مغامرة صاحب النزل الأديب
حظيتُ برحلة هادئة وأنا أسافر صوبَ الشمال في هذا اليوم؛ فقد كان يومًا من أيام شهر مايو ذات الطقس الجميل، وكانت أزهار الزعرور تُغطِّي كلَّ سياج شجري، وتساءلتُ لماذا، حين كنتُ لا أزال رجلًا حرًّا طليقًا، اخترتُ البقاء في لندن ولم أستمتعْ بكل هذا النعيم الريفي. لم أجرؤْ على الذهاب إلى عربة المطعم، لكني حصلتُ على سلة غداء في ليدز وتشاركتُها مع السيدة البدينة. كذلك حصلتُ على الصحيفة الصباحية، وقرأتُ أخبارًا عن الخيول المشاركة في سباق الديربي، وبداية موسم الكريكت، وبضع فقرات عن أن الأوضاع في منطقة البلقان كانت آخذةً في الاستقرار وعن إرسال سرية عسكرية بريطانية إلى مدينة كيل.
حين انتهيتُ من قراءة الصحف أخرجتُ مفكرة سكادر السوداء الصغيرة وبدأتُ أفحصُها. كانت مليئةً للغاية بالملاحظات، التي كانت أغلبها عبارة عن أرقام، على الرغم من ورود اسم بين الحين والآخر. على سبيل المثال عثرتُ على كلمات «هوفجارد» و«لونفيل»، و«أفوكادو» على نحو متكرر، وعلى وجه الخصوص تكررت كلمة «بافيا».
حينئذٍ كنتُ متأكدًا من أن سكادر لم يكن يفعل أيَّ شيء مطلقًا دون سببٍ وجيه، وكنتُ متأكدًا من وجود شيفرة في كل هذا. كنتُ دومًا شغوفًا بهذا الموضوع، بل إنني فعلتُ ذلك قليلًا في الماضي عندما كنتُ ضابطَ استخبارات في خليج ديلاجوا في حرب البوير؛ فأنا لديَّ ذهنٌ مهيأ للشطرنج والألغاز، وكنتُ أعتبر نفسي بارعًا في اكتشاف الشيفرات. بدتْ هذه الشيفرة من النوع الرقمي حيث يُقْصَد بكل مجموعة من الأرقام مجموعة من حروف الأبجدية، لكن يمكن لأي شخص فطِن أن يتوصل إلى مفتاح حلِّ مثل هذه الشيفرة في غضون ساعة أو ساعتين من العمل، ولم أعتقد أن سكادر كان ليقنع بأي شيء بهذا القدر من السهولة. ولهذا ركزتُ اهتمامي على الكلمات المكتوبة، لأنه يمكنك عمل شيفرة رقمية جيدة جدًّا إذا كان لديك كلمة مفتاحية تعطيك تسلسل الحروف.
حاولتُ لساعات، لكنَّ أيًّا من الكلمات لم تُقدِّم لي الحل. بعد ذلك غلبني النومُ واستيقظتُ في دومفريس في الوقت المناسب لأَخرج وأستقلَّ قطار جالوي البطيء. كان ثمة رجلٌ على رصيف المحطة لم يعجبْني مظهرُه، لكنه لم يُحدِّق فيَّ قط، وحين لمحتُ نفسي في مِرآة ماكينة أوتوماتيكية لم أستغرب الأمر؛ فمع وجهي البُنِّيِّ اللون، وبِذلتي الصوفية القديمة، ومِشيتي المترهلة كنتُ النموذجَ الأمثل لواحد من مزارعي التلال الذين كانوا يحتشدون في عربات الدرجة الثالثة من القطار.
سافرتُ مع ستة أفراد في جوٍّ معبَّق برائحة الطين وتبغ الغليون. كان هؤلاء قد أتَوا لتوِّهم من السوق الأسبوعي، وكان حديثُهم كلُّه يدور حول الأسعار. سمعتُ أحاديث عن زيادة أعداد الخِراف على طول نهر كارين ومجرى دوش المائي وعددٍ من المجاري المائية الأخرى. تناول أكثرُ من نصف عدد الرجال الكثيرَ من الطعام على الغداء واستمتعوا كثيرًا بشرب الويسكي، لكنهم لم يلاحظوا وجودي على الإطلاق. تقدمنا ببطء داخل أرضٍ بها أودية صغيرة مشجرة، ثم مررْنا بأرض بَراحٍ شاسعة، تلتمع فيها بحيراتٌ، وتلالٌ عالية زرقاء اللون تظهر من جهة الشمال.
في نحو الساعة الخامسة كانت المقصورة قد أصبحت فارغة، وصرتُ وحدي كما كنتُ آمل. نزلتُ من القطار في المحطة التالية، وقد كان مكانًا صغيرًا لم أكدْ ألاحظ اسمه، وكان يقع في قلب المستنقعات. ذكَّرني هذا المكان بواحدة من تلك المحطات الصغيرة المنسية في كارو. كان ثمة ناظرُ محطة كبير السن يحفر في حديقته، ومشى على مهل نحو القطار وهو يحمل مجرافه على كتفه، وتسلَّم طردًا، ثم عاد إلى البطاطس التي كان يرعاها. أخذ مني طفلٌ في العاشرة من عمره تذكرتي، وخرجتُ إلى طريق أبيض كان يمتدُّ فوق المستنقع البُنِّيِّ اللون.
