مطاردةٌ في منتصف الليل
أعاد الرجل المُسدَّس إلى جيبه حتى لا يلفت الأنظار … وأسرع وراء «بو عمير» الذي كان قد اقترب من سيارته، في حين كانت «ساندي» قد ركِبَت سيارتها وبدأت تهمُّ بالانطلاق.
أخرج الرجل مُسدَّسه وصوَّبه ناحية «بو عمير»، ولكنه لم يطلق الرصاص؛ لأن سيارةً أخرى مرت فجأة أمام الرجل، وكانت فرصة «بو عمير» الذهبية فوصل إلى سيارته وأدار المحرك …
وهنا أطلق الرجل أول طلقةٍ ولكن سيارة «بو عمير» المصفَّحة أنقذت حياته … وانطلق «بو عمير» بسرعةٍ رهيبة، وعلى الفور أسرع الرجل إلى سيارته، وانطلق بها خلف «بو عمير» …
كانت حركة المرور في المدينة قد بدأت تسكن؛ لذا مكَّنت الطرق الخالية «بو عمير» من الانطلاق مُسرعًا بسيارته «المرسيدس» القوية المصفحة، التي أعدتها أجهزةٌ خاصة في المقر السري، وزوَّدتها بإمكانياتٍ كبيرة …
وعلى بُعدٍ بدأت تظهر أضواء مصابيح السيارة البورش، التي كان يقودها الرجل بسرعةٍ جنونية وراء «بو عمير»، مما يؤكد أهمية الورقة التي حصل عليها «بو عمير» …
وكانت «البورش» الأخف وزنًا قد بدأت تقترب … وأضواؤها تنعكس على زجاج السيارة «المرسيدس»، وضغط «بو عمير» دواسة البنزين بأقصى ما يستطيع، ولكن «البورش» لم تكن عدوًّا يُستهان به …
وأخذت تقترِب من سيارة «بو عمير» حتى كادت تصطدم بها من الخلف … ولكن لم تكن هذه السيارة بالطبع مُجهزة بالتجهيزات المزودة بها سيارة «بو عمير» …
فعندما اقتربت السيارة من مؤخرة سيارة «بو عمير»، ضغط «بو عمير» على زرٍّ فأطلق طلقة مدفع صغيرة أصابت مُقدمة السيارة البورش، مما جعل السيارة تنحرِف بعُنفٍ ويتصاعد منها الدُّخان، بينما قائدها يحاول إيقافها بصعوبةٍ بعد السرعة الجنونية التي كان يسير بها، حتى إنها كادت تصطدم بإحدى الأشجار المنتشرة على الطريق …
أكمل «بو عمير» طريقه حتى وصل إلى مقر الشياطين، بعد أن تأكَّد أنه أفلت من مُطاردة الرجل السخيف.
سأحضر لكم الرجل الساعة الثانية عشرة ليلًا أمام مبنى متحف «هامبورج» …
قالت «زبيدة»: من هذا الرجل يا ترى؟
أحمد: ربما كان «كارل بيكر» الطيار الهارب …
ولكن قبل أن تستمر الأسئلة قال «أحمد»: الساعة الآن تقترب من العاشرة، وأعتقد أنه ينبغي أن ننقسِم قِسمَين: قسمٌ يذهب إلى بيت «ساندي» ليُراقب العملية من البداية حتى تسليم الرجل!
انطلق «عثمان» و«أحمد» إلى بيت «ساندي»، في حين ذهب «بو عمير» و«إلهام» إلى متحف «هامبورج» …
كانت الحركة قد هدأت تمامًا، ولم يكن يقطع السكون سوى أصوات السيارات التي تمرُّ كل بضع دقائق …
أما «عثمان» و«أحمد» فلم يجدا سيارة «ساندي» أمام منزلهما، فاقترح «عثمان» أن يذهبا إلى المبنى الذي زارته «ساندي» أمس … وأسرعا إلى هناك، وفعلًا وجدا سيارة «ساندي» الخضراء تقف على الرصيف المقابل للمبنى.
توقف «عثمان» بالسيارة ونظر في ساعته، فوجدها تقترب من الحادية عشرة والثلث، فقال ﻟ «أحمد»:
إن المسافة من هنا إلى متحف «هامبورج» تستغرق حوالي خمسة وأربعين دقيقة بالسيارة بقيادةٍ هادئة، فإذا كانت «ساندي» ذاهبةً في موعدها حقيقة فينبغي أن تظهر الآن.
