سوق منتعش
في حدود هذه الدوائر من المموِّلين المتَّصفين بالحرص والفطنة المتجمعَين معًا خلال التجارة، الذين يشعرون بشعور واحد ويفكرون بطريقة واحدة، نشأ قانون غير مكتوب أساسه التدبُّر والاحترام المتبادل، وكان هذا أفعلَ في إيقاف المنافسة والمحافظة على الانسجام من الاتفاقات الجامدة بين الكارتلات الرسمية، ولكي نكون أكثر دقة يمكن القول إن التمويل الاستثماري الدولي كان يميل إلى عدم التنافس … نقول يميل؛ لأن السلم والتعاون لم يكونا غير توازن تتجه إليه المهنة، ولكنه مثل معظم التوازنات الاقتصادية لا يتحقق الوصول إليه أبدًا.
ويجب أن نُميز بالطبع بين أعمال التمويل التجاري الدقيق وبين التمويل الاستثماري، فلم يكن هناك سبب وظيفي واحد لا يجعل التمويل التجاري عملًا قائمًا على المنافسة. ولم يكن عند الممول الفرد ما يدعوه إلى أن يخشى انتقام زملائه من أي إجراء يتخذه. فإذا فضل أن يخفض عمولته مثلًا فإن على الآخرين أن يفعلوا مثله. ومع ذلك فإن لديه ما يجعله يخشى احتقارهم له وتأثير مثل هذا التصرف «المشين» على وضعه في المهنة، وعلى قيمة توقيعه وقبوله كعضو اتحاد مالي. وفي مثل هذه الظروف كان الجُدد والطموحون واليائسون فقط هم الذين يلجئون بانتظام إلى المنافسة في الأسعار. أما البيوت المستقرة فقد كانت تفضل أن تكسب عملاءها على أساس ارتفاع نوع الخدمة، وأهمية علاقات هذه البيوت وما تُنشِئه علاقات شخصية تقوم على الاحترام المتبادل. ومن الواضح أنهم لا يستطيعون دائمًا الاستمرار في هذه الخطة، فقد كانوا يضطرون في بعض الأحيان إلى قبول شروط بعض الشركات الأضعف. ومع ذلك ففرقٌ بين أن تبدأ شركة هذا النوع المنافسة، وبين أن تواجهه. وعندما تقتضي المصلحة أن تمنح هذه البيوت تخفيضًا في السعر لأحد عملائها لم تكن تعلن عن ذلك أبدًا أملًا في اجتذاب الآخرين، فآخر ما تريده هو أن يصبح الاستثناء قاعدة.
وفي عمليات التمويل الاستثماري كانت هناك اعتبارات وظيفية ملحة تقوى من هذه الحدود العادية المفروضة على المنافسة. فمن ناحية كانت مادة المهنة (الأسهم والسندات) أكثر حساسية وأشد خداعًا من كمبيالات التبادل التجاري؛ فالمستثمرون هوائيون، وأقل إشاعة تستطيع أن تلقي بالسوق في دوامة. ولما كانت مجرد خطوة في عقد قرض أو سندات صناعية كافية لأن تؤدي إلى فرق عشرات أو مئات الألوف من الدولارات، فقد كان الممولون يواجهون انكماشَ أرباحهم أو ضياعها، أو تجميد رأس المال في انتظار تحسُّن السوق. ومن ناحية أخرى في مثل هذه المواقف فإن انتقام المنافسين يمكن أن يكون خطيرًا. وعندما يتوقف كل شيء على الثقة الطائرة للجمهور وتوفُّر الأموال فإن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من تُضيِّق الائتمان لتحويل عملية ناجحة إلى فشل.
لذلك فإن كُلًّا من الدافع الإيجابي للربح والاحتياجات السلبية للحرص كان يفرض التعاون. فأغنى البيوت المالية (بارنج وروزتشايلد) وجدت أنه من المناسب أن تشترك الشركات الأخرى في عملياتها. وحتى عندما كان الموقف يفرض المنافسة (المنافسة على عقد قرض أو عقد امتياز سكة حديد) كانت الأطراف المتنافسة تصل في العادة إلى نوع من الاتفاق قبل تقديم العروض. فمثل هذه الخلافات تكلف كل طرف عبئًا ماليًّا. وأكثر من ذلك فعندما تُقدَّم العروض ويُبرَم العقد أو الامتياز، يبتعد الذين خسروا في هدوء ولا يحدثون ما يعوق عمليات الذين حصلوا على الامتياز أو العقد. وفي بعض الحالات، فإن الذين خسروا — وحتى الذين لم يشتركوا — كانوا يذهبون إلى أبعد من ذلك، فينسحبون مؤقتًا من السرق ويتركونه حرًّا لأصحاب المشروع الجديد. فهم من ناحية يريدون تجنب المخاطرة باتخاذ الجمهور بعروض عديدة، ومن ناحية أخرى يعرفون جيدًا أنهم في حاجةٍ يومًا ما إلى أن يكونوا هم أحرارًا أيضًا في السوق. وغنيٌّ عن البيان أن هذه القواعد العامة للسلوك المصرفي الجيد لم تكن دائمًا مَرعيَّة. وعلى وجه الخصوص — كما في البنوك التجارية — نجد أن البيوت المالية الجديدة الطَّموحة، المستعدة لأن تخاطر بالكثير لكي تربح الكثير، كانت أقل اتِّزانًا في طرقها من البيوت الأخرى التي لها مركز قوي ثابت.
وبنفس الطريقة فعندما تظهر فرص جديدة للربح فإن التهافت عليها، كان يدعو إلى التطاحن. وقد كانت مشروعات السكك الحديدية هي هذه الفرص، ولم يحدث من قبل أن تصارع هذا العدد الكبير من البيوت على مثل هذه الغنيمة؛ فقد اشتركت في هذا الصراع البيوت التجارية، والبنوك الخاصة، وحملة الأسهم الأغنياء، وأصحاب الأراضي النبلاء، والمهندسون، والناشرون، والمخترعون، والدبلوماسيون، وأصحاب مناجم الحديد، والفنيون، من أكبر المموِّلين الدوليين إلى أصغر رجال الأعمال المحليين. وكانت قصة السكك الحديدية الفرنسية، وخاصة خلال فترة ١٨٤٠م، واحدة من المعارك المتكررة المعقدة للحصول على الامتيازات الرئيسية، اشتركت فيها المجموعات المالية الفرنسية والبريطانية والأنجلو-فرنسية والمجموعات الدولية، والرأسماليون؛ وكلٌّ منها تدفع الأخرى بكتفها لتحل محلها، وقد وصل هذا الصراع إلى الدرجة التي بدا فيها التفاهم مستحيلًا. ولقد صرفت أموال ضخمة على طبع كتيبات بهدف كسب كبار الموظفين والمشرِّعين، وشراء المنافسين الذين نزلوا المعركة بهدف أن يتم شراؤهم. ومع ذلك فكل اتفاق ممكن لا يضمن الانتصار. لقد كان لكل مجموعة الحق في أن تقدم عرضًا، وكان لكل منها فرصة في أن تكسب المعركة.
