الرجل الذي مات
عدتُ من لندن في نحو الساعة الثالثة في مساء ذلك اليوم من شهر مايو يكتنفني ازدراءٌ شديدٌ للحياة. كنت قد قضيتُ ثلاثةَ أشهر في مسقط رأسي وسئمتُ منه. لو كان أحدٌ أخبرني منذ عامٍ مضى أن شعوري سيكون هكذا لكنت ضحكتُ من قوله؛ لكن هكذا كانت الحقيقة. جعلني الطقسُ متعكرَ المزاج، وكانت أحاديثُ الرجال الإنجليز العاديين تُشعرني بالاشمئزاز، ولم أستطعْ ممارسةَ ما يكفي من التمارين الرياضية، وبدتْ لي أماكنُ التسلية في لندن عديمةَ المعنى تمامًا مثل زجاجة مياه غازية تُرِكَت في الشمس. ظللْتُ أقول لنفسي: «ريتشارد هاناي، أنت في المكان الخطأ يا صديقي، ومن الأفضل لك الخروجُ منه.» كنت أعَضُّ على شفتيَّ انزعاجًا حين كنت أفكر في الخطط التي ظللتُ أضعُها طوال السنوات الأخيرة في بولاوايو. لقد جنيتُ مالًا ولكن ليس الكثير منه، واكتشفتُ كافة أنواع الطرق للاستمتاع بوقتي. كان والدي قد أخرجني من اسكتلندا في سنِّ السادسة، ولم أعُدْ إليها منذ ذلك الحين؛ ولهذا كانت إنجلترا محاطةً في ذهني بهالة من الغموض وكأنها حكايةُ ألف ليلة وليلة، واعتزمت أن أستقرَّ هناك وأُمضيَ ما بقيَ لي من العمر فيها.
إلا أن أملي فيها خاب من البداية؛ ففي خلال أسبوع تقريبًا كنتُ قد سئمتُ من الذهاب إلى المزارات، وفي أقل من شهر كنتُ قد اكتفيت من المطاعم والمسارح وسباقات الخيل. لم يكن لديَّ صديقٌ حقيقيٌّ أتنقَّلُ معه، وربما يفسِّر هذا سأمي الشديد؛ فكثير من الأشخاص دعوني إلى منازلهم، لكن لم يبدُ عليهم الاهتمامُ بي كثيرًا؛ فكانوا يطرحون عليَّ سؤالًا أو اثنين عن جنوب أفريقيا، ثم ينشغلون بأمورهم. دعتْني سيداتٌ كثيرات من المؤيدات للاستعمار لتناول الشاي لمقابلة نظَّار مدارس من نيوزيلندا، ومحررين من فانكوفر، وكان هذا أسوأ الأنشطة على الإطلاق، وهكذا كنت في السابعة والثلاثين من عمري، في تمام الصحة والعافية، ولديَّ ما يكفي من المال لأستمتعَ بوقتي، ومع ذلك أشعر بالضجر والسأم الشديد طوال اليوم. كنت قد أوشكتُ على أن أحزمَ أشيائي وأعودَ أدراجي إلى جنوب أفريقيا؛ فقد كنت أكثرَ رجل يشعر بالسأم والضجر في المملكة المتحدة.
في عصر ذلك اليوم كنت أُزعِج وسطائي الماليين بشأن استثماراتي لأشغل عقلي بشيء ما. وفي طريق عودتي إلى المنزل عرَّجتُ على الملهى الليلي، الذي كان أشبهَ بحانة، والذي كان يستقبل أفرادًا من المستعمرات. ظللتُ وقتًا طويلًا أحتسي الشراب وأقرأ الصحف المسائية. كانت الصحف تزخر بأخبارٍ عن الوضع المضطرب في الشرق الأدنى، وكان ثمَّة مقالٌ عن كاروليدس، رئيس الوزراء اليوناني. أُعجبتُ إلى حدٍّ ما بالرجل؛ فمن بين جميع الأخبار بدا أنه أهمُّ رجل على الساحة، وكان يُمارس السياسة بنزاهة أيضًا، وهو الأمر الذي لم يكن ينطبق على معظم الباقين. استخلصتُ أنهم كانوا يكرهونه بشدة في برلين وفيينا، ولكننا سنبقى في صفِّه، وذكرتْ إحدى الصحف أنه كان يُمثِّل الحاجزَ الفاصل الوحيد بين أوروبا والهلاك. أذكر أني تساءلتُ عما إذا كنت أستطيع الحصول على وظيفة في تلك الأنحاء. تراءى لي أن ألبانيا كانت من نوعية الأماكن التي قد يبتعد فيها المرءُ عن الشعور بالضجر.
