الهرب الذي فشل
ولم يكن هناك إنسان يستنزف هذا الشريان بقوة كإسماعيل، ولعدة قرون كان حكام مصر يكرسون تقليديًّا جزءًا من جهودهم لزيادة ثروتهم الشخصية، ولم يكن إسماعيل استثناءً من هذه القاعدة. فكلما ارتفعت أسعار القطن أصبحت شهيته للأرض المزروعة غير محدودة. وكل إنسان — بما في ذلك أقاربه وأصدقاؤه — لم يكن في مأمن من عينه الجشعة. وإذا قدم والي مصر ما يعتقد أنه سعر مناسب لقطعة من الأرض يريد شراءها، سارع المالك إلى قبول هذا الشرف مهما كان، رأيه الحقيقي في السعر المقدم؛ إذ لو رفض العرض لكان معنى هذا قطع المياه عنه وهرب فلاحيه في الليل. ولا شك أن منظر المحاصيل المهجورة والأرض الخصبة التي تتحول إلى صحراء سيجعل كل مالك عاقلًا في النهاية. وبهذه الوسائل ضاعف إسماعيل بسرعةٍ ممتلكاته الواسعة، ثم أصبحت ثلاثة أمثال وفي النهاية أربعة أمثال ما كان يملك. وفي نفس الوقت أنشأ إسماعيل شبكةً من خطوط السكك الحديدية الفرعية لتخدم إقطاعياته أكثر من أي شيء آخر. ومع ذلك مهما كانت أنانية دوافعه إلا أنه، لحسن الحظ، خدم جيرانه بينما كان يخدم نفسه.
لقد ضحى بكل شيء في وادي النيل من أجل القطن. فحتى في مصر الوُسطى والعليا، حيث كانت تسهيلات الري قليلة ولم يكن القطن قد زُرع من قبل بكميات كبيرة، كان الفلاحون يزرعون القطن في وحدات صغيرة تمتد على طول ضفاف النيل. ومصر — البلد الذي كان دائمًا مصدر الفول والحبوب إلى كل البحر الأبيض المتوسط — قد أصبحت في الوضع الذي كان فيه استيراد الأغذية من الخارج ضروريًّا للتغلب على المجاعة، وهكذا ارتفعت الأسعار بسرعة، فأصبح ثمن القمح ثلاثة أمثال أو أربعة أمثال ثمنه في ١٨٦٤م، وتضاعف ثمن الزيت والخضروات ثلاث مرات، وارتفعت أسعار الغلال والفول بنسبة ٤٠٠٪. وارتفعت أسعار لحم الضأن، وهو الغذاء الثابت للمسلمين، من أربعة بنسات إلى شلن في الرطل. وبينما جعل التضخم الحياة عسيرة على كل المقيمين الذين يعيشون بمرتب ثابت، بما في ذلك القناصل الذين طلبوا من حكوماتهم زيادة مرتباتهم؛ كان أغنياء تجارة القطن الجدد سببًا في ارتفاع الأسعار، بل تسببوا بإفراطهم في الكماليات في رفع الأسعار أكثر فأكثر.
وفي ظل هذه الصحوة وجو الانتعاش المؤقت بدت مخاوف أندريه بعيدة تمامًا؛ وفي ٢ فبراير سنة ١٨٦٤م أجاب ديرفيو في ثقة على تحذيرات صديقه المملَّة مفاخرًا بدوره الجديد كسكرتير خاص للوالي خلال غياب نوبار في باريس، وموضحًا أن هذا العمل الإضافي كان مربحًا أيضًا. وفي نفس الوقت دافع ديرفيو بعنف، بل في احتجاج، عن راعيه والي مصر ضد غمزات أندريه وتلميحاته. وقال ديرفيو إن إسماعيل ليس مفلسًا. لقد ورث أعباءه المالية من سلفه الذي اقترض أكثر من خمسة عشر مليون فرنك من أجل رحلته الأخيرة إلى أوروبا فقط، مشتريًا البيوت النباتية الزجاجية، ومقتنيًا مدافئ فضية ومجوهرات ويختًا يسير بسرعة ٢٠ ميلًا في الساعة إلخ … إلخ؛ وتخسر الحكومة في ذلك مع الأسف. وهنالك أيضًا تكاليف إعادة إنشاء المخازن التي خربها سعيد، وإعادة بناء الجيش ودفع المرتبات المتأخرة لكل موظفي الحكومة. وفي ظل إسماعيل كان كل إنسان يتقاضى مرتبه إلى آخر مليم.
ويمضي ديرفيو قائلًا إن كل ذلك كان عبءَ الماضي فحسب، أما الحاضر والمستقبل فأمرٌ مختلف؛ فهناك التوسع في زراعة القطن باستخدام طرق أفضل في الري، وإدخال المضخَّات وآلات الحلج التجارية، وإنشاء الخطوط الحديدية الجديدة وتحسين القنوات والمواني، ثم لا ننسى عبء وباء طاعون المواشي، الذي فرض على مصر استيراد الماشية بأعداد لم يُسمع بها من قبل. ولقد زعم ديرفيو أن هذا البند الأخير وحده يعادل صادرات مصر من القطن.