لذلك فإن أشد ما يلفت النظر في تمويل السكك الحديدية في القارة الأوروبية في تلك الفترة لم يكن الصعوبة والمرارة التي كانت تميز هذا الصراع، وإنما التعاون المعقول والفهم الذي كان يبدو عادة … تعاونًا معقولًا وعمليًّا تمامًا؛ فلم يكن لدى كبار الممولين الصبر على تحمل المنافسين الصغار، وكلما أمكن إبعادهم بسهولة تم ذلك على الفور. ولكنهم كانوا يُضمرون تقديرًا كبيرًا لمن هم في مستواهم، وغالبًا ما كانوا يصلون إلى نوع من الاتفاق مع بعضهم البعض قبل أن يرسُو الامتياز على أحدهم. وبعض هذه المفاوضات والاتفاقات تعتبر دراسات مثيرة في التكتيك والمناورات، والمناورات المضادة، في العروض والطلب، في التنازلات الحقيقية والمقامرات الماهرة. وقد تكون هناك في البداية اثنتا عشرة من الشركات المتنافسة الوطنية والأجنبية والمحلية والباريسية، الصميمة الأصل والمخلطة، إلا أنَّه في النهاية تبقى شركة واحدة، أو على الأكثر شركات قليلة كلٌّ منها يمثل اتحادًا من الجماعات القوية المتنافسة، التي شُذِّبت بعناية. وفي هذا الاتحاد تحصل كل جماعة على نصيب من رأس المال الكلِّي يتناسب مع قوتها. ففي التحليل النهائي كان من الأفضل لكل جماعة أن تحصل على جزء من العائد بدلًا من المخاطرة بفقدان كل شيء.
ولقد كانت المصارف التجارية شبيهة بهذا أيضًا؛ فبالرغم من نشاطها ومهارتها كانت في الواقع محافظة ومعتدلة، وفوق كل شيء عاقلة إلى درجة كبيرة. ولم يكن هناك مكان (أو إن شئنا الدقة، مكان صغير) للعاطفة أو الغضب. والمموِّل الذي يرفض فرصةً ما، لأنه يشعر بأن زملاءه لا يعطونه النصيب الذي يتناسب مع ثروته وكرامته؛ يسرع إلى الاشتراك مع هؤلاء الزملاء في المقامرة، وغالبًا ما يكون ذلك بدعوة منهم. وبالعكس فإن واضعي المشروعات الذين يرفض زملاؤهم بعض مشروعاتهم، بسبب الشك في مزاياها وأرباحها، يبذلون كل ما في وسعهم لإغراء نفس الزملاء بالاشتراك معهم في الصفقة التالية.
بل إن أشد الناس حساسية واستياء من الناس (جيمس دي روزتشايلد) ملِك المموِّلين ومموِّل الملوك، وجد من الأصوب أن يكبح جماح غضبه عندما يستدعي الأمر. فعندما منح كيفور قرضًا عام ١٨٥١م لهامبروس، بذل روزتشايلد كل نفوذه لخفض أسعار أوراق سردينيا المالية في بورصة لندن وباريس. وللحظة كان هذا الاجراء بمثابة النذير الخفيف، وواجه هامبروس حزمة ضخمة من الأسهم غير القابلة للبيع، وهكذا استطاع جيمس مس أن يُظهر امتعاضه قائلًا: «إن القرض قد فتح، ولكنه لم يُغَطَّ.» ولما فشلت الحرب ضد دين بيدمونت في المدى الطويل واستطاع هامبروس في أوائل عام ١٨٥٢م أن يتخلص من الأسهم محققًا ربحًا، أسرع جيمس إلى إرسال ابنه إلى تورين يقترح قرضًا جديدًا لكيفور بسعر خيالي.
إن منتصف القرن التاسع عشر كان أسعد أوقات البنوك التجارية باعتبارها مراكز اقتصادية. فقد اجتازت أصعب الاختبارات في الاتفاق والتعاون في عمليات السكك الحديدية عام ١٨٤٠م، وكان هذا الاختبار الصعب أعظم انتصاراتها. ولم تستطع ثورات ١٨٤٨م ولا الأزمات العالمية التجارية التي صحبتها أن تغير من وضعها، وعندما عاد النشاط المالي والتجاري عام ١٨٥٠م إلى وضعه المعتاد كانت أغلب البيوت القديمة ما تزال تحتل عرشها القديم، بل إنها قويت بالتخلص من المنافسين الأضعف للذين لا يحترمون القواعد؛ وكانت نفس المجموعات المتنافسة تجمع قواها لتبدأ مشروعات السكك الحديدية والقروض الحكومية التي تركتها مؤقتًا.
ومع ذلك، ففي نفس تلك اللحظة واجهت المصارف التجارية أعظم تحدياتها. ولم يتمثل هذا التحدي الجديد في قادمٍ جديدٍ معزول، يريد أن يشقَّ طريقه إلى الصفوف العليا، ولا في فرد يمكن امتصاصه من بين عديد من الآخرين، وإنما تمثَّل التحدي في مؤسسة جديدة، في طريقة جديدة للقيام بالنشاط، في علم جديد للثورة الأساسية للتنظيم الاقتصادي. إنه الشركة المالية.
ولقد كان الابتكار ثلاثيَّ الأوجه. فالشركة المالية هي اتحاد مساهمين ذو رأس مال ومصادر أكبر بكثير من البنوك الخاصة القديمة، وهي تتخذ من التمويل الاستثماري عملها الأساسي، وهي تبحث عن عملائها، لا بين مجموعة صغيرة مختارة من شركات الرأسماليين الصديقة، وإنما من المدَّخِرين الأقل ثروة والأكثر عددًا، الذين هم القوة الكامنة للاستثمار.
ولقد ظهرت هذه الفكرة قبل أن تتحقق بكثير. وظهرت محاولة من هذا النوع في فرنسا حوالي ١٨٢٥م لإنشاء «الشركة الأساسية للصناعة» برأس مال ١٠٠ مليون فرنك، ثم أجهضت. ولقد كانت فكرة تكييف نظام الأسهم للتمويل الاستثماري نتاجًا طبيعيًّا للُّجوء المستمر إلى المنظمات الكبيرة في مواجهة احتياجات النشاط الاقتصادي الواسع مثل، إنشاء الترع ومشروعات النقل والتأمين والتجارة.
ومع ذلك فالفكرة وحدها لم تكن كافية، فالتمويل الاستثماري المتخصص كان يحتاج قبل كل ذلك إلى عائد، إلى الاستخدام المستمر للأرصدة في مشروعات مساهمة جديدة، والعائد يحتاج إلى سوق نشطة ومتسعة. ولم يكن هناك بعدُ مثل هذه السوق للأوراق المالية الصناعية. ولكنها كانت في طريق الظهور؛ فالناس كانوا يُكيِّفون أنفسهم للثورة الورقية، بما فيها من حركة وهبوط وصعود. وماديتها الرمزية التي لا تريح. ومع ذلك ففي القرن التاسع عشر كان ما يزال هناك تحامل على هذه الأوراق، وكان من الضروري التغلب عليه قبل أن يُقبل عدد كبير من المستثمرين على استغلال مدَّخَراتهم في مثل هذه «المضاربات الوحشية» كمشروعات السكك الحديدية والتعدين والمناجم.