كان مساءً بديعًا ليوم من أيام الربيع؛ إذ كانت كلُّ تلة تبدو واضحة مثل حجر كريم نقي. كان الهواء يَعبَقُ بالرائحة الغريبة والطينية للمستنقعات، لكنه كان منعشًا كالقادم من وسط المحيط، وكان له تأثيرٌ غريب للغاية على روحي. في الواقع شعرتُ بالسعادة والراحة. شعرتُ كأنني صبيٌّ خرج في جولة عطلة ربيعية، وليس رجلًا في السابعة والثلاثين من العمر مطلوبًا من الشرطة. انتابني شعورٌ كالذي اعتدتُ أن أشعر به حين كنت أنطلق في رحلة كبيرة في صباح شديد البرودة في أحد المروج المرتفعة. ولعلكم تصدقونني حين أُخبركم بأني سرتُ متبخترًا أُصفِّر في الطريق. لم يكن في رأسي أيُّ خطة تفصيلية؛ فكلُّ ما أردتُ فعلَه هو أن أواصل السير في منطقة التلال الريفية المباركة التي تفوح منها رائحةُ الصدق والنزاهة؛ فقد كان كلُّ ميل أسيره يجعلني في حالة مزاجية أفضل.
في مزارع موجودة على جانب الطريق قطعتُ عصًا أتوكأ عليها من شجر البندق، وبعدئذٍ قطعتُ الطريق السريع حتى وصلتُ إلى طريق جانبي يمتدُّ بمحاذاة مجرًى مائي متلاطم في وادٍ ضيق. أدركتُ أني ما زلت بعيدًا عن أيِّ ملاحقة؛ ولذلك كان يمكنني أن أستمتع بعضَ الشيء في هذه الليلة. كان قد مضى بضعُ ساعات على تناولي الطعام، وكان الجوع قد بدأ يشتدُّ بي حين وصلتُ إلى كوخ لأحد رعاة الغنم يقع في مكان منعزل بجوار شلال مائي. كانت سيدةٌ سمراء الوجه تقف عند الباب، وألقتْ عليَّ التحية بالخجل اللطيف لأهالي مثل هذه الأراضي الرحبة. حين سألتُها عن نُزل أقضي فيه الليلة قالت إنها ترحِّب بي إن أردت «السرير في العُلِّيَّة»، وسرعان ما أحضرتْ أمامي وجبةً شهية من اللحم المُقدَّد والبيض، والكعك المسطح، والحليب المكثف الحلو المذاق.
حين خيَّم الليلُ عاد زوجُها من التلال، وكان رجلًا نحيلًا فارعَ الطول، كانت خطوتُه الواحدة تُوازي ثلاثًا من خطوات الأشخاص العاديين. لم يطرحَا عليَّ أيَّ أسئلة؛ إذ كانت أخلاقهما الأفضل من بين جميع قاطني البراري، لكني استطعتُ أن أرى أنهما يتعاملان معي على أني تاجر من نوعٍ ما، وبذلتُ ما في وسعي لكي أؤكدَ نظرتَهما؛ فتحدثتُ كثيرًا عن الماشية، التي لم يكن مضيفي يعرفُ عنها الكثير، وعرفتُ منه قدرًا لا بأس به من المعلومات عن أسواق جالوي المحلية، وخزنتُ هذه المعلومات في ذاكرتي لأستخدمها مستقبلًا. في تمام العاشرة كنت أغفو في مقعدي، واستقبل «السريرُ في العُلِّيَّة» رجلًا منهكًا لم يفتحْ عينيه قط حتى الساعة الخامسة التي شهدتْ رجوعَ الحياة إلى هذا المنزل الأُسَري من جديد.
رفضَا الحصولَ على أيِّ أجر، وفي الساعة السادسة تناولتُ طعام الإفطار وانطلقتُ باتجاه الجنوب مرةً أخرى. كانت فكرتي أن أعودَ إلى خط السكك الحديدية وأبتعدَ محطة أو اثنتين عن المكان الذي نزلتُ فيه يوم أمس ثم أعود أدراجي. فكَّرتُ في أن هذه ستكون أسلمَ طريقة؛ إذ إن الشرطة ستفترض بطبيعة الحال أني أتجه دومًا بعيدًا عن لندن في اتجاه أحد الموانئ الغربية. اعتقدتُ أني ما زلتُ متقدمًا عن الشرطة؛ إذ كان في اعتقادي أنهم سيستغرقون بضعَ ساعات حتى يُلقوا باللوم عليَّ، والمزيد من الساعات الأخرى لتحديد الشخص الذي استقلَّ القطار في محطة سانت بانكراس.