في حوالي الساعة السادسة عدتُ إلى البيت، وارتديتُ ملابسي، وذهبتُ لتناول العشاء في فندق كافيه رويال، وتوجَّهتُ إلى قاعة الموسيقى هناك. كان عرضًا سخيفًا؛ إذ كان كلُّ مَن هناك نساءً ورجالًا بوجوه تُشبه وجوه القرود يتقافزون في مرح، ولم أبقَ هناك وقتًا طويلًا. كانت هذه الليلة طيبة وصافية وأنا أسيرُ عائدًا إلى الشقة التي كنت قد استأجرتُها بالقرب من شارع بورتلاند بليس. اندفعتْ حشودُ الناس تتخطَّاني على الأرصفة، منشغلين ويتحدَّثون، وكنت أحسدُ الناس على انشغالهم بشأنٍ ما. كان ثمة اهتمامٌ ما بالحياة لدى هؤلاء الفتيات العاملات في المحال، ورجال الدين، والرجال المتأنقين، ورجال الشرطة، يجعلهم يواصلون حياتهم. أعطيتُ نصف كراون لشحَّاذ لأنني رأيته يتثاءب؛ فقد كان زميلًا لي في المعاناة. عند محطة أوكسفورد سيركس نظرتُ إلى السماء الربيعية وأخذتُ عهدًا على نفسي؛ سأعطي مسقط رأسي هذا يومًا آخرَ لأحاول أن أجدَ شيئًا يناسبني، وإن لم يحدث شيءٌ، فسأستقلُّ السفينة التالية المتوجهة إلى كيب تاون.
كانت شقَّتي في الطابق الأول في مجمَّع سكني جديد خلف شارع لانجهام بليس. كان يوجد سُلَّم مشترك يقف أمام مدخله بوابٌ وعاملٌ للمصعد، لكن لم يكن هناك مطعمٌ أو أيُّ شيء من هذا القبيل، وكلُّ شقة كانت منعزلةً إلى حدٍّ كبير عن باقي الشقق. أكره وجود الخدم الدائم في الشقق السكنية؛ ولهذا طلبتُ من أحد الأشخاص أن يأتيَ ليعتنيَ بي وكان يأتي في فترة النهار. كان يصل قبل الثامنة من صباح كلِّ يوم، ويغادر في تمام السابعة مساءً؛ فلم أكن أتناول طعام العشاء في المنزل قَطُّ.
كنت على وشك أن أولجَ مفتاحي في الباب حين لاحظتُ وجود رجل بجواري. لم أرَه وهو يقترب مني، وظهورُه المفاجئ جعلني أجفلُ. كان رجلًا نحيلًا، بلحية قصيرة بُنِّيَّة اللون، وعينين صغيرتين زرقاوين وثاقبتين. تبيَّنتُ أنه الساكن في الشقة الموجودة في الطابق العلوي، والذي كنتُ قد أجريتُ معه حوارًا موجزًا على السلَّم.
قال لي: «هل يمكنني التحدثُ إليك؟ هل يمكنني الدخولُ لدقيقة؟» كانت نبرةُ صوته ثابتةً، ويقبض بيده على ذراعي.
فتحتُ الباب وأدخلتُه. ولم يلبث أن تخطَّى عتبة الباب حتى دلَف مسرعًا إلى غرفتي الخلفية، حيث اعتدتُ أن أدخن وأكتب خطاباتي، ثم اندفع عائدًا.
سألني بانفعال شديد: «هل الباب موصدٌ؟» ثم أغلق سلسلة الباب بيده.
قال بتواضع: «أنا آسف بشدة، هذا اقتحامٌ شديد للحرية، لكنك بدوتَ من نوعية الرجال الذين يتفهمون. لقد كنتَ ببالي طوال هذا الأسبوع حين ساءت الأوضاع. اسمع، هلَّا أسديتَ إليَّ معروفًا؟»
قلتُ له: «سأستمع إليك، هذا كلُّ ما يمكنني أن أعدك به.» كان القلق قد بدأ يعتريني من سلوك هذا الرجل الضئيل العصبي.
كانت توجد صينية عليها مشروباتٌ على طاولة بجواره، فملأ لنفسه منها كأسًا من الويسكي بالصودا، شربها على ثلاث دُفعات، وأحدث شرخًا في الكأس وهو يضعها من يده.
قال: «عذرًا، فأنا مهزوز بعض الشيء هذه الليلة؛ فقد كان من المفترض بي في هذه اللحظة أن أكون ميتًا.»
جلستُ إلى مقعد ذي ذراعين وأشعلت غليوني.
سألته: «ما شعورك الآن؟» كنتُ متأكدًا من أنه كان عليَّ التعامل مع رجل مجنون.
ارتسمتِ ابتسامةٌ خفيفة على وجهه الذي كان يبدو عليه الإرهاق. «لم يُصبني الجنون بعد. اسمع يا سيدي، لقد كنت أراقبك، وأحسبك نزيلًا هادئ الأعصاب، وأحسبك أيضًا رجلًا صادقًا، ولا تخشى المخاطرة، ولهذا سأوليك ثقتي؛ فأنا بحاجة إلى المساعدة أكثر من أي إنسان على الإطلاق، وأريد أن أعرف إن كان بوسعي الاعتماد عليك.»