ولقد كان الخوف من هذا اللون من الاستثمار جزءًا من حالة ذهنية أكبر … حالة الشك العام (بل والمعارضة) في كل ما يفوح برائحة الربح السهل. ولقد تعرضنا من قبل لشرح هذا الموقف الذي يستمد معظم قوته من الاقتناع بأن الثروة الناتجة عن الأوراق المالية والإثراء السريع هي قوة هدامة للنظام الاجتماعي القائم. ويكفي أن نلاحظ هنا أن هذا الموقف ركز الكراهية على كلٍّ من بورصة الأوراق المالية والشركات المالية. وأنه وجد تعبيرًا عنه في العقوبات السياسية المحددة ضد بعض أنواع نشاط رجال الأعمال. والأسوأ من ذلك أن رجال الأعمال أنفسهم لم يكونوا محصنين ضد هذا الموقف.
وأخيرًا يجب أن نتذكر أن هذا النوع من التمويل الاستثماري الذي تحتاج إليه مشروعات السكك الحديدية والتصنيع يتناقض تمامًا مع الأساليب القديمة في التفكير والعمل؛ فأصحاب البنوك الذين كانت أعمالهم تعتمد اعتمادًا كبيرًا على العوامل الشخصية والعائلية، والذين كانوا دائمًا يَقصُرون عملاءهم على مجموعة مختارة من الموثوق بهم، كان يصعب عليهم أن يأخذوا المبادرة في خلق نظام غير شخصي لكسب الجمهور. إن كل دقائق تكوينهم وكل عاداتهم ومشاعرهم كانت تقف معارضة لهذا الإنتاج الكبير للمال.
ومن ناحية أخرى، فإن نفس هذا التعارض بين الطرق القديمة والاحتياجات الحديثة هو الذي جعل عددًا كبيرًا من أصحاب البنوك يؤيدون فكرة إنشاء مؤسسة تقوم بعمليات الاستثمار التي لا تستطيع، أو لا ترغب، البنوك الخاصة أن تزكيها لعملائها، وللمساهمة في تلك المقامرات التي كانت من الكِبَر أو الخطورة بحيث لا تستطيع البيوت التجارية القيام بها بمفردها. وفي هذا الصدد فإن مشروعات السكك الحديدية عام ١٨٤٠م، وأزمة ١٨٤٨م كانت درسًا قاسيًا. وكان ثمن النصر غاليًا. فباستنثاء شركة أو شركتين من الشركات الفنية، مثل روزتشايلد، اضطرت جميع البنوك إلى أن تبحث عن مساهمين، وأن تفتح أبوابها للغرباء بأمل التخلُّص من كميات كبيرة من الأوراق المالية. إن هذا عمل كريه في حد ذاته. ولكن الأكثر خطورة من ذلك هي الصعوبات المالية الحقيقية التي واجهتها جميع البيوت المالية، بما في ذلك روزتشايلد، عندما هبطت الأسعار بعد ثورة فبراير. وفي خلال أسابيع قليلة أفلس عدد كبير من البنوك التجارية المشهورة في أوروبا بسبب الأوراق المالية الغير القابلة للبيع. لقد كان هذا الوضع أكثر مما يمكن تحمله.
ومن المؤكد أن الشركات المالية كانت ابتكارًا خطِرًا. وقد دفعتها مصالحها إلى الاعتداء على مجال أعمال أصحاب البنوك التجارية. ولقد بدأ مديروها (وهم نوع جديد من البيروقراطية المصرفية) في أول الأمر كرجال موَّلتهم البيوت القديمة، ولكنهم انتهوا بالضرورة إلى اعتبار شركاتهم المالية الجديدة هدفًا نهائيًّا في حد ذاته، ولهم في ذلك منطقهم. ومع ذلك فحتى فترة ١٨٥٠م كان كل ذلك أمرًا يخص المستقبل، ولم يرَ أصحاب البنوك التجارية في ذلك الوقت النتائج المترتبة على أفعالهم، بل على العكس، فإن نجاح شركة كريدي موبيلييه المالية شجع على خلق شركات مساهمة أخرى للتمويل الاستثماري، وأغلبها كانت من صنع البنوك التجارية المحافظة. ومن فرنسا انتشرت الشركة المالية إلى ألمانيا ثم إلى النمسا وإسبانيا وسويسرا، وأخيرًا انتشرت في أوروبا جميعها خلال حوالي عشر سنوات.
وفي سنوات الصحوة هذه لم يتعارض ظهور الشركات المالية الجديدة جديًّا مع التعاون والفهم المتبادل، الذي رأينا أنه كان أساسيًّا في الأعمال المصرفية الدولية. نعم كانت هناك خلافات بلا شك، ولكنها كانت أساسًا منافسات شخصية، ولم تكن صراعًا بين نظامين متعارضين للأعمال المصرفية. وبهذا المعنى لم تختلف هذه الخلافات عن المصادمات التي كانت تميز في الماضي دخول البيوت الخاصة الجديدة ميدان المجتمع المالي. ومثل هذه المصادمات أيضًا كانت هذه الخلافات هي المقدمة الطبيعية للتفاهم والامتصاص في النهاية.
وقد يكفينا هذا التعرض للوضع على أرض القارة الأوروبية، حيث أخذت الشركات المالية تظهر واحدةً بعد أخرى، وأحيانًا اثنتين أو ثلاثًا في المرة الواحدة، بموافقة السلطات السياسية وبركات عدد من أقوى البنوك الخاصة القديمة. أما في إنجلترا فقد كانت القصة مختلفة.
لقد وصلت الشركة المالية إلى إنجلترا متأخرة؛ إذ كانت إنجلترا لا تحتاج إليها بقدر احتياج دول القارة الأوروبية. فأولًا لم يكن لدى إنجلترا حاجة إلى القيام بقفزات تكنولوجية مبهظة في فترة ١٨٥٠م. فقد كانت الوحدات الأساسية في الاقتصاد الصناعي قد أنشئت بالفعل، وكانت معدات بريطانيا الصناعية أحدث ما يمكن الحصول عليه، وكانت خطوط السكك الحديد الأساسية فيها قد تمت. وقد أُنجز كل هذا دون تدخل الدولة أو شركات الاستثمار الخاصة الكبيرة. وقد تم شراء جزء من هذا بالأرباح التي كوَّنتها المشروعات الفردية. وتم تمويل جزء آخر من سوق مالية تتميز — على الرغم من نقص تنظيمها — بالنجاح المدهش في توجيه مصادر البلاد السائلة إلى الصناعة والتجارة. أما بخصوص المشروعات الكبرى (الترع – المواني – السكك الحديدية) التي كانت تحتاج إلى تعبئة رأس المال لفترات طويلة من الزمن، فقد كانت إنجلترا تتميز بتوفُّر جمهور كبير من المستثمرين الأغنياء ومتسعي الأُفق، وأغلبهم يعيدون إلى الاقتصاد — عن طريق المشروعات المساهمة — الأموالَ التي اكتسبوها في المشروعات الصناعية الخاصة.