كان الطقسُ في هذا اليوم هو نفسَ الطقس الربيعي النقي والمبهج، وببساطة لم أستطِعْ أن أتظاهرَ بالشعور بالهمِّ. في الواقع كانت معنوياتي أفضلَ مما كانت عليه طوال أشهرٍ مضتْ. سرتُ في طريقي على حافة طويلة للأرض البراح، سائرًا بمحاذاة جانب تلٍّ مرتفع كان الناس يُطلقون عليه اسمَ كيرنزمور أوف فليت. كانت طيورُ الكروان والزقزاق الموجودةُ أعشاشها في المكان تُغرِّد في كل مكان، وتناثرتِ الحُملان على المراعي الخضراء بجوار الجداول المائية. أخذ كلُّ الخمول الذي كنتُ أشعر به في الأشهر الماضية ينسلُّ إلى خارج جسمي، وصرتُ أتحرك كطفل في الرابعة من عمره. من حينٍ إلى آخر كنتُ أمرُّ بمرتفع في الأرض البراح يؤدي إلى وادي نهرٍ صغير، ورأيتُ عن بُعد ميل في حقول الخلنج الدخانَ المتصاعد من قطار.
حين وصلتُ إلى المحطة وجدتُها مناسبةً تمامًا لغرضي؛ فقد كانت الأرض البور ترتفع من حولها ولم تتركْ مساحة إلا لخط سكة حديد واحد، وتحويلة ضيقة، وغرفة انتظار، ومكتب، وكوخ ناظر المحطة، وساحة صغيرة لزراعة الكشمش الشائك وأزهار قرنفل الشاعر. لم يكن يبدو أن ثمة طريقًا يصل إليها من أي مكان، ولزيادة العزلة كانت أمواجُ إحدى البحيرات الجبلية ترتطم بشاطئها الرمادي المليء بالجرانيت على بُعد نحو نصف ميل. انتظرتُ في حقول الخلنج الكثيفة حتى رأيتُ الدخان المتصاعد من قطارٍ يتجه نحو الشرق قادمًا في الأفق. عندئذٍ تقدمتُ إلى مكتب الحجز وقطعتُ تذكرة إلى دومفريس.
لم يكن داخل المقصورة سوى راعي أغنامٍ مسنٍّ مع كلبه، الذي كان حيوانًا ذا عينين رماديتين شعرتُ نحوه بالارتياب. كان الرجل نائمًا، وكانت صحيفة سكوتسمان الصباحية على المسند بجواره؛ فالتقطتُها بلهفة إذ تصورت أنني يمكن أن أعرف منها شيئًا.
كان بها عمودان عن جريمة قتل بورتلاند بليس، كما أُطْلِق عليها. كان خادمي بادوك قد أطلق جرسَ الإنذار وجعل الشرطة تُلقي القبض على بائع الحليب. يا له من مسكين؛ إذ يبدو أنه قد دفع ثمنًا باهظًا نظير العملة الذهبية التي منحتُه إياها؛ لكنه بالنسبة إليَّ كان ثمنًا بخسًا؛ إذ يبدو أنه قد شغل الشرطة عني لمعظم اليوم. وفي قسم آخر الأخبار وجدتُ جزءًا آخر من القصة؛ فقد أُطلق سراح بائع الحليب، بحسب ما قرأتُ، وأما عن المجرم الحقيقي، الذي تلتزم الشرطة بإخفاء هويته، فيُعتقد أنه هرب من لندن عبر أحد خطوط القطار الشمالية. وجدتُ إشارةً موجزة إليَّ بصفتي مالك الشقة. وخمَّنتُ أن الشرطة وضعتْ هذه الملحوظة عن قصد، كوسيلة خرقاء لإقناعي بأنهم لا يشكون بي.
لم أجد شيئًا آخر في الصحيفة؛ لا شيءَ عن السياسة الخارجية أو عن كاروليدس، أو الأشياء التي كان سكادر يهتمُّ بها. وضعتُ الصحيفة ووجدتُ أننا كنا نقترب من المحطة التي نزلت فيها يوم أمس. وجدتُ ناظر المحطة الذي كان يحفر من أجل البطاطس منشغلًا بعملٍ ما؛ إذ كان القطار المتجه نحو الغرب ينتظر مرور قطارِنا، وكان ثلاثة رجال قد نزلوا منه وكانوا يطرحون عليه أسئلةً. افترضتُ أنهم من الشرطة المحلية، وأن سكوتلاند يارد دفعتهم إلى اقتفاء أثري، وأنهم تعقَّبوا تحركاتي حتى هذه التحويلة الصغيرة. جلستُ بعيدًا في الظل أراقبهم بحذر. كان أحدهما يحمل كتابًا ويدوِّن ملاحظات. بدا التبرُّمُ على وجه مُزارع البطاطس العجوز، إلا أن الطفل الذي أخذ مني تذكرتي كان يسترسل في الحديث. نظرتُ المجموعة بأكملها عبر الأرض البور حيث يمتدُّ الطريق الأبيض اللون. أملتُ لو أنهم كانوا سيتعقبون آثاري من هناك.