قلتُ: «تحدَّث بما عندك، وسأخبرك.»
بدا أنه يستجمع شتات نفسه ليبذل جهدًا هائلًا، ثم بدأ في سرد أغرب هُراء سمعتُه على الإطلاق. لم أستوعب حديثه في البداية، وكان عليَّ أن أتوقَّف وأطرح عليه بعض الأسئلة. ولكن هذا ملخص ما قاله:
كان أمريكيًّا من كنتاكي، وبعد انتهائه من دراسته الجامعية، ولأنه كان ميسورَ الحال، شرع في رؤية العالم. كتب بعض المؤلفات، وعمل مراسلًا حربيًّا لصحيفة في شيكاغو، وأمضى عامًا أو اثنين في جنوب شرق أوروبا. استجمعتُ من حديثه أنه كان على علم جيد باللغات، وأنه أصبح ملمًّا إلمامًا جيدًا بالمجتمع في تلك المناطق. كان يتحدث بألفة عن الكثير من الأسماء التي أتذكر أني قد رأيتُها في الصحف الإخبارية.
أخبرني أنه مارس السياسة، في البداية بدافع الاهتمام بها، ثم لأنه لم يكن له حيلة في ذلك. أدركتُ من كلامه أنه شخص ذكي لا يَكِلُّ، أراد دومًا أن يصل إلى جذور الأشياء؛ فتمادى به الحال أكثر مما أراد.
إنني أسرد عليكم ما قاله لي بالإضافة إلى ما استطعتُ استنتاجَه؛ ففي الخلفية بعيدًا عن جميع الحكومات والجيوش ثمة حركةٌ خفية كبيرة تحدث، يُديرها أشخاصٌ في غاية الخطورة. كان قد توصَّل إليها بالصدفة؛ وقد بهرتْهُ؛ فتمادى فيها حتى قُبض عليه. استخلصتُ أن معظم الأشخاص المنخرطين فيها كانوا من الأناركيين المثقفين الناقمين على السلطة الذين يُشعلون الثورات، لكن بالإضافة إليهم كان يوجد أيضًا ممولون كانوا يشاركون من أجل المال فقط؛ إذ يمكن لشخص بارع أن يجنيَ أرباحًا كبيرة من وراء سوق منهار، وكان من مصلحة كلتا الفئتين إغراقُ أوروبا في التناحر.
أخبرني ببعض الأمور الغريبة التي فسرتِ الكثيرَ من الأشياء التي حيَّرتني والتي حدثتْ في حرب البلقان؛ كيف لدولة واحدة أن تُصبحَ في الصدارة فجأة، ولماذا كانت التحالفات تُقام وتُفسخ، والسبب وراء اختفاء أشخاص محدَّدين، ومن أين جاءت بذور الحرب. كان الهدف من المؤامرة بأكملها هو إشعالَ الصراع بين روسيا وألمانيا.
حين سألتُه عن السبب قال لي إن مجموعة الأناركيين اعتقدوا أن هذا سيعطيهم فرصتهم؛ فكلُّ شيء سيصبح داخل بوتقة الانصهار، وكانوا يتطلعون لرؤية عالم جديد يظهر؛ فقد يجمع الرأسماليون أموالًا طائلة، ويجنون ثروات من شراء الحطام؛ فرأس المال، على حدِّ قوله، بلا ضمير ولا وطن. وقد كان اليهود وراء كل هذا، واليهود كانوا يكرهون روسيا أكثرَ من كراهيتهم لأي شيء آخر في العالم.
صاح قائلًا: «هل تتعجب من هذا؟ لقد تعرضوا للاضطهاد لأكثر من ثلاثمائة عام، وهذا هو وقت الردِّ على المذابح المدبرة؛ فاليهود منتشرون في كل مكان، لكن عليك أن تنزلَ إلى العالم السرِّي لتعثر عليهم. فلتنظر مثلًا إلى أيٍّ من الشركات الألمانية. إذا كانت لديك تعاملاتٌ مع هذه، أي من هذه الشركات، فأول شخص ستقابله هو شاب أنيق ألماني الأصل يتحدث بلغة إنجليزية متكلفة، ومع ذلك ليس له أيُّ دور فعال. وإذا كان حجم عملك كبيرًا، فإنك ستتخطاه وستجد وستفاليًّا ذا فكٍّ بارز وحاجبَين معقودَين وأخلاق خنزير. إنه رجلُ الأعمال الألماني الذي يجعل القشعريرة تسري في جسدك الإنجليزي. أما إذا كان عملك من النوع الرفيع ويُفترض بك الوصولُ إلى الرئيس الفعلي، فعلى الأرجح ستلتقي بيهودي أبيض الوجه ضئيل الحجم في كرسي للمُقْعَدين، وله عينان تُشبهان عينَي الحية المجلجِلة. أجل يا سيدي، هذا هو الرجل الذي يحكم العالم في وقتنا هذا، وهو يُوجِّه سكِّينَه في وجه الإمبراطورية الروسية؛ لأن عمَّتَه تعرَّضتْ لإهانة بالغة، ووالدَه جُلد في موضعٍ ناءٍ على نهر الفولجا.»