وبالإضافة إلى ذلك لم توجد دولة كإنجلترا كانت راغبة في أن توسع ائتمانها إلى أبعد من حدود الحرص التجاري. لقد كثر استعمال كمبيالة المجاملة بإنجلترا في منتصف القرن، بل إن أقدم وأكثر البيوت التجارية شُهرة من بين التي كانت تقوم بعمليات الخصم كانت مستعدة أن تقدم، بسعر مناسب، اعتمادات مفتوحة ودائرية بضمان أوراق مالية محل شك. وفي نفس الوقت فإن البنوك المحلية تعودت أن تمنح عملاءها سَحبًا على المكشوف، كان له جميع خواص ومظاهر القروض الطويلة الأجل. ومن المستحيل أن نفهم نمو الصناعة والتجارة الإنجليزية في القرن التاسع عشر دون أن نأخذ في الاعتبار هذا الحجم الضخم من الاستثمار المستتر.
وفي مثل هذا الاقتصاد فإن الشركات المالية لم تكن على الأقل محل ترحيب، إن لم تكن غير ضرورية، على الإطلاق. كتبت مجلة «الإيكونومست» تعلق على الإعلانات الضخمة والوعود المثالية لبنك كريدي موبيلييه القديم: «إن التجار الإنجليز لا يحبون مثل هذه الإعلانات؛ فهم يشكون بحقٍّ في البدع في مسائل النقود، وهم لا يحبذون النقود الورقية الجديدة، وهم يكرهون الكلام الجميل الغامض. ويفضلون حديث الأرقام المحددة. وإذا ظل بنك كريدي موبيلييه كما قُدِّم لنا في الأصل، فمن الممكن القول باطمئنان: إنه ما من أحد في الأجزاء العاقلة من سوق النقود بلندن سيلتجئ إليه.» أما عن الحاجة إلى مثل هذه المشروعات فإن الكاتب يقول بشكل حاسم:
«لقد تطور كل النظام المصرفي ونظام الإقراض في إنجلترا إلى الدرجة والدقة التي لا يمكن أن تساوينا فيها أي دولة أخرى، فهنا تقل عن الأماكن الأخرى الدعوة إلى مشروعات «الائتمان» الجديدة؛ لأن هناك بالفعل مشروعات أكثر من أي مكان آخر.»
وتحت هذه الظروف، فإن القيود القانونية المفروضة على تكوين اتحادات الشركات كانت تعني في الواقع نوعًا من الفيتو على إنشاء بنوك الاستثمار المساهمة. ولم يكن في إنجلترا رجل من نوع نابليون لكي يسمح ببدعة مثل كريدي موبيلييه في مواجهة الرأي العام. ولم تكن توجد هناك قوانين خارجية يُرجع إليها كما حدث في ألمانيا، حيث دفعت الحرب بين بروسيا وفرانكفورت أولى الشركات المالية إلى دول أصغر، وإن كانت أكثر طواعية. وفي إنجلترا لم يصبح تكوين الشركات المالية أمرًا ممكنًا إلا بعد صدور قانون الشركات عام ١٨٥٥م، ١٨٥٦م، الذي سمح أوتوماتيكيًّا بتكوين الاتحادات المحدودة المسئولية بمجرد أن تسجل نفسها. ثم جاءت الأزمة التجارية عام ١٨٥٧م، فضيقت سوق النقود وشَلَّت البورصة في المهد على المشروعات التي كانت قد نظمت. ولم تستطع بريطانيا إلا بعد ١٨٦٠م أن تتبع طريق بنوك القارة الأوروبية.
وفي الوقت الذي فعلت فيه ذلك كان مركزها الاقتصادي قد تغير، والاختلافات القوية التي عزلتها عن الأمم عبر الخليج قد تدعَّمت. لقد كانت دائمًا دولة كثيرة التقلُّب، وأكثر من غيرها اعتمادًا على شراء السلع من الخارج وبيعها في الخارج. وفي الخمسينيات زادت تجارتها عبر البحار بسرعة كبيرة، ومعها زاد تصدير رأس المال. وتوضح الإحصائيات التي أمكن حسابها (وهي في أفضل الأحوال تقريبية) أن الفائض السنوي لميزان المدفوعات القوي كان يتراوح بين خمسة ملايين جنيه وستة ملايين جنيه خلال الثلاثين عامًا، من ١٨٢٦م إلى ١٨٥٧م، ٧٫٦ مليون جنيه خلال الفترة من ١٨٥١م إلى ١٨٥٥م، قد قفز إلى ٢٥ مليون جنيه خلال السنوات الخمس التالية، وارتفع مجموع الممتلكات البريطانية في الخارج من حوالي ٢٦٤٠٠٠٠٠٠ جنيه في نهاية عام ١٨٥٥م إلى ٣٨٨٠٠٠٠٠٠ جنيه في نهاية عام ١٨٦٠م، بزيادة حوالي ٥٠ في المائة تقريبًا في خمس سنوات. لقد بدأت المشروعات الداخلية تبدو ميدانًا أقل إغراء للاستثمار من الخارج.
وفي نفس الوقت حدثت بعض التغيرات في شكل التجارة الدولية الإنجليزية كان لها نتائج مباشرة على اتجاه وطابع الاستثمار الخارجي. ومن أكثرها وضوحًا (وأكثر أهمية لدراستنا هذه) التحول في الاهتمام من العملاء القدامى في أوروبا وأمريكا إلى إمكانيات الشرق الأدنى والأقصى التي كانت مهملة. ولقد منحت حرب القرم للحركة التي بدأت ١٨٤٠م قوة دافعة كما دشنتها أزمة ١٨٥٧م التي أصابت، على وجه الخصوص، التجارة الأنجلو أمريكية والتجارة الأنجلو أوروبية. وعندما هبطت الصادرات الإنجليزية إلى الولايات المتحدة الأمريكية من ۱۹۰۰۰۰۰۰ جنيه إلى ١٤٥٠٠٠٠٠ جنيه في عام ١٨٥٧-١٨٥٨م ذلك العام الذي شهد انكماش التجارة على جانبَي المحيط، زادت الصادرات إلى الهند من ۱۲۰۰۰۰۰۰ جنيه في عام ١٨٥٧م إلى ۱٧۰۰۰۰۰۰ جنيه عام ١٨٥٨م، ثم إلى ۲۱۰۰۰۰۰۰ جنيه عام ١٨٥٩م.