وباختصار فعند ديرفيو أن نفقات إسماعيل الضخمة قد فرضتها ظروف، وأنه ليس أمام أوبنهايم وديرفيو إلا أن يقدما المساعدة، وربما كانا قد مضيا في هذا السبيل أكثر من اللازم، ففي بعض اللحظات دفع ديرفيو لإسماعيل خمسة ملايين فرنك وهو نصف رأس ماله. ولكن هذا الدَّين هبط اليوم إلى ثلاثة ملايين. وفضلًا عن ذلك فلا ينبغي على أندريه أن ينسى أن هذا التعاون مع الوالي قد أدى إلى طلبات مجزية تمامًا من جانبه. ومما يؤسف له أن هذه «الصفقات الطيبة، تحتاج إلى دفعات مقدمة كبيرة:
«لا ينبغي أن تدهش إذا كنا استخدمنا بالكامل الأرصدة التي قدمتها لنا.» ولقد دافع ديرفيو بنفس القوة عن عملية شراء أسهم القناة التي وجدها أندريه خطِرة تمامًا. ففي خطاب ٧ فبراير ١٨٦٤م أصر ديرفيو على أن الصفقة معقولة وتتسم بالتعقل والحرص، وأنه ليس في حاجة إلى رأس مالٍ أوروبي لتنفيذها. وإذا كان يعرض بعض الأسهم على أندريه وقليلين آخرين في أوروبا فليس ذلك إلا من قبيل أداء خدمة لهم. وفي نفس الوقت بالطبع فإن المساهمة الأوروبية ستُحرر رأس المال المصري لاستثمارات أخرى. أما أهم الأسباب فقد تُرك لآخر الخطاب: «فالأرصدة المصرية ستدخل المجال ببطء.» وديرفيو كان في حاجة إلى المال عندئذٍ «لمواجهة النفقات التي يفرضها الوالي علينا، أو بتعبير أفضل، التي تفرضها علاقاتنا المالية معه.»
ونلاحظ أن ديرفيو يكرر هنا نغمةً عبر عنها في خطابات سابقة، وهي أن مركزه يتطلب منه أن يضع ثروته تحت تصرف الوالي. فالبديل عن هذا الموقف هو التخلي والاعتزال. «ولقد كان ذلك يعني إدخال عنصر جديد في الموقف وخلق المنافسين الذين حاولوا حتى اليوم بكل جهودهم أن يحلوا محلنا دون أدنى نجاح.» وفي هذه الحالة كان على أندريه أن يرد بأنه ما من مصرفي واحد يستطيع أن يعيش (طويلًا) سجين طموحه، وأن حرية العمل — حرية الرفض أو القبول — هي قانون أساسي في حياة المهنة المالية.
ولكن ديرفيو في هذه اللحظة لم يكن مهتمًّا بالإنصات إلى أي شيء يقوله أندريه، فلم يستطع أن يفهم وجهة نظر أندريه في خطورة التوقيع الأهوج، وعلى العكس كان ديرفيو مُستاءً من تحفظ أندريه المتعِب. في مصر كان الناس يبعثرون المال هنا وهناك، بينما في باريس ولندن كان أقوى المصرفيين الدوليين يرقبون الموقف ويخفضون الاعتمادات ويبحثون عن أرصدة. وإذ كان محاطًا بالرخاء، شعر ديرفيو أنه يعاقَب بلا مبرر لكارثة السوق الجَموح في أوروبا. على أنه رضخ لنصائح أندريه عن السيولة، وفي نهاية الربع الأول من ١٨٦٤م كان عجزه مع بنك ماركوارد ٤١٢٥٨٢ فرنكًا مقابل حوالي ٢ مليون منذ ثلاثة أشهر فقط.
ولقد أدى هذا التحسُّن في موقف ديرفيو — بالإضافة إلى تحسن عام في السوق المالية الأوروبية — إلى أن يحسن أندريه من لهجته. لقد كان مقتنعًا أن ديرفيو قد بالغ في التوسع، وأن الرخاء المصري متضخم بشكل مصطَنَع، وأن العمل المصرفي السليم لا يتغير في كل مكان وزمان، وأن مخالفة القواعد مهلك في المدى القريب أو البعيد. ومع ذلك اعتقد أندريه أنه ليس هنالك ما يدعو لإغضاب مراسله، الذي كان من الواضح أنه بدأ يكون قلقًا من هذا التأنيب المستمر. وفي خطاب بتاريخ ۱۸ مارس اعترف أندريه في تردد بأنه ربما كان المال متوفرًا في مصر كما أصر ديرفيو، ولكن أوروبا تختلف.
وهذا الفارق في الجو يؤدي من وقت لآخر إلى خلاف في التقدير، الأمر الذي يمكن علاجه عن طريق «تبادل المعلومات الودية». أما بخصوص تشاؤمه الواضح، فقد أحس أندريه أنه غير مدين بالاعتذار عنه «قد تتهمني بأنني أرى الجانب الأسود من الأمور، ولكنني أُفضل أن أرى المستقبل من هذا الجانب بدلًا من أي جانب آخر. إن هذا أكثر حرصًا، وإذا ثبت خطئي فسيكون هذا أفضل.»
•••
ولقد كان أندريه مصيبًا منذ البداية. فطالما كان ازدهار ديرفيو معتمدًا على رعاية إسماعيل، فإنه يبني على الرمال. إن مصروفات الوالي تبتلع كل شيء: إيرادات القطن التي لم يسبق لها مثيل، ودخول الضرائب الكبيرة، وقروض من كل رجل أعمال في الإسكندرية يستطيع أن يقرض الخديوي. ولقد بدا أنه كلما زادت قروض إسماعيل، زادت حاجته إلى الاقتراض من جديد. وصحيح أن وباء طاعون الحيوان والفيضان قد انتهيا منذ زمن، ولكن كانت هناك ديون كثيرة على إسماعيل لشركة القناة، والتزامات أكثر اقترب وعد سدادها: أميال من طرق السكك الحديدية تُبنى، وأخرى في طريق الإعداد، ومنشآت جديدة في مرحلة البناء لميناءَي الإسكندرية والسويس، وكلها أعباء تفوق إمكانيات الحكومة المصرية.
ومع كل إسرافه كان إسماعيل ممتازًا في الاقتراض، كما كان ممتازًا في الانفاق وكل دَين حل موعده دفعه إسماعيل إلى آخر مليم مع بدء دَين آخر، وكل دين مدفوع يحل محله مباشرة دَين جديد. وللحظة بدا أن إسماعيل قد اكتشف في القرن التاسع عشر حجر الفلاسفة، وقانونًا سحريًّا للمحافظة على رصيده بلا نقصان بينما تزداد ديونه بانتظام. ولسوء الحظ كانت موارد المستوطنين الأجانب في مصر محدودة، وقد وجد هؤلاء المستوطنون أن أصدقاءهم في أوروبا أكثر حرصًا في معاملتهم من حرصهم هم في معاملة إسماعيل. وهكذا، فبعد فترة وجد الخديوي — عندما فتح صنبور الماء أكثر من اللازم — أن المياه محجوزة في المنبع، وهبط تدفق الأرصدة رغم كل الجهود التي بُذلت.