ولم يكد يكمل «عثمان» حديثه حتى فُتح باب المبنى، وخرجت «ساندي» ووقفت لحظةً تتفحص الشارع، ثم ذهبت إلى حيث كانت سيارتها تقف، وأدارتها … ودارت بها دورةً سريعة ثُم وقفت أمام المبنى مباشرة، وفتحت الباب المُقابل لها، وعندئذٍ خرج رجلٌ طويل القامة … لم يستطع «أحمد» و«عثمان» أن يتبيَّنا ملامحه في الظلام وبُعد المسافة، ولكن الذي كانا متأكدين منه أن هذا الرجل ليس «كارل بيكر»، فقد سار تحت أحد المصابيح حيث ظهر بجلاءٍ شعره الأسود … بينما كان شعر «كارل» أشقر.
وكان الرجل يسير مُترنِّحًا فانطلقت «ساندي» «بالفولكس»، وقبل أن تختفي أضواء سيارتها الخلفية أدار «عثمان» مُحرك سيارته … وبدأ في تتبعها من على بُعدٍ حتى لا تشعُر به، وكم كانت هذه المهمة سهلةً على «عثمان»، الذي طالما قام بهذه العملية عشرات المرَّات …
في الثانية عشرة إلا خمس دقائق بدأت السيارة الفولكس تدخل الميدان الكبير الذي يقع فيه متحف مدينة «هامبورج» … ثم تتوقَّف في موقف السيارات المقابل لباب الدخول الأمامي مباشرة؛ حيث كانت تقف «إلهام» و«بو عمير» على بُعد، وعلى الجانب الآخر أوقف «عثمان» سيارته وبدأت عملية الانتظار.
ولكن دقَّت الساعة تُعلِن منتصف الليل ولم تظهر أي سيارة أو يظهر أي شخص، وبعد خمس دقائقٍ أخرى خرجت «ساندي» من سيارتها واتجهت إلى أحد أكشاك التليفون على الرصيف وطلبت رقمًا، وتحدثت لمدة نصف دقيقة ثم عادت وجلست في سيارتها مرةً أخرى، وبعد حوالي خمس عشرة دقيقة ظهرت سيارة «مرسيدس» سوداء قادمة من الجانب الأيسر من الميدان، واتجهت إلى حيث كانت سيارة «ساندي» واقفة، نزلت «ساندي» من سيارتها مُسرعة، وقابلَتْ شخصًا يلبس معطفًا طويلًا ويضع على رأسه قُبعةً سوداء … تحدَّثا سويًّا لبرهةٍ ثم عادت «ساندي» إلى سيارتها مرةً أخرى وفتحت الباب المقابل … نزل من السيارة الرجل الطويل الذي كان يجلس بجانبها … ساندته «ساندي» وهو يسير بجانبها، فقد كان يبدو أنه مُصابٌ بحالةٍ غير عادية من فقد التوازن.
كانت المسافة بين سيارة «عثمان» و«المرسيدس» السوداء حوالي ٢٠ مترًا، هبط «عثمان» من سيارته بخفة الفهد وانحنى على الأرض، وأسرع ناحية السيارة «المرسيدس»، وقبل أن يلحظه أحدٌ ألصق في مُؤخرتها جهازًا يُرسِل إشاراتٍ مُتقطِّعة من على بعد ١٥٠٠ متر، وبنفس السرعة عاد مرةً أخرى إلى سيارته، فابتسم له «أحمد» إعجابًا بسرعته وبراعته …
دخل الرجل السيارة «المرسيدس»، ثم عادت «ساندي» مرةً أخرى إلى سيارتها يتتبَّعُها الرجل ذو المعطف الطويل، وركبت سيارتها وجلست خلف المسند … ودار بينها وبين الرجل حديثٌ قصير، عاد بعده الرجل إلى «المرسيدس» وانطلقت السيارة به، أما «ساندي» فقد ظلت واقفة تنظُر تجاه السيارة ولم تتحرك …
بعد دقائق تحرَّكت سيارة «بو عمير» و«إلهام» خلف السيارة المرسيدس لتتبعها عن طريق الإشارة الضوئية … عندئذٍ هبط «أحمد» من سيارته … مُقتربًا من «ساندي» … وكأنه يسألها عن أي شيءٍ ليعرف لماذا هي واقفة في مكانها ولا تتحرك …
لكنها لم تتحرك بالسيارة لسببٍ بسيط هو أنها كانت ميتة …
نزل «أحمد» من السيارة مُسرعًا بعد أن أعطاه «عثمان» إشارةً، فوجد «ساندي» مُصابة بطلقٍ ناري … وكانت قد فارقتِ الحياة، وهي لا تزال جالسة خلف مِقود السيارة، ولم يكن أمامهما سوى أن يعودا إلى سيارتهما فورًا … ثم يتِّصلان بالشرطة ويعودان إلى المقر انتظارًا لأيِّ أخبارٍ جديدة من «بو عمير» و«إلهام».
