الموت وجهًا لوجه!
تحرَّكَ «أحمد» ببطء شديد … لم يكن الثعبان الرهيب قد انتبه إليه، وهو جالس على مسافة قريبة منه، وحاول «أحمد» ألا يصدر عنه أي صوت يفزع الثعبان فيدفعه للدغ «إلهام» على الفور … أمَّا «إلهام» فقد اتَّسعَتْ عيناها عن آخِرهما وهي تنظر للثعبان بعينَين مفزوعتَين، وهي لا تقدر حتى على الصراخ … والباقون نائمون حولها لا يحسون بالخطر … وساد صمت وسكون رهيبان، وكفَّ النسناس الصغير عن الصراخ، وأخذ يحدِّق بأسفل كأنَّه يريد أن يرى كيف سينتهي الموقف … كان «أحمد» بلا سلاح … فالمنجل والمسدس كانا بجوار «إلهام»، ولم يكُن باستطاعته الوصول إليهما … ولا كان باستطاعة «إلهام» استخدامهما لأنَّ الثعبان (الأناكوندا) الرهيب لن يترك لها فرصة للحركة … كما كانت محاولة «أحمد» للدخول في صراع يَدَوِي معناه الانتحار ﻟ «أحمد» على الفور، فالثعبان يملك عضلات رهيبة تستطيع أن تسحق أيَّ إنسان مَهْما بلغَتْ قوته … ولم يكن باستطاعة «أحمد» أن يترك «إلهام» لمصيرها، فقد كان الموت عنده أهون من ذلك …
وحرَّك الثعبان رأسه للخلف … وكانت هذه إشارة منه لتأهبه للهجوم على «إلهام» وتقلَّصَتْ أصابع «أحمد» فوق الأرض فعثرَتْ على لحاء إحدى الأشجار الطويلة فيما يشبه الحبل، وعلى الفور لمعَتْ الفكرة في ذهن «أحمد» … وبخفة وسرعة عقدَتْ أصابعه أنشوطة قوية، وطوَّح «أحمد» بالأنشوطة في الهواء تجاه رأس الثعبان المرفوع، والتي انطلقت كالسهم نحو «إلهام» لتلدغها اللدغة القاتلة، … وأغمضت «إلهام» عينَيْها يائسةً من النجاة، وحتى لا تشاهد العضة المميتة … ولذلك لم تشاهد ما حدث … فقبل أن تصل أنياب الثعبان نحو ذراع «إلهام» التفَّت الأنشوطة حول رقبة الثعبان، وجذبه «أحمد» بقوة، وفوجئ الثعبان بالحركة التي أفقدَتْه توازنه، وأصابه غضب هائل وانقض على «أحمد» ولكن «أحمد» قفز مبتعدًا نحو مكان «إلهام» فدفعها بعيدًا في اللحظة التي عاود فيها الثعبان هجومه، وقبل أن ينقضَّ على «أحمد» كانت يد «أحمد» أسبق بإمساك مسدسه، وبطلقة واحدة في رأس الثعبان تهاوى فوق الأرض …
وفزع النائمون وهَبُّوا مذعورِينَ على صوت الرصاص … وكان مشهد الثعبان الرهيب الممدَّد أمامهم فيه الإجابة عن تساؤلهم … وانفجرَتْ «إلهام» باكيةً وهي لا تصدق أنَّها نجَتْ، فاحتضنتها «زبيدة» في رفق وراحت تربت على شعرها مهدئةً، وقد أدركَتْ ما حدث، وأخذت تقول «لإلهام» بإشفاق: لقد انتهى كل شيء، إنكِ بخير …
وكان الموقف مؤلمًا لبقية الشياطين … لأنَّهم لم يعتادوا أن يشاهدوا أحدهم يبكي … خاصة «إلهام» التي كانت تتميز بشجاعة نادرة وجرأة بالغة … وكان بكاؤها دليلًا على أنَّ الأمر كان فوق طاقتها … وقال «عثمان» بتصميم: علينا أن نغادر هذه الغابات الملعونة بأيِّ ثمن … وأقسم لأنتقمنَّ شرَّ انتقام ممَّنْ خدَعَنا وجرَّنا إليها.