ولسنا نعرف كم عدد الخطط التي وضعها إسماعيل لمواجهة هذا الموقف الطارئ، وإن كان ليس هناك شك في أنه تحدث في أنه تحدث في تكتم إلى كل واحد من أصدقائه من رجال الأعمال، ساحبًا منه أكثر ما يمكن أن يسحب، ومقترحًا وسائل وطرق للحصول على أكثر. ولقد لاطف وأغرى وأعطى الوعود فوق الوعود والامتيازات فوق الامتيازات. وعلى وجه الخصوص تكفَّل إسماعيل بتقديم حصة أرباح نصف سنوية تبلغ ١٨٪ من الشركة المجيدية لكي يغري شركة التجارة المصرية على الاندماج معها، ووعد باحتكارات وامتيازات هامة للشركة الجديدة. ولقد كان أحد أهداف إسماعيل هو أن يستبعد شركة التجارة المصرية من ميدان التجارة؛ إذ كانت اتصالاتها بالفلاحين والسكان الوطنيين الآخرين تمثل خطرًا كامنًا على سلطته. ولكن الأكثر أهمية أنه أراد أن يضع شركة التجارة تحت سيطرته، وأن يستخدمها في استنزاف أموال الشركات الأوروبية.
ومن سوء حظ إسماعيل أن المساهمين في شركة التجارة كانوا من السذاجة بحيث صدَّقوا كل ما قاله لهم مديرو الشركة عن ازدهارها. وإذا كانت الشركة مزدهرة فلماذا الاندماج إذن؟ وفضلًا عن ذلك، فقد كانوا لا يثقون في الإدارة المصرية أو القضاء المصري، ولم يدركوا — كما يدرك الخبيرون بحقائق الأمور — أن هذا الاندماج أفضل حماية لاستثماراتهم. وعلى أية حال فقد نحى إسماعيل الاقتراح جانبًا. فبمجرد أن أحس باتجاه الريح في لندن لم ينتظر احتمال الرفض في اجتماع الجمعية العمومية، بل سارع إلى إعلان رفضه للفكرة دون استعداد لإعادة النظر فيها. وربما كان هذا الإعلان يعكس جزئيًّا تحسنًا مؤقتًا في موقفه المالي؛ فالشركة المجيدية انتهزت فرصة محادثات الدفع والحديث عن الأرباح فضاعفت رأس مالها في يونيو، وتم الاكتتاب في ٥٠٪ من الأسهم.
إن هذا الاندماج المقترح لم يكن إلا واحدًا من عدة مشروعات أمل إسماعيل أن يحصل منها على أرصدة، ولم يكن هذا الاندماج هو أفضلها وأكثرها إغراء. وإذا كان قد ثبت أن مساهمي شركة التجارة المصرية ومديريها من البريطانيين لم يقدِّروا كرم الخديوي كما كان ينبغي، فإن ولاء ديرفيو كان محصنًا من هذا الجحود. ولقد كانت فكرة إسماعيل الأولى، في فبراير ١٨٦٤م تتمثل في زيادة رأس مال صديقه زيادة ضخمة تستطيع أن تجعل ديرفيو قادرًا على استئناف خدماته لسيده. وإذ كان إسماعيل وحاشيته سيضاعفون استثماراتهم، فإن ديرفيو دون شك قادر على أن يدبر من عشرة إلى اثني عشر مليون فرنك في مصر، ثم هناك دائما ما يرد من أوروبا. ولقد ثبت أن ثقة الخديوي، بالإضافة إلى حاجة ديرفيو نفسه للأرصدة، أمر مُغرٍ. وهكذا كتب ديرفيو إلى أندريه عن المشروع في لهجة الاعتذار، وإن كان من الواضح أنه يحبذه ويريده.
غير أن الفكرة كانت سخيفة تمامًا؛ إذ أين هو الشخص الذي يحبذ توسع بنك رفع رأس ماله من ثلاثة إلى عشرة ملايين فرنك منذ ثمانية أشهر فحسب؟ لقد رفض أندريه المشروع بعنف إلى الحد الذي جعل ديرفيو مضطرًّا إلى الاعتذار في الخطاب التالي … ولقد قال ديرفيو أنه شخصيًّا في المحل الأول لم يرد زيادة رأس المال أبدًا، وأنه أثار الموضوع معه من قبيل إطاعة الخديوي.
غير أن هذا الاعتذار لم يكن إلا موقفًا مؤقتًا. فبعد ثلاثة أشهر كان لدى ديرفيو مشروع أكبر يضعه أمام أندريه. ووفق كلام ديرفيو، كان هيرمان أوبنهايم «يرهق» هنري أوبنهايم وديرفيو بالإلحاح منذ حوالي عام في إنشاء مؤسسة ائتمان كبيرة في مصر، وأنه عارض هو وهنري في المشروع؛ إذ لا يريان ما يدعوهما إلى خلق منافسه لحسابهما، ولكن هيرمان أجاب على ذلك قائلًا إن الآخرين سينفذون هذا المشروع إن لم يقوما هما بذلك.