وفي الواحدة والنصف صباحًا كانت «زبيدة» تتلقى رسالةً من رقم «صفر» عن الدواء الذي وجده «عثمان».
الدواء كما قال من قبل يُستعمَل بعد العمليات الجراحية خاصةً عمليات التجميل، فهو يقوم بعملية شدِّ الجلد لإخفاء أثار الغُرَز من البشرة …
في تلك اللحظة دخل «أحمد» و«عثمان»، وقرأ «أحمد» التقرير ونظر إلى «عثمان»، وقال:
يبدو أننا اقتربنا من المغامرة أكثر مما كنَّا نتوقع … إن هذا الشاب الطويل الذي كان مع «ساندي» هو «كارل بيكر»، ولكن بعد إجراء عملية تجميل دقيقة له غيرت ملامحه كليةً.
عثمان: إن المعلومات التي سوف نحصل عليها من «بو عمير» و«إلهام» ستضعنا في الصورة الكاملة للموقف …
ثم جلس «عثمان» و«أحمد» وقصَّا على «زبيدة» كل ما حدث، وكيف انتهت حياة «ساندي» بطلقةٍ من مُسدسٍ كاتم للصوت …
وفي الرابعة صباحًا سمع الشياطين صوت مُحرك سيارة «إلهام»، وهي تتوقَّف أمام المنزل، وعرف «أحمد» من «إلهام» و«بو عمير» أن السيارة المرسيدس ذهبت إلى محطةٍ للمفاعلات النووية تقع خارج مدينة «هامبورج» بحوالي مائة وأربعين كيلو مترًا، كما لاحظ «بو عمير» شيئًا هامًّا … أن لهذا المعمل النووي مطارًا يسمح بهبوط طائرة كبيرة، على الرغم من أن هناك محاولات لإخفاء معالِم هذا المطار …
كان لكلام «بو عمير» معنى خطيرًا … فقد تكون الطائرة الآن رابضة على مدرج المطار، ولكن كيف تصِل طائرةٌ حدود طيرانها لا تسمح لها بالوصول إلى هذه المسافة الطويلة؟!
قبل أن يستمر الشياطين في المناقشة قرَّر الجميع أن ينالوا قسطًا من الراحة بعد حوادث هذه الليلة المُثيرة، إلا «زبيدة» التي ذهبت لتُرسِل تقريرًا مفصلًا عما حدث لرقم «صفر»، الذي أبدى اهتمامًا كبيرًا وأبلغهم أنه سيُرسِل لهم مهندسًا في المفاعلات النووية، قد يحتاجون إليه في الأحداث القادمة.
لم يكن قد بقِيَ من الليل إلا القليل، فنام «أحمد» نومًا مُضطربًا، ولكنه كان في الساعة التاسعة صباحًا يعمل بكلِّ هِمَّةٍ ونشاط، وكأن شيئًا من أحداث الأمس لم يحدث، وبالطبع فإن مكتب «ساندي» كان خاويًا …
وفي العاشرة والنصف رن التليفون على مكتب «أحمد»، وتحدث المدير طالبًا ملفًّا هامًّا عن مشروعٍ خاص …
وعلى الفور أحضر «أحمد» الملف وذهب إلى المدير، الذي أبلغه أنه سيُسند إليه عملًا خاصًّا على جانبٍ كبير من الأهمية … وأن اعتماده عليه سيزداد في الفترة المقبلة؛ لأن «ساندي» قامت بإجازةٍ قد تطول لأسابيع …
كان كلام الرجل يبدو عاديًّا وخاصة أن صحف الصباح لم تتناول أي خبَرٍ عن جريمة قتل، وفي الساعة الواحدة دق التليفون مرةً أخرى، وطلب الرجل من «أحمد» أن يستعدَّ ليُرافِقه إلى أحد المشروعات، التي تقوم بها الشركة في مجال المفاعلات النووية …
أحس «أحمد» أنه قد نال ثقةَ رئيسه في العمل، وأنه سيحصل على مزيدٍ من المعلومات عن الشركة … وقام على الفور بإعداد كل الأوراق المطلوبة … وفي همَّةٍ ونشاطٍ كان ينتظر رئيسه أمام المصعد …
ظهر المدير خارجًا من حجرته … ونزلا سويًّا إلى الطابق الأرضي ومنه إلى الشارع، حيث ركبا سيارة المدير إلى مكان المفاعل النووي.
