو وحده، لو كان هذا التوفيق بين المسلك والضمير هو ثمرة الترشيد الفردي باستخدام حججٍ لها طابع شخصي. إن على كل واحد منا أن يتعايش مع نفسه، ومعظم الناس ينجحون في ذلك. ولكن ديرفيو لم يكن وحده؛ فقد كان أكثر دقة وشرفًا من زملائه بالإسكندرية، ومعظمهم رضي عن نفسه بتبريرات بهلوانية. ويكفي أن يقرأ المرء أرشيف القنصليات ليصطدم بالإخلاص الذي قُدمت به معظم المطالب ضد حكومة الخديوي، وبالاستياء الأخلاق الحقيقي من جانب أشد الأوغاد شهرة عندما وُوجِهوا بجهود مصر لحماية نفسها من النهب! وغني عن البيان أنه كان هناك عدد من رجال الأعمال تظاهروا بالغضب؛ لأن مصر قد خانت الأمانة، وحاولوا أن يلونوا مطالبهم بالقيم الخلقية، فمن الصعب مثلًا أن ننسب إلى «بريفي» صفة الأمانة، وهي أرخص الفضائل. ولكن المؤرخ، مع ذلك، مضطرٌّ إلى إدراك أن معظم مجتمع رجال الأعمال في مصر كانوا أُمناء من وجهة نظر أنفسهم. وهذا الاتحاد، بين الاستغلال الواقعي الغير المبدئي بشكل واضح وبين الضمائر الواضحة المستريحة، هو الجانب البارز في العلاقة بين المستعمَرة الأجنبية وممثليها الدبلوماسيين من ناحية، وبين السكان الوطنيين والحكومة من ناحية أخرى.
وليست مهمة هذا البحث الحكم على مزايا هذا الرأي. فالمهم عند المؤرخ، الذي يختلف عن رجل علم الأخلاق، هو أن يصف الظاهرة ويدرس نتائجها.
وبعض جوانب هذه المسألة قد نوقش فعلًا من خلال السياق؛ فالعدل الذي كان يُمارس في المحاكم القنصلية بالإسكندرية، أو في المفاوضات مع الحكومة المصرية، لم يكن إلا كاريكاتيرًا للمثل الغربية. وفي العادة رُوعيت المحافظة على الشكل؛ إذ كان على الأوروبي أن يُثبت دعواه، ولكن المقاييس المزدوجة كانت تنعكس في الوزن المختلف الذي يُعطَى لشهادة الأوروبي أو مصالحه بالنسبة لشهادة المصري أو مصالحه؛ فكلمة الرجل الأوروبي أثمن من كلمة المصري، وأملاكه أغلى من أملاك المصري، ومحاميه أقيم من محامي المصري. وفي معظم الأحيان كان ادعاء الغربي هو البرهان، ومثول المصري دليلًا على المسئولية. وبدا وكأن كل الضمانات القانونية والاحتياطات وعرائض الدعاوى والحواجز المعقَّدة للقانون الحديث؛ قد زالت تمامًا، وظل الهيكل فحسب ليغطي فضيحة العدل المحدد سلفًا.
إلا أن القانون كان جانبًا واحدًا فحسب من العلاقة بين الغربي والمصري في مصر. فالمقياس المزدوَج، بكل ما يجرُّه من مشاعر التفوق، يشكل كل فعل ورد فعل في المستعمَرة الأوروبية، ويمكن ملاحظته في شكل التخاطُب وفي المجاملات التي تُمنع أو تُحجَب، وفي شعور الفخر والتكبُّر الذي يُظهره الغربي، وفي شعور الذِّلَّة والطاعة الذي يتوقعه. والأرشيف الدبلوماسي والكتيبات الخاصة بتلك الفترة مليئة بالقصص والبيانات التي تعكس هذه العلاقة، ومن الممكن تأليف كتاب خاص عنها.
•••
ومن وجهة نظرنا، تُعتبر النتائج المترتبة على هذا المقياس المزدوَج ذات أهمية خاصة؛ أولًا: لمغزاها بالنسبة لوضع المستعمَرة الأوروبية عمومًا، وثانيًا: لدورها في نجاح وفشل إدوارد ديرفيو.