لقد كان هيرمان خائفًا من البنك العثماني والشركة العامة للإمبراطورية العثمانية الجديدة، اللذين يودَّان، دون شك، أن يمدَّا ميدان نفوذهما إلى الجانب الآخر من البحر الأبيض. وكان هيرمان مخطئًا في ذلك. فقوة وثروة هذين البنكين العثمانيين هما بمثابة عقبة لهما في مصر؛ حيث كان إسماعيل يستاء من كل ما يفوح برائحة التدخل التركي في سيادته. ولكن هيرمان لم يكن مخطئًا في الفكرة العامة؛ فمن ناحية كان جول باستري — صاحب أقدم بنك فرنسي في مصر (إخوان باستري بمرسيليا والإسكندرية) — يستعد لتأسيس بنك ائتمان برأس مال ١٠٠ مليون فرنك. ومن ناحية أخرى كان لوبوك (مندوب البيت التجاري الإنجليزي كافان ولوبوك وشركاهما) في مصر ليتحقق من القصص المنتشرة عن سوء إدارة الشركة المالية. فالمساهمون الإنجليز في هذه الشركة قد فاض بهم الكيل من باسكوالي وأعوانه. ولذا كان لوبوك يبحث إمكانية تأسيس شركة مالية جديدة تمامًا.
ووفقًا لرواية ديرفيو، فإن لوبوك قد عرض أن يشتري بنك ديرفيو، ويحوله إلى شركة مساهمة، وأن يدفع لديرفيو ٢٠٠٠٠٠ جنيه بشرط أن يظل ديرفيو مديرًا لمدة ثلاث سنوات، وبالإضافة إلى ذلك يدخل جالو وديرفيو كمؤسسَين للشركة الجديدة. ولم يكن المشروع طموحًا كما قد يبدو. فكثير من أصحاب المشاريع وجدوا أن من الأسهل أن يبيعوا الشركات عندما تكون مطعَّمة بشركات أقدم من ذوات الخبرة والسمعة. وبدأت البيوت الخاصة تجد أن هذا التحول هو الحل المثالي للشركات التي تشكو من توسعها الزائد عن الحد، ومضارباتها التعيسة، وأرصدتها المجمدة التي لم يعرف الجمهور عنها بعد. وكما يقول ديرفيو: «إن هذا النوع من العمل قد أصبح شائعًا جدًّا الآن في إنجلترا.»
وقد أجاب ديرفيو على هذا الاقتراح بأنه يودُّ استشارة زملائه. وكان هنري أوبنهايم من بين الأوائل الذين تحدث إليهم ديرفيو، فأجاب بأنه لا يرى ما يدعو إلى إعطاء لوبوك هذه المؤسسة الممتازة، بينما يستطيع هو وديرفيو وأصدقاؤهما في باريس ولندن أن يقوموا هم بعملية التمويل. وبالطبع يمكن دائمًا ضم لوبوك، بل وحتى باستري «الذي لا يطمع في أكثر من العثور على نواة للنشاط المالي، وعملاء جاهزين، وعلاقات وثيقة بالخديوي، وأخيرًا، دون أن أمتدح نفسي، مديرٍ أثبت كفاءته.» لقد كان ديرفيو دائمًا غير مرتاح لفكرة المنافسة.
وعند تقديم المشروع إلى أندريه، كان ديرفيو حريصًا على أن يبرأ من أي مصلحة خاصة قائلًا: «إني أعتقد أن تحقيق هذا المشروع سيقلل من مركزي؛ فلن أكون أكثر من مدير لمؤسسة كبيرة بالتأكيد، غير أنني سأخضع لإشراف مجلس إدارة، بينما أنا اليوم لا أخضع لأحد. وفوق ذلك فإن شركتي الحالية ستنتهى خلال سنوات ثلاث. في ذلك الوقت ربما كنت قادرًا على الاستقلال عن عدد كبير من شركائي، فتكون الشركة لي وحدي تقريبًا، وأتركها من بعدي لأولادي وأولاد جالو. ومن المؤكد أني كنت أحقق الربح المعروض عليَّ في السنوات الثلاث الباقية، وربما قبل ذلك. وإنني آمل أن أمنح المساهمين في شركتي ٢٠٪ عن السنة التي تنتهي.»
ومن ناحية أخرى كان ديرفيو يرى في المشروع مزايا جدية:
«إن تحقيق هذا المشروع يحرر اسمي من التزامات عديدة، ويضمن لي ثروة كبيرة فورًا، ويضعني على رأس مؤسسة تسيطر على البلاد في المستقبل، ويمنع أي شركة أخرى ذات طبيعة مماثلة من الإتيان وتثبيت أقدامها هنا. إن رأس مالي البالغ عشرة ملايين فرنك لم يعُد كافيًا لمواجهة تطور نشاطي. فالحكومة تمتص الجانب الأكثر منه، ومع ذلك فما زلت في اللحظة الحاضرة أنفذ طلبات لعملائي قدرها سبعة ملايين فرنك. وسأحصل على أكثر من ذلك بكثير بمجرد أن أكون قادرًا على المضي بدون إرهاق مطالب الخديوي المالية. وفوق ذلك فإن إسماعيل باشا سيكون بعد سنوات قليلة في وضع طيب من الناحية المالية. فلا شك أنه سيبرم قرضًا جديدًا بعد الوصول إلى قرار فيما يتعلق بمشكلة قناة السويس.»
ولقد أكد ديرفيو موافقة الخديوي على المشروع «بكل قلبه». والحق أن إسماعيل هو الذي أسرَّ لديرفيو بالمعلومات التي جعلته يشعر بالحاجة إلى الحركة السريعة لمواجهة تهديد منافسه باستري: «ولقد طلب منا أن نحتفظ بهذا السر.»