واستغرقت الرحلة إلى المفاعل حوالي ساعتَين ونصف لازدحام الطرق …
عندما ظهرت أرض المفاعل لاحظ «أحمد» البوابة الحديدية، التي تتَّصِل بسورٍ من السلك يُحيط بالمكان كله، وأخذ «أحمد» يُراقب كل شيءٍ باهتمام، خاصةً المطار الذي تحدث عنه «بو عمير» … وكان واضحًا أنَّ هناك جهدًا كبيرًا لإخفاء حجم المطار …
فتح رجلٌ كان يجلس في حجرةٍ مُسلحة بجوار السور … الباب الحديدي الكبير … كما لاحظ «أحمد» وجود رجلٍ آخر في الحجرة … وقاد المدير السيارة في طرقات تُحيط بها المباني التي تتكوَّن منها المعامل، إلى أن توقَّف أمام المبنى الرئيسي هناك …
واستقبله رَجُلان مُسلَّحان تبدو عليهما الشراسة … ونزل المدير من السيارة وتبعه «أحمد» ودخلا المبنى.
ولاحظ «أحمد» أسلوب التمويه في المباني … وكان يُحاول تذكُّر كل شيء بدقةٍ؛ لأنه سيحتاج إلى هذه المعلومات فيما بعد … ودخلا غرفةً طلب منه المدير الانتظار فيها … بينما دخل المدير إلى غرفةٍ أخرى مُلحقة بها …
ولم يحاول «أحمد» أن يقوم بأي أعمالٍ تُثير الشك فيه … فعندما أخذ يُراقب ما في الغرفة لاحظ وجود ساعة حائط من نوعٍ خاص يعرفه «أحمد» أن بها كاميرا «فيديو»، تُظهر صورته في غرفة مُراقبة …
بعد دقائق عاد المدير ومعه رجلٌ آخر يرتدي معطفًا أبيض وجلسا أمام «أحمد»، وتكلَّم الرجل ذو المعطف الأبيض قائلًا:
إن عملك معنا يُسعدنا جدًّا خاصة بعد الكلام الذي قاله عنك المدير … ستعمل هنا في مشروعٍ ذري جديد … وقد قرَّرْنا اختيارك بعد أن أثبتَّ جدارتك في الأيام التي عملتَ فيها معنا … ستكون مساعدًا للدكتور «فوجل»، وهو من أبرز علمائنا … إنه يمر بأزمةٍ صحيةٍ خفيفة ويحتاج إلى مساعدٍ كفء … وسيسعد كثيرًا بالعمل معك …
بعد ذلك وقف الثلاثة … المدير والرجل ذو المعطف الأبيض و«أحمد»، واتجه الجميع إلى الردهة، وصعدوا في سُلمٍ ضيق يؤدي إلى بابٍ مغلق، يقِف أمامه أحد رجال الأمن الذي أحنى رأسه للمدير، ثم فتح باب الغرفة.
كانت الحجرة حافلة بالأجهزة الدقيقة … وأضواء المؤشرات تلمع هنا وهناك، وعلى جانبي الغرفة أجهزة التحكم … ولم يكد الثلاثة يدخلون الحجرة حتى فُتِح بابٌ آخر، وظهر رجلٌ أشيب الشعر … طويل القامة بشكلٍ ملحوظ، وقدَّمه له المدير قائلًا:
دكتور فوجل» الذي ستساعده.
وسلم «فوجل» على «أحمد» ونظر إليه طويلًا، ثم قال: إن الضيف موجود.
قال المدير: دعه يدخل!
ضغط «فوجل» على جرسٍ أمامه، ومرَّت دقائق قليلة في صمت … ثم فُتِح الباب، وظهر الرجل الطويل القامة القوي البنيان، ولكنه يتحرَّك بصعوبةٍ، وقد اكتسى وجهه بتعبيرٍ ثابت … كأنه قناع وقال فوجل: مستر «ليونز» من الولايات المتحدة.
ولم يكن في نفس «أحمد» أدنى شك أن «ليونز» هذا هو الطيار المُختفي «كارل بيكر» …