حين تحركنا من هذه المحطة استيقظ رفيقي. رمقني بنظرة متسائلة، وركلَ كلبَه بوحشية، وتساءل عن المكان الذي كان فيه. من الواضح أنه كان مخمورًا للغاية. قال بأسف شديد: «هذا ما يجنيه المرءُ من الامتناع عن تناول الكحوليات.»
عبَّرتُ عن دهشتي من أنني كان من المفترض أن أجدَه شخصًا ذا عزيمة لا مثيلَ لها.
قال بأسلوب مشاكس: «حسنًا، لكني قويٌّ في عزمي على الامتناع عن المسكرات؛ فقد أخذتُ تعهدًا على نفسي في عيد سانت مارتن الماضي ولم أتجرعْ نقطة ويسكي واحدة منذ ذلك الحين، ولا حتى في ليلة رأس السنة، على الرغم من أنه كان يوجد الكثير من المغريات.»
رفع قدميه على المقعد ودفن رأسَه الكريه الرائحة في المسند.
قال شاكيًا: «وهذا ما أنالُه، رأسًا أكثر سخونة من حرارة نار جهنم، وعينَين زائغتين في يوم السبت.»
سألتُه: «ما الذي فعل هذا بك؟»
«شربتُ كأسًا من البراندي. فلما كنتُ ممتنعًا عن شرب المسكرات، امتنعتُ تمامًا عن الويسكي، لكني ارتشفتُ هذا البراندي، وأعتقد أني لن أكون بخير لأسبوعين.» استحال صوتُه إلى همهمة وغلبه النومُ من جديد.
تمثَّلت خطتي في النزول في إحدى المحطات على طول مسار الخط، لكن القطار فجأةً أعطاني فرصةً أفضل؛ إذ توقَّف عند نهاية قناة تمتدُّ إلى نهرٍ هادر له بوابة ملونة. نظرتُ إلى الخارج ورأيتُ أن نوافذ جميع المقصورات كانت مغلقةً ولم يظهر أيُّ إنسان في المشهد؛ ولهذا فتحتُ الباب ونزلت بسرعة إلى أشجار البندق المتشابكة التي كانت على حافة خط السكة الحديدية.
كانت الأمور ستسير على ما يُرام لولا ذلك الكلب اللعين؛ فقد انتابه شعورٌ بأني أغادر بأغراض سيده، ولهذا بدأ بالنباح، وما كان منه إلا أن تشبَّث ببنطالي. أيقظ هذا الجميعَ، الذين وقفوا يصيحون أمام باب المقصورة اعتقادًا منهم بأني قد انتحرتُ. زحفتُ بين الشجيرات الكثيفة، ووصلتُ إلى حافة النهر، وتحت غطاء الشجيرات قطعتُ مبتعدًا مائة ياردة أو ما شابه. بعدها نظرتُ من مخبئي إلى الوراء، ورأيتُ الحارس والعديد من المسافرين متجمعين حول المقصورة ذات الباب المفتوح ويُحدِّقون في اتجاهي. لم تكن مغادرتي لتلفتَ انتباه الناس بهذا القدر حتى ولو كنتُ قد غادرتُ ببوق وفرقة من الآلات النحاسية.
لحسن الحظ شتَّتَ راعي الغنم المخمور الانتباهَ؛ فقد تدحرج فجأةً هو وكلبه، الذي كان مربوطًا بحبل حول خصرِه، إلى خارج المقصورة وسقطَا على رأسَيهما على خط السكة الحديدية، وتدحرجَا لمسافة على ضفة النهر باتجاه الماء. وأثناء عملية الإنقاذ التي استتبعت ذلك، عضَّ الكلبُ شخصًا ما؛ إذ استطعتُ سماعَ صوت سِباب شديد. في هذا الوقت كانوا قد نسوني، وحين تجرأتُ، بعد ربع ميل من الزحف، على النظر خلفي، كان القطارُ قد بدأ بالتحرك مرةً أخرى وبدأ يختفي في طريقه.
كنتُ في نصف دائرة فسيحة من الأرض البور، وكان النهرُ البُنِّيُّ اللون هو نصفَ قطرها، وكانت التلال المرتفعة تُشكِّل محيطَ الدائرة الشمالي. لم يكن ثمة علامةٌ أو صوتٌ لإنسان؛ فلم يكن يُسمَع إلا صوتُ تناثر الماء والتغريد الذي لا ينتهي لطيور الكروان. إلا أن الغريب في الأمر أني شعرتُ لأول مرة بالرعب من كوني شخصًا ملاحَقًا. لم أكن أفكِّر في الشرطة، بل في الأناس الآخرين، الذين كانوا يعلمون بعلمي بسرِّ سكادر ولم يكونوا ليتركوني على قيد الحياة. كنتُ متأكدًا من أنهم سيلاحقونني بحماس وحذر لا يعرفهما القانونُ البريطاني، وأنه بمجرد إحكامهم قبضتَهم عليَّ لن أجد أيَّ رحمة.