قال «أحمد» بلهجة مخيفة: لسوف يكون ثمن دموع «إلهام» غاليًا … سأجعلها تمطر نارًا فوق رءوس هؤلاء المجرمِينَ …
وانقضى الليل برغم كل شيء … وتناوب «أحمد» و«عثمان» و«قيس» الحراسة، وفي الصباح كانوا جميعًا في تمام الاستعداد والتأهب … واستعادَتْ «إلهام» رباطة جأشها وقوتها، وتناسَتْ أحداث الأمس … وبدءوا سيرهم في الصباح المبكِّر، وقالت «زبيدة»: إنَّني جائعة …
وأفاق الجميع على كلماتها … واكتشفوا أنَّهم جميعًا جائعون، فهم لم يتذوقوا الطعام منذ ما يزيد على أربعة وعشرين ساعة، وقد أَنْسَتْهم الأحداث السابقة جوعهم وعطشهم … وتطلَّعَتْ «زبيدة» حولها بِحَيْرة … كان أمامها عدد لا حصر له من الفواكه الغريبة والنباتات المختلفة، ولكن ما أدراها أيُّها يصلح للطعام وأيُّها سامٌّ؟
قال «عثمان» بقلق: ما العمل … لا يمكننا أن نخاطر بأكل أيٍّ من هذه الفواكه والنباتات فقد يكون بعضها سامًّا …
إلهام: الأمر سهل وبسيط … فأيُّ نباتات وفواكه تشاهدون الطيور والنسانيس تأكلها هي فواكه ونباتات لا حذر منها، فقد تعلَّمَ سكان هذه الغابات أن يميزوها على مدار آلاف السنين …
وبالفعل، اقتطفوا بعض الثمار الحمراء والصفراء التي شاهدوا النسانيس تأكل منها، وكان مذاقها لذيذ … واكتشفوا وجود أشجار جوز الهند فكانت فرحتهم عظيمة فأكلوا منها، وارتووا حتى أحسوا بالامتلاء … واحتفظ «قيس» بعدد من ثمرات جوز الهند معه، وما كادوا يهمُّون بالسير حتى تعالى العواء والصراخ من النسانيس العوَّاءة، وصار صوتها يصمُّ الآذان وهي تحيط بهم من فوق رءوس الأشجار …
وصاح «عثمان» في غضب: هذه النسانيس الملعونة … أتظنُّ أنَّ صوتها موسيقيًّا؟
وأمسك بإحدى ثمار جوز الهند وصوبها نحو أحد النسانيس في غضب، قبل أن تتمكن «إلهام» من منعه وتحذيره … وحدث ما كانت تخشاه «إلهام»، فقد انطلقَتِ القذائف نحوهم من فوق رءوس الأشجار، فأخذَتِ النسانيس تقذفهم بكل ما تصل إليه أيديهم في تصويبات محكمة … ثمار جوز الهند، أغصان الأشجار … وكل ما يمكن قذفه … وأسرع الشياطين ورفيقاهما بالاحتماء خلف بعض الأشجار من وابل الأشياء المتساقطة عليهم … وقال «عثمان» ذاهلًا وهو يتحسَّسُ رأسه الذي أُصيبَ بإحدى ثمرات جوز الهند: هذه النسانيس المجنونة … إنَّها تظنُّ نفسها في حرب …
قالت «إلهام»: هذه هي طريقتها في الدفاع عن نفسها … وعندما يوشك أحد النمور على مباغتتها أو صيد بعضها، فإنَّها تهبُّ لمقاومته بمثل هذه الطريقة …
صَفَّرَ «قيس» بشفتَيْه إعجابًا وهو يقول: دفاع مؤثر … ولو أنَّني كنت مكان النَّمر لأطلقتُ ساقي للريح … «هذا هو ما يحدث عادةً!» قالتها «إلهام» باسمة …
وبعد قليل كفَّ تساقط الثمار والأغصان المنهمرة عليهم، وقلَّ الصخب والضجيج، وانصرفَتِ النسانيس مبتعدة … وكانت الساحة أمامهم ممتلئة بأكوام من ثمار جوز الهند والفواكه المختلفة التي ألقتها النسانيس … فقال «عثمان» لو أنني كنت تاجر فاكهة لأصبحتُ ثريًّا بهذه الصفقة، ولشكرتُ هذه النسانيس البلهاء …
أحمد: وكيف ستنقل هذه الثمار خارج الغابة؟
عثمان: معك حق … علينا أن نفكِّر في خروجنا منها أولًا!