وخلافًا لما يمكن أن يُتوقع، فإن أندريه وافق على مشروع ديرفيو، لقد اعترض على بعض التفصيلات الصغيرة، ولكنه كان مسرورًا من الفكرة العامة. فإنشاء شركة مساهمة ستؤدي في المحل الأول إلى تعبئة أنصبة أندريه في بنك ديرفيو وشركاه. ومن ناحية المبدأ لم يكن بنك أندريه يحب أن يقدم للشركات الأخرى أي «رأس مال» استثماري. وكل مساهمة من جانب هذا البنك في مشروعات شركات جديدة كان هدفه دائمًا هو بيع الأسهم في أقرب وقت. وفوق ذلك فعلى ضوء الارتباط الزائد من جانب ديرفيو في مشاكل الخديوي المالية، كان لدى بنك أندريه دوافع أكثر للتخلص من مصالحه المالية في بنك الإسكندرية. ولا شك أن هذا ما كان في ذهن أندريه عندما اقترح أن حق المؤسسين في ١٠٪ من الأرباح يمكن أن يكون على صورة أسهم قابلة للتبادل. ومن ناحية أخرى لم ينسَ أندريه قط حلمه في تأسيس بنك قومي في مصر، وهذا المشروع يمكن أن يكون تحقيقًا لذلك الحلم. لقد رفض ديرفيو هذه الفكرة من قبل خوفًا من المنافسة. أما اليوم، وخوفًا من منافسة أقوى، فإن ديرفيو يقترح الفكرة من تلقاء نفسه.
وبالطبع كان ديرفيو ساذجًا بشكل يدعو إلى الدهشة بخصوص كل المسألة، فالخديوي كان يدفع ديرفيو منذ وقت طويل إلى التوسع في أعماله، ولذلك فإن حديث ديرفيو عن «السر» الذي أفشاه الخديوي عن إمكانية منافسة جديدة لا بد قد جعلت أندريه يبتسم، ولا بد أن طلب صاحب الفخامة بأن يظل هذا الإفشاء «العرضي» محل الكتمان، قد جعل أندريه ينفجر من الضحك. فالحقيقة أن مالية قد اكتسبت طابع المنافسة إلى حد بعيد، وأن مجموعات عديدة، في داخل البلاد وخارجها، كانت تبحث فكرة تأسيس بنوك مساهمة جديدة، وأن على أندريه أن يتحرك بسرعة إذا أراد أن يكون الأول، ولا سيما أن الرأسماليين البريطانيين كانوا أسخى منه ومن زملائه في باريس، إذ كان البريطانيون في ظل فوائد الخصم المرتفعة باستمرار يؤسسون الشركات ويطرحون الأوراق المالية بإسراف أكثر من ذي قبل. ولم تكن أنباء الحرب المزعجة في شلزفيج-هولشتين كافية لوقف اندفاع المستثمرين الطموحين والمضاربين الطموحين المستعدين لخطف أي شيء يقدَّم لهم، ولم يكد يحل آخر أبريل سنة ١٨٦٤م حتى كانت قيمة الأوراق المالية الجديدة الصادرة في إنجلترا قد زادت على نصف مجموعها في سنة ١٨٦٣م الذي يمكن اعتباره عامًا استثنائيًّا. إن شيئًا من هذا القبيل لم يحدث منذ ازدهار مشروعات السكك الحديدية في فترة ١٨٤٠–١٨٥٠م.
ولقد تحرك أندريه بسرعة؛ فعند وصول خطاب ٤ يونيو أبرق إلى ديرفيو بموافقته الكاملة: «موافقة كاملة من ناحية المبدأ على الارتباط المقترح، وأقبل المركز المقترح اعتمد على مساهمة كبيرة من جانبنا، وعلى القيام بأعمال الوكالة.» وبعد ذلك بأسبوعين أرسل خطابًا مطولًا تُلقي لهجته الدينية بعض الضوء على إيمان أندريه ومكانة الرعاية الإلهية عنده كعامل من عوامل نجاح العمل المالي.
«لقد قلتُ لك في برقيتي إني أوافق على المبدأ من جميع الوجوه، فما أراك راغبًا في تنفيذه ليس إلا المشروع الذي اختمر في ذهني منذ وقت طويل. ولقد فكرت فيه مع هيرمان أوبنهايم منذ عام، وأرى فيه شاهدًا على رعاية الله، الذي يوجه كل أعمالنا لك، هذه الرعاية التي تتمثل في أن اتحادًا من هذا النوع، مطلوبًا ومفيدًا لكل الأطراف المعينة، قد أثار هنا، في مناسبات مختلفة، انتباه رجال مرموقين، وأدى إلى مؤتمرات ومشروعات، وبدا كأنه ضد مصلحتك. ومع ذلك فلم يتم منه شيء.»
«ولقد استفدت أنت من التأخير. وها أنت تتولى المشروع بنفسك وأنت قوي مدعَّم المركز في البلاد؛ هنيئًا لك! ولعلك تفكر في المزايا التي تعود عليك من هذا النوع من العمل. إن إدارتك لعملٍ من الطراز الأول كهذا ستزيد من أهميتك كرجل أعمال. وبالضرورة ستشترك في كل ما له أهمية وميزة يتم في مصر. وإذا استطعت، كما أتوقع وأرجو، أن توجه دفة أموالك عبر التيارات والأمواج، فلا شك أنك ستساهم مساهمة غير صغيرة في تطور رخاء وحضارة البلاد التي ارتبطتَ بها. ويبدو لي أنه مهما تكن آمالك عريضة، فإن هذا العمل هو الذي سيرضي هذه الآمال.
ولا شك أنك ستجد بين شركائك الحاليين البعض ممن لا يرحبون بالمشروع، وسيفتقدون به الجو العائلي القائم في شركتك حاليًّا، ويفضلون أن يستمروا كشركاء معك في عمل أكثر استقرارًا وجزاءً، وإن كان أقل اتساعًا. والبعض (وأعتقد أنهم أقلية) قد يرون رأيًا آخر في توزيع المبلغ الذي ستدفعه الشركة الجديدة نظير مساهمتك، ولكن بشكل عام سيفهم الجميع أن هذا التحول يمثل المصلحة العامة. وحتى لو كانت الظروف غير مواتية واللوائح غير مرضية، فإن عملك سيبدو أمام الرأي العام مؤكَّدَ النجاح.»
ويختم أندريه خطابه قائلًا:
«ولكني سأعود إلى الموضوع عندما تكون الأمور قد تقدمت عن ذلك؛ أما اليوم فأود أن أكرر لك مرة أخرى أنه يحسُن أن تسرع؛ فالظروف تفرض عليك أن تتخذ إجراءً سريعًا. وعند موسم القطن القادم فلا بد من أن تكون مستعدًّا لخدمة كل مصالح البلاد.»