نظرتُ إلى الخلف، لكني لم أجد شيئًا في المشهد؛ فقد كانت الشمس تومض على القضبان الحديدية وعلى الصخور الرطبة في مجرى النهر، ولم يكن بوسع المرء أن يرى مشهدًا أكثرَ سكينة من هذا في العالم. ومع ذلك بدأتُ أركض. كنت أنحني حين مروري بقناة صغيرة في السبخة، لكني واصلتُ الركض حتى أعماني العَرقُ. لم أتخلص من هذه الحالة حتى وصلتُ إلى حافة الجبل، وألقيتُ بنفسي وأنا ألهث على نتوء جبلي مرتفع فوق مياه النهر البُنِّيِّ اللون.
من هذه الأرض المرتفعة استطعتُ مسحَ الأرض البور بأكملها مباشرةً وصولًا إلى شريط القطار، وإلى جنوبه حيث حلَّت الحقولُ الخضراء محلَّ الخلنج. أنا أتمتعُ بعينَين حادَّتَي النظر كالصقر لكني لم أستطِع رؤية أيِّ شيء يتحرك في هذه المنطقة الريفية بأكملها. بعد هذا نظرتُ جهةَ الشرق إلى ما وراء النتوء الجبلي ورأيتُ مشهدًا طبيعيًّا من نوع آخر؛ أودية مسطحة خضراء بها عددٌ وافر من أشجار التنوب وخطوط باهتة من الغبار التي تدلُّ على وجود طرُق في هذه المنطقة. أخيرًا نظرتُ في سماء شهر مايو الزرقاء، ورأيتُ فيها ما جعل ضرباتِ قلبي تتسارع.
على ارتفاعٍ منخفض جهة الجنوب كانت طائرةٌ أحادية السطح ترتقي إلى السماء. كنتُ متأكدًا كما لو أن أحدًا أخبرني بأن الطائرة كانت تبحث عني، وأنها لم تكن تابعةً للشرطة. طوال ساعة أو ساعتين ظللتُ أراقب من حفرة وسط الخلنج. ظلَّتْ تطير على ارتفاع منخفض على طول قمم التلال، ثم بدأتْ تدور في دوائر ضيقة فوق الوادي الذي كنتُ قد قدِمتُ منه، ثم بدا أنها غيَّرت رأيها، وارتفعتِ ارتفاعًا هائلًا، وطارت بعيدًا عائدةً إلى الجنوب.
لم يرُقَ لي هذا التجسس من الجو، وبدأتُ أفقد إعجابي بالريف الذي اخترتُه ليكون لي ملجأً؛ فتلالُ الخلنج هذه لم تكن تصلح أن تكون مكانًا للاختباء إذا كان أعدائي في السماء، ولا بد لي من العثور على ملاذٍ من نوع آخر. نظرتُ بارتياح أكبر إلى البلدة الخضراء التي تقع وراء النتوء الجبلي؛ فهناك سأجد أشجارًا ومنازلَ من الحجارة. في نحو السادسة في المساء خرجتُ من الأرض البور إلى الشريط الأبيض للطريق الذي امتدَّ عبر الوادي الضيق لنُهير في أرض منخفضة. مع متابعتي السيرَ فيه، بدأتِ الحقولُ تنحني، وتحوَّل الوادي الصغير إلى سهل مرتفع واسع، وكنتُ قد وصلتُ حينئذٍ إلى شِعْبٍ حيث كان منزل منعزل يصدر منه الدخانُ في الشفق. انعطف الطريقُ فوق جسر، وكان شابٌّ يتكئ على سوره.
كان يدخن غليونًا طينيًّا طويلًا ويُراقب المياه بعينيه اللتين يلبس عليهما نظارة. كان يحمل في يده اليسرى كتابًا صغيرًا يُعلِّم فيه بإصبعه على المكان الذي وقف عنده، ويُكرِّر ببطء:
أرأيت «الغريفون» كيف انطلق في البرية ضاربًا بجناحَيه فوق التلال وأحراج الوديان في أعقاب «أريماسبي» («الفردوس المفقود»، الكتاب الثاني، ترجمة محمد عناني).
قفز ملتفًّا في الهواء حين سمع وقْعَ أقدامي على حجارة الطريق، ورأيتُ وجهًا طفوليًّا وسيمًا مسفوعًا من الشمس.
قال برزانة: «طاب مساؤك، يا لها من ليلة رائعة للتنزُّه في الطريق.»
شممتُ رائحةَ الدخان المتصاعد من الفحم الخثي ورائحةَ شِواءٍ شهيٍّ من المنزل.
سألتُه: «هل ذلك المكان نُزُل؟»
أجابني بتهذيب: «في خدمتك، أنا صاحب هذا النُّزل، يا سيدي، وآمُل أن تبقى معنا الليلة، فلْأصدِقك القول لم يكن لديَّ أيُّ صحبة طوال أسبوع.»