وهكذا عاودوا مسيرتهم مرة أخرى … وقرابة الظهر أحسوا بالإرهاق، وتفصَّد منهم العرق، فقال «قيس» وهو يمسح عرقه: إنَّني عطشان بشدَّة …
زبيدة: تستطيع أن تشرب لبن إحدى ثمرات جوز الهند …
قال «قيس»: بضيق: لا … إنَّني أريد بعض الماء …
إلهام: هذا سهل وميسور … سنحصل حالًا على برميل صغير من الماء.
واقتربَتْ من شجرة كبيرة ذات جذع عريض، وقطعَتْ بسكينها قَطْعًا عرضيًّا في إحدى أغصانها، ثم شقَّت نهاية الغصن من أسفل، وعلى الفور انسكب الماء من أسفل الغصن كما لو كان قد انفتح صنبور ماء، واندفع «قيس» يشرب من الماء وتبعه باقي الشياطين و«سالم» و«ممدوح» وهم متلذِّذون بمذاق الماء الصافي …
وقال «قيس» بسعادة: إنَّكِ رائعة يا «إلهام» … لا أدري كيف كنا سنتصرف بدونكِ في هذه الغابة …
إلهام: هذه الغابات أشبه بكتاب مفتوح لمَنْ يعرفها … إنَّ بها كل ما يتمناه الإنسان ويشتهيه …
وفجأةً قفز أحد النسانيس أمامهم، وعرفَتْه «إلهام»، فقالت باسمةً: ها قد عُدتَ أيُّها الصَّديق.
فقد كان هو نسناس الأمس الذي حذَّرها من ثعبان «الأناكوندا» الرهيب … ومدَّت «إلهام» ذراعَيْها للنسناس قائلةً: لا أدري كيف أشكرك … إنَّنا جميعًا مدينون لك …
وقفز النسناس إلى ذراعَيْ «إلهام»، واستقر فوق كتفها، فقال «أحمد» ضاحكًا: سوف يكون هذا النسناس بمثابة الإنذار المبكِّر بالنسبة لنا … ماذا تقترحون لتسميته؟
إلهام: سأسميه «صديق» … فهو الوحيد الذي أبدى صداقته لنا في هذه الغابات.