لم يسعْني إلا أن أقول إنه يبدو أن الأناركيين اليهود قد تعرضوا للإهمال بعض الشيء.
قال: «أجل، وكلَّا؛ فقد حققوا بعض المكاسب، لكن حققوا شيئًا أكبر بكثير من المال، شيئًا لا يمكن شراؤه؛ وهو الغرائز القتالية الأساسية القديمة للإنسان. إن كنت ستتعرض للقتل فإنك ستخترع رايةً أو بلدًا من نوعٍ ما لتحارب من أجله، وإذا كُتِبَت لك النجاةُ فإنك ستحبُّ هذا الشيء كثيرًا. لقد وجد هؤلاء الجنودُ الشياطين الحمقى شيئًا يهتمون به، وذلك أحبط الخطة المُحكمة الموضوعة في برلين وفيينا. إلا أن أصدقائي لم يُخْرِجوا آخرَ ما في جَعبتهم بعدُ لبُعد نظرِهم؛ فما زالوا يُخفون ورقة رابحة، وإن لم أستطعِ الحفاظ على حياتي لمدة شهر فسيستخدمونها.»
بادرتُه بالحديث: «لكني اعتقدتُ أنك ميت.»
قال باللاتينية وهو يبتسم: «الموت هو بوابة الحياة.» (تعرفت على الاقتباس على الفور؛ فقد كان يُمثل تقريبًا كلَّ ما أعرف من اللغة اللاتينية.) واصل حديثه، قائلًا: «سآتي على ذكر هذا، لكن كان لزامًا عليَّ أن أُطلعك على كثير من الأشياء أولًا. إذا كنتَ تقرأ الصحف، فأعتقد أنك تعرف الاسم قسطنطين كاروليدس، أليس كذلك؟»
حينئذٍ اعتدلتُ في جلستي؛ فقد كنتُ أقرأ الكثيرَ عن هذه الشخصية عصرَ هذا اليوم تحديدًا.
«إنه الرجل الذي حطَّم ألاعيبهم كافة. إنه العقل الذكي الوحيد في المشهد بأكمله، ويتصادف أيضًا أنه رجل نزيه؛ وعليه فقد كان مستهدفًا في الأشهر الاثني عشر الماضية. اكتشفتُ ذلك ولم يكن الأمر صعبًا، فيمكن لأي أبله أن يُخمِّن بنفس القدر. إلا أنني اكتشفتُ أيضًا أنهم سينالون منه، وكانت هذه المعلومة مميتة؛ ولهذا كان يجب أن أموت.»
تناول مشروبًا آخر، وخلطتُه له بنفسي؛ إذ بدأ اهتمامي يزيد بما يقوله هذا الرجل.
«لا يمكنهم أن ينالوا منه داخل أرض وطنه؛ لأن لديه حارسًا شخصيًّا من إبيروس بإمكانه أن يسلخَهم أحياءً. إلا أنه في الخامس عشر من شهر يونيو سيأتي إلى هذه المدينة؛ فقد اعتادت وزارة الخارجية البريطانية على إقامة حفلات شاي دولية، ومن المزمع إقامةُ أكبر هذه الحفلات في ذلك التاريخ. ويُعتبر كاروليدس الضيف الرئيسي في هذا الحفل، وإن استطاع أصدقائي تحقيقَ مخططهم فإنه لن يعود أبدًا إلى بني وطنه الذين يحبونه.»
قلتُ له: «الأمر بسيط للغاية، على أي حال. يمكنك تحذيرُه وحثُّه على البقاء في بلده.»
سألني بحدَّة: «وألعب اللعبة بقواعدهم؟ إن لم يأتِ، فعندئذٍ يكونون قد فازوا؛ إذ إنه الشخص الوحيد القادر على تصويب الوضع المتشابك. وإذا تلقَّت حكومتُه تحذيرًا فإنه لن يحضر؛ فهو لا يعلم حجم الخطر الذي سوف يكون قائمًا في الخامس عشر من يونيو.»
قلتُ له: «ماذا عن الحكومة البريطانية؟ فهم لن يسمحوا باغتيال ضيوفهم. أعطهم المعلومة، وسيتخذون المزيد من التدابير الوقائية.»