جلستُ على سور الجسر وملأتُ غليوني، وبدأتُ أستبينُ حليفًا.
قلتُ له: «أنت صغيرُ السن على أن تكون صاحبَ نُزل.»
قال: «تُوفي والدي منذ عام وترك لي هذا العمل، وأنا أعيش هناك مع جدتي. إنه عملٌ مملٌّ بالنسبة إلى شابٍّ صغير السن، ولم يكن اختياري المهني.»
«وماذا كان اختيارك؟»
احمرَّ وجهُه خجلًا فعليًّا، وقال: «أريدُ أن أكتبَ كتبًا.» صحتُ قائلًا: «وهل لديك فرصة أفضل من تلك؟ فلطالما رأيتُ أن صاحبَ النُّزل يمكنه أن يصبح أفضلَ راوي قصصٍ في العالم.»
قال بلهفة: «ليس الآن، ربما كان هذا في الأيام الغابرة، حين كان الرحَّالة، ومؤلفو الأغاني الشعبية، وقُطاع الطرق، وسعاة البريد في العربات يجوبون الطرق. لكن ليس الآن؛ فلم يَعُدْ يأتي إلى هنا إلا السياراتُ ذات المحركات المليئة بنساء بدينات، التي تتوقف من أجل تناول الغداء، وصيادُ أسماك واحد أو اثنان في الربيع، والمستأجرون الذين يأتون لممارسة الصيد بالبنادق في شهر أغسطس. لا توجد مادة خصبة يمكن الحصولُ عليها من هؤلاء. أريد أن أرى الحياة، أن أجوب العالم، وأن أكتب أشياءَ مثل كبلينج وكونراد. إلا أن أقصى ما استطعتُ فعله حتى الآن هو أن يُنْشَر لي بعض الأبيات الشعرية في مجلة تشامبرز.» نظرتُ نحو النُّزل الذي كان يبدو ذهبيَّ اللون في ضوء غروب الشمس أمام التلال البُنِّيَّة.
«لقد ارتحلتُ قليلًا في العالم، ولا أُقلِّل أبدًا من شأن صومعة كتلك. هل تعتقد أن المغامرة لا توجد إلا في المناطق الاستوائية أو بين النبلاء ذوي القمصان الحمراء؟ لعلك لصيقٌ بها في هذه اللحظة.»
قال وعيناه تلمعان: «هذا ما يقوله كبلينج.» وبدأ يستشهد ببعض الأبيات عن «الرومانسية التي تحدث في قطار التاسعة والربع.»
صحتُ قائلًا: «إليك قصة حقيقية إذن، وبعد شهر من الآن يمكنك صياغتُها في شكل رواية.»
جلسنا على الجسر في هذا الغسق العذب لشهر مايو وبدأتُ أقصُّ عليه حكاية لطيفة. كانت حقيقيةً في عناصرها الأساسية، أيضًا، رغم أني غيَّرتُ التفاصيل الصغيرة. اخترعتُ كوني قطبًا من أقطاب صناعة التعدين من كيمبرلي، وأنني واجهت مشكلاتٍ كثيرة مع باعة الألماس غير الشرعيين وهاجمتني عصابةٌ منهم، ظلَّت تلاحقني عبر المحيط، وقتلوا صديقي المقرب، والآن هم في أعقابي.
سردتُ القصة سردًا جيدًا، مع أنه ليس من اللائق بي أن أقول هذا. تخيَّلتُ هروبًا من صحراء كالاهاري إلى أفريقيا الألمانية، والأيام الجافة التي كنا نعيش فيها على القليل والليالي الزرقاء المخملية الرائعة. وصفتُ له هجومًا تعرضتُ له كاد أن يوديَ بحياتي في رحلة العودة إلى الديار، وهوَّلتُ من جريمة القتل التي ارتُكبت في بورتلاند بليس. صحتُ قائلًا: «ألستَ تبحثُ عن مغامرة، حسنًا لقد عثرت عليها هنا؛ فالأشرار يطاردونني، والشرطة تُطاردهم. إنه سباق أسعى إلى الفوز فيه.»
همس، وهو يستنشق الهواء بقوة، قائلًا: «يا إلهي! هذا تمامًا مثل قصص رايدر هاجارد وكونان دويل.»
قلتُ له بامتنان: «أنت تُصدِّقُني.»
قال: «بالطبع أصدِّقُك.» ومدَّ يدَه إليَّ وواصل: «أنا أصدِّقُ أيَّ شيء غير اعتيادي؛ فالشيء الوحيد الذي تشكُّ فيه هو الشيء المعتاد.»
كان صغيرَ السن للغاية، لكنه كان الرجلَ الذي يستحقُّ مالي.