ولسوء الحظ فتر حماس أندريه نتيجة خطابين من مصدرين مختلفين تمامًا. وكان الخطاب الأول من صحفي يُدعى هورن، كون لنفسه سمعة كخبير في الشئون المالية، وكان المحرر المالي لصحيفة «جورنال دي ديبا» الفرنسية ذات النفوذ الكبير، ولقد قضى هورن بضعة شهور عام ١٨٦٤م في مصر، درس فيها الصناعة والتجارة والبنوك المحلية مستهدفًا، دون شك، أن يجد لنفسه ثغرة ينفذ منها. ولقد وجد أوبنهايم وديرفيو في هورن شخصًا مفيدًا، وهكذا عاد إلى أوروبا ممثلًا لهما مكلَّفًا بأعمال كثيرة، من بينها التفاوض في تكوين شركة الائتمان المقترحة، والتي سيصبح هو واحدًا من «مؤسسيها». وتوقف هورن في باريس وناقش المشروع مع أندريه في منتصف يونيو، ثم ذهب إلى لندن لمفاتحة الدوائر المالية بها في المشروع.
ولقد وجد هورن أن السوق «في حالة توقف كامل» يشلُّه خطر تجدد الحرب بين بروسيا والدنمارك. وكانت الأعمال المالية المصرية في سوق لندن — على وجه الخصوص — راكدة، وثمة عدد من المشروعات التي لم تتحقق تخنق السوق وكأنها كابوس مزعج، ومما زاد الأمر سوءًا حلول الصيف، وهو فصل ميت من الناحية المالية، وفيه يفضل المستثمرون والممولون أن يتجنبوا أي التزامات جديدة. وباختصار فلم يكن هناك ما يمكن عمله حاليًّا.
وقد دعم هذا التقدير المظلم من جانب هورن تقديرٌ مماثل للسوق الفرنسي من جانب دينيون دي بان، صديق أندريه الطيب في شركة المسيجاري ماريتيم وشركة فورج وشانتييه. ولقد كتب دي بان — وهو في مهمة بمصر — خطابًا من الإسكندرية في ٢٩ يونيو إلى أندريه يعبر فيه عن قلقه من فشل ديرفيو في الحصول على تأييد بريطاني كافٍ للمشروع. وفي هذا الخطاب يقول إن ديرفيو «سوف يحبذ» أن يُعطَى أندريه والسوق الفرنسية نصيبًا من القرض أكبر مما كان محددًا من قبل، وأنه لا يعتقد أن السوق الفرنسية تستطيع أن تمتص مثل هذا الحجم من الأسهم. وفوق ذلك فقد كان دي بان قلقًا من باستري، الذي يبدو أنه يمضي قُدمًا في مشروعه الخاص. وقد تساءل دي بان: ألا توجد وسيلة لجذب باستري وتجنب تقسيم سوق متوترة بالفعل؟
ومثل هذين الخطابين، بالإضافة إلى محادثات ليس لدينا تسجيل عنها مع الأسف، قد دفعت أندريه إلى التفكير. لقد حث ديرفيو على الإسراع، ولكن العجلة كانت مستحيلة بشكل واضح. فطرح أسهم مثل هذه المؤسسة الكبيرة ليس بالأمر السهل، وهو يحتاج إلى وقت ومهارة حتى يمكن تجميع مجموعة ترعى المشروع، وحتى يمكن التوفيق بين مصالح مختلف الأعضاء، وتدبير ارتباطات طويلة إلى الحد الذي يكفي كل الشروط والوعود. وكل ذلك صعب، ولا سيما أنه يوجد شخص واحد يبلغ من القوة ما يجعله قادرًا على اختيار وتحديد قواعد العمل.
وفوق ذلك، تعقدت المهمة بسبب وجود ديرفيو. فإن ممول الإسكندرية سيكون في الواقع شريكًا كبيرًا. وسواء أكان نصيبه ٢٠٠٠٠٠ جنيه أو ٥٠٠٠٠٠ فإن هذا مبلغ كبير. ولا بد أن يبدو مثل هذا النصيب الكبير في أعين الممولين الدوليين، الذين تعودوا على تقسيم هذه الأنصبة فيما بينهم؛ إسرافًا لم يسبق له مثيل، لصالح شخص غريب ليس لديه ما يساهم به غير نواياه الطيبة. وصحيح أن نوايا ديرفيو الطيبة وخبرته المصرفية ستثمر أرباحًا كبيرة في المستقبل، إلا أن الجزاء البعيد لا يغري الرأسماليين الذين كان هدفهم الأول تحقيق عائد سريع مُجزٍ. وإذا كانت الأرباح من نصيب المستثمر فإن هذا المستثمر يصعب عليه تحبيذ عملية مثقَلَة منذ البداية بهذه التركة الكبيرة. أما في عين المساهم المنتظر فإن ديرفيو ونصيبه ليسا ضمانًا للازدهار، وإنما هما تعويذة الخراب. وفي النهاية تساءل عديد من الأوروبيين الذين تمت استشارتهم: هل وجود ديرفيو ضروري حقًّا؟ إن شخصًا من نوع ديرفيو لم يكن موجودًا في البنك الإمبراطوري العثماني.
وعلى أية حال لقد كانت هناك شكوك منذ البداية، وحتى هنري أوبنهايم، الذي ساعد ديرفيو في إعداد المشروع، انتهز الفرصة للطعن في صديقه. ففي أول يوليو كتب أوبنهايم إلى أندريه يخبره أنه يشعر أن النصيب المحجوز لديرفيو وشركائه كبير جدًّا: «لقد بحثت عن اتحاد يُمكِّننا أن نعطي شركاء ديرفيو مجرد فائدة في العملية الجديدة، فإذا نجحت ضمِن لهم نجاحها فائدةً دائمة. ولكن هذا الحل محل اعتراض هنا.» وليس الأمر أن أوبنهايم يعترض شخصيًّا على نصيب ديرفيو الكبير وإنما «علينا فوق كل شيء أن نفكر في الجمهور.»