«لا جدوى من هذا. فربما يملئون المدينة بمخبرين يرتدون ملابس مدنيَّة، ويضاعفون أعداد ضباط الشرطة ومع ذلك يظلُّ قسطنطين رجلًا محكومًا عليه بالهلاك؛ فأصدقائي لا يُدبِّرون هذه المكيدة هباءً، فهم يريدون التخلصَ منه في حدثٍ كبير، تكون كلُّ الأعين في أوروبا مسلطةً عليه. سيكون مقتلُه على يد شخص نمساوي، وسيتوفر الكثيرُ من الأدلة التي تُظهر تآمرَ الشخصيات الكبرى في فيينا وبرلين. بالطبع ستكون هذه كذبة شيطانية، لكن الوضع سيبدو للعالم قاتمًا بما فيه الكفاية. أنا لا أتحدث بهُراء، يا صديقي؛ إذ يتصادف معرفتي بجميع تفاصيل هذا المخطط الجهنمي، ويمكنني أن أقول لك إنه سيكون أكثرَ عمل خسيس مكتمل منذ المؤامرات التي حِيكت في عهد آل بورجيا. إلا أن هذا المخطط لن يُفْلِح في حال وجود رجلٍ مُعَيَّنٍ عليمٍ بخبايا الأمور على قيد الحياة هنا في لندن في الخامس عشر من يونيو. وهذا الرجل سيكون خادمَك فرانكلين بي سكادر.»
كنتُ قد بدأت أُعجَب بالرجل الضئيل البِنية. انغلق فكُّه مثل مصيدة فئران، وتأجَّجت عيناه الثاقبتان بلهيب الصراع. لو كان يخدعني بقصة مختلقة فقد نجح تمامًا في إقناعي بها.
سألتُه: «كيف اكتشفتَ هذه القصة؟»
«حصلتُ على أول معلومة في نُزلٍ على بحيرة أخينسي في تيرول. وجعلني ذلك أشرع في الاستقصاء، وجمعتُ باقي أدلتي الأخرى من محل فراء في حي جاليسي في بودا، ومن إحدى حانات سترينجرز كلوب في فيينا، ومن محل صغير لبيع الكتب في شارع راكنيتسشتراسيه في لَيْبِسِك. أنهيتُ جمْعَ أدلتي منذ عشرة أيام في باريس. لا يمكنني إطلاعُك على التفاصيل الآن، لأنها قصة طويلة. حين تأكدتُ تمامًا من الأمر في ذهني، رأيت أنَّ عليَّ أن أختفيَ عن الأنظار، ووصلتُ إلى هذه المدينة بعد طواف هائل غريب؛ فقد تركتُ باريس في هيئة شاب فرنسي أمريكي متأنق، وأبحرتُ من هامبورج على أني تاجر ألماس يهودي. وفي النرويج، كنت طالبًا إنجليزيًّا من إبسن يجمع موادَّ من أجل محاضراته، ولكن حين تركتُ برجن كنتُ سينمائيًّا أصوِّر أفلامًا خاصة عن التزحلق على الجليد. وجئتُ من ليث إلى هنا وبحوزتي الكثيرُ من المعلومات والقصص التي كنتُ سأقدِّمها للصحف في لندن. وحتى يوم أمس كنتُ أظن أنني تمكنت من إخفاء أثري، وكنت أشعر بسعادة غامرة. ثم …»
بدا أنَّ تذكُّرَ الأمرِ أزعجه، فازدرد مزيدًا من الويسكي.
«ثم رأيتُ رجلًا يقف في الشارع خارج هذا المبنى. اعتدتُ أن أبقى داخل غرفتي طوال اليوم، ولا أخرج متسلِّلًا إلا بعد أن يحلَّ الظلامُ لساعة أو ساعتين. راقبتُه لبعض الوقت من نافذتي، واعتقدتُ أني تبيَّنتُه؛ فقد دخل وتحدَّث مع البواب. وحين عدتُ من نزهتي ليلة أمس وجدتُ بطاقةً في صندوق خطاباتي. كانت تحمل اسمَ آخرِ رجل أريد أن ألقاه على وجه هذه الأرض.»
أعتقدُ أن النظرة التي بدتْ في عينَي رفيقي، والرعبَ الجليَّ على وجهه، قد أكملَا اقتناعي بصدقه. احتدَّتْ نبرةُ صوتي بعضَ الشيء وأنا أسأله عما فعل بعد ذلك.
«أدركتُ أني كنتُ محاصرًا تمامًا مثل سمك مملَّح معلَّب، وأنه لا يوجد إلا سبيلٌ واحد للهرب؛ لا بد لي أن أموت. فإذا علم مَن يلاحقونني أني قد متُّ فسيخلدون إلى السكينة مرةً أخرى.»
