جريمة اللورد سافيل
١
كانت هذه آخر حفلة استقبال تقيمها الليدي وندرمير قبل عيد الفصح، وكان قصر بنتنك أكثر ازدحامًا من المعتاد، وقد أقبل ستة من أعضاء الوزارة من حفلة رئيس مجلس العموم في حلل رسمية مزدانة بالأوشحة والنياشين. وكانت النساء الجميلات في أبهى زينة وأرشق ثياب، ووقفت الأميرة صوفيا أوف كارلسروه — وهي سيدة تترية الملامح والسمات ضيقة العينين سوداؤهما، وقد حليت من الزمرد أبرع الفصوص — في آخر إيوان الصور تتكلم بفرنسية رديئة بأعلى صوتها وتسرف في الضحك من كل ما يُقال لها. وكان الجمع خليطًا عجيبًا، فمن شريفات حاليات يتحدثن إلى أحرار متطرفين، ومن وعاظ مشهورين يشاربون ملاحدة معروفين، ومن أساقفة يتبعون ممثلة بدينة من حجرة إلى حجرة، وقد وقف على درج السلم عدة من أعضاء المعهد الملكي متنكرين في أزياء فنانين. وقيل: إنَّ قاعة الأكل كانت في فترة من الفترات غاصة بالعباقرة. والواقع أنَّ هذه الليلة كانت من أطيب ليالي الليدي وندرمير، وقد بقيت الأميرة ساهرة إلى قريب من منتصف الساعة الثانية عشرة.
وما كادت الأميرة تنصرف حتى أقبلت الليدي وندرمير من إيوان الصور، حيث كان أحد مشاهير رجال الاقتصاد السياسي يشرح — في جدٍّ — النظرية العلمية للموسيقى لفنان مجرى مغيظ، وراحت تتحدث إلى دوقة بيزلي، وكانت تبدو رائعة الجمال، بعنقها العاجي وعينيها الزرقاوين، وخصل شعرها الذهبي الوحف، ولم يكن لونه من ذلك الضرب الأصفر الباهت الذي يغتصب في هذه الأيام اسم الذهب الكريم، وإنما كان من ذلك الذهب الذي تنسج منه أشعة الشمس أو يختبئ في العنبر النادر، وقد أكسب محياها مسحة من القداسة وشيئًا من فتنة الخطيئة. وكان أمرها عجبًا من الناحية النفسانية؛ فقد اهتدت في صدر حياتها إلى تلك الحقيقة المهمة، وهي أنه ما من شيء يشبه السذاجة مثل الخفة والطيش. وقد استطاعت بفضل طائفة من الحماقات — نصفها لا ضير منه — أن تستفيد مزايا المرأة ذات الشخصية. وقد غيرت زوجها غير مرة. ويقول ديبريت: إنها تزوجت ثلاث مرات، ولكن لما كانت لم تغير قط عشيقها فقد كف العالم اللغط بأمرها. وقد صارت الآن في الأربعين من عمرها ولا ولد لها، واحتفظت بنهمها في طلب اللذة، وذاك سر الغضارة.
وأدارت عينيها فجأة في الحجرة وقالت بصوتها الخفيض الواضح: أين قارئ كفي؟
فسألتها الدوقة وقد عَرَتْها هزة: ماذا تقولين يا جلاديس؟
– قارئ كفي يا عزيزتي الدوقة، فما أستطيع أن أحيا بدونه في الوقت الحاضر.
فتمتمت الدوقة: يا عزيزتي جلاديس، أما إنَّ لك لأطوارًا!
فمضت الليدي وندرمير تقول: إنه يقرأ لي كفي مرتين كل أسبوع بانتظام، وهو حاذق فطن.
فقالت الدوقة لنفسها: «يا إلهي … ما أفظع هذا! وإني لأرجو أن يكون أجنبيًّا؛ فإن هذا يجعل الأمر أهون.»
– لا بد أن أقدمه إليك.
فصاحت الدوقة: تقدمينه؟ أتعنين أنه هنا؟
وراحت تتلفت باحثة عن مروحتها الصغيرة وشملتها تحفزًا للانصراف بسرعة.
– بالطبع هنا، فما أستطيع أن أقيم حفلة بدونه، وقد قال لي: إن لي كفًّا ناطقة بأطواء النفس، وإنه لو كانت إبهامي أقصر قليلًا لكنت مُتشائمة ولانتهى أمري بأن أدخل ديرًا.
فقالت الدوقة وقد ذهب عنها الروع: مفهوم … أحسبه يقرأ للناس حظهم؟
قالت الليدي: وسوء حظهم أيضًا، فأنا مثلًا سأكون في العام المقبل في خطر عظيم، من البر والبحر جميعًا، ومن أجل هذا سأعيش في منطاد ترفع إلي وأنا فيه سلة طعامي كل مساء. وكل هذا مكتوب على أصبعي الصغيرة أو راحتي، لا أدري، فقد نسيت.
– ولكن هذا إغراء للعناية الإلهية يا جلاديس ولا شك.
– يا عزيزتي الدوقة، إن العناية الإلهية تستطيع أن تقاوم الإغراء، وعندي أن كل إنسان ينبغي أن تقرأ له كفه مرة كل شهر ليعرف ما ينبغي أن يتقي عمله، وصحيح أنَّ الإنسان يفعل ما هو فاعل على كل حال، ولكن التحذير لا يخلو من مُتعة، والآن يحسن أن يجيئني أحدكم بالمستر بودجرز وإلا ذهبت بنفسي لأبحث عنه.
فقال شاب وسيم مديد القامة، وكان واقفًا يصغي إلى الحديث وهو يبتسم: دعيني أذهب يا ليدي وندرمير.
– شكرًا لك يا لورد أرثر، ولكني أخشى أن لا تعرفه!
– إذا كان كما تصفينه آية من آيات الله، فلا أحسب أني أخطئه، صفيه لي أجئك به في التو والساعة.
– إنه لا يبدو كما نتخيل قارئ الكف، وإنما هو رجل قصير بدين أصلع الرأس وعلى عينيه نظارة كبيرة ذهبية الإطار — وهو يُشبه طبيب العائلة — أو نائبًا في الأرياف، وإني لآسفة جدًّا، ولكن هذا ليس ذنبي، وإنما الذنب للناس الذين لا يزالون يخيبون كل أمل، كل عازفي البيانو الذين أدعوهم يشبهون الشعراء، وكل شعرائي يشبهون عازفي البيانو، وأذكر أني دعوت في الموسم الماضي إلى العشاء رجلًا من أفظع الفوضيين، رجلًا نسف كثيرًا من الناس وكان ينبغي أن يجيء لابسًا درعًا ومعه خنجر يخبئه في كمه، فهل تعلمون أنه لما جاء بدا لي كأنه قسيس ظريف، وظل يمزح طول الليل؟ وصحيح أنه كان ظريفًا حلو الفكاهة إلى آخر ذلك، ولكن أملي فيه خاب، ولما سألته عن الدرع ضحك وقال: إن الجو في إنجلترا بارد جدًّا … آه … هذا هو المستر بودجرز! تعال يا مستر بودجرز فإني أريد منك أن تقرأ كف دوقة بيزلي. انزعي قفازك يا دوقة … عن اليد اليمنى لا اليسرى.
فقالت الدوقة وهي تنزع قفازًا من الجلد غير نظيف: يا عزيزتي جلاديس … لست أرى أن هذا من الصواب تمامًا.
فقالت الليدي وندرمير: ما من شيء ممتع يكون من الصواب، ولكن يحسن بي أنْ أقومَ بواجب التَّعريف، هذا هو المستر بودجرز قارئ الكف وهو أثير عندي يا دوقة، ويا مستر بودجرز هذه هي دوقة بيزلي. وإذا قلت: إن تل القمر الذي في كفها أكبر من الذي في كفي فلن أؤمن بك بعد ذلك أبدًا!
فقالت الدوقة: أنا واثقة يا جلاديس أنه ليس في كفي شيء من هذا.
فقال المستر بودجرز وهو يلقي نظرة على كفها الصغيرة الغليظة وأصابعها القصيرة المبططة: إنك على حق يا سيدتي، فإن تل القمر ليس ظاهرًا، أمَّا خط الحياة فبديع. أرجو أن تثني رسغك، شكرًا لك، ثلاثة خطوط واضحة هنا، إن عمرك طويل يا سيدتي الدوقة وستكونين سعيدة جدًّا، الطموح معتدل، خط العقل ليس فيه مبالغة، خط القلب …
فصاحت به الليدي وندرمير: والآن يا مستر بودجرز أرجو أن لا تتحرز!
فقال المستر بودجرز وهو ينحني: ليس أبعث على سروري من ذلك، لو كانت الدُّوقة غير ما أرى، ولَكِنَّهُ يُؤسفني أَنْ أَقُول: إِنِّي أرى ثباتًا عظيمًا في عواطفها مقرونًا بشعور قوي بالواجب.
فقالت الدوقة وقد بدا عليها السرور: استمر من فضلك يا مستر بودجرز.
فمضى المستر بودجرز في كلامه فقال: إن الاقتصاد ليس أقل فضائلك يا سيدتي الدوقة.
فأنشأت الليدي وندرمير تضحك.
وقالت الدوقة بلهجة الراضي المغتبط: إن الاقتصاد نهج حسن جدًّا، ولما تزوجت بيزلي كان له أحد عشر قصرًا وليس بينها بيت واحد يصلح للسكنى.
فقالت الليدي وندرمير: والآن صار له اثنا عشر بيتًا ولكن ليس له قصر واحد.
فقالت الدوقة: الحقيقة يا عزيزتي أني أحب …
قال المستر بودجرز: الراحة، والمرفهات الحديثة، والماء الساخن في كل غرفة نوم، وأنت يا سيدتي الدوقة على حق؛ فإن الرفاهية هي الشيء الوحيد الذي تستطيع حضارتنا أن تنيلنا إياه.
وقالت الليدي وندرمير: لقد رسمت شخصية الدوقة ببراعة يا مستر بودجرز، والآن يجب أن تقرأ كف الليدي فلورا.
وأنغضت رأسها إليها وهي تبتسم؛ فخَرَجتْ مِنْ وراء الطارقة — الكنبة — فتاة طويلة صفراء الشعر عالية الكتفين، وبسطت كفًّا طويلة الأصابع قليلة اللحم.
فقال المستر بودجرز: آه … عازفة بيانو … إني أرى عازفة ماهرة ولكنها لا تبلغ أن تكون موسيقية، متحرزة جدًّا، صادقة … شديدة الحب للحيوان.
فقالت الدوقة لليدي وندرمير: هذا صحيح كل الصحة … فإنَّ عِند فلورا أَرْبَعةً وعشرين كلبًا في قصر ماكلوسكي، ولو أنَّ أباها خلى بينها وبين ما تريد لجعلت من دارنا حظيرة للحيوان.