ولقد بدأ أندريه يدرك أن تكوين «شركة الائتمان» لن يكون عملًا سهلًا كما كان يظن.
•••
أما عند ديرفيو، فإن فشل مشروعه أمر لا يخطر له ببال. فمطالب إسماعيل المستمرة قد استنزفت قُواه. ولقد حاول أن يحافظ على مصادره المالية برفض أعمال مالية جديدة، وتأجيل طلبات من الخديوي تبلغ حوالي عشرة ملايين فرنك. ولحسن حظه فإن الهبوط العام في النشاط المصري في ميدان الأعمال قد خفف الضغط عليه. ومنذ مارس ١٨٦٤م أدى هبوط بسيط في الأسعار في ليفربول إلى توقف ارتفاع أسعار القطن، وفضَّل التجار والمزارعون المصريون أن يتوقفوا عن البيع وينتظروا الارتفاع. وهبطت الصفقات مع أوروبا بعنف، ومع هذا الهبوط هبطت الحاجة إلى التسهيلات الائتمانية وتسهيلات الخصم. ولقد استطاع ديرفيو أن يوقف عجزه في باريس في الحدود المعقولة (في نهاية يونيو كان العجز حوالي ٦٦٠٠٠٠ فرنك فحسب) وكان سعيدًا بأن يغطي الركود العام في السوق مركزَه الضعيف.
كان هذا في الربيع. أما الآن فقد حل الصيف، وأوشك الفلاحون بعد أسابيع قليلة أن يجمعوا القطن ويحلجوه ويكبسوه وينقلوه إلى الإسكندرية. إن الوقت يمر بسرعة، والصيف فصل قائظ غير مريح في مصر، لا سيما بالنسبة لمزارعين مثل إسماعيل أنفقوا إيراد حصاد العام الماضي وينتظرون الخريف بفارغ الصبر. ولكن المقترضين — ولا سيما الذين تعودوا على ذلك — أقل تعاسة من مقرضيهم. فديرفيو — الغني بالوعود والفقير في النقود — كان يرتعد من مجرد التفكير في موسم القطن المقبل. وفي ٢٠ يونيو كتب إلى باريس يقول إن أندريه ودي بان قد «أقنعاه» بمصلحته في قبول تحويل بنكه إلى مؤسسة مساهمة، وأنه من المهم استعجال الأمر. ولما كان أوبنهايم مترددًا وكان بنك فروهلنج-جوش مغاليًا في مطالبه، فإن على أندريه أن يتولى الأمر وحده. بل إن ديرفيو يذكر صديقه قائلًا: «لما كنت قد عرضت عليَّ مساعدتك في لندن إذا قصرت معونة جوش فإنني أقبلها من كل قلبي.» ثم أضاف في لهجة خيرة: «إنني أشعر مثلك أننا في حاجة إلى سوق لندن، ولكن لا تنسَ، إنه مهما كانت رغبتنا في ضمان فائدة مجزية لأسهُمنا، فإنني لا أريد أن يكون مشروعنا عملًا من أعمال المضاربة.»
وفي نفس الوقت حاول ديرفيو أن يواجه الاعتراضات الموجهة ضد حصول أصحاب البنك القديم على ۲۰۰۰۰۰ جنيه نصيبًا في البنك الجديد. فقد أرفق طي خطابه بيانًا يوضح أن مصرفه قد حقق في المتوسط ربحًا يزيد ٣٠٪ عن أرباح السنوات الأربع الأولى، وأنه وَفق هذا المعدل فإن المستثمرين في مصرفه يستطيعون أن يدفعوا ضعف قيمة أسهم المؤسسة الجديدة، وأن يحققوا بعد ذلك ١٥٪ ربحًا في العام. وعلى ذلك فإن تخصيص ٥٠٪ مقابل شراء اسم مصرفه الحالي — خمسة ملايين فرنك من رأس مال قدره عشرة ملايين — لا يتضمن أي مبالغة أو إسراف. ومما يذكي هذا التقدير أن هذه العوائد المجزية قد تحققت إلى حد كبير بدون مساعدة إسماعيل الذي لم يمضِ على توليه الحكم أكثر من ١٨ شهرًا. وقد توقع ديرفيو نتائج أفضل في المستقبل.
ومن المشكوك فيه أن يكون أندريه قد تأثر بمثل هذه الحجة. فأولًا: مهما بدت هذه الحجة قوية للوهلة الأولى، فإنها لا تصمد أمام أي بحث دقيق. وكما أوضح هنري أوبنهايم في خطاب أول يونيو إلى أندريه، فإن أرباح ديرفيو الملحوظة تعتمد على مجموعة من الظروف المواتية الخاصة التي لا يمكن أن تستمر إلى الأبد. ثم هنالك أيضًا مسألة أخرى وهي: كم من هذه الأرباح قد تحقَّق فعلًا؟ وكم منها ليس إلا مجرد أرقام في كتاب.
والأكثر أهمية ذلك أن هذه الحجة غير ذات موضوع. فما يهم أندريه ليس تبرير مطالب ديرفيو، وإنما تأثيرها على الشركاء المنتظرين وعلى الجمهور المستثمر. ومن وجهة النظر هذه كانت مطالب ديرفيو عنصرًا واحدًا من مشكلةٍ دقيقة أكبر، ألا وهي: الإمكانية العملية للمشروع. وإذا كان ديرفيو يعتقد أن الثقة والأرقام الخيالية، يمكن أن تُغري رجلًا مثل أندريه بتجاهل الركود الحقيقي في السوق في فصل الصيف، وبمحاربة كل المالية الدولية بيد واحدة، فلا شك أن آماله ستخيب.