وظهرَتْ أمامهم مجموعة من الأشجار الضخمة التي شُقَّت فيها بعض الشقوق العرضية المستديرة، وتأمَّلَ «أحمد» الشقوق، وقال بقلق: هذه الشقوق من صنع بشر …
إلهام: هذا صحيح؛ فهذه أشجار مطاط، وهذه الشقوق يتساقط منها المطاط من أسفل لحاء الشجرة …
عثمان: ولكن مَن صنع هذه الشقوق؟
إلهام: إنَّهم سكان هذه الغابات الأوائل، فلا شك أنَّهم يعرفون فوائد المطاط، ولا بد أنَّهم يستخدمونه في حياتهم …
تألَّقَتْ عينا «قيس» بأملٍ قائلًا: إذن، فيمكننا طلب مساعدة هؤلاء الرجال لإرشادنا لطريق الخروج من هذه الغابات …
ردَّت «إلهام»: لا أظنُّ … بل من الأفضل لنا أن نتجنب طريق هؤلاء الرجال ما استطعنا …
– لماذا يا «إلهام»؟
كانت «زبيدة» تسألُ وقد بدا عليها نوع من القلق والتوتُّر للخطر الجديد غير المتوقع، والذي لم يصادفوه من قبل …
وردَّت «إلهام» ببطء: لا … إنَّ هؤلاء الرجال هم سكان الغابة الأصليون وهو قبائل الشانتس، إنَّهم طيِّبون، ولكنَّ المستعمرين الذين جاءوا لاستغلال غابات المطاط هم السبب في تغيُّر طبيعة هؤلاء الأهالي، فقد عامل المستعمِرون الأهالي بقسوة شديدة، خاصة في نقل المطاط خارج الغابات، وكانوا يضربونهم بالسياط، ويحرمونهم من الطعام، ويقتلونهم لأقل سبب، وبدون ذنب، وبعد رحيل هؤلاء المستعمِرين تحرَّر سكان الأمازون، لكنَّهم باتوا ينتقمون من أيِّ رجل غريب يشاهدونه في هذه الغابات، إنَّ كل الغرباء في نظرهم هم مستعمرون جاءوا لقتلهم وتعذيبهم … ولا نستطيع التَّفاهم معهم، إنَّنا لا نعرف لغتهم، ولا هم يفهمون لغتنا … وأظنُّ أنَّهم سيتصرفون تصرُّفًا وحيدًا عندما يصادفونا وجهًا لوجه … سيُصوِّبون سهامهم المسمومة نحونا ويطلقونها … وسيعتبرون ذلك ردًّا على ما لاقوه من عذاب في الأعوام الماضية على أيدي المستعمِرين … ولن يُتاحَ لنا حتى فرصة للدفاع عن أنفسنا أمام سهامهم الرهيبة …
وسكتَتْ «إلهام»، وساد الصمت لفترة قليلة، ثم قال «عثمان» بقلق: ولكن وجود هذه الخطوط في الأشجار تعني أنَّنا قريبِينَ من مكان القبيلة …
إلهام: هذا صحيح … ومن الأفضل لنا أن نكون حَذِرِينَ …
أحمد: هيا بنا نبتعد عن هذا المكان … وحاذِرُوا من إصدار أيِّ صوت.
وواصَلُوا سيرهم في سكون وحذر، دون إصدار أيِّ صوت، وحتى النسناس الصغير فوق كتف «إلهام» كفَّ عن إصدار أيِّ صوت، وبدا عليه أنَّه يشاركهم توتُّرهم وقلقهم … ومن فوق قمم بعض الأشجار القريبة صدرت بعض الأصوات الخفيفة، وتوقف «عثمان» قلقًا وهو يقول: إنَّها النسانيس الملعونة … لا بد أنَّها ستهاجمنا مرة ثانية.
ولكن النسناس الصغير «صديق» قفز من فوق كتف «إلهام» وشرع يعدو هاربًا وهو يصرخ صرخات مفزعة مرعوبة، وهتف «أحمد»: إنَّها ليست نسانيس، وإلا ما فزع صديق وهرب … تساءلت «زبيدة» بعينَينِ واسعتَينِ: وماذا يكون ذلك الشيء المختبئ وسط الأغصان وقمم الأشجار …
وقبل أن يجيبها أحدٌ قفز من فوق قمم الأشجار حولهم ما يزيد على عشرة من سكان الغابة الأوائل، وقد صبغوا وجوههم بألوان حمراء وصفراء … وكان الرجال يصوِّبون سهامهم نحو الشياطين والصَّدِيقَينِ في حصار كامل، وقد لمع في عيونهم غضب شديد … وكان واضحًا أنَّ أيَّة مقاومة ستقابل بسيل من السهام المسمومة التي تقضي على حياة مَنْ تُصيبه في ظرف ثوانٍ قليلة بعد آلام لا تقاوم …