فقالت الدوقة لليدي وندرمير: هذا صحيح كل الصحة … فإنَّ عِند فلورا أَرْبَعة وعشرين كلبًا في قصرماكلوسكي، ولو أنَّ أباها خلى بينها وبين ما تريد لجعلت من دارنا حظيرة للحيوان.
فقالت الليدي وندرمير وهي تضحك: هذا ما أصنعه بداري مساء كل خميس سوى أني أوثر الأسود على الكلاب!
فقال المستر بودجرز وهو ينحني لها: هذه غلطتك الوحيدة يا ليدي وندرمير.
فكان الجواب: إذا المرأة لم تستطع أن تفرغ على أغلاطها حسنًا وفتنة؛ فإنها لا تكون أكثر من أنثى، ولكن يجبُ أن تَقْرأ لنا أكفًّا أُخرى. تعالَ يا سير توماس! ابسط يدك للمستر بودجرز.
فتقدم كهل طلق المحيا يرتدي صدرية بيضاء، وبسط كفًّا غليظة خشنة وُسطاها — بضم الواو — طويلة جدًّا.
– مغامر، أربع رحلات طويلة فيما مضى، ورحلة أخرى ستجيء، تحطمت به السفينة ثلاث مرات، كلا، بل مرتين فقط، والثالثة ستكون في الرحلة التالية، محافظ جدًّا، ومواظب جدًّا، وكلف بجمع التحف والطرف، أصيب بمرض شديد بين السادسة عشرة والثامنة عشرة، ورث ثروة وهو في الثلاثين تقريبًا، ينفر نفورًا شديدًا من القطط والأحرار.
فقال السير توماس: مدهش! يجب أن تقرأ كف زوجتي أيضًا.
فقال المستر بودجرز في هدوء وهو يتأمل كف السير توماس: زوجتك الثانية، زوجتك الثانية يا سيدي. إن هذا يكون من دواعي اغتباطي.
ولكن الليدي مارفيل — وهي سيدة ساهمة الوجه داكنة الشعر وطفاء الهدب — أبت كل الإباء أن تدع أحدًا يكشف عن ماضيها أو مستقبلها. وعجزت الليدي وندرمير عن إقناع المسيو دي كولوف السفير الروسي بأن ينزع حتى قفازه، وبدا كثيرون كأنهم يخشون أن يواجهوا هذا الرجل القصير وابتسامته الثابتة — كأنها مرسومة — ونظارته الذهبية، وعينيه البراقتين كالخرزتين. ولمَّا قال لليدي فرمور على مسمع من الجميع أنها لا تعبأ شيئًا بالمُوسيقى ولكنها تحب الموسيقيين حبًّا جمًّا، أحس كل امرئ أن علم الكف علم خطر وأنه ينبغي أن لا يزاول إلا في خلوة.
على أن اللورد أرثر سافيل الذي كان يجهل قصة الليدي فرمور كل الجهل، والذي كانت عينه على المستر بودجرز، اشتهى أن تقرأ له كفه، غير أنه استحيا أن يتقدم غير مدعوٍّ، فمضى إلى حيث كانت الليدي وندرمير جالسة، ووجهه مضطرم من الخجل وسألها هل يقبل المستر بودجرز أن يقرأ له كفه؟
فقالت: بالطبع يقبل، وإلا فَمَا داعي وجوده بيننا؟ ولكن اعلم يا لورد أرثر أنَّ كل أسودي مدربة مروضة، وهي تثب نافذة من الأطواق كُلَّمَا أمرتها بذلك، غير أني أنذرك من الآن أني سأقص كل شيء على سيبيل، وهي ستتغدى معي غدًا لنتبادل الرأي في القبعات، فإذا وجد المستر بودجرز أنك سيء الخلق أو أنك معرض للإصابة بمرض النقرس، أو أن لك زوجة تعيش في بيزووتر، فإني سأفضي بهذا كله إليها على التحقيق.
فابتسم اللورد أرثر وهز رأسه: لست خائفًا، فإنَّ سيبيل تعرفني حق المعرفة كما أعرفها.
– آه … يؤسفني أن أسمعك تقول ذلك، فإنَّ القاعدة الصحيحة للزواج هي سوء التفاهم المتبادل. كلا، لستُ أسخر ولا أنا كلبية النزعة، ولكني جربت الحياة، والتجربة تفضي إلى قريب من ذلك. يا مستر بودجرز، إنَّ اللورد أرثر سافيل يتلهف على قراءة كفه، فلا تقل له: إنَّه خطيب فتاة من أجمل فتيات لندن؛ فقد أُذيع هذا في صحيفة «المورنن بوست» منذ شهر مضى.
وقالت المركيزة جيدبرج: يا عزيزتي الليدي وندرمير، أرجو أنْ تَدعي المستر بودجرز يبقى معي قليلًا، فقد أخبرني الآن أنَّه ينبغي أنْ أَشْتَغل بالتمثيل، وأنا عظيمة الاهتمام بما يقول.
– إذا كان قد قال لك هذا، فإني أصرفه عنك ولا شك، تعالَ هنا يا مستر بودجرز واقرأ كف اللورد أرثر.
فقالت الليدي جيدبرج، وهي تنهض وتزوم قليلًا: إذا كان لا يسمح لي أن أشتغل بالتمثيل، فإنه يجب أن يسمح لي بأن أكون من الشهود على الأقل.
فقالت الليدي وندرمير: طبعًا، إننا كلنا سنكون من الشهود. والآن يا مستر بودجرز قل لنا شيئًا لطيفًا … فإن اللورد أرثر ممن أختصهم بمودتي.
ولكن المستر بودجرز ما كاد يرى كف اللورد أرثر حتى امتقع لونه، ولم يقل شيئًا، وكأنما سرت رعدة في بدنه، واختلج حاجباه الأزبان اختلاجًا مزعجًا غير مألوف، وهو ما يحدث له إذا تحير. ثم تفصد جبينه الأصفر عرقًا كأنه ندى مسموم وبردت كفاه وتندتا.
ولم تفت اللورد أرثر هذه الأمارات الغريبة الدالة على الاضطراب فاستولى عليه الخوف لأول مرة في حياته، ونازعته نفسه أن يخرج من الغرفة، ولكنه كبح نفسه؛ فإنَّ خيرًا له أن يعرف ما خبئ له، كائنًا ما كان، من أن يُترك في هذه الحيرة الشديدة والقلق المزعج.
وقال: إني أنتظر يا مستر بودجرز.
وقالت الليدي وندرمير بلهجة تنم على نفاد الصبر: كلنا في الانتظار!
ولكن عالم الكف لم ينبس بحرف.
وقالت الليدي جيدبرج: أحسب أن اللورد أرثر سيشتغل بالتمثيل، وأن المستر بودجرز يخشى أن يقول له ذلك بعد الذي سمعه من تأنيبك له على ما قاله لي.
وإذا بالمستر بودجرز يرسل يمنى اللورد أرثر فجأة ويتناول يسراه، وينحني جدًّا ليفحصها حتى لكادت نظارته تمس راحتها، وارتسمت على وجهه آيات الفزع والارتياع، غير أنَّه ما عتَّم أن استعاد سكينة نفسه، فصعد طرفه إلى الليدي وندرمير وقال بابتسامة متكلفة: إنها كف شاب ظريف.
فقالت الليدي وندرمير: بالطبع، ولكن هل سيكون زوجًا ظريفًا؟ هذا ما أُريد أن أعرفه.
فقال المستر بودجرز: كل الشبان الظرفاء يكونون كذلك.
وقالت الليدي جيدبرج: لا أرى أن يكون الزوج مفرط الظَّرْف، فإن ذلك خطر.
فقالت الليدي وندرمير: يا بنيتي العزيزة إنهم لا يكونون قط مفرطي الظَّرف … ولكني أُريد التفصيل والبيان؛ فإنَّ هذا هو الذي يهم … فما الذي سيقع للورد أرثر؟
– في خلال الشهور القليلة المُقبلة، يقوم اللورد أرثر برحلة …
– نعم … شهر العسل بالطبع.
– ويفقد بعض ذوي قرباه.
فقالت الليدي جيدبرج بصوت المشفق: أرجو أن لا تكون أخته؟
فقال المستر بودجرز وهو يشير بيده إشارة الاستهجان: كلا على التحقيق، لا أكثر من قريب بعيد.
فقالت الليدي وندرمير: لقد خاب أملي خيبة عظيمة؛ فما عندي شيء أحدث به سيبيل غدًا، ومن ذا يعبأ في هذه الأيام بالبعداء من ذوي القربى؟ لقد كف الناس عن العناية بأمرهم من زمان … على أني أحسب أنه يحسن بسيبيل أن تعد ثوبًا أسود، وهو على كل حال يصلح للكنيسة، والآن فلنقم إلى العشاء وإني لأخشى أن يكون القوم قد أكلوا كل ما هناك، ولكنَّا قد نجد حساءً سخنًا … وقد كان فرنسوا يُجيدُ الحِسَاء، ولكن السياسة تشغله في هذه الأيام فأنا غير مطمئنة … فليت الجنرال بولانجيه يهدأ! هل تعبت يا عزيزتي الدوقة؟
فقالت الدوقة وهي تمضي إلى الباب: كلا يا عزيزتي جلاديس … لقد استمتعتُ جِدًّا، فإنَّ قارئ الكف آية … أين يا فلورا مروحتي؟ شكرًا لك يا سير توماس، وشملتي يا فلورا؟ أوه شكرًا يا سير توماس إن هذا لطف منك.
وأخيرًا استطاعت السيدة الماجدة أن تنزل دون أن تسقط من يدها زجاجة الطيب أكثر من مرتين.
وكان اللورد أرثر سافيل قد ظل طول هذا الوقت واقفًا إلى جانب الموقد يُسَاوره نفس الشعور بالفزع، ونفس الإحساس بشرٍّ متوقع، وقد ألقى ابتسامة حزينة إلى أخته وهي تمر به، رقراقة معتمدة على ذراع اللورد بريمديل، في ثوبها القرمزي الموشى، وفي حفل من اللآلئ … ولم يكد يسمع الليدي وندرمير حين دعته إلى اللحاق بها، وفكر في سيبيل مرتون «خطيبته»، فجال الدمع في عينيه إذ طاف برأسه أنَّ شيئًا ما قد يفرق بينهما.
وكان الذي يراه، خليقًا أن يقول: إنَّ ربة النقمة قد سرقت درع باللاس وأرته وجه الغول؛ فقد كان كأنما مسخ حجرًا، وكان وجهه كالرخام من فرط وجومه وكآبته، وكانت حياته حياة شاب من السادات ذوي الحسب والثراء ينعم بالخفض والدعة، وهي حياة رقيقة حُرَّة يكفى — بضم الياء وفتح الفاء — من يعيشها الهم ولا تتركه يبالي شيئًا. والآن، للمرة الأولى يشعر بغمض القدر الرهيب ومعنى القضاء المرعب.