ثم اشتدَّ هذا التحول عندما قطعت الحرب الأهلية الأمريكية بريطانيا عن مصادرها الرئيسية لأهم وارداتها: القطن. واضطرتها للاتجاه إلى الهند ومصر للحصول على إمدادات عاجلة. فبينما هبطت الواردات من الولايات المتحدة ٤٩٠٠٠٠٠٠ جنيه في عام ١٨٦١م إلى ١٨٠٠٠٠٠٠ جنيه عام ١٨٦٤م، ارتفعت الشحنات من الهند بسرعة كبيرة من ۲۲۰۰۰۰۰۰ جنيه إلى ٥٢٠٠٠٠٠٠ جنيه خلال نفس السنوات الأربع. وخلال الفترة ١٨٦٢–١٨٦٥م كانت الهند تعتبر أهم مورِّدين لإنجلترا، وهو مركز لم تحصل عليه من قبل ولا من بعد. وكانت الصادرات المصرية إلى إنجلترا أبطأ قليلًا في اتجاه الصعود، ولكنها كانت أبطأ في الهبوط بمجرد انتهاء فترة ازدهار القطن. فقد زادت صادرات مصر من القطن من ۸۰۰۰۰۰۰ جنيه عام ١٨٦١م إلى ۲۲۰۰۰۰٠٠ جنيه عام ١٨٦٥م، الأمر الذي رفع مصر من المركز السادس في قائمة مصادر واردات بريطانيا إلى المركز الثالث عام ١٨٦٤-١٨٦٥م بعد فرنسا والهند. وقبل ذلك بعشر سنوات (عام ١٨٥٤م) كانت مصر، بشحناتها التي بلغت ٣ ملايين جنيه، تحتل المركز الخامس عشر. وإذا كان هذا الكسب لا يُقارن بالهند من ناحية الأرقام المطلقة، فإن التغير النسبي في وضع مصر كله أكثر وضوحًا.
لقد كانت نتائج التطور المالي الإنجليزي أكثر خطورة، وإلى حد ما لا يمكن التنبؤ بها. وربما كان من المتوقع أنه عندما تتجه بريطانيا في اتجاه الكريدي موبيلييه، فإن تغير الاقتصاد سوف يؤدي إلى ظهور شركات تهتم بالعمليات الخارجية أكثر من شركات القارة الأوروبية. أما الذي استحال التنبؤ به فهو الحد الذي سوف تؤدي إليه طبيعة التجارة الشرقية من إهمال للأهداف القانونية للشركات المالية (سكك حديدية، تحسين المواني، القروض مفتوحة للدولة وللمستعمرات)؛ بسبب الأرباح الكبيرة والعشوائية من ائتمان المجاملة، وأكثر من ذلك، من إقراض النقود.
إن هذا الإغراء بالفائدة الضخمة هو الذي جذب المستثمرين وواضعي المشروعات الإنجليز أكثر من احتياجات التجارة. وتُبين نشرات الشركات الجديدة بصراحة في مناقشاتها الفائدة العالية البريطانية والعائد الكبير المتوقع. والممولون لواحد من أوائل بنوك الكريدي موبيلييه (واسمه شركة الائتمان والتمويل العامة) أغروا الجمهور بآمال أن المال الذي سيقترضونه منهم في بريطانيا بسعر ٤ أو ٥ في المائة سيقرض في الشرق بضعف أو بثلاثة أمثال هذا السعر. وكان أول إنشاءات هذه الشركة هو بنك رهن الأراضي في الهند. ولقد أذهل المنظمون للمشروعات التركية المستثمرين بالآمال في أن يكون سعر الفائدة من ٣٪ إلى ٦٪ في الشهر. وشركة التجارة المصرية التي أُسست في الأصل لاستغلال التجارة في أعالي وادي النيل أوضحت من البداية أنها تتوقع أن تكسب معظم أرباحها عن طريق إقراض أهالي البلاد. يقول إعلان الشركة: «لما كان من المؤكد أن المزارعين والتجار في مصر العليا والسودان يستطيعون أن يقترضوا بسعر ٤ و٥ في المائة في الشهر، ولا يزالون يحتفظون بثروة ضخمة، فإن ميدان العمليات المالية ليس له حدود.» وفي كل ذلك لم يكن هناك إحساس بالذنب لدى المصرفيين البريطانيين. فالرأسمالية البريطانية كانت قد تخطت فكرة المراباة غير الرشيدة. وكان السعر العادل للنقود عندها هو السعر الذي يحدده العرض والطلب. وعلاوة على ذلك فإنه على الرغم من ارتفاع سعر الفائدة الذي تقدمه هذه الشركات، فإنه كان أقل مما عرفه الشرق من قبل. والحق أنه لو لم يستبعد البريطانيون جميع القيم الأخلاقية غير الرشيدة من تفكيرهم في السلوك الاقتصادي لكان عليهم أن يُهنئوا أنفسهم على إنسانيتهم!
ولقد كان هناك تطور آخر غير مرئي في الوقت الذي استعدَّ فيه الممولون لتقديم الشركة المالية في سوق رأس المال البريطاني، ألا وهو توفر الأموال الحرة واستعداد المستثمرين لقبولها. ومع ذلك فقد كان من الممكن توقع هذا الوضع. فبينما كانت القيود القانونية في الماضي تجعل إنشاء الشركات المالية في إنجلترا أصعب منه في القارة الأوروبية، فإن هذا الوضع قد انعكس وأصبح تسجيل الشركة مجرد مسألة شكلية. وكل ما كان يحتاج إليه إنشاء الشركة في بريطانيا توفُّر صاحب مشروع ذي أعصاب قوية، وحفنة من الأسماء اللامعة في مجلس الإدارة، وبرنامج طموح، ثم يقوم الجمهور بباقي الأمر. وأكثر من ذلك، فبينما كانت المتطلبات القانونية في القارة الأوروبية تشجع الدفع المبدئي بنسبة كبيرة من قيمة الأسهم وسرعة سداد الباقي؛ كانت الشركات البريطانية لا تطالب المستثمرين إلا بالقليل في أول الأمر (حوالي ١٠ في المائة من رأس المال الاسمي)، ولا تطلب منهم طلبات أخرى إلا إذا لزم الأمر، وفي سوقٍ غنية، كلندن، ومتفائلة، كتلك التي كانت في عام ١٨٦٠م، كانت هذه التسهيلات للمساهمة بمثابة دعوة للمبالغات التي حدثت.
ومع ذلك، فكل هذا العمل لم يكن يحتاج إلى ذكاء كبير. إن المؤسسين لأُولى الشركات المالية البريطانية كانوا أصحاب بنوك وتجارًا صناعيين من نفس مستوى أولئك الذين أسسوا الكريدي موبيلييه في أوروبا. وقد ضموا بينهم عددًا مختارًا من أعضاء مجلس إدارة بنك إنجلترا ومدير بنك لندن ووستمنستر، وأكبر مقاول للأعمال الهندسية في العالم، ومنفذين أقوياء للسكك الحديدية الهندية، وجزءًا من أرقى البيوت اليونانية في إنجلترا. وكانت ارتباطاتهم في الخارج مع شركات في نفس مستوى النفوذ والشهرة: الكريدي موبيلييه، كونتوار دي كومت، ونصف «المالية العالية» في فرنسا، بيشوفشايم، وجولدشميت في بلجيكا.
وبتأسيس شركاتهم المالية لم يقصد البريطانيون أن يقلبوا نظام البنوك المستقر؛ فالثورة هي آخر ما يخطر ببالهم. وكل أعمالهم كانت تستهدف — كما في القارة الأوروبية — القيام بعمليات الاستثمار التي لا تلائم التمويل التجاري التقليدي، ومساندة أولئك الذين لم يستطِع التمويل التجاري أن يساعدهم. وأكثر من ذلك، فقد أقاموا أكثر علاقاتهم مع البنوك الأخرى، وكانوا يتوقعون الكثير من التعاون مع حلفائهم في الخارج.