وفي الوقت نفسه كان جول باستريه يمضي قُدمًا في مشروعه. ولا بد أن هذا قد أثار دهشة ديرفيو الذي كان يعتبر نفسه الرجل الأفضل، وتدهشه إلى حدٍّ ما ادعاءات منافسة: «على الرغم من كل التقدير الذي أُكنه لمستر باستريه، وإذا نحينا جانبًا مسألة التواضع، فإنني لا أخشى منه كمدير لشركة منافسة لي.» إلا أن قوة باستريه تكمن بالدقة في مركزه الأدنى في سلم المالية المصرية. ولقد كان أقل طموحًا من ديرفيو؛ فقد كان يطلب هو وشريكه سينادينو مائة ألف جنيه فحسب مقابل بيع شركاتهم الخاصة. ولقد وجد صعوبات أقل في الحصول على ٢ مليون جنيه يدفع ربعها في الشركة، إذا قورنت بمحاولات ديرفيو في الحصول على ٤ ملايين جنيه. ولقد حصلا على هذا المبلغ في إنجلترا، وهذا هو المهم. وهكذا ظهر البنك الإنجليزي الفرنسي في شهر يوليو تحت رعاية بنك أجرا وهاسترمان الذي كان يريد أن تكون له محطة مالية في الطريق إلى الهند، وتحت رعاية شركة الائتمان المالية العامة (لينج وديفو). ولقد استوعبت المؤسسة الجديدة بيتي باستريه إخوان وسينادينو وشركاهم الماليين على أن يظل صاحبا هذين البيتين مديرين في المؤسسة الجديدة. وبهذه الطريقة توقع البنك الإنجليزي المصري أن يجد نفسه منذ البداية «في أشد الأوضاع امتيازًا، فمن المؤكد أن ارتباطاته ستثمر أرباحًا كبيرة، ولقد ضمن البنك تعاون الأطراف التي تعرف بدقة كل الاستخدامات في البلاد، والتي استطاعت لسنين طويلة أن تحتفظ بثقة الحكومة والمجتمع التجاري في أوروبا والشرق»، وعلى الرغم من أن القيمة الاسمية للأسهم حُددت بخمسين جنيهًا للسهم (وهو سعر غير مناسب) إلا أن الآفاق كانت طيبة، والأكثر من ذلك أن المشروع قد عولج بمهارة بحيث غُطيت الأسهم وزادت.
ولقد علم ديرفيو بنجاح باستريه مباشرة بعد أن أرسل إلى أندريه خطابه المؤرَّخ ٣٠ يونيو. ولسنا نعرف رد فعله لهذا الخبر، وربما تكون الدهشة قد عقدت لسانه في أول الأمر. ولكن بمجرد أن زالت الدهشة الأولى فلا بد أن إدراكه بأن زميله في البؤس قد تركه وحده يعاني آلام الصدمة، قد آلمه أكثر من آلام الصدمة نفسها. وأكثر من أي وقت مضى، بدا ديرفيو ينعى عجزه في الإسكندرية بينما يتحكم الغرباء في مصيره على بعد آلاف الأميال. فليكتفِ إذن بما تم في الماضي من ثرثرة ومؤامرات، فقد حان الوقت أن يأخذ مصيره بين يديه. وفي ٣ يوليو أرسل ديرفيو برقية إلى أندريه ينبئه بسفره إلى فرنسا خلال أسبوع، وكان الرد بمثابة دُش من الماء البارد: «إذا كانت دوافع الرحلة هي مسألة ٨ يونيو، فالأفضل أن تؤجل السفر حتى سبتمبر.»
ويبدو أن الماء لم يكن باردًا بدرجة كافية، ومن المحتمل أنه لم يكن هناك ماء من البرودة بحيث يجعل ديرفيو يغير رأيه. فديرفيو كان مصممًا على الذهاب إلى باريس واثقًا من أنه سيتغلب على كل العقبات بمجرد وجوده هناك، وأنه إذا استطاع أن يتحدث إلى هؤلاء المصرفيين وجهًا لوجه، فإنهم سيفهمون أي صفقة رابحة يعرضها عليهم. أن ماليت، وفولد، وهوتنجر رجال طيبون وديرفيو لم يتردد أن يقول هذا لأصدقائه في الإسكندرية قبل الرحيل.
والحقيقة أن ديرفيو كان مخطئًا في تقديراته، فلم يكن سوق لندن مختنقًا مؤقتًا بعروض من الشرق الأدنى فحسب، ولم يكن سوق باريس من الضعف بحيث كان عاجزًا عن هضم أي شيء فحسب، وإنما الأكثر ذلك أن المصرفيين أنفسهم الذين أراد ديرفيو التحدث إليهم لم يكونوا في باريس، إذ لم يكن لديهم رغبة في التخلي عن إجازاتهم الصيفية التقليدية لبحث هذا المشروع. وأندريه نفسه غادر باريس بقية شهر يوليو. وعند ما عاد كان تدخل ديرفيو الشخصي قد ساعد على تجسيم الصعاب وبلورة المقاومة. ولقد كتب أندريه إلى ديرفيو بلهجة الأمل: «إن الأفكار قد نضجت بالاتصالات والمناقشة.» ولكن المسألة كانت: ما هي هذه الأفكار؟ لقد تراجع بنك أندريه ببطء وإن كان في وضوح؛ من الحماس إلى الحذر، ومن الحذر إلى الشك، ومن الشك إلى الرفض. ولم تكد تحل نهاية أغسطس حتى كان أندريه قد قرر أن أفضل شيء للجميع هو إما أن يزيد ديرفيو رأس ماله زيادة كبيرة، أو أن يستمر الوضع الراهن لديرفيو على أن ينشأ، بنك جديد ممتاز على طراز البنك العثماني في مصر. ولم يكن عند أندريه فكرة كيف يمكن أن يكون هذا الاقتراح الأخير مدمرًا لديرفيو. وكان أندريه معذورًا في ذلك، فديرفيو قد أخفى حقيقة متاعبه؛ إذ لو عرفت لما استطاع أن يجمع ٢٠٠ ألف جنيه.