فتالله ما أفظع هذا كله وأذهبه بالعقل! أيمكن أن يكون قد خط على راحته بحروف لا يستطيع هو أن يتبينها، ولكن غيره يسعه أن يقرأه، سرٌّ خطيئة مخيف، أو دلالة جريمة دموية؟ أو لسنا إلا بيادق في رقعة شطرنج تحركنا قوة خفية، أو خزفًا يصوغه الفخار على هواه للرفعة أو الضعة، وللشرف أو العار؟ وثار عقله على هذا، ومع ذلك أحس أن كارثة تُوشك أنْ تحل به، وأنه دعي بغتة لاحتمال عبء يبهظ الطاقة.
فما أسعد الممثلين! فإنَّ لهم لخيارًا فيما يمثلون من مأساة أو فكاهة، وما يؤثرون من حزن أو سرور، ومَن ضحك أو بكاء، ولكن الأمر في الحياة مختلف جدًّا، فإن معظم الرِّجال والنساء مكرهون على أداء أدوار لا يؤهلهم لها شيء، فالنقباء يؤدون لنا دور هملت، والذين هم من طراز هملت يضطرون أن يمزحوا ويهزلوا كالبرنس هال، والدنيا ملعب ولكن أدوار الرواية موزعة توزيعًا سيئًا.
ودخل المستر بودجرز الغرفة فجأة، فلمَّا رأى اللورد أرثر فزع، واستحال وجهه السمين الغليظ إلى صفرة تضرب إلى الخضرة، والتقت العيون، وساد الصمت برهة.
وقال المستر بودجرز أخيرًا: لقد نسيت الدوقة أحد قفازيها هنا يا لورد أرثر، وكلفتني أن أجيئها به. آه! هذا هو على المقعد. عم مساء!
– يا مستر بودجرز، إنه لا يسعني إلا أن أصر على أن تجيبني جوابًا صريحًا عن سؤال سألقيه عليك.
– في وقت آخر يا لورد أرثر، فإنَّ الدوقة قلقة، وأنا مضطر إلى الذهاب.
– لن تذهب، فما ثم ما يدعو الدوقة إلى العجلة.
فقال المستر بودجرز بابتسامته الباهتة: لا يجوز ترك السيدات ينتظرن، فإن صبرهن ينفد.
فانقلبت شفة اللورد أرثر الدقيقة احتقارًا، فكأن الدوقة المسكينة لا قيمة لها عنده في هذه اللحظة، وقطع الغرفة إلى حيث كان المستر بودجرز واقفًا وبسط له يده: خبرني ماذا رأيت فيها، قل الحق، فلا بد أن أعرفه، فلست بطفل.
فجعلت عينًا المستر بودجرز تطرفان وراء النظارة، وراح يقوم على رجل بعد رجل بينما كانت أصابعه تعبث بسلسلة ساعته: ماذا يحملك على الظن أني رأيت في يدك يا لورد أرثر أكثر مما أخبرتك به؟
– إني أعرف ذلك، وأصر على أن تطلعني عليه كائنًا ما كان، وسأعطيك صكًّا — شيك — بمائة جنيه.
فلمعت العينان الخضراوان ثم خمدتا مرة أخرى.
– على التحقيق، سأبعث إليك بالصك غدًا، فما اسم ناديك؟
ليس لي نادٍ، أعني ليس لي نادٍ في الوقت الحاضر، ولكن عنواني … اسمح لي أن أقدم لك بطاقتي!
وقال المستر بودجرز وقد غلبته العادة: المقابلة من العاشرة إلى الرابعة وللأسر تخفيض.
فقال اللورد أرثر، وقد تغير لونه وهو يبسط يده: أسرع!
فتلفت المستر بودجرز حوله مضطربًا، وجذب الستار الكثيف فحجب به الباب: إنَّ هذا سيستغرق وقتًا، فيحسن بك يا لورد أرثر أن تجلس.
– أسرع يا رجل!
قالها اللورد اللورد أرثر وضرب الأرضية المصقولة برجله من الغضب.
فابتسم المستر بودجرز وأخرج من جيبه مجهرًا صغيرًا ومسحه بمنديله بعناية، وقال: إني على أتم استعداد.
٢
اندفع لورد أرثر سافيل خارجًا من بنتنك وقد تلطم وجهه من الجزع، ورأرأت عيناه من الحُزن، وشقَّ طريقه بين الخدم الواقفين وعليهم معاطف من الفرو على جانبي الظلة الكبيرة المخططة، وكأنَّه لا يرى أو يسمع شيئًا، وكان الليل قارس البرد، وألسنة مصابيح الغاز حول الميدان ترتفع وتضطرب في الريح الباردة، ولكن كفيه كانتا وهجتين من الحمى، وكان جبينه مُحْتَدِمًا كالنَّار، ومضى يخبط بما يُشبه مشية السكران، ونظر إليه شرطي متعجبًا له حين مرَّ به، وخَرَجَ متسول من تحت كفاف يستجديه فاستولى عليه الفزع لما رأى شقوة أعظم من شقوته، ووقف مرة تحت مصباح وصوب عينيه إلى راحتيه فخيل إليه أَنَّهُما ضرجتان، فندت عن شفتيه المرتجفتين صرخة خافتة.
القتل … هذا ما رآه عالم الكف في راحتيه … حتى ظلام الليل يبدو كأن عنده علم هذا السر، وكأنَّ الريح تعوي به في أذنيه، وكأن أركان الطريق الحالكة غاصَّة به، وكأنَّ سطوح البيوت تضحك ضحكة المستهزئ.
وبلغ الحدائق العامَّة وكأنما فتنته أشجارها القاتمة فاستند إلى الحاجز وأراح جبينه المحموم على حديده البليل ليبترد، وأرهف أذنه لحفيف الشجر المُتَرَنِّح وجعل يقول ويكرر: «القتل … القتل …» كأن التكرار يستطيع أن يخفف من هول اللفظ، وكان صوته يرسل في بدنه رعدة، ومع ذلك ودَّ لو جَاوبه الصدى وأيقظ المدينة النائمة من أَحْلَامها، ونازعته نفسه أن يستوقف أحد السابلة ويخبره الخبر كله.
ثم مضى يخبط في شارع أكسفورد ويدخل في أزقة ضيقة فيها ما يخجل، فتنادرت عليه امرأتان مصبوغتا الوجه وهو يمر بهما. وتأدى إليه من فناء مظلم أصوات شتائم ولكمات وضربات تلتها صرخات عالية، ورأى على عتبة مرطوبة ظهورًا مقوسة من الفاقة والشيخوخة، فأدركته رحمة عظيمة وتساءل: أترى هؤلاء أبناء الإثم والشقاء قد كتب عليهم ما هم فيه كما كتب عليه؟ أتراهم مثله ألاعيب في رواية فظيعة؟
على أنَّ مَهْزلة الألم، لا سره، هي التي كانت أوقع في نفسه، العبث المطلق وانعدام المعنى، ويا ما أشد التنافر في كل شيء وأقلَّ التناسق! وأذهله التباين بين الظواهر التي تغري بالتفاؤل والرضا، وحقائق الوجود، فقد كان ما زال في عنفوان شبابه.
وبعد قليل ألفى نفسه أمام كنيسة ماريلبون، وكان الطريق الساكن يبدو له كأنَّه شريط طويل من الفِضَّة المَصْقُولة تنقطه هنا وها هنا الظلال المتموجة، وعلى آخر مدى النظر يتقوس خط المصابيح الخفاقة اللهب، وعلى باب بيت صغير مسوَّرٍ وقفت مركبة وسائقها نائم فيها، فمضى مُسْرِعًا في اتِّجاه «بورتلاند بليس» وكان يتلفت من حين إلى حين كأنما يخشى أن يكون وراءه من يتبعه. ورأى في زاوية من شارع «ريتش» رجلين يقرأان إعلانًا على جدار؛ فتحركت في نفسه رغبة غريبة في الوقوف على ما فيه، فعبر إليهما، فلَمَّا دنا منهما صافحت عينيه كلمة «القتل» مطبوعة بأحرف سود غليظة، فريع! وتدفق الدم إلى وجنتيه، وكان ذلك إعلانًا يعرض مكافأة لمن يفضي بما يؤدي إلى القبض على رجل ربعة في الثلاثين أو الأربعين من العمر يلبس قبعة ذات ريش، ومعطفًا أسود، وسراويل مخططًا وعلى خده الأيمن ندبة، فقرأه مرة أخرى، وراح يتساءل: أترى سيقبض على الرجل؟ وممَ كان الجرح الذي خلف هذه الندبة؟ ومن يدري؟ لعل اسمه هو يعلق يومًا ما على جدران لندن! وعسى أن يطلب يومًا ما! ويكون لرأسه ثمن.
وخلع فؤاده الفزع من هذا الخاطر فدار على عقبيه وألقى بنفسه على الليل، وكان لا يكادُ يدري أيَّان يمضي، وكل ما يذكره على نحو غامض أنه كان يجوب تيهًا من المنازل الحقيرة، وأنه ضل في نسيج هائل من الشوارع الحالكة، وأن الفجر كان قد طلع لما ألفى نفسه مرة أخرى في ميدان بيكاديللي، وبينما كان آخذًا طريقه إلى بيته في ميدان بلجريف التقى بالمركبات الضخمة في طريقها إلى «كفننت جاردن». وكان السائقون بوجوههم التي لوحتها الشمس، وشعورهم المتلوية، يقرقعون بسياطهم وهم يسيرون، ويدعو بعضهم بعضًا، وكان هناك غلام سمين على ظهر جواد وفي قبعته الخلقة طائفة من الأزهار، وهو يشد على عرف الحصان بكلتا يديه الصغيرتين ويضحك.
وقد بدت أكوام الخضر العظيمة في بلجة الصبح كأنَّها كتل من حجر اليرمع وراءها غلائل أرجوانية لزهرة نادرة، وكان لهذا وقع عظيم في نفس اللورد أرثر لا يدري مأتاه. ورأى في جمال الفجر ورقته ما أشجاه، وفكر في الأيام التي يطلع فجرها في حفل من الحسن، وتغرب شمسها على هجهجة العواصف، وهؤلاء الرِّيفيون الذين يمتازون بخشونة الصوت وسجاحة النفس وقلة المُبَالاة، أي مدينة غريبة يقدمون عليها؟ إنها لندن البريئة من آثام الليل ودخان النهار، مدينة شاحبة كالطيف وخاوية كالمقابر، وود لو يعرف ما رأيهم فيها وما مبلغ علمهم بسناها وخزيها، ومباهجها العنيفة القانية وخماصتها الشنيعة، وكل ما تبنيه وتهدمه، وترفعه وتضعه، وتزينه وتشوهه، من الصباح إلى المساء، وعسى أن لا تكون عندهم إلا سوقًا يعملون فيها ويبيعون ثمارهم، ويتلكئون ساعات على الأكثر ثم ينكفئون راجعين ويخلفون الشوارع صامتة كما دخلوها، والمساكن نائمة كما وجدوها. وسره أن يراقبهم، وهم يمضون عنه؛ فإنهم على خشونتهم وعنجهيتهم وغلظ أحذيتهم ذات المسامير، وسوء مشيتهم، يجلبون معهم رَوْحًا — بفتح الرَّاء وسكون الواو — مِنَ النَّعيم والرضوان، وطاف برأسه أنَّ هؤلاء عايشوا الطبيعة فأولتهم السكينة وجادت عليهم بالطمأنينة، وغبطهم وتمنى أن يكون له كل ما لهم وهم لا يدرون.