لقد أسسوا ثلاث شركات. ثم توقفوا وشعروا أن لدى إنجلترا كل الشركات المالية التي تحتاج إليها. ولقد كان الرأي الخبير ميالًا إلى وجهة نظرهم هذه.
•••
إن الطريق إلى الجحيم محفوف بالنوايا الحسنة. وإذا كان أول بنوك الائتمان البريطانية قد توقع أن يحتكر الميدان لنفسه، فقد اتضح له خطأه بسرعة. لقد احتضن الرأسماليون المهمة الجديدة بحماس (وأحيانًا بجنون) طغى على الاعتدال والحذر اللذين طالما يفخر بهما الإنجليز؛ لقد تدفقت شركات الائتمان والبنوك الخاصة والاتحادات المالية في اندفاع غير منظم إلى سوق لندن، وبلغ عددها سبعة وأربعين حتى نهاية عام ١٨٦٥م، واشتغل ثلثاها في استغلال وتنمية المشروعات في المستعمرات وفي الدول الخارجية.
بل إن هذا الرقم الكبير لا يكفي في وصف اتساع الحركة والحدود التي وصل إليها الائتمان. فنفس هذه السنوات الثلاث ١٨٦٣–١٨٦٥م قد شهدت إنشاء خمسين «بنكًا» جديدًا، وأربعة وعشرين «مشروعًا تجاريًّا». ومعظمها كانت بالدقة ما يقترحه الاسم، بنوك بالمعنى الإنجليزي، أي مخزن إيداع للاحتياطيات المستخدمة في عمليات قصيرة الأجل، وشركات تجارية عملها الوحيد هو شراء وبيع السلع. ولكن كثيرًا من هذه الشركات (وهنا نجد الدليل مرة ثانية على مرونة التنفيذ التي تهزأ من الجمود)؛ وجدت أنه من الصعب، بل من المستحيل، أن تتجاهل الفرص المالية في عصر التوسع والتضخم. وهكذا فإن البنك الإمبراطوري العثماني (الذي كان بنك إصدار) عمل كَوَكيل عن الخزانة التركية، فكان يمنح السلفيات للباب العالي، وكسب الكثير من تجارة الأوراق التجارية وساعد على خلق ودفع مشروعات مساعدة في حدود الإمبراطورية العثمانية. وشركة التجارة المصرية (التي سوف نلتقي بها مرة ثانية) وجدت أن بعض أرصدتها قد تحقق أرباحًا فاحشة إذا وُظفت في قروض للحكومة المصرية أكثر من استغلالها في تصدير حاصلات السودان وأواسط أفريقيا.
لقد كان هذا عملًا هدَّامًا. نعم لقد كانت هناك حاجة لعدد بسيط من شركات الائتمان في إنجلترا … ربما اثنتين أو خمس، بل وحتى عشر. أما أن توجد عشرات منها فتلك مسألة أخرى! إن قادة الصحافة المالية الذين رحبوا بأُولى الشركات المالية في حذر، بدءوا يهمسون في ضيق ثم أخذوا يتكلمون في أسف ثم رفعوا أصواتهم بإدانة هذا الوضع. ونفس أصحاب البنوك الذين شجعوا التوسع في تسهيلات الائتمان في مبدأ الأمر وجدوا السوق اليوم خانقًا لازدحام المنافسين. بل إن ازدياد الفرص التجارية وتكاثر المستثمرين لم يستطع الصمود أمام العدد الكبير من أصحاب المشاريع الذين يحملون معهم أفكارًا كبيرة ومالًا قليلًا. لقد كان عام ١٨٦٤م معروفًا باسم عام اﻟ ۷٪، عندما كان متوسط سعر الفائدة ٧٪ وعمولة الخصم ٩٪، ومع ذلك فلم يكن كل ذلك قادرًا على أن يهدئ حالة الغليان في السوق. وبدأت البنوك تبحث في داخل إنجلترا وتتصارع على العملاء، وأخذ مديرو البنوك يشكُّون من أنهم لا يستطيعون أن يتعاملوا مع عملائهم على قدم المساواة. وبدأت المهنة المالية تفقد كرامتها بمجرد أن بدأت سوق النقود — التي عرفت في الماضي بالاتزان — تظهر بمظهر المساومة المنحطَّة.
ولقد كان من الطبيعي أن يكون الشرق الأدنى من أهم مناطق المنافسة الشديدة. فهنا، كما في إنجلترا نفسها، بدأت الأمور في هدوء ووصلت الشركات المالية متأخرة. وتمثل رد الفعل المبكر لتزايد الطلب على التسهيلات الائتمانية في ازدياد عدد البنوك الخاصة. وكما حدث في غرب أوروبا من قبل وَجد عدد من التجار (يونانيون – يهود – سوريون وأوروبيون) أن التجارة هي الطريق إلى المال. وفي أعوام ١٨٤٠–١٨٥٠م حاول بعض هؤلاء المقاولين أن ينظموا بنوكًا تجارية مساهمة بالتعاون عادة مع مصالح بريطانية، وبهذه الطريقة أُنشئ بنك مصر في الإسكندرية عام ١٨٥٥م. وفي نفس الوقت كان رجال الأعمال البريطانيون أول من قام باكتشاف الإمكانيات المالية للشرق؛ وفي عام ١٨٥٦م وفي أعقاب حرب القرم أنشأت مجموعة في لندن البنك العثماني في القسطنطينية. وبعد ذلك بقليل فرضت أزمة ١٨٥٧م تأجيل المشروعات الأخرى.
عند هذه النقطة يتباعد التاريخ المالي لكل من تركيا ومصر؛ فتاريخ الأعمال المصرفية العثمانية هو إلى درجة كبيرة تاريخ البنك العثماني، فهذه المؤسسة التي كان غرضها الأصلي القيام بالأعمال العادية للبنوك التجارية، كونت على مدار السنين أوثق العلاقات مع الحكومة التركية، وأثبت مديرو البنك تعاونهم وفهمهم في حل مشاكل السلاطين المبذرين المهملين، وفي التغلب على عدد من الصعوبات المالية المتكررة. ولقد كان نوع المناورات والمؤامرات التي احتاج إليها المديرون الإنجليز لكي يتقدموا على غيرهم في دنيا السياسة المجنونة القائمة في عالم الرأسمالية الرشيدة أمرًا أثار دهشتهم. وفي تقرير إلى حملة الأسهم عام ١٨٦١م أوضح المديرون أن البنك قد شق طريقه على الرغم من المعارضة «التي تتميز بكثير من الحساسية والمؤامرات والشعوذة المجهولة تمامًا في إنجلترا».