قلتُ له: «أعتقدُ أنهم فقدوا أثري في الوقت الحالي، ولكني بحاجة إلى الاختباء لبضعة أيام، هل تسمح لي بالبقاء هنا؟»
أمسك بساعدي في لهفة وجذبني نحو المنزل. قال: «يمكنك البقاءُ هنا في راحة واطمئنان كما لو كنتَ في حفرة داخل الأرض. وسأحرصُ أيضًا على ألا يُثرثرَ أحدٌ بشأن وجودك. وأنت هل ستخبرني بالمزيد عن مغامراتك؟»
حين دخلتُ إلى شرفة النُّزل سمعتُ من بعيد صوتَ محرك. رأيتُ خيالًا في جهة الغرب المعتمة وكانت الطائرةُ أحادية السطح صديقتي.
أعطاني غرفةً في الجزء الخلفي من المنزل، بإطلالة رائعة على السهل الواسع المرتفع، وترك لي حرية استخدام مكتبه الخاص، الذي كان عامرًا بنُسَخ رخيصة الثمن من أعمال مؤلفيه المفضلين. لم أرَ الجَدَّة قط، ولهذا خمَّنتُ أنها ربما تكون طريحةَ الفراش. كانت امرأةٌ عجوز تُدعى مارجيت هي مَن تُحضر لي وجباتي، وكان صاحب النُّزُل يلازمني طوال الوقت. أردت أن أخلوَ بنفسي لبعض الوقت، ولهذا اخترعتُ عملًا من أجله. كانت لديه دراجةٌ نارية، ولهذا أرسلتُه في صباح اليوم التالي لإحضار الصحيفة اليومية، التي عادةً ما تصل مع البريد في وقت متأخر من فترة بعد الظهيرة. أخبرتُه أن ينتبهَ جيدًا، ويلاحظَ أيَّ شخصيات غريبة يراها، ويركزَ على وجه الخصوص على السيارات والطائرات. بعدها جلستُ بلهفة بالغة أُدقِّق في مفكرة سكادر.
عاد عند الظهيرة ومعه صحيفةُ سكوتسمان. لم أجد شيئًا فيها ما عدا المزيد من الأدلة المستقاة من بادوك وبائع الحليب، وتكرارًا لبيان يوم أمس بأن القاتل اتجه شمالًا. غير أنه كان ثمة مقالٌ طويل أُعيدت طباعته من صحيفة ذا تايمز عن كاروليدس والأوضاع في البلقان، على الرغم من عدم وجود أيِّ ذكرٍ لأي زيارة إلى إنجلترا. تخلصتُ من صاحب النزل في فترة بعد الظهيرة؛ إذ كان بحثي عن الشيفرة على أَشُدِّه.
كما أخبرتُكم، كانت شيفرة رقمية، وعن طريق استخدام نظام مُحْكم من التجارب اكتشفتُ معنى كلٍّ من الأصفار والنقاط. كانت المشكلة في الكلمة المفتاحية، وحين فكرتُ في ملايين الكلمات الغريبة التي ربما يكون قد استخدم أيًّا منها شعرتُ باليأس. إلا أنه في نحو الساعة الثالثة جاءني إلهامٌ مفاجئ.
ورَد على ذاكرتي اسمُ جوليا سزيشيني؛ فقد قال سكادر إنها كانت المفتاحَ إلى مسألة كاروليدس، وخطر ببالي أن أجربَه على هذه الشيفرة.
في غضون نصف ساعة كنتُ أقرأ بوجهٍ ضاربٍ إلى البياض وأصابعَ تدقُّ على الطاولة.
نظرتُ من النافذة ورأيتُ سيارةَ سباقات كبيرة تأتي عبر الوادي الضيق نحو النُّزل. اقتربَتْ من الباب، وسمعتُ صوتَ أناس ينزلون منها. بدا لي أنهما كانا اثنين؛ رجلين يرتديان ملابسَ فاخرة وقبعات من الصوف الخشن.
بعد مرورِ عشر دقائق دخل صاحبُ النُّزل إلى الغرفة وكانت عيناه تلمعان من الإثارة.
همس قائلًا: «ثمة رجلان في الأسفل يبحثان عنك. إنهما في غرفة الطعام الآن يشربان الويسكي والصودا. لقد سألَا عنك وقالَا إنهما كانا يأملان في أن يلقياك هنا. آه! وقد قدَّمَا وصفًا دقيقًا لك، حتى إنهما وصفَا حذاءك الطويل وقميصك. أخبرتُهما أنك أتيتَ إلى هنا ليلة أمس وغادرتَ في صباح اليوم على دراجة نارية، وأخذ أحدهما يسبُّ مثل عمال الحفر.»
جعلتُه يصفُ لي شكلَيهما. كان أحدهما نحيلًا داكنَ العينين أشعثَ الحاجبين، أما الآخر فكان دائمَ الابتسام ويتلعثم في حديثه. لم يكن أيٌّ منهما أجنبيًّا من أي نوع؛ كان صديقي الشابُّ متأكدًا من هذا.
أخذتُ قطعةً من الورق وكتبتُ عليها هذه الكلمات باللغة الألمانية كما لو أنها كانت جزءًا من خطاب:
… «بلاك ستون، لقد علم سكادر بهذا الأمر، لكنه لم يستطِع أن يفعل شيئًا لأسبوعين، وأنا أشكُّ في أنه بإمكاني فعلُ شيء الآن، خاصةً وأن كاروليدس غيرُ محدَّد في خُطَطه. لكن إذا أراد السيد تي مني هذا فسأبذل قصارى …»
اصطنعتُها بإتقان كي تبدوَ كورقةٍ مقطوعة من خطاب شخصي.
«خذْ هذه إلى الأسفل وقُل عثرت عليها في غرفتي واطلب منهما إعادتَها لي إذا أدركاني.» بعد ثلاث دقائق سمعتُ السيارة وهي تبدأ في التحرك، وحين اختلستُ النظر من وراء الستارة رأيتُ شكل الرجلين. كان أحدهما نحيلًا والآخر كان أنيقًا؛ كان هذا كل ما استطعتُ رؤيته.
ظهر صاحبُ النزل وهو في غاية الإثارة. وقال والبهجة تغمره: «لقد أيقظتْهما ورقتُك من سُباتهما؛ فقد استحال لونُ الرجل ذي البشرة الداكنة إلى اللون الأبيض كالموتى وظلَّ يسبُّ سبابًا حادًّا، أما الرجل البدين فقد أطلق صفارة وبدا دميمَ المظهر. دفعَا نصف جنيه ذهبي مقابل مشروبهما ولم ينتظرَا أن يأخذَا الباقي.»
قلت له: «والآن سأخبرك بما أريد منك فعلَه. اركبْ دراجتَك واذهب إلى رئيس الشرطة في مدينة نيوتن ستيوارت. صفْ له الرجلين وقُل له إنك تشكُّ في علاقتهما بجريمة القتل التي حدثت في لندن. يمكنك اختراعُ أسباب. هذان الاثنان سيعودان، لكن لا تخشَ شيئًا. لن يحدث هذا الليلة؛ إذ إنهما سيتبعان أثري أربعين ميلًا على الطريق، لكنهما سيأتيان في الصباح الباكر غدًا. قُل للشرطة أن تحضر إلى هنا في وقت مبكر للغاية.»
انطلق مثل طفل مطيع، بينما ظللتُ أنا أعمل على مفكرة سكادر. حين عاد تناولنا طعامَ العشاء معًا، وبنوع من اللياقة العامة تركتُه يعرف مني المزيد. منحتُه الكثيرَ من المعلومات عن صيد الأسود وحرب ماتابيلي، وأنا أفكر طوال الوقت كم كانت هذه أحداثًا بسيطة مقارنة بما أنا متورط فيه الآن! حين ذهب إلى النوم جلستُ وأنهيتُ العمل على مفكرة سكادر. ظللتُ أدخن وأنا أجلس على أحد المقاعد حتى بزوغ ضوء النهار؛ إذ لم أتمكن من النوم.
في نحو الساعة الثامنة من صباح اليوم التالي شهدتُ قدومَ ضابطَين ورقيب. تركوا سيارتَهم داخل مرآب للسيارات بناءً على توجيهات صاحب النُّزل، ودخلوا إلى المنزل. بعد مرور عشرين دقيقة رأيتُ من نافذتي سيارةً أخرى تعبر السهل الواسع المرتفع من الجهة المقابلة. لم تأتِ هذه السيارة إلى النزل، بل توقفت على بُعد مائتي ياردة تحت ظلِّ مجموعةٍ من الأشجار. لاحظتُ أن راكبيها عكسوا اتجاهها بعناية قبل مغادرتها. وبعد دقيقة أو اثنتين سمعتُ وقْعَ خطواتهم على الحصى خارج النافذة.
تمثَّلت خطتي في أن أبقى مختبئًا في غرفتي، وأرى ماذا سيحدث. كانت لديَّ فكرةٌ مؤدَّاها أنه إذا تمكنتُ من أن أجمع الشرطة مع الأشخاص الآخرين الأكثر خطورة الذين يطاردونني، فربما يتحقق من ذلك شيءٌ ما لصالحي. إلا أنني الآن خطرتْ لي فكرة أفضل؛ فقد كتبتُ سطرًا من الشكر لمضيفي، وفتحتُ النافذة وهبطتُ منها بهدوء على شجيرة الكشمش الشائك. عبرتُ حاجز الماء دون أن يلاحظني أحدٌ، وزحفت على جانب رافد مائي صغير، ووصلتُ إلى الطريق السريع على الجانب البعيد من بقعة تُغطِّيها الأشجار. هناك وجدت السيارة، في غاية الأناقة والنظافة تحت أشعة شمس الصباح، لكن مع وجود بعض الغبار عليها مما أنبأ بقطعها لرحلة طويلة. أدرْتُ محركها، وجلست في مقعد السائق، وتسللتُ بها إلى السهل الواسع المرتفع.
على الفور تقريبًا انخفض الطريقُ فلم أَعُد أستطيع رؤية النُّزل، لكن بدا أن الريح كانت تحمل إليَّ الأصواتَ الغاضبة.