ولما بلغ ميدان بلجريف كانت السماء قد صفت زرقتها وشرعت الطير تغرد وتزقزق في الحديقة.
٣
لما استيقظ اللورد أرثر كانت الساعة قد بلغت الثانية عشرة، وشمس الظهيرة تدخل من خلل أستار الحرير البيضاء في غرفته، فنهض وأطلَّ مِنَ النَّافذة، وكان الغيم يعرض في أقطار السماء مع الحر فوق المدينة، وسطوح البيوت تبدو كالفضة الكابية، وكان بعض الأطفال يمرقون فوق خضرة الميدان الرفافة كأنَّهم فَرَاشات بيضاء، وكان الرصيف غاصًّا بالناس في طريقهم إلى «البارك» ولم تكن الحياة قط أطيب منها اليوم، ولا الشر أبعد.
ثم جاءه خادمه بفنجان من الشكولاته على صينية، فلمَّا شربها جر ستارًا كثيفًا بلون الخوخ ودخل الحمام حيث ينضح الضوء من خلال قطع رقيقة من العقيق الشفاف في السقف، والماءُ في حوض المرمر يبرق كأنَّه ذوب الجمان؛ فبادر فنزل في الماء حتى بلغ رقراقه عنقه وشعره، ثم غاص برأسه تحته كأنما يُريد أن يُمِيطَ عنه لوثة ذكرى مخجلة، ولمَّا خَرَجَ أَحَسَّ بِمَا يُشبه السكينة، وغلبه ما يجده في ساعته من حالة بدنه، كما يحدث كثيرًا لذوي الطباع الدقيقة؛ فإنَّ الحواس كالنَّار، تستطيع أن تطهر كما تستطيع أن تعصف.
وبعد الفطور انطرح على طارقة وأشعل سيجارة، وكان على الصفة صورة كبيرة لسيبيل مرتون في إطار من الحرير الرَّقيق الموشى، كَمَا رآها أوَّل مَرَّةٍ في حفلة راقِصَة أقامتها الليدي نويل، وفيها يميل الرَّأس البديع التكوين بعض الميل؛ كأنما يعيا العنق الدقيق بحمل كل هذا الجَمَال، والشفتان مُنْفَرِجَتان وكأنَّما ما صيغتا إلا للشدو الشجي، والعينان الحالمتان يطل منهما طهر الصبا وفتنته، وهي في ثوب من الحرير الرقيق وفي يدها مروحة كبيرة تنبسط كورقة الشجرة وتنتشر حاشيتاها، ويُخيل إلى من يراها أنَّها أحد تلك الشخوص الصغيرة اللطيفة التي يجدها الناس في غابات الزيتون قرب تانجارا، وعليها مسحة من رشاقة الإغريق في وقفتها وهيئتها. غير أنها لم تكن ضئيلة، وإنما كانت تامة الخلق والتناسب، وما أندر ذلك في عصر قلمَّا تكون فيه المرأة إلا ضخمة شخيصة أو هزيلة ضميرة.
وشاع في نفس اللورد أرثر — وهو ينظر إليها — العطف الذي هو وليد الحب، وشعر أنه يخونها خيانة يهوذا إذا هو تزوجها، وعلى رأسه هذا القتل المقضي به عليه، وذلك إثم أفظع مما حلم به بورجيا، وأي سعادة تكون من نصيبهما وهو قد يُسَاق في أَيَّة لحظة إلى تحقيق تلك النبوءة المخطوطة في كفه؟ وأي حياة تكون حياتهما ما بقي القدر واضعًا هذه القسمة الرَّهيبة في الميزان؟ فلا معدى عن إرجاء الزواج مهما كلفه ذلك. وصح عَزْمُه على هذا؛ فإنه وإن كان يحبها حبًّا جمًّا، وكان لَمْسُ أصابعها بمجرده حين يكونان معًا يترك كل عصب في بدنه يخفق خفقة السرور والجذل، لا يسعه إلا أنْ يُدْرِكَ وَاجِبَهُ أَوْضَحَ إدراك، وأنه لا حَقَّ له في الزَّواج حتى يرتكب جريمة القتل، ومتى فعل ذلك كان له أنْ يَقِفَ أَمَامَ المذبح مع سيبيل مرتون ويضع حياته في يديها غير وجل من فعل ما هو سوء. ومتى تم ذلك فإنه يستطيع أن يضمها بين ذراعيه واثقًا أنها لن تحتاج أن تخجل من أجله أو تثني رأسها خزيًا، ولكن لا بد أولًا من اجتراح الجريمة، وكُلَّمَا أسرع كان ذلك خيرًا لهما جميعًا.
وما أكثر من لو كانوا في موضعه لآثروا نهج التلكؤ والتسويف الوردي على مراقي الواجب الوعرة، ولكن اللورد أرثر كان أصدق سريرة وأحيا ضميرًا من أن يقدم اللذة على المبدأ والواجب، ولم يكن حُبُّه مجرد شهوة؛ فقد كانت سيبيل عنده رمزًا لكل ما هو خير ونبل وقد شعر باستبشاع طبيعي لما كتب عليه أن يفعل.
ولكن اللحظة مرت، وقال له قلبه: إن هذا ليس إثمًا، وإنما هو تضحية، وقال له عقله: إنه ما من سبيل أخرى غير هذه أمامه.
وكان عليه أن يختار أحد أمرين: أن يعيش لنفسه أو أن يعيش لغيره. ومع أنَّ ما ألقي عليه كان ولا شكَّ مُستهولًا إلا أنَّه كان يُدرك أنَّ عليه أن يمنع أن تتغلب الأثرة على الحب، وما مِنَّا إلا من يُطالب — عاجلًا أو آجلًا — بالبَتِّ في مثل هذا الأمر، وما منا إلا من يلقى عليه السؤال عينه.
وقد كان مما قسم للورد أرثر أنَّه واجه ذلك في صدر حياته قبل أنْ تفسد طبيعته الكهولة المغراة بالحساب والمُوازنة، أو أن تستولي على قلبه أنانية العصر الشائعة، فلم يشعر بتردد أو إحجام حيال واجبه، ومن حُسن حَظِّه أيضًا أنَّه ليس بحالم لا أكثر، أو هاوٍ فارغ، ولو كان كذلك لتردَّد مثل هملت ولترك التردد يحبط عليه غايته.
ولكنه كان في الحقيقة رجل عمل، والحياة عنده معناها العمل لا الفكر فقط، وقد رزق الفطنة وهي أندر النوادر.
وزايله ما عاناه من الإحساسات المائجة الهوجاء في ليلته البارحة، واستحيا وهو يكر طَرفه فيما كَان من تطوافه على غير هدًى في الطرق، وفي العذاب الغليظ الذي قاساه، وبدت له آلامه من فرط الإخلاص فيها غير حقيقية، وتعجب لنفسه كيف بلغ من حمقه أن يهرف ويهذي في أمر قضاء محتوم؟
وصارت المسألة التي تحيره هي من يقتل؟ فقد كان يُدْرِكُ أنَّ القتل كأديان العالم الوثني، يتطلب ضحية كما يتطلب قسيسًا. ولما لم يكن عبقريًّا؛ فإنَّه ليس له عدو، وأحسَّ أنَّ هذا ليس بالوقت الذي يرضي فيه حفيظة أو كراهة شخصية، فإنَّ المُهِمَّة المُلقاة عليه ذات صبغة جليلة.
ومِنْ أَجْلِ هَذا، كتب أسماء أصدقائه وأقربائه في رقعة، وبعد أنْ أَطَالَ النَّظر والتدبر استَقَرَّ رأيه على الليدي كليمنتينا بوشان، وهي سيدة عجوز طيبة تسكن في شارع كيرزون ومن بنات خئولته.
وقد كان دائمًا يرف قلبه بالحب لهذه السيدة — السيدة كليم كما يُسميها كل امرئ — ولمَّا كان هو واسع الثروة إذ كان قد تسلم، لما بلغ رشده، كل ما ترك اللورد راجبي، فَلا مَحَلَّ هناك للقول بأنَّه يجني منفعة مادية من وراء موتها. وصَارَ كُلَّمَا زاد تفكيره في الأمر يزداد اقتناعًا بِأَنَّها هي الشخص الجدير بالقتل، ويشعر بأن كل إرجاء يكون ظلمًا لسيبيل، فصمم على اتخاذ ما ينبغي من التدابير على الفور.
وكان أول ما ينبغي عمله بطبيعة الحال هو أن يؤدي إلى قارئ الكف حقه؛ فجلس إلى مكتب صغير قريب من النافذة وكتب صكًّا بمائة وخمسة جنيهات تُدفع لأمر المستر سبتيموس بودجرز، ووضع الصكَّ في ظرف، وأَمَر خادمه أن يمضي به إلى شارع «وست مون» ثم دق التليفون إلى الإصطبل ليبعثوا إليه بمركبته وارتدى ثيابه ليخرج. وأدار عينيه وهو يبرح الغرفة إلى صورة سيبيل مرتون وأقسم أن لا يدعها — مهما يحدث — تعرف ما هو صانع من أجلها، وأن يكتم سر تضحيته بذاته ويدفنه في صدره.
وعرج في طريقه إلى ناديه على زهار وبعث إلى سيبيل بسلة جميلة من زهر النرجس.
ولما بلغ ناديه دخل المكتبة، ودق الجرس وأمر الخادم أن يجيئه بشراب الليمون مع الصودا وبكتاب في علم السموم وخصائصها وتركيبها وفعلها، فقد كان رأيه استقر على أن السم خير وسيلة في هذه المهمة الثقيلة، فإن كل ما هو من العنف بسبيل كان بغيضًا إليه، ثم إنه كان يود أن يتقي قتل الليدي كليمنتينا بطريقة تلفت الأنظار.
وقد كره أن يلغط القوم بوحشيته في قصر الليدي وندرمير، أو أن يرى اسمه في الصحف التي تلغط بأخبار المجتمع. وكان عليه أيضًا أن يفكر في والدي سيبيل، وهما من طراز عتيق وقد يعترضان على الزَّواج إذا حدث ما يُثير اللغط، وإن كان على يقين من أنه إذا أفضى إليهما بالحقائق كلها فإنهما خليقان أن يقدرا البواعث التي صدر عنها.
ومن أجل هذا، كان كل شيء يُشير باتخاذ السم، فإنَّه مأمون ومُحَقَّق الفعل، ولا ضَجَّة له، ولا حاجة معه إلى العنف الأليم الذي ينفر منه كما ينفر معظم الإنجليز.