ولقد بررت الأحداث التالية هذه السياسة التعاونية تمامًا. فقد شهدت سنوات ١٨٥٧–١٨٦١م التدهور السريع لمالية الحكومة التركية، وزادت من سرعة هذا التدهور صعوبة اقتراض النقود وتكاليفه في سوق محكمة. وتحطمت جهود مجموعة إنجليزية-يونانية لإنشاء بنك أهلي تركي عام ١٨٦٠م على صخرة تلك المصاعب. فقد أخذت هذه المجموعة جزءًا كبيرًا من القرض العثماني في تلك السنة وفقدت ثروة كبيرة في هذه العملية. ولم يكد يحل عام ١٨٦١م حتى تحول التدهور إلى انهيار، وتوقف عن العمل تسعة عشر من البيوت المالية في القسطنطينية.
وفي تلك اللحظة وجد البنك العثماني فرصته المناسبة. فإذا كان منافسوه المحليون قد شُلَّت حركتهم مؤقتًا وتحطمت الاعتمادات الأجنبية للباب العالي، أصبح البنك العثماني في عام ١٨٦١م الدعامة الأساسية للخزانة التركية. وفي الاجتماع العام في سبتمبر من نفس السنة قال رئيس مجلس الإدارة لحمَلة الأسهم إن الحكومة التركية مدينة للبنك بمبلغ ١٥٢٠٠٠ جنيه، وإن الشركة تتعامل آنذاك مع الحكومة التركية أكثر مما تتعامل في التجارة الخاصة. وعندما عُقد في ١٨٦٢م قرض لتصفية الأوراق المالية المتدهورة والمتداوَلة في السوق (وهو التمهيد الضروري لإنشاء بنك أهلي) كان البنك العثماني هو ضامن الإصدار بالاشتراك مع شارلز ديفوه وشركاه وشركة جلن. ولقد نجح القرض نجاحًا لا نظير له.
وإذ كان المسرح قد أُعد لإنشاء بنك إمبراطوري جديد، دخلت مجموعة من الماليين الفرنسيين الميدان، ومن المشكوك أن يكون هذا محل ترحيب مديري البنك العثماني الثابتي الأقدام. ومع ذلك فلم يكن من الممكن تجاهل وجودهم … رجال أثر ذوو اتصالات قوية ومستعدون لمنافسة العروض البريطانية. وعلاوة على ذلك فإن الحكومة التركية التي سرَّتها إمكانية فهم المصادر البريطانية والفرنسية المالية وضمان رابطة قوية سياسية واقتصادية مع باريس، بذلت كل ما في وسعها من مجهود لكي تتفق المجموعتان. وفي نوفمبر عام ١٨٦٢م أُنشئ الاتحاد الأنجلو فرنسي رسميًّا، وفي فبراير ١٨٦٣م اعتمدت الحكومة التركية الامتياز رسميًّا، وفي مارس صفى البنك العثماني القديم أعماله وحل محله البنك الإمبراطوري العثماني الجديد.
وهكذا كانت الشركة الجديدة رمزًا للتعاون المالي، ولكنها وُلِدت أيضًا في جوٍّ من المرارة والعداء. فقد حارب أصحاب الامتياز في البنك التركي المفلس البنك الجديد بعنف في المحاكم الإنجليزية التي رفضت أن تتدخل في أمر تختص تركيا بتقريره (تصرف نبيل في سنوات البراءة التي سبقت الإمبريالية). وقد نُشر هذا الموضوع في الصحف التي كانت في الواقع عاجزة عن أن تقرر إلى أي الطرفين تنضم. وفي النهاية اضطر المموِّلون اليونانيون والإنجليز لبنك تركيا إلى التخلي عن المعركة وإن لم يستسلموا. لقد كان ثمة مكان لأكبر من بنك في تركيا، ومعظم هؤلاء الممولين عادوا إلى المعركة مرة أخرى في يوم آخر.
ولقد كان مديرو البنك الأهلي الجديد من الذكاء بحيث قدروا الموقف، وفهموا أنه ليس من الممكن أن يحافظوا على احتكارهم. وكممولين طيبين، تنازلوا والابتسامة على شفاههم. وفي عام ١٨٦٤م أُسست الشركة العامة للإمبراطورية العثمانية برأس مال قدره مليونا جنيه إنجليزي، وهي نوع من الكريدي موبيلييه تكمل استثماراتها (في المشروعات الصناعية التجارية المحلية وفي تكوين شركات جديدة) نشاط البنك الإمبراطوري كبنك إصدار وإيداع وخصم. وكان مؤسسو الشركة الجديدة خليطًا غريبًا من المجموعات المالية، يضم على الأقل ثلاثة من المصالح المالية المتميزة. وكان أولها البنك الإمبراطوري العثماني ثم الملوك اليونانيون: بلتازي، زوجرافوس، ميسيروجولو رالي، كاموندو، زافيروبولو، وزاريفي، ثم الاتحاد الإنجليزي-الألماني الذي بدأ أول قرض للحكومة المصرية في السوق الأوروبية عام ١٨٦٢م، والذي لعب دورًا رئيسيًّا في المالية المصرية في العشر السنوات التالية، فروهلنج وجوش، سولترباخ من فرانكفورت، أوبنهايم-ألبرتي من القسطنطينية، وأخيرًا (وهذا رمز المرونة في التحالفات المالية) إخوان شترن من الجمعية المالية الدولية، بيشوفشايم وجولدشميت من شركة الائتمان والمالية العامة. ولقد كان هذا الموقف بمثابة التصرف المصرفي العاقل، وكما أوضح سير وليام كلاي الموقف لحمَلة الأسهم في البنك الإمبراطوري العثماني في الاجتماع السنوي الأول عام ١٨٦٤م:
«إن الفكرة التي دفعت البنك للاشتراك في المشروع هي أن في تركيا مجالين متميزَين للعمل في المال والتجارة. فالبنك الإمبراطوري العثماني هو الأداة المناسبة لكل ما يتعلق بالتعامل مع غرب أوروبا والقروض التي تأخذها الحكومة التركية من أوروبا. ولكن من ناحية أخرى فثمة عدد كبير من العمليات المالية تتصل الآن بالحكومة، وعمليات أخرى تتصل بالأجهزة المحلية، وأخرى تتصل بالأفراد، وتحتاج من الخبرة المحلية والمعلومات والعلاقات مع الممولين المحليين ورأسماليي القسطنطينية ما يجعل هؤلاء الأداة المناسبة لهذا العمل. وبذلك أصبح واضحًا أنه من الممكن تكوين اتحاد بين البنك والأطراف الأخرى التي كانت، بشكل عام، ثرية جدًّا وقوية وذات خبرات واسعة. وإن شعورنا العام أنه من الأفضل تمامًا أن نتخذ من مثل هؤلاء الأشخاص أصدقاء ومعاونين بدلًا من أن يكونوا منافسين.»
وقد أجاب المستمعون على الخطاب بالموافقة والترحيب.