«كيف نجحت في ذلك؟»
«أخبرتُ الرجل الذي يخدمني بأني أشعر بتوعُّك شديد، وحاولتُ أن أبدوَ كمن يُحْتَضَر. لم يكن ذلك أمرًا صعبًا؛ فأنا أُجيد التظاهر. بعد ذلك أحضرتُ جثة؛ فيمكنك دومًا الحصولُ على جثة في لندن إن كنتَ تعلم المكان الذي تذهب إليه من أجل هذا. جلبتُها في صندوق على عربة لها أربع عجلات، وكان لا بد لي من الحصول على المساعدة من أجل صعود السلَّم بها إلى غرفتي. كان لا بد لي من تجميع بعض الأدلة من أجل التحري. ذهبتُ إلى السرير وأخبرتُ خادمي بأن يخلطَ لي شرابًا منوِّمًا، وأخبرتُه أن ينصرف. أراد أن يُحضرَ لي طبيبًا، لكني شتمتُ قليلًا وقلتُ له إني لا أطيق المتطفلين. حين تركني وحدي بدأتُ في تزييف ملامح هذه الجثة. كانت لرجل في مثل حجم جسمي، واستنتجتُ أنه قد تُوفي إثر الإفراط في تناول المشروبات الكحولية؛ ولهذا وضعتُ كميات من الشراب في أرجاء المكان. كان فكُّه نقطةَ الضعف في عملية المشابهة بينه وبيني؛ ولهذا فجَّرتُه بالمسدس. أعتقد أن أحدًا ما في الغد سيُقسم بأنه قد سمع صوتَ إطلاق نار، ولكن لا يوجد أيُّ جيران في طابقي؛ ولهذا خمَّنتُ أن بوسعي أن آخذَ هذه المخاطرة. وعليه تركتُ الجثة في السرير مرتديةً ملابسَ نومي، ومسدسًا ملقًى على أغطية السرير، وافتعلتُ فوضى عارمة في أرجاء المكان. بعدها ارتديتُ ملابسَ كنتُ أحتفظ بها من أجل حالات الطوارئ. لم أجرؤْ على حلْق ذقني خوفًا من ترك أيِّ أثر، بالإضافة إلى أن محاولتي للنزول إلى الشارع لم تكن لها أي فائدة. كنتُ أفكر فيكَ طوال اليوم، وبدا لي أنه ليس أمامي إلا اللجوءُ إليك. ظللت أراقبُ من نافذتي حتى رأيتكَ عائدًا إلى البيت، ثم نزلتُ متسلِّلًا على السُّلَّم لألتقيَ بك … والآن يا سيدي أعتقدُ أنك تعرفُ عن هذا الأمرِ بقدْري تمامًا.»
جلس يَطرِفُ بعينَيه مثل البومة، وهو يرتعدُ من التوتر، ومع ذلك كانت تبدو عليه أماراتُ تصميمٍ شديد. بحلول هذا الوقت كنتُ مقتنعًا اقتناعًا كبيرًا بأنه كان صادقًا معي. كانت هذه أغربَ أنواع القصص على الإطلاق، ولكني سمعتُ طوال حياتي الكثيرَ من القصص العصية على التصديق التي تبيَّن صدْقُها، واعتدتُ أن أحكمَ على البشر وليس على القصة. فلو كان هدفُه الدخولَ إلى منزلي، ثم قتلي، لكان اخترع حكايةً أبسط من هذه.
قلتُ له: «أعطني مفتاحك، وسأُلقي نظرة على الجثة. اعذرني في حذري، ولكن عليَّ التأكد قليلًا من كلامك قدرَ المستطاع.»
هزَّ رأسَه في حزن، وقال: «اعتقدتُ أنك ستطلب هذا، لكنه ليس معي. إنه في سلسلة مفاتيحي على طاولة الزينة. كان لا بد لي من تركه هناك؛ إذ لم أستطع ترك أي أدلة تُولد الشكوك؛ فالجماعة التي تلاحقني من أهل هذا البلد ولهم أعينٌ يقظة. عليك أن تثقَ في كلامي هذه الليلة، وغدًا ستحصل على إثبات يؤكد لك موضوعَ الجثة بما فيه الكفاية.»
فكرتُ للحظة أو اثنتين، ثم قلتُ له: «حسنًا، سأثقُ بك هذه الليلة. سأوصدُ عليك البابَ في هذه الغرفة، وسأحتفظ بالمفتاح. اسمح لي فقط بكلمة واحدة يا سيد سكادر، أعتقد أنك صادق، ولكن إن لم تكن كذلك فعليَّ أن أحذِّرَك أنني أحمل سلاحًا ناريًّا وأُجيد استخدامَه.»
قال: «بالتأكيد.» وقفز واقفًا في خفَّة. «لم أتشرفْ بمعرفة اسمك يا سيدي، لكن دعْني أَقُلْ لك إنك رجل طيب القلب. وسأكون شاكرًا لك للغاية إن أمكن أن تُعيرَني شفرةَ حلاقة.»
أخذتُه إلى غرفة نومي وتركتُه على حريته فيها، وبعد نصف ساعة خرج منها شخصٌ بالكاد تعرفتُ عليه. فباستثناء عينَيه الثاقبتَين والتوَّاقتَين تغيَّر كلُّ شيء آخر في مظهره. أصبح حليقَ الوجه، وفرق شعره من المنتصف، وهذَّب حاجبَيه. بالإضافة إلى هذا، كان يقف وقفة عسكرية، وكان نموذجًا لضابط بريطاني أمضى وقتًا طويلًا في الهند، حتى في لون بشرته البُنِّيِّ. كان يضع أيضًا نظارة مفردة تلتصق بعينه، واختفى تمامًا من كلامه كلُّ أثرٍ للكنته الأمريكية.