على أنه لم يكن يعرف عن علم السموم شيئًا، ولما كان الخادم لم يستطع أن يعثر على شيء من المكتبة سوى «دليل راف» ومجلة «بيلي» فقد رأى أن يجيل هو عينيه في الرفوف، فعثر أخيرًا على مجلد في الأقرباذين وعلى نسخة من كتاب «علم السموم» لإرسكين، أشرف على نشرها السير ماتيو ريد رئيس معهد الأطباء الملكي، ومن أقدم أَعضاء النَّادي، فقد انتخب خطأ بدلًا من مرشح آخر وكانت هذه غلطة ثارت لها ثائرة اللجنة، فلمَّا ظهر المُرَشَّح الحقيقي رفضته بالإجماع!
وقد حار اللورد أرثر حيرة شديدة في المُصطلحات المُستعملة في الكتابين جميعًا؛ فأسف لأنَّه لم يعنَ عناية كافية بالعلوم أيام الدرس والتحصيل في أكسفورد. غير أنه وجد في المجلد الثاني من كتاب إرسكين بيانًا وافيًا عن خصائص الأكونيتين مكتوبًا بلغة سهلة واضحة؛ فخيل إليه أن هذا هو السم الذي كان يبحث عنه، فإنَّه سريع الفعل ولا يحدث ألمًا، وإذا أخذ في صورة حبة مكسوة بطبقة من الهلام — وهو ما يُشير به السير ماتيو — فقد لا يكون غير مُستمرأ. فكتب على كم قَمِيصِهِ المقدار اللازم لجرعة قاتلة ورد الكتب إلى موضعها من الرفوف، وخرج إلى شارع سنت جيمس، وقصد إلى صيدلية بيسيل وهمبري الكيمائيين العظيمين … وقد دهش المستر بيسيل لهذا الطلب، وكان هو الذي يعنى بخدمة أبناء الطبقة الأرستقراطية، غير أنَّ اللورد أرثر بيَّن له أن السم مطلوب لكلب نرويجي كبير لا يسعه التخلص منه؛ لأنَّه أظهر ما يدل على أنه أصيب بالكلَب وقد عض الحوذي مرتين في ساقه. فأعرب الصيدلي عن اقتناعه التام وهنأ اللورد أرثر بعلمه بالسموم، وأَمَرَ فأعد له ما طلب على الفور.
ووضع اللورد أرثر الحبة داخل قطعة صغيرة مفضضة من الحلوى رآها في دكان بشارع بوند، ورمى بعلبة الصيدلي القبيحة المنظر وركب إلى قصر الليدي كليمنتينا.
واستقبلته السيدة العجوز وهو يدخل الغرفة بقولها: والآن أيها الولد العاق لماذا قطعت زيارتي كل هذا الزمن؟
فقال اللورد أرثر بابتسام: يا عزيزتي الليدي كليم، لم تعد هناك دقيقة واحدة أقول: إنها لنفسي.
– أحسبك تعني أنك لا تزال طول النهار تلف وتدور مع الآنسة سيبيل مرتون وتشتريان الحرائر وتثرثران. لا أدري فيمَ كل هذه الجلبة عند الزَّواج؟ لم نكن نحلم قط في زماني بالغزل وما إليه أمَامَ الخلق، ولا حتى في خلوتنا.
– أؤكد لك أني لم أرَ سيبيل منذ أربع وعشرين ساعة يا ليدي كليم، وما أظن بها إلا أنها أصبحت ملكًا خالصًا للبزازين.
– طبعًا، وهذا هو السبب الوحيد الذي يحملك على زيارة عجوز شمطاء مثلي، وهذا أنا — امرأة عجوز مسكينة مصابة بداء المفاصل، وأسنانها صناعية، وخلقها سيء — فلولا الليدي جانسون جزاها الله خيرًا فإنها تبعث إليَّ بشر الروايات الفرنسية التي تجدها، لما عرفت كيف أقضي أيامي، ولا خير في الأطباء؛ فما يصنعون شيئًا سوى أخذ أجورهم، ولا قدرة لهم حتى على علاج حرقتي.
فقال اللورد أرثر بلهجة الجِدِّ: لقد جئتك بدواء لهذا، وإنه لعقار مدهش اخترعه أمريكي.
– لا أظنني أُحِبُّ الاختراعات الأمريكية يا أرثر، بل أنا واثقة كل الوثوق أني لا أُحِبُّها، وقد قرأت طائفة من الرِّوايات الأمريكية أخيرًا فألفيتها كلها كلامًا فارغًا.
– ولكن لا سخافة ولا كلام فارغ في هذا يا ليدي كليم، وأؤكد لك أنه دواء ناجع، ولا بد من أن تعدي أن تجربيه.
وأخرج اللورد أرثر العلبة الصغيرة من جيبه وناولها إياها.
– إنَّ العلبة جميلة على كل حال يا أرثر، أهذه حقيقة هدية؟ ما أطيبك وأعذبك! وهذا هو الدواء المُدهش؟ إنَّه يبدو لي كقطعة من الحلواء سأتناوله حالًا.
– مهلًا يا ليدي كليم «وأمسك بيدها» لا ينبغي أن تصنعي شيئًا كهذا، إنه دواء لا يُؤخذ إلا في حالة تتطلبه، وإذا أخذته في وقت لا حرقة فيه، فقد يضرك جدًّا، فانتظري حتى تجيء النوبة وخذيه حينئذٍ، فأنت خليقة أن تذهلي لفعله.
فرفعت الليدي كليم الحبة الشفافة الصغيرة أمام النور، ونظرت إلى ما في غلافها من الأكونيتين السائل وقالت: بودي أن آخذها الآن؛ فإنها تبدو لذيذة، والحقيقة أني أُحِبُّ العقاقير وإن كنت أكره الأطباء، على أني سأحتفظ بها إلى النوبة التالية.
فسألها اللورد أرثر بلهفة: ومتى موعدها؟ أهو قريب؟
– بعد أسبوع فيما أرجو، لقد كان صباح الأمس من أسوأ ما مر بي، ولكن من يدري؟
– أواثقة أنت أنه لا بد من نوبة قبل آخر الشهر؟
– أخشى أن يكون الأمر كذلك، ولكن ما أشد عطفك اليوم يا أرثر، يظهر أنَّ سيبيل رققتك وظرفتك وهذبتك، والآن اذهب فإني سأتغدى مع قوم بلداء يأبون أن يلغطوا بأخبار النَّاس أو يغتابوهم فإذا لم أنم الآن فلن أستطيع أن أبقى مفتوحة العين أثناء الغداء. مع السلامة يا أرثر وأبلغ سيبيل تحياتي وحبي وشكرًا لك على الدواء الأمريكي.
– لا تنسى أن تأخذيه يا ليدي كليم.
– كلا لن أنسى يا أبله، وإنه لجميل منك أن تفكر في أمري وسأكتب إليك إذا احتجت إلى أكثر مما جئتني به.
وانصرف اللورد أرثر مُغتبطًا شاعرًا أنَّ عبئًا قد انحط عن صدره.
وتحدث في تلك الليلة مع سيبيل مرتون، فأخبرها أنَّه ألفى نفسه فجأة في ورطة أليمة لا يسمح له الشرف أو الواجب بالتراجع حيالها. وقال لها: إن الزواج ينبغي أن يُؤَجَّل فإنه ليس بِحُرٍّ ما لم يخرج من هذا المأزق.
وناشدها أن تثق به وأن لا يُخَامرها شك ما، في المُستقبل، فإن كل شيء سينتهي بخير ولكن الصبر ضروري.
وقد دار هذا الحديث في دار المستر مرتون ببارك لين حيثُ تغدى اللورد أرثر كالعادة.
وكانت سيبيل تبدو سعيدة، حتى لأحس اللورد أرثر بما يغريه بالجبن، وخطر له أن يكتب إلى الليدي كليمنتينا ويعرفها بحقيقة الحبة لتحذر، ثم يتزوج كأنَّما لا وجود لرجل كالمستر بودجرز في العالم.
ولكن طبيعته فازت فلم يتردد، حتى لما ألقت سيبيل بنفسها على صدره وهي تبكي؛ فإنَّ الجمال الذي حرك حواسه أيقظه ضميره أيضًا فرأى أنَّ من الخطأ والإثم أن يقضي على حياة جميلة كهذه من أجل لذة شهور.
وبقي مع سيبيل حتى منتصف الليل أو قرابته يسري عنها وتسري عنه. وفي بكرة الصباح سافر إلى البندقية بعد أن كتب رسالة حازمة إلى المستر مرتون ينبئه فيها أن تأجيل الزواج لا معدى عنه.
٤
وقابل في البندقية أخاه اللورد سربيتون، وكان هذا قد قدم من كورفو على يخته؛ فقضى الأخوان الشابان أسبوعين طيبين معًا.
وكانا في الصباح يركبان الخيل أو زورق الجندول ويروحان ويجيئان به في الأقنية الخضر. وفي العصر يدعوان من يشاءان إلى اليخت، وفي الليل يتعشيان في مطعم فلوريان ويدخنان ما لا يحسب الحاسب من السجاير في الميدان.
ولكن اللورد أرثر لم يكن سعيدًا، وكان يعنى كل يوم بقراءة أخبار الوفيات في جريدة التيمس؛ مُتوقعًا أن يرى نعي الليدي كليمنتينا. غير أنَّ أمله كان يخيب في كل مرة، فخشي أن يكون قد وقع لها حادث وندم؛ لأنَّه لم يدعها تتعاطى الأكونيتين لما أظهرت الرَّغبة في تجربته.
وكانت رسائل سيبيل تفيض حبًّا وثقة ورقة، ولكن لهجتها كانت شجية، وكان يطوف برأسه أحيانًا أنه فارقها إلى غير لقاء.
وملَّ اللورد سربيتون البندقية بعد أسبوعين؛ فاعْتَزَم أنْ يَمْضِيَ إلى رافنا؛ لأنَّه سَمِعَ أنَّ هناك صيدًا جميلًا، وأبى اللورد أرثر في أول الأمر أن يصحبه، ولكن سربيتون — وكان أرثر يحبه حبًّا جمًّا — أقنعه بأنه خليق أن يقتله الضجر والسآمة إذا بقي وحده في فندق وانيللي، فأبحرا في صباح اليوم الخامس عشر، وكانت الريح نكباء والبحر هائجًا، ولكن الصيد كان جميلًا.
ورد الهواء الطلق إلى وجنتي اللورد أرثر لونهما، ولكنه في اليوم الثاني والعشرين عاوده القلق على الليدي كليمنتينا، فعاد إلى البندقية بالقطار على الرغم من اعتراض سربيتون.
وما كاد يخرج من الجندول إلى درج الفندق حتى تلقاه صاحبه بحزمة من البرقيات، فخطفها اللورد أرثر وفضها، كل شيء على ما يرام؛ ماتت الليدي كليمنتينا بغتة ليلة ١٧.