وعلى ذلك فحتى أكثر أصحاب المشروعات تعقُّلًا واقتناعًا صعب عليهم أن يتفقوا مع هؤلاء المندفعين ليكونوا أصحاب بنوك في أرض الاثني عشر والعشرين في المائة. ففي الوقت الذي أُنشئت فيه الشركة العامة للإمبراطورية العثمانية ظهر في الميدان «الاتحاد المالي العثماني» برأس مال قدره مليون جنيه، وهو شركة ائتمان متحرك جديدة تساعد التجارة والصناعة، وتتفاوض من أجل امتيازات المرافق العامة، علاوة على الإقراض بفائدة مجزية. وقد أنشأ هذه الشركة لويس فارلي … رحالة لا يهدأ منفذ مشروعات طموح، وخبير بالشرق الأدنى. وقد ضمن التأييد المالي من بعض التجار اليونانيين الذين نسيتهم الشركة العامة للإمبراطورية العثمانية، وتأييد مديري مؤسسات إنجليزية جديدة، مثل البنك الأوروبي المتحد، والبنك الإمبراطوري، واتحاد الائتمان التجاري.
وأكثر من ذلك، ففي مقابل كل بنك مركزه الرئيسي في تركيا كان هناك بنك آخر في لندن أو باريس على استعداد لأن ينشئ فرعًا له في القرن الذهبي، أو أن يرسل وكيلا ينافس الشركات المحلية. وهكذا صنع أيضًا اتحاد الائتمان التجاري، الذي أُنشئ في لندن في أول عام ١٨٦٤م على يد اتحاد التجار الإنجليز واليونانيين المعروفين في ميدان التجارة مع الشرق الأدنى، وأصبح يلعب دورًا نشطًا في الأعمال المصرفية التركية في مجال الخصم والتبادل المنتظم، بل وفي مجال الإشراف على شركات بريطانية محلية مساعدة. وبالمثل أسرعت شركة الائتمان والتمويل العامة إلى اقتناص الفرصة، عندما أتيحت لها وقامت بضمان قرض ٦٣٦٣٦٣ جنيهًا للباب العالي، الأمر الذي أثار استياء البنك العثماني الإمبراطوري.
إن هذا النشاط لشركات البنوك المحلية والغربية ليس إلا جزءًا من القصة، ليس إلا السطح الظاهر من المعركة، الذي يمثل تنافس وتلاعب المؤسسات العامة الكبيرة التي تتوافر تقاريرها في الصحافة، وتعلق الصحف على كل حركة من حركاتها. وخلف هذه المؤسسات الكبيرة توجد البيوت الخاصة المتواضعة، وبعضها ذات سمعة لسنين طويلة، وبعضها قد وُلد بالأمس فقط بهدف أن تدس يدها في الأعمال المالية والمؤامرات، التي هي لب مالية منطقة الشرق الأدنى. وليست معارك وتحالفات ومناورات هذه البيوت الصغرى معروفة لدينا بالكامل أو بشكل منظم. وفي مقابل كل مشروع عرفناه لإنشاء بنك (مثل مشروع إنشاء بنك برأس مال ٥ ملايين جنيه إسترليني على يد م. هافا الذي لم يثبطه إفلاسه في أزمة ١٨٦٠م) كم هناك من مشروعات ماتت في المهد في حوانيت جالاتا أو في غرف الاجتماعات بشارع برنسيس؟ ولكل قرض خاص يُقدَّم للحكومة التركية علنًا (مثل قرض أوبنهايم ألبرتي في ١٨٦٣م) كم هناك من قروض لم يُعلَن عنها أبدًا لأسباب حكومية؟ إن أرشيف هذه البيوت الخاصة لم يفتح أبدًا للغرباء، والأوراق الخاصة لمديريها تُحرق أو تضيع أو تحرس بعناية. فهؤلاء المديرون كانوا يتحكمون — مباشرة أو بشكل غير مباشر — في جزء كبير من تجارة الإمبراطورية وأعمالها المصرفية، وكانوا مقرضين ومستشارين للسلاطين والوزراء. ولكن وظائفهم المتواضعة بالقياس إلى حياة الوزراء والدبلوماسيين لم تكن أبدًا موضع تأريخ، ومعظمهم يضيعون في متاهة التاريخ الذي لم يكتب.
•••
ومع ذلك فبالمقارنة بمصر تعتبر تركيا ميدانًا هادئًا، إلى حد كبير بسبب وجود البنك الإمبراطوري العثماني والبنوك المساعدة. فعالم البنوك في القسطنطينية في فترات الازدهار في الستينيات كان أقرب إلى نظام أوروبا المصرفي منه إلى فوضى المالية الإنجليزية. ولقد ظل البنك الإمبراطوري العثماني يمثل فكرة الممولين التجار عن المؤسسة المالية المساهمة كما يجب أن تكون.
وفي مصر لم يكن هناك بنك إمبراطوري عثماني. ولقد كان بنك مصر — القديم — ممزقًا بين النزعة المحافظة لمديريه الإنجليز ونزق مديره المحلي، وهو تاجر يوناني من أزمير يُدعى باسكالي. ولم يكد يحل ١٨٦١م حتى كان البنك قد ربط معظم رأس ماله في قروض لأمراء البيت المالك في مصر، ولم يكن في وضع يسمح له بأن يقدم ائتمانًا تجاريًّا، ومن باب أولى رأس مال استثماري. أما الباقي من رأس المال فقد كان في خدمة عدد من البيوت التجارية الخاصة التي لم تكن ذات وزن بعد.
لقد كان الباب مفتوحًا في مصر على مصراعيه إذن، وكان الإغراء يشتد بسبب الوضع في تركيا. وعند عديد من التجار والمموِّلين كانت منطقة شرق البحر الأبيض منطقة واحدة متكاملة اقتصاديًّا يمكن استغلالها كوحدة، وكان فيض نشاط الأعمال والمشروعات من القسطنطينية مستعدًّا دائمًا للبحث له عن مخرج في الإسكندرية. وهذا الفيض، بالإضافة إلى هجرة رأس المال وبعض الموهوبين من رجال الأعمال من أجزاء أخرى من العالم، قد ازداد بعد بدء فترة رواج القطن إثر الحرب الأهلية الأمريكية. وفي خلال سنوات قليلة لم تعد مصر نقطة رئيسية للتجارة والمال في حد ذاتها فحسب، وإنما اكتسبت أهمية أكبر لموقعها على الطريق إلى الهند، حيث كان حمى الرخاء أشد، والمشروعات المالية أقل تحفُّظًا.
وهكذا ازداد غليان عالم المال في الإسكندرية. واندفعت إلى الميدان البيوت القديمة والجديدة، وغرباء من القسطنطينية ولندن وباريس ومرسيليا، والماليون الأقوياء وأصحاب المشاريع الفقراء، الاتحادات الكبيرة والتجار الصغار، الأمناء والمضاربون والمقامرون والمزيفون. وخلال هذه العملية تخلَّى الجميع عن بروتوكول وأمانة «المالية العالية».
والآن … نقترب من قصتنا التي، تبدأ ككل القصص، في أماكن عديدة، في وزارات أوروبا عشية حرب القرم، وفي بنوك لندن وباريس بعد أزمة ١٨٥٧م، في خيام الخديوي بمناسبة منح امتياز القناة، في السفينة التي أحضرت مديرًا اسمه إدوارد ديرفيو إلى مصر عام ١٨٥٥م، وتحت بنادق فورت سومتر (معركة في الحرب الأهلية الأمريكية).