تمتمتُ قائلًا: «قبَّعتي يا سيد سكادر!»
صحَّح لي كلامي: «لستُ السيدَ سكادر، وإنما الكابتن ثيوفيلوس ديجبي، من لواء الجوركا الأربعين، وحاليًّا في إجازة في الوطن، وسأكون شاكرًا لك إن أمكنك تذكُّرُ هذا يا سيدي.»
أعددتُ له سريرًا في غرفة التدخين وذهبتُ نحو أريكتي، وأنا أشعر بالسعادة أكثرَ مما شعرتُ طوال الشهر الماضي. إن أمورًا مثيرة تحدث أحيانًا، حتى في هذه المدينة الموحشة.
استيقظتُ في صباح اليوم التالي على صوت خادمي، بادوك، وهو يُحدِث صخبًا شديدًا أمام باب غرفة التدخين. كان بادوك شخصًا صنعتُ فيه معروفًا وأخرجتُه من سيلاكوي في زيمبابوي، وجعلتُه يعمل خادمًا لي بمجرد وصولي إلى إنجلترا. كان كفرس النهر؛ لا يُغلق فاه أبدًا، ولم يكن يُجيد عملَ الخادم، لكني كنتُ أعلم أن بوسعي الاتكالَ على ولائه.
قلتُ له: «توقَّف عن هذا الصخب يا بادوك؛ فيوجد بالداخل صديقٌ لي هو الكابتن … الكابتن (لم أستطعْ تذكُّرَ الاسم) ينام بالداخل. هيَّا أحضرْ طعام إفطار لاثنين ثم تعالَ وتحدَّث إليَّ.»
أخبرتُ بادوك قصةً جيدة عن كَون صديقي هذا شخصيةً رفيعةَ المنزلة، وأن أعصابه متعبة من الإفراط في العمل، وأنه يريد الراحةَ التامة والهدوء. وأنه لا ينبغي أن يعلم أحدٌ بوجوده هنا، وإلا ستُحاصره اتصالاتٌ من مكتبه في الهند ومن رئيس الوزراء، وعندها لن يتمكَّنَ من التعافي. يتعيَّن عليَّ القولُ إن سكادر أدَّى دورَه أداءً رائعًا حين أتى لتناول الإفطار؛ فقد حدَّق في بادوك بنظارته، تمامًا مثل ضابط بريطاني، وسأله عن حرب البوير، وغمرني بالحديث عن كثير من الأشياء حول أشخاص خياليين. لم يستطعْ بادوك أبدًا أن يتعلَّم أن يناديَني «سيدي»، لكنه ظلَّ ينادي سكادر «سيدي» كأن حياته تعتمد على هذا.
تركتُه مع الصحيفة وعلبة سجائر، وذهبت إلى المدينة حتى موعد الغداء. وحين عدتُ كانت الجدية تكسو وجهَ عامل المصعد.
قال: «وقع حادثٌ بغيض هذا الصباح يا سيدي. أطلق السيدُ في الشقة رقم ١٥ النارَ على نفسه. لقد أخذوه للتوِّ إلى المشرحة. والشرطة في الأعلى الآن.»
صعدتُ إلى الشقة رقم ١٥ ووجدتُ شرطيَّين ومحققًا منشغلين بفحص المكان. طرحتُ بعض الأسئلة الحمقاء، وسرعان ما طردوني من المكان. بعد ذلك رأيتُ الرجل الذي كان يخدم سكادر وحاول إسعافَه، لكن أمكنني أن أرى أنه لم يشكَّ في شيء على الإطلاق. كان شخصًا بكَّاءً كئيبَ الوجه، وتطلَّب الأمرُ نصفَ كراون لتعزيته.
حضرتُ التحقيق في اليوم التالي، وقدَّم شريكٌ في إحدى دُور النشر دليلًا على أن المتوفَّى كان قد أُحضر له الكثيرُ من المقترحات، وكان وكيلًا، على حدِّ ظنه، لإحدى الشركات الأمريكية. اعتبرتْ هيئةُ التحقيق الأمرَ حالةَ انتحار بسبب عدم سلامة القوى العقلية، وسُلِّمت متعلقاتُه الشخصية القليلة إلى القنصلية الأمريكية لتتعامل معها. أخبرتُ سكادر بشأن كلِّ ما حدث، وأبدى اهتمامًا كبيرًا. قال إنه كان يتمنَّى لو كان بوسعه أن يحضر التحقيق؛ إذ اعتقدَ أنه سيكون ممتعًا كأن يقرأ المرءُ نعيَه بنفسه.