وكانت سيبيل أول ما فكر فيه، فأبرق إليها بأنَّه عائد إلى لندن الساعة. وأمر خادمه فحزم متاعه لقطار الليل، وأنقد نوتية الجندول نحو خمسة أضعاف أجرهم، وذهب يعدو إلى حجرة جلوسه خفيفًا مَرِحًا. وَهُناك وجد ثلاث رسائل، إحداها من سيبيل وكلها عطف وتعزية، والأُخريان من أُمِّه ومن محامي الليدي كليمنتينا.
ويظهر أن الليدي كليمنتينا كانت قد تغدت مع الدوقة في تلك الليلة عينها، وسرَّت كلَّ امرئ بفكاهتها وخفة روحها، ولكنها انصرفت في ساعة مُبَكِّرة من الليل وهي تشكو الحرقة، ووجدوها في الصباح ميته على سريرها ولا يبدو عليها أنَّها تألمت. وقد استقدم السير ماتيو ريد في الحال، وستدفن في الثاني والعشرين. وكانت قبل موتها ببضعة أيام قد كتبت وصيتها وتركت للورد أرثر بيتها الصغير في شارع كيرزون وكل أثاثها وصورها، إلا مجموع الصور المُصَغَّرة فقد تركت هذه لأختها الليدي مرغريت روفورد، وتركت عقدها لسيبيل مرتون.
ولم تكن لهذا الميراث قيمة كبيرة، ولكنَّ المستر مانسفيلد المحامي ألحَّ على اللورد أرثر أن يحضر فورًا إذا استطاع؛ لأنَّ هناك ديونًا كثيرة يجبُ أن تُقضى، ولم تكن الليدي كليمنتينا تعنى بالتدوين والحساب.
وقد تأثر اللورد أرثر بتذكر الليدي كليمنتينا له ووصيتها له، وأحسَّ أن على المستر بودجرز تبعة كبيرة. على أن حبه لسيبيل استغرق عواطفه، وأورثه شعوره بأنَّه أدى واجبه، راحة وطمأنينة، فلمَّا بَلَغَ محطة شارنج كروس كان سعيدًا جدًّا.
واستقبله آل مرتون بعطف ومودة، وانتزعت منه سيبيل وعدًا أن لا يدع شيئًا يُفرق بينهما مرة أخرى؛ فتَمَّ الاتفاق على الزَّواج في السابع من يونيو، وعادت الحياة في نظره جميلة وضاءة وشاع في قلبه السرور.
على أنَّه كان ذات يوم يبحث في بيت الليدي كليمنتينا ومعه محاميها وسيبيل، ويخرق حزمًا من الأوراق الصَّفراء ويفتح أدراجًا ملأى بما لا قيمة له، وإذا بسيبيل تند عنها صيحة جذل.
فرفع اللورد أرثر رأسه متبسمًا وسألها: ماذا وجدت يا سيبيل؟
– هذه العلبة الفضية الصغيرة يا أرثر، أليست جميلة؟ أعطنيها. فإنَّ العقد الذي أورثتنيه لا يُلائمني إلا بعد أن أبلغ الثمانين.
وكانت هذه العلبة هي التي فيها الأكونيتين.
فانتفض اللورد أرثر وصبغت وجهه الحمرة، وكان قد كاد ينسى ما فعل؛ فبدا له أن من الاتفاق الغريب أن تكون سيبيل أول من يذكره به، وما اجتاز محنة ذلك القلق إلا من أجلها.
– بالطبع خذيها. لقد كنت أهديتها إلى الليدي كليم.
– شكرًا يا أرثر، وهل لي أن آخذ الحلواء أيضًا؟ ما كنتُ أظن الليدي كليم تُحِبُّ الحلواء، وكنتُ أحسبها أكبر عقلًا من ذلك.
فتغير لون اللورد أرثر وامتقع وجهه، وطاف برأسه خاطر فظيع وسألها بصوت أجش: حلوى يا سيبيل؟ ماذا تعنين؟
– إن في العلبة قطعة من الحلواء، وهي قديمة ومعفرة، ولست أنوي أن آكلها؛ ماذا جرى يا أرثر؟ إن وجهك أصفر.
فقطع أرثر الغرفة بسُرعة واختطف العلبة؛ فإذا فيها الحبة العنبرية اللون وفي جوفها السم! إذن ماتت الليدي كليمنتينا موتًا طبيعيًّا!
وكانت صدمة قوية كادت تجاوز طاقته، فرمى بالحبة في النار، وانطرح على المقعد؛ وقد ندت عن صدره صرخة يأس.
٥
اغتَمَّ المستر مرتون لتأجيل الزَّواج مرة ثانية، وبذلت الليدي جوليا — وكانت قد أمرت بإعداد الثوب الذي ترتديه في حفلة الزواج — أقصى ما يدخل في وسعها لحمل سيبيل على نقض الخطبة، ولكن سيبيل على فرط حُبِّهَا لأُمِّها، كانت قد وضعت حياتها كلها بين يدي اللورد أرثر؛ فليس في وسع الليدي جوليا أن تغريها بإخفار عهدها. أما اللورد أرثر نفسه فقد احتاج إلى أيام عديدة ليجتاز محنة الخيبة التي مني بها.
وقضى بعض الوقت مضطربًا مُبلبلًا على أن فطنته ما لَبِثَتْ أن ساعفته، وخفَّ عقله وروحه العملية إلى نجدته، فَلَمْ يَبْقَ عِنْدَه شكٌّ فِيمَا ينبغي أن يصنع، ولما كان السم قد أخفق، فقد صار الديناميت أو غيره من أنواع المواد المنفجرة هو الوسيلة التي يحسن الأخذ بها.
وأعاد النظر في أسماء إخوانه وذوي قرباه، فقرر بعد إنعام الفكر أن ينسف عمه مطران شيشستر.
وكان المطران فقيهًا مُثقفًا وذا ولع بالساعات، وعنده منها مجموع حسن يرجع بعضه إلى القرن الخامس عشر والبعض من صناعة العصر الحاضر، فخطر للورد أرثر أن هذا الولع بالساعات يتيح له فرصة حسنة لإمضاء ما اعتزم، أمَّا من أين يأتي بالمادة المنفجرة، فمسألة أخرى.
ولم يجد في دليل لندن ما يرشده، وكان من العبث أن يقصد إلى «سكوتلنديارد» — مركز البوليس السري البريطاني — في هذا الموضوع؛ فإنَّ هؤلاء القوم لا يعرفون شيئًا عن الديناميت ومن يستخدمونه في جرائمهم إلا بعد أن يحدث الانفجار، وما أقل ما يعرفون حتى بعد ذلك.
وتذكر فجأة صديقه روفالوف، وهو روسي شاب ثوري النزعة كان قد التقى به في قصر الليدي وندرمير.
وكان الشائع المتواتر أنَّ الكونت روفالوف مشغول بكتابة ترجمة بطرس الأكبر، وأنه جاء إلى إنجلترا ليراجع الوثائق الخاصة بالفترة التي قضاها هذا القيصر ليدرس بناء السفن، ولكن هناك من يستريب به، ويرى أنه رسول طائفة «العدميين». ولم يكن ثم شك في أن السفارة الروسية لا تنظر إلى وجوده في لندن بعين الرضا.
وشعر اللورد أرثر أنَّ روفالوف هو الرجل الذي يجد عنده ما يبغي؛ فقصد إليه ذات يوم في منزله بحي بلومزبري ليستشيره ويستعينه.
فلمَّا أفضى إليه اللورد أرثر بما جاء به له، قال الكونت روفالوف: اعتزمت إذن أن تشتغل بالسياسة جادًّا؟
ولكنَّ اللورد أرثر كان يكره اللف والدوران، فلم يسعه إلَّا أن يعترف له بأن الشئون الاجتماعية لا تعنيه، وأنَّه إنما يبغي هذه المادة المنفجرة لأمر عائلي بحت لا يعني أحدًا سواه.
فنظر إليه الكونت روفالوف مليًّا وهو مذهول؛ فلمَّا تبين أمارات الجد في محياه كتب عنوانًا على رقعة ووقع بالحروف الأولى من اسمه وناوله إياها وقال: إن سكوتلنديارد تدفع ثمنًا كبيرًا لو عرفت هذا العنوان يا صاحبي.
فقال اللورد أرثر وهو يضحك: لن تصل إليه أيديهم.
وصافح الرُّوسي الشاب بحرارة ونزل، وألقى على العنوان نظرة وأمر الحوذي أن يذهب به إلى ميدان «سوهو».
وهناك صرفه، ومشى في شارع «جريك» وبلغ مكانًا يدعى «بيلزكورت» فدخل فألفى نفسه في زقاق مسدود، فيه على ما يظهر مغسل فرنسي للثياب؛ فقد كانت هناك شبكة من حبال الغسيل تمتد من بيت إلى بيت، وعليها ثياب بيض تخفق في نسيم الصباح.
فمضى إلى آخر الزقاق وطرق باب بيت أخضر، ومضت لحظة انتظار امتلأت فيها النوافذ بالوجوه المطلة، ثُمَّ فتح الباب رجل أجنبي جافي المنظر وسأله بلغة إنجليزية رديئة عما يبغي، فناوله اللورد أرثر الرقعة التي كتبها الكونت روفالوف، فلما اطلع عليها الرجل انحنى احترامًا وتقدم اللورد إلى غرفة رثة في الطبقة الأرضية.
وبعد هنيهة أقبل الهرونكلكوف — كما كان يُسَمَّى في إنجلترا — وحول عنقه وعلى صدره فوطة عليها آثار نبيذ، وفي يسراه شوكة.
فانحنى اللورد أرثر وقال: لقد قدمني الكونت روفالوف إليك، وأريد أن أتحدث إليك قليلًا في أمر، واسمي سميث — المستر روبرت سميث — وأودُّ أن تعطيني ساعة تنفجر.
فقال الألماني الفكه وهو يضحك: إني سعيد بلقائك يا لورد أرثر … لا تفزع؛ فإنَّ من واجبي أن أعرف كل إنسان، وأنا أذكر أني رأيتك عند الليدي وندرمير، وأرجو أن تكون السيدة بخير، هل لك أن تجلس معي ريثما أفطر؟ إن أصدقائي يزعمون — لطفًا منهم — أنَّ نبيذ الرين الذي عندي خير من أي نبيذ يُقَدِّمونه في السفارة الألمانية.
وقبل أن يفيق اللورد أرثر من دهشته حين عرفه الرجل، ألفى نفسه جالسًا في غرفة خلفية يحتسي أطيب نبيذ مُعتق من كأس صفراء باهتة عليها الشعار الإمبراطوري، ويتحدث مع هذا السفاح المشهور حديثًا وديًّا.