والأهم من كل شيء آخر، الأهم حتى من الثمن المادي الضخم للإمبريالية، أن فرض الوضع الاجتماعي والروحي هو الذي شكل رد فعل المصري إزاء الأوروبي. والحق أن أحدهما يتضمن الآخر، فالاستغلال المادي صعب، بل هو مستحيل بدون عقوبة القِيَم المزدوَجة والقانون المزدوَج للسلوك الذي يناظرها. وإن لم يكن هذا القانون موجودًا كان على المستغل أن يخلُقه. ومع ذلك فعند دراسة التأثير المتعدِّد الجوانب للإمبريالية يتبين أن الإساءة إلى احترام الذات هي التي تؤلم أكثر من غيرها؛ فالسخط الذي يثيره الإذلال الروحي هو الذي يؤدي إلى استجابة غير رشيدة للاستغلال المعقول. والمقاومة غير المعقولة، وبالتأكيد غير المربحة، التي تُبديها كثير من دول العالَم المتخلفة اليوم للمؤسسات التجارية الغربية؛ لا تُفهم إلا في هذا الإطار.
وصحيح أن الاستياء الطبيعي في مصر من التمييز في المعاملة ومن الوضع الأدنى قد عوضه، إلى حد كبير، إعجاب المصري الحقيقي واحترامه لمنجَزات الحضارة الغربية. ومنذ البداية حاول كثير ممن كانوا على صلة بالأجانب، بما في ذلك الخديوي نفسه، أن يُقلدوا الغربي، وأن يحصلوا بهذا التقليد على موافقة جماعة كان تفوُّقها الحضاري والاجتماعي محل اعتراف ضمني. ولقد كان ثمة عنصر مُرضٍ في جهود سعيد وإسماعيل لتقديم نفسيهما إلى العالم كأرستقراطيين بالمعنى الغربي. ولقد ذهب سعيد، على وجه الخصوص، إلى آخر حدود التطرف ليُثبت نُبل تربيته بالتبذير. أما إسماعيل فعلى الرغم من قراراته المتعددة ضد هذا الاتجاه، إلا أنه لم يتخلَّف كثيرًا عن سلفه. ولقد تشبه سعيد بدوق ماكسيماليان، وتشبه إسماعيل بإمبراطور فرنسا نابليون. والاثنان استقبلا في مصر زوارًا مرموقين وغير مرموقين من أوروبا في بَذَخ لا يُماثله إلا سخاؤهما في رحلاتهما إلى أوروبا. وكلٌّ منهما دفع جزاء خوفه من الخجل أمام العالم الخارجي. ولم يكُن هذا الموقف مجرد ضعف واستغلال للنفوذ كأداة في السياسة، فلا شيء يوضح قوة التطلُّع إلى موافقة الغرب قدر احتفال إسماعيل بافتتاح القناة، هذا الاحتفال الضخم لعمل فاقت تكاليفه في الهم والأسى تكاليفه في النقد والمال.
غير أن هناك حدًّا لفاعليه عنصر السمعة؛ ففي كل علاقة بين الأدنى والأعلى يتعلم الأدنى في النهاية أن يتمرَّد على وضعه. وفي مصر، حيث كان للسكان الوطنيين حضارة متقدمة عظيمة، ومقياس مزدوج لأعضاء المجتمع المسلمين وغير المسلمين، كان من المحتَّم أن يظهر رد فعل معادٍ. وفي هذا المجال لدينا خطاب مثير للكولونيل ميرشر (معلم الأمير توفيق بن إسماعيل) يحذر رؤساءه في باريس من تأثير المعلمين الأتراك والعرب الضارِّ عليه. كتب ميرشر يقول إنهم ملئُوا رأس الصبي «بأسوأ الاتهامات ضد الأوروبيين، على الرغم من أنه، بفضل هؤلاء، لم تتجه هذه البلاد التعيسة إلى الفوضى والبربرية منذ موت محمد علي.» ونتيجة لهذا، بدا الصبي توفيق يجري هنا وهناك يتحدث عما سيفعله عندما يصبح حاكمًا لمصر، ويعلن لكل مَن يودُّ أن يسمع أن المساهمات التكنيكية من الحضارة الغربية في مصر ليست إلا أضحوكة، وأن كل شيء في العالم الغربي أتى من العرب في المحل الأول. ويقول ميرشر في فزع: «إنه مقتنع أن الكُتَّاب العرب وضعوا منذ زمن طويل الآلة البُخارية والسكة الحديدية … إلخ.»