في أول يومين قضاهما معي في هذه الغرفة الخلفية كان هادئًا للغاية. كان يقرأ ويدخن قليلًا، ودوَّن مجموعةً من الملاحظات في دفتر ملاحظات، وفي كل ليلة كنَّا نلعب الشطرنج، الذي كان يهزمني فيه هزيمةً ساحقة. أعتقدُ أنه كان يستعيد صحة أعصابه؛ إذ كان قد مرَّ بوقت عصيب. إلا أنه في اليوم الثالث كان بوسعي أن أرى أنه بدأ يشعر بالضجر. أعدَّ قائمةً بالأيام حتى الخامس عشر من يونيو، وكان يُؤشِّر على كل يوم بقلم رصاص أحمر، ويكتب عليها بعضَ الملاحظات المختصرة. كنتُ أراه واجمًا مستغرقًا في تفكير عميق، وعيناه الحادَّتان شاردتان، وبعد تلك اللحظات من التأمل كانت تبدو عليه كآبة مفرطة.
بعد هذا كان بوسعي أن أرى أنه بدأ يصير منفعلًا مرةً أخرى؛ فكان ينتبه لأي ضوضاء صغيرة، وكان يسألني طوال الوقت إذا ما كان من الممكن الوثوقُ في بادوك. أصبح حادَّ الطبع مرة أو مرتين، واعتذر على هذا، ولم أُوجِّهْ له لومًا؛ فقد كنتُ ألتمسُ له كلَّ الأعذار، نظرًا لما كان يمرُّ به من موقف عصيب.
لم يكن أمنُه الشخصيُّ هو ما يشغله، وإنما نجاح الخطة التي وضعها. كان هذا الرجلُ الضئيلُ الحجم يتسمُ بشجاعة فائقة في جميع تصرفاته، دون أيِّ نقطة ضعف واضحة. وفي إحدى الليالي اتسم بجدية شديدة.
قال: «يا هاناي، أعتقدُ أن عليَّ أن أُطلعَك على المزيد من المعلومات الأكثر عمقًا عن هذا الأمر؛ فأنا أكره أن أذهب دون أن أترك شخصًا آخرَ يتولَّى القتال.» ثم بدأ يُخبرني بالتفصيل ما سمعتُه منه من قبلُ بشكل مبهم.
لم أُعِرْه انتباهًا كبيرًا؛ ففي الحقيقة كنتُ مهتمًّا بمغامراته الشخصية أكثر من سياساته العليا. ارتأيتُ أن كاروليدس وشئونه لم تكن تعنيني؛ ولهذا تركتُ هذا كلَّه له. ونسيتُ تمامًا قدْرًا كبيرًا مما قاله. أتذكَّر أنه كان واضحًا للغاية في أن الخطر المحدق بكاروليدس لن يبدأ في الظهور إلا حين يصل إلى لندن، وأنه سيأتي من أعلى الجهات، حيث لا يوجد مجالٌ للشك. ذكر اسمَ سيدة تُدعى جوليا سزيشيني، وقال إن لها علاقة بهذا الخطر؛ فهي ستكون الطُّعم، بحسب ما فهمتُ، لإبعاد كاروليدس من حماية حرَّاسه. تحدَّث أيضًا عن شخص يُدعى بلاك ستون وعن رجل يتلعثم في كلامه، ووصف على وجه الخصوص شخصًا، كان كلما أتى على ذكره اعترتْه رعشة، هو رجلٌ كبيرُ السن له صوتُ شابٍّ وجفناه يمكن أن يرتخيَا على عينَيه كغمامة الصقر.
تحدَّث كذلك كثيرًا عن الموت، وكان قلقًا إلى حدِّ الموت على نجاح مهمته، لكنه لم يهتمَّ على الإطلاق بحياته. قال: «أعتقدُ أن الأمر أشبه بالخلود إلى النوم حين يكون المرء متعبًا للغاية، ويستيقظ على يوم من أيام الصيف ويشمُّ رائحة العشب آتية من النافذة. اعتدتُ أن أشكر الربَّ على مثل هذه الأيام حين كنتُ في بلدة بلوجراس، وأعتقد أني سأشكره حين أستيقظ في الحياة الأخرى.»
في اليوم التالي كان أكثرَ ابتهاجًا، وظلَّ معظم الوقت يقرأ قصة حياة ستونوول جاكسون. خرجتُ لتناول طعام العشاء مع مهندس تعدين كان عليَّ لقاؤه من أجل عمل، وعدتُ في نحو العاشرة والنصف في الوقت المعتاد للعبنا الشطرنج قبل الخلود إلى النوم.
أذكر أني كنتُ أضع سيجارًا في فمي، وأنا أفتح باب غرفة التدخين. ولم تكن أنوارُ الغرفة مضاءةً، الأمر الذي بدا لي غريبًا. تساءلتُ عما إذا كان سكادر قد خلد للنوم بالفعل.
فتحتُ مفتاح الإضاءة، ولكن لم يكن ثمة أحدٌ في الغرفة. بعدها رأيتُ شيئًا في الركن القَصِيِّ جعلني أُسقِط سيجاري من فمي وتصبَّب عَرقٌ بارد من سائر جسمي.
كان ضيفي ملقًى ممدًّا على ظهره، وسكينٌ طويل مغروسٌ في قلبه مخترقٌ جسدَه إلى الأرض.