وقال الهرونكلكوف: إن الساعات التي تنفجر لا تصلح للاستيراد من الخارج؛ لأنَّها — حتى إذا اجتازت منطقة الجمرك — لقلة انتظام السكة الحديدية في مواعيدها، خليقة أن تنفجر قبل أن تصل إلى المكان المروم، ولكن إذا كنت تبغي واحدة لاستعمالها مَنزليًّا فإنَّ في وسعي أن أعطيك واحدة بديعة، وأنا أضمن لك أن ترضى عن النتيجة، واسمح لي أن أسألك من الذي عليه العين؟ لأنَّه إذا كان أحد الشرط هو المقصود أو أي رجل متصل بسكوتلنديارد، فإني لا أستطيع أن أساعدك؛ إذ كان رجال البوليس السري الإنجليزي خير أصدقائنا، وقد وجدت أننا نستطيع دائمًا أنْ نَعْتَمِدَ على غباوتهم ونصنع ما نشاء، فليس يسعني أن أُضَحِّي بواحد منهم.
فقال اللورد أرثر: أؤكد لك أن لا شأن لي على الإطلاق بالشرط، والحقيقة أن المقصود هو مطران شيشستر.
– مدهش! ما كنت أظن أن يكون هذا شعورك حيال الدين يا لورد أرثر؛ فمَا أَقَلَّ من يعنى بذلك من الشبان في أيامنا هذه.
فقال اللورد أرثر وقد اصطبغ وجهه حياء: إنك تنزلني فوق منزلتي يا هر ونكلكوف، والحقيقة أني لا أعرف شيئًا عن اللاهوت.
– إذن هو شأن خاص؟
– خاص بحت.
فهز الهرونكلكوف كتفيه وخرج من الغرفة، ثم عاد ومعه قطعة مستديرة من الديناميت في حجم القرش، وساعة فرنسية صغيرة جميلة يعلوها تمثال الحرية، وهو يدوس بقدمه تنين الاستبداد والظلم.
فأشرق وجه اللورد أرثر لما رأى ذلك وقال: هذا ما كنتُ أَبْغِي؛ فهل لك أن تبين لي كيف تهيأ للانفجار؟ فنظر الهرونكلكوف إلى اختراعه مزهوًّا — وله الحق — وقال: آه، هذا هو السر. قل لي متى تُريد أن تنفجر، وأنا أضبط الآلة بالدقيقة والثانية.
– اليوم الثلاثاء، فإذا استطعت أن تبعث إلي بها على الفور …
– هذا مستحيل. فإنَّ أمامي عملًا مُهمًّا لبعض أصدقائي في موسكو، على أني قد أستطيع إرسالها غدًا.
فقال اللورد أرثر بأدب: إنه يكون مُلائمًا جدًّا أن تصل إلي غدًا مساء أو صباح يوم الخميس أما وقت الانفجار فليكن ظهر الجمعة تمامًا، فإن المطران يكون دائمًا في بيته في هذه الساعة.
فقال الهرونكلكوف: ظهر الجمعة.
ودوَّن هذا الموعد في دفتر كبير على منضدة قرب الموقد.
وقال اللورد أرثر وهو ينهض: أرجو أن أعرف بكم أنا مدين لك.
– إنها مسألة تافهة يا لورد أرثر، لا تكادُ تستحق أن أطلب لها ثمنًا … الديناميت يكلف سبعة شلنات ونصف، وأمَّا الساعة فثمنها ثلاثة جنيهات ونصف جنيه، وأجرُ نقلها حوالي خمسة شلنات، وإنه ليسرني أن أخدم صديقًا للكونت روفالوف.
– ولكن تعبك ومجهودك يا هرونكلكوف؟
– هذا لا شيء؛ فإني أجد فيه لذة! ولست أعمل للكسب، فإن حياتي كلها مبذولة لفني.
فوضع اللورد أرثر على المائدة أربعة جنيهات وشلنين ونصف شلن، وشكرَ للألماني لُطفه. واستطاع أنْ يتهرب من دَعوة لمقابلة بعض الفوضيين عصر السبت التالي وانصرف.
وقضى اليومين التاليين في اضطراب شديد؛ فَلَمَّا كان ظهر الجمعة قصد إلى ناديه وفي مأموله أن يتلقى النبأ المُنتظر، وجعل الخادم يعلق على اللوح برقيات من أنحاء شتى من البلاد تتضمن نتائج سباق الخيل، والأحكام الصادرة في قضايا الطلاق، وحالة الجو، وما إلى ذلك، وجاءت الأنباء البرقية أيضًا بتفاصيل مملة لجلسة في مجلس العموم استمرت طول الليل وبعض الفزع في البورصة. ووردت الصحف في الساعة الرابعة فتحول اللورد أرثر إلى المكتبة ومعه صحف «البول مول» و«سنت جيمس» و«الجلوب» و«الإيكو»، فاحتدم الكولونيل جود تشايلد غيظًا؛ لأنَّه كان يود أنْ يقرأ خطابًا كان ألقاه في الصباح في دار البلدية في موضوع بعثات جنوبي أفريقية التبشيرية، نصح فيه بالاستعانة بأساقفة سود الوجوه في كل إقليم، وكان يكره — لسبب ما — جريدة الإفننج نيوز التي تركها اللورد أرثر، على أنَّه ما مِنْ جَرِيدَةٍ وَاحِدَةٍ كان فيها حرف عن شيشستر؛ فأشفق اللورد أرثر أن يكون التدبير قد حبط، وكان ذلك صدمة عنيفة له أورثته اضطرابًا شديدًا؛ فذهب في اليوم التالي إلى الهرونكلكوف فأوسعه هذا اعتذارًا وأسفًا، وعرض أن يزوده بساعة أخرى دون أن يتقاضاه شيئًا، أو أن يعطيه صندوقًا من القنابل المحشوة بمادة النيترو-جليسرين بتكاليفها ليس إلا، ولكن اللورد أرثر كان قد فقد إيمانه بكل المواد المتفجرة، ولم يسعِ الهرونكلكوف نفسه إلا أن يقر بأن كل شيء مزيف في هذا الزَّمان، وأنه لا يكاد يتيسر الحصول على الديناميت صافيًا. على أنه — مع تسليمه بأنَّ خللًا لا بد أن يكون قد حدث في الساعة — لم يفقد الأمل في الانفجار يومًا ما، وروى أنَّه أرسل مرة إلى الحاكم العسكري في أوديسا «بارومتر» كان حقه أن ينفجر في مدى عشرة أيام فظل جامدًا ثلاثة شهور؛ فلما حدث الانفجار طارت إحدى الخادمات أشلاءً، إذ كان الحاكم قد غادر المدينة قبل ذلك بستة أسابيع. ولكن هذا على كل حال، أثبت أنَّ الديناميت ما زال مادة فعالة؛ فتعزى اللورد أرثر بذلك قليلًا، ولكن أمله هذا خاب أيضًا؛ فإنه بعد يومين دعته الدوقة أمه إلى غرفتها وأرته رسالة تلقتها من المطرانية، وقالت: إنَّ رسائل جين بديعة، اقرأ رسالتها الأخيرة؛ فإنها كالروايات التي تبعث بها مودي إلينا.
مطرانية شيشستر
٢٧ يوليو
عمتي العزيزة
شكرًا لك على الثياب من الفانيلا والقطن، التي بعثتِ بها إلى جمعية دوركاس، وأنا أوافقك على أنَّ من السخف أن يتخذن ثيابًا جميلة، ولكن الناس في أيامنا هذه يتطرفون ولا يعبئون شيئًا بالدين؛ حتى ليصعب إقناعهم بأنه لا ينبغي للفقيرات أن يقلدن الطبقات العليا في أرديتها، ولست أدري إلى أين نحن ماضون، وأحسب أن الأمر كما يقول أبي، وأننا في عصر جحود وكفران.
وقد تلهينا كثيرًا بساعة بعث بها مجهول من المُعجبين بأبي يوم الخميس الماضي، وقد جاءت في صندوق من الخشب من لندن، وأدى مرسلها سلفًا نفقات إيصالها إلينا، ويقولُ أبي: إن مرسلها لا بد أن يكون قد قرأ عظته البليغة: «هل التحرر من القيود حرية؟» فقد كان فوق الساعة تمثال لامرأة وعلى رأسها ما قال أبي: إنه قبعة الحرية. ولستُ أراها ملائمة، ولكن أبي يقول إنها تاريخية؛ فلا وجه للاعتراض إذن. وقد أخرجها باركر من صندوقها ووضعها على الصفة في المكتبة، وكنا جميعًا جلوسًا فيها صباح يوم الجمعة؛ فلَمَّا دقت الساعة الثانية عشرة سمعنا صوتًا من جانب الساعة وخرج شيء من الدخان من قاعدة التمثال فسقطت المرأة وانكسر أنفها حين اصطدم بسياج الموقد، فارتاعت ماريا. ولكن الحادث كان مضحكًا فانطلقتُ أنا وجيمس نضحك، وحتى أبي وجد في ذلك ملهاة، ولما فحصناها ألفيناها ساعة من المنبهات، وإذا ضبطتها على وقت معين ووضعت شيئًا من البارود وغطاء تحت مطرقة صغيرة فإنها تنفجر في الوقت الذي حددته، وقد قال أبي: إنه لا يجوز أن تبقى في المكتبة؛ لأنها تحدث ضوضاء، ولذلك نقلها ريجي إلى غرفة الأولاد حيثُ لا تزال طول اليوم تصدر عنها انفجارات هينة فهل تظنين أن أرثر يسره أن نبعث إليه بواحدة من هذا الطراز على سبيل الهدية عند زواجه؟ وأحسب هذا النوع شائعًا في لندن، ويقول أبي: إن هذا النوع جدير بأن يكون ذا نفع جزيل؛ فإنه يثبت أن الحرية لا بقاء لها، وأنها لا بد أن تسقط، ويقول أيضًا: إن الحرية اخترعت في زمان الثورة الفرنسية، فما أفظع هذا!
ويجبُ أن أذهبَ الآن إلى جمعية الدوركاس، وسأتلو عليهنَّ رسالتك الجزيلة الفائدة، وتالله ما أصدق قولك يا عمتي العزيزة إنَّه من كانت في مثل هذه الطبقة ينبغي أن ترتدي غير الفاخر، ولا يسعني إلا أن أستسخف اهتمامهن بالثياب، مع كثرة ما هو أهم منها في دنيانا وفي الآخرة أيضًا، وقد سرني رضاك عن ثوبك الحريري المُشجر، وأن عقدك لم يمزق، وسأرتدي ثوبي الأصفر الذي تكرمت بإهدائه إلي وأظن أنه سيكون مُلائمًا، هل ترين اتخاذ أنشوطة؟ إن جننجز تقول: إن كل واحدة تتخذ أنشوطة في هذه الأيام وأنَّ الشعار — الثوب التحتي — ينبغي أن يكون ذا هدب. انفجرت الساعة مرَّة أخرى في غرفة ريجي فأمر أبي بنقلها إلى الإصطبل، وأظنُّ أنَّ أبي لم يعد يرتاح إليها كما كان يفعل من قبل، وإن كان قد سره أن ترسل إليه لعبة جميلة كهذه؛ فإن في إهدائها إليه دلالة على أنَّ الناس يقرءون عظاته ويستفيدون.