وفي سنة ١٨٦٠م كانت مصر في مرحلة المضايقة؛ فالبوليس المحلي الذي كان يضايقه فقدان السلطة على الأوروبيين، كان ينتقم بتطبيق تعليمات «وقوف العربات» على عربات الأجانب، ويترك سائقي عربات المصريين يفعلون ما يشاءون، وموظفو الجمارك يمكنهم مضايقة رجال الأعمال الأجانب بالأخطاء والإحراج، وكتَبة الخزانة يمكنهم إغضاب ديرفيو ببطء حساباتهم ومراجعاتهم، وإسماعيل يمكنه أن ينتقم من مُقرِضيه ومتعهديه ومقاوليه والمعذِّبين الآخرين بالتأخيرات المعذِّبة، والوعود المضلِّلة وطرق مماثلة.
وصحيح أن هذه التكتيكات كانت تكلف إسماعيل أموالًا، وكان المراقبون الغربيون مندهشين باستمرار من إصرار الخديوي على هذه الوسائل غير المجزية، إلا أنها كانت تقدم له نوعًا من الراحة النفسية.
هذا هو ما فشل ديرفيو في إدراكه إلا في آخر الأمر بعد فوات الأوان؛ فمع كل الصعوبات النقدية التي أجبرت إسماعيل على التراجع في التزاماته وارتباطاته كان هناك عنصر من الخبث المدبَّر سلفًا. والواقع أن إسماعيل، كما أحس أندريه بسرعة، كان ينوي استخدام مموليه كما كانوا ينوون استخدامه، وبينما يصعب أن نقول كم هذه النوايا سبق خبراته في حكم مصر (حتى قبل توليه العرش كانت لإسماعيل أفكار عن استغلال الغرب لسلفه)، إلا أن هذه تدعَّمت ورسخت خلال حكمه بعد ١٨٦٣م. والحق أن إسماعيل الخديوي قضى جزءًا كبيرًا من حكمه يتعلَّم (على حساب أخطاء عديدة باهظة؛ كلجوئه إلى نابليون للتحكيم في مشكلة قناة السويس) كيف يحمي نفسه من جشع الأجنبي، والأكثر من هذا كيف يمكن استغلال هذا الجشع لأغراضه الخاصة. وإذا كان في عمليات الدفاع والهجوم يلجأ غالبًا إلى الطريق غير المباشرة والخفيَّة، فإن السبب في هذا مجرد إحساسه بأن المواجهة المباشرة ليست فعَّالة مع مثل هذه القوة الصريحة المتفوقة؛ إذ إن إسماعيل لم يكن يريد استغلال الأجنبي فحسب؛ بل كان يريد إيلامه.
وفي ربيع ١٨٦٨م كتب ديرفيو إلى أندريه يُعبِّر عن «حُزنه الشديد لأن يرى الخديوي يناور بهذا الخبث ويستمر في حنثه وكذبه»، ومن الصعب على ديرفيو أن يصدق ذلك: «لقد كنت شِبهَ واثق أن البرقية ستُفسر لك الحقائق التي كان عليَّ أن أكتبها.» وبعد توقف الشركة الزراعية بسنتين لم يكن ديرفيو متحررًا تمامًا من أفكاره القديمة.
ولقد كان ديرفيو ضحية خُلُقيَّاته؛ فمقياسه المزدوج لم يكن قائمًا على أساس الاحتقار وعدم الثقة، وإنما كان قائمًا على الأبوية الخيِّرة. ونتيجة لذلك لم يكن مسلحًا بالشك أو القسوة التي كان زملاؤه مسلحين بها. وعندما قدم نوعًا من اللباقة مثلها ولم يدرك أبدًا النتائج المزدوجة الجانب لمثل هذه العلاقة. فلا غبار في أن تنتزع من إسماعيل كل ما يمكن انتزاعه منه من نقود، ولكنه من الغباء أن تتوقع من إسماعيل رد الجميل.
•••
ثمة نهاية قاسية وساخرة لكل هذا؛ فقد صرف سعيد وإسماعيل ملايين الجنيهات للمحافظة على حسن العلاقة مع الغرب، ولكسب احترامه وإرضاء مطالبه ومنع غضبه. ولكن الغرب — وقد أثارته المبالغات المتعصِّبة في عالم اليوم — لا يذكر إلا مضايقات ومراوغات واحتقار الأمس. ومَن الذي دفع ثمن القناة؟ فرنسا. ومن الذي بناها؟ دي ليسبس «أعظم مقاول في العالم في النصف الثاني من القرن التاسع عشر».
عندئذٍ لن يكون هناك شيء باقٍ غير الذكريات المريرة.