مغامرة المرشح الراديكالي
ربما يكون بوسعكم تخيلي وأنا أقود تلك السيارة التي كانت قوَّتُها ٤٠ حصانًا؛ إذ كانت هذه هي أقصى طاقة لها، على طرق الأراضي السبخة غير المستوية في هذا الصباح المشرق من شهر مايو؛ ناظرًا خلفي أولًا ثم ناظرًا بتوتُّر إلى المنعطف التالي، ثم أخذتُ أقود السيارة وعيني شبهُ مغمضة، مفتوحة فقط بالقدر الذي يسمح لي بالبقاء مستيقظًا لأحافظ على بقائي على الطريق السريع؛ فقد كنت أفكر باستماتة بشأن ما عثرتُ عليه في مفكرة سكادر.
لقد أخبرني هذا الرجلُ الضئيلُ الحجم مجموعةً من الأكاذيب؛ فكلُّ قصصه عن البلقان والأناركيين اليهود ومؤتمر وزارة الخارجية كان كلامًا مضللًا، وكذا كانت مسألة كاروليدس. ولكن ليس تمامًا، كما ستسمعون. لقد خاطرتُ بكل شيء إيمانًا مني بقصته، ولكنه خذلني؛ فها هنا مفكرته تُخبرني بقصة مختلفة، وبدلًا من التزام الحذر وعدم تكرار ما وقعتُ فيه من قبل من خطأ، صدقتُها تصديقًا كاملًا.
لا أعرف السبب وراء ذلك. لقد بدتِ القصصُ جميعها حقيقية، والقصة الأولى، إن كنتم تفهمونني، كانت حقيقيةً أيضًا في جوهرها على نحوٍ غريب؛ فالخامس عشر من يونيو سيكون يومًا مصيريًّا، أكبر من مجرد قتل شخص أجنبي. لقد كان أمرًا جللًا لدرجة أنني لم أكن ألوم سكادر على إبقائي بعيدًا عن اللعبة ورغبته في اللعب منفردًا. لقد تيقنتُ من أن هذه كانت نيتَه. لقد أخبرني شيئًا بدَا كبيرًا بما يكفي، لكن الأمر الحقيقي كان أكبرَ من ذلك بكثير لدرجة أنه، الرجل الذي كان قد اكتشفه، أراد الاحتفاظ بالأمر كله لنفسه. لم ألمْه؛ ففي نهاية الأمر الأشياء التي كان جشعًا بالأساس بشأنها كانت جميعًا تنطوي على مخاطرات.
كانت القصةُ بأكملها مدونةً في ملحوظاته مع وجود بعض الفجوات التي، كما تفهمون، كان من شأنه أن يملأَها من ذاكرته. لقد دَوَّن، أيضًا، مصادرَ معلوماته، وكانت لديه حيلةٌ غريبة هي أنه كان يعطيها جميعًا قيمة رقمية ثم يحاول إيجادَ نوعٍ من التوازن بينها، وكانت كلُّ قيمة تُعَبِّر عن درجة موثوقية كلِّ مرحلة في القصة. كانت الأسماءُ الأربعة التي دوَّنها هي مصادرَ لمعلوماته، وكان ثمة رجلٌ، يُدعى دوكروسن، حصل على خمسة من أصل خمس نقاط يمكن الحصول عليها، ورجل آخر، يُدعى أمرسفورت، حصل على ثلاثة. كانت العناصر الأساسية للقصة مذكورةً بالكامل في المذكرة بالإضافة إلى عبارة واحدة غريبة وردت عدة مرات بين قوسين. كانت هذه العبارة هي «درجات السلَّم التسع والثلاثون.» وفي آخر مرة وردت فيها كُتبت هكذا: «درجات السلَّم التسع والثلاثون، عددتُها بنجاح بالغ في ١٠:١٧ مساءً.» لم أستطِع أن أفهم شيئًا من هذا.
أول شيء عرفتُه كان أن الأمر لم يكن متعلقًا بمنع الحرب؛ فهي واقعة لا محالة، وهو أمر مؤكد كقدوم عيد الميلاد؛ فقد جرى الترتيبُ لهذه الحرب، على حدِّ قول سكادر، منذ فبراير من عام ١٩١٢. سيكون كاروليدس السببَ في نشوبها؛ فقد كان قتله معدًّا بالفعل، وكان مقررًا الإجهازُ عليه في الرابع عشر من يونيو، بعد أسبوعين وأربعة أيام من صباح ذلك اليوم من شهر مايو. فهمتُ من ملحوظات سكادر أنه لا يمكن لشيء على وجه الأرض أن يحولَ دون حدوث ذلك؛ فقد كان حديثُه عن حرَّاس إبيروس الذين من شأنهم أن يفعلوا أيَّ شيء حديثًا بالغَ الحماس.
والأمرُ الثاني الذي علمتُه أن هذه الحرب ستكون مفاجأةً هائلة لبريطانيا؛ فوفاة كاروليدس ستُحدث شقاقًا بين دول البلقان، ثم ستتدخل فيينا وتُقدِّم إنذارًا نهائيًّا. أما روسيا فلن يروقَها هذا الأمر وستُصدر عباراتٍ غاضبة. إلا أن برلين ستلعب دورَ المصلح صانع السلام، وستسعى إلى تهدئة الوضع المتأزم، حتى تعثرَ فجأةً على مسوِّغ لافتعال نزاعٍ، وتلتقطه، وفي غضون خمس ساعات ستنقضُّ علينا. كانت تلك هي الفكرة بأكملها، وكانت فكرةً جيدة بالفعل. البدءُ بالكلام المعسول ثم الانقضاض في الظلام؛ ففي الوقت الذي نتحدث فيه عن حسن نوايا وسلامة مقاصد ألمانيا، ستُحاط سواحلنا بالألغام في صمت، وتنتظر الغواصات لتنقضَّ على كل سفينة حربية.
إلا أن هذا كلَّه كان يعتمد على الأمر الثالث، الذي كان من المتوقع حدوثُه في الخامس عشر من يونيو. لم أكن سأستطيع فهْمَ هذا أبدًا لو لم يتصادف التقائي ذات مرة بضابط أركان فرنسي، كان عائدًا من غرب أفريقيا، والذي أخبرني بكثير من الأشياء؛ أحدها أنه على الرغم من كل ما يُقال من هُراء في البرلمان، كان ثمة تحالفٌ حقيقي قائم بين فرنسا وبريطانيا، وأن هيئتَي الأركان في البلدين تلتقيان بين الحين والآخر وتضعان خُططًا للعمل المشترك في حالة الحرب. حسنًا، في شهر يونيو من المتوقع مجيءُ شخصية رفيعة المستوى من فرنسا، ولن يغادرَ دون الحصول على أقل من بيان بتشكيلات الأسطول الوطني البريطاني الجاهز للتعبئة. على الأقل أدركتُ أنه أمرٌ شبيه بهذا؛ على أي حال كان شيئًا مهمًّا بدرجة غير عادية.
إلا أنه في الخامس عشر من يونيو سيتواجد آخرون في لندن، آخرون لا يسعُني إلا أن أُخمِّنَ هويتهم. كان سكادر مكتفيًا بأن يدعوَهم إجمالًا باسم «بلاك ستون». لم يكونوا يُمثِّلون حلفاءنا، بل ألد أعدائنا، والمعلومات التي كان من المقرر إرسالُها إلى فرنسا، ستُغيِّر طريقَها وتذهب إلى جيوبهم. وكان من المفترض استخدامُها، تذكَّروا استخدامها بعد أسبوع أو اثنين، بالاستعانة بمدافع ضخمة وطوربيدات سريعة، فجأة في جنح ظلام ليلة من ليالي الصيف.
كانت هذه هي القصة التي عكفتُ على فكِّ شفرتها