أبي يقرئك السلام والتحية ويعرب لك عن حُبِّه ويشاركه في ذلك جيمس وريجي وماريا، وأرجو أن يكون عمي سيسل قد شفي من النقرس، وتقبلي يا عمتي حبي.
«حاشية، قولي لي رأيك في الأنشوطة؛ فإنَّ جننجز تصر أن لبسها شائع الآن.»
وتجهم اللورد أرثر واكتأب لما قرأ الكتاب؛ فضحكت الدوقة وقالت: يا عزيزي أرثر، لن أطلعك مرة أخرى على رسالة فتاة شابة، ولكن ماذا أقول لها عن الساعة؟ إني أراه اختراعًا جميلًا وبودي لو كانت عندي ساعة كهذه.
فقال اللورد أرثر، وعلى فمه ابتسامة متكلفة: لا اهتمام لي بهذه الأشياء.
وقبل أمه وخرج.
ولما نزل انطرح على المقعد واغرورقت عيناه بالدموع؛ فقد فعل كل ما يستطيع لارتكاب هذه الجريمة، ولكنه أخفق في المرتين لغير ذنب له، وحاول أن يؤدي واجبه، ولكن القدر نفسه خذله، وثقلت عليه وطأة الشعور بعقم النيات الحسنة، وعبث السعي في أن يكون المرء مُستقيمًا شريفًا، وعسى أن يكون الخير العدول عن الزَّواج، وستشقى سيبيل ولا شك، ولكن الألم لا يستطيع أن يمسخ طبيعة نقية نبيلة كطبيعتها.
أمَّا هو فلا قيمة لما يكون من أمره، ولن يعدم حربًا تنشب فيقتل فيها، أو قضية يقف على خدمتها حياته. ولمَّا كانت الحياة قد خلت من الطيب والنعيم؛ فإنَّ الموت لم يعد فيه ما يخيف ويرعب، فليفعل القدر به ما شاء فلن يحرك هو أصبعًا لإنفاذ مشيئته.
وارتدى ثيابه في منتصف الساعة الثامنة وقصد إلى ناديه؛ فألفى هناك أخاه سربيتون مع لفيف من أصدقائه، واضطر أن يتعشى معهم، ولم يرقه حديثهم التافه ونكاتهم الفارغة، فلما جيء بالقهوة تركهم وادَّعى أنه على موعد. فلمَّا همَّ بالخروج من النادي ناوله البواب رسالة، وكانت من الهرونكلكوف وفيها يرجو منه أن يمر به في مساء اليوم التالي ليرى شمسية تنفجر بمجرد فتحها، وهي أحدث اختراع وقد جاء الآن من جينيف؛ فمزق الرسالة إرْبًا إرْبًا، فقد استقر عزمه على أن لا يحاول شيئًا. ثم مضى إلى شاطئ التيمس، وقضى ساعات بجانب النهر، وكان القمر يطل من خلل السحب كأنه عين أسد، وكانت النجوم التي لا عداد لها منتثرة في هذه القبة الخاوية كأنها التبر منثورًا في قبة لازوردية، وكان رُبَّما أقلع زورق في النهر الجائش ومضى مع التيار، وكانت إشارات السكة الحديدية تتغير من الأخضر إلى الأحمر والقطر تمر خطفًا وهي تصفر فوق الجسر. وبعد قليل دقَّت الساعة الثانية عشرة من برج وستمنستر، وكان الليل كأنَّه ينتفض عند كل دقة، ثم انطفأت مصابيح السكة الحديدية، ولم يبقَ سوى مصباح واحد يلتمع كأنه ياقوتة كبيرة على شراع ضخم، وسكنت ضجة المدينة.
ونهض في الساعة الثانية صباحًا ومشى في اتجاه بلاك فرايرز … وكان كل شيء يبدو له غير حقيقي، كأنَّما هو حلم غريب، وكأنَّما المساكن الواقعة على الضفة الأخرى مبنية من مادة الظلام، ولمن شاء أن يقولَ: إن الفضة والظلام قد صبَّا الدنيا في قالب جديد. وكانت قبة كنيسة سنت بول العظيمة تبدو في مرأى العين كأنها حبابة في الجو القاتم.
ورَأى لما اقترب من مسلة كليوبطرة رجلًا مُعتمدًا على الحاجز، فلمَّا دنا منه اعتدل الرجل ورفع رأسه، وضوء المصباح على وجهه. وكان هو المستر بودجرز قارئ الكف، فما يمكن أن يغلط أحد في وجهه السمين المنتفخ، ونظارته الذهبية وابتسامته الفاترة وفمه الغليظ.
فوقف اللورد أرثر، وقد طافت برأسِهِ فكرة رائعة، وتسلل من خلفه، وما هي إلا دقيقة حتى أَمْسَك بساقي المستر بودجرز ودفع به إلى النهر وألقاه فيه فسمعت لفظة قبيحة، وصوت غطسة قوية ثم ساد السكون. فحدق اللورد أرثر وهو قلق، ولكنه لم يرَ من قارئ الكف شيئًا سوى قبعة عالية تخفق فوق ماء براق في ضوء القمر، وبعد قليل رسبت ولم يبقَ أثر يرى من المستر بودجرز، وخيل إليه مرة أنه رأى جسمه الضخم المشوه يخبط بيديه إلى السلم بجانب الجسر، فسرى في بدنه شعور مر بالإخفاق، ولكنه تبين أنَّ هذا ليس إلا من انعكاس الضوء، ولمَّا خرج القمر من السحب، غاب هذا المنظر. وهكذا حقق ما قضت به المقادير؛ فتنفس الصعداء وهتف باسم سيبيل.
وقال له صوت من ورائه فجأة: هل سقط منك شيء يا سيدي؟
فدار فإذا شرطي معه مصباح.
فقال مبتسمًا: لا شيء له قيمة.
واستوقف مركبة واستقلها وأمر الحوذي أن يذهب به إلى ميدان بلجريف.
وتنازعه الأمل والخوف في الأيام القليلة التالية، وكان يُخيل إليه أنه سيرى بودجرز داخلًا عليه، ولكنه في أحيان أخرى كان يشعر أنَّ القدر لا يمكن أن يظلمه هذا الظلم، وذهب إلى مسكن المستر بودجرز مرتين في شارع وست مون ولكنه لم يستطع أن يدق الجرس، وكان يتلهف على اليقين ويخشاه.
انتحار قارئ كف
قذف الماء صباح أمس في الساعة السابعة بجثة المستر سبتيموس ر. بودجرز عالم الكف المشهور إلى الشاطئ عند جرينتش أمام فندق شيب مباشرة، وكان المسكين مُفتقدًا منذ بضعة أيام؛ فساد القلق عليه دوائر علم الكف، والمفروض أنه انتحر من جراء اضطراب عقلي وقتي اعتراه من الإجهاد في العمل. وقد أصدر المحلفون عصر اليوم قرارًا بهذا المعنى، وكان المستر بودجرز قد أتم منذ عهد قريب كتابًا في موضوع «يد الإنسان» سينشر بعد قليل، ولا شك أنه سيثير اهتمامًا عظيمًا، وكان الفقيد في الخامسة والستين من عمره، ويظهر أنه ليس له أقارب.
فاندفع اللورد أرثر خارجًا من النادي والصحيفة في يده؛ فذهل البواب الذي حاول عبثًا أن يستوقفه، وركب إلى بارك لين، ولمحته سيبيل من النافذة، وقال لها قلبها إنه يحمل إليها أخبارًا سارة، فنزلت إليه تعدو، ولمَّا رأت وجهه أيقنت أن كل شيء على ما يرام.
وصاح اللورد أرثر: هلم نتزوج غدًا يا عزيزتي سيبيل.
فقالت سيبيل وهي تضحك والدمع في عينيها: يالك من فتًى أخرق! ويحك! حتى الكعكة لم نأمر بإعدادها.
٦
كانت حفلة الزفاف بعدما مرَّ بك بحوالي ثلاثة أسابيع، فازدحمت كنيسة القديس بطرس بجمهور كبير من علية القوم، وقام بالصلاة مطران شيشستر وأجمع الكل على أنهم لم يروا من قبل أجمل شارة من هذين العروسين.
على أنَّهما كانا أكثر من ذلك، فقد كانا سعيدين، ولم يأسف اللورد أرثر قط على ما قاساه من أجل سيبيل، وأولته هي خير ما يسع امرأة أن تهب بعلها: العبادة، والرقة، والحب، ولم تنسخ معاناة الحقيقة أحلامهما، فظلا يشعران أنهما ما زالا في ريعان الصبا.
ورزقهما الله بعد بضع سنوات طفلين جميلين، فزارتهما الليدي وندرمير ذات مرة في «ألتون برايري» وهو قصر قديم جميل أهداه الدوق إلى ابنه عند زواجه. وبينما كانت جالسة عصر يوم مع الليدي أرثر تحت شجرة في الحديقة، وأعينهما على الولدين وهما يلعبان في الممشى بين أحواض الزهر، تناولت الليدي وندرمير يد سيبيل، وسألتها: سعيدة؟
– يا عزيزتي الليدي وندرمير، بالطبع سعيدة، وأنت؟
– لا يتسع وقتي للسعادة يا سيبيل، وأنا دائمًا أحب آخر شخص يقدم إلي، ولكني في العادة لا أكاد أعرف الناس حتى أملهم.
– أليس في أسودك مقنع لك؟
– كلا! إنما تصلح الأسود لموسم واحد، ولا تكاد اللبدة تقص حتى تنقلب بليدة؛ ثم إنها يسوء سلوكها إذا آثرت معها الرفق وحسن المعاملة. وهل تذكرين ذلك الرجل البغيض، المستر بودجرز؟ لقد كان دجَّالًا فظيعًا، ولم أكن أعبأ شيئًا بهذا، بل كنت لا أبالي أن يقترض مني مالًا، ولكن الذي لم أكن أطيقه هو أن يُغازلني، وقد بغض إلي علم الكف، وأنا الآن مولعة بالثلباثية، فإنها أمتع.
– أرجو أن لا تذكري علم الكف بسوء هنا يا ليدي وندرمير، فإن هذا هو الموضوع الوحيد الذي لا يُطيق أرثر أن يلغط به الناس هازلين، وثقي أنه جاد في ذلك.
– هل تعنين أنه يؤمن به يا سيبيل؟
– سليه أنت، فإنه قادم.
وأقبل اللورد أرثر عليهما في الحديقة ومعه طاقة كبيرة من زهر الآذريون، وولداه يرقصان حوله.
– لورد أرثر؟
– نعم يا ليدي وندرمير.
– هل صحيح أنك تؤمن بعلم الكف؟
– نعم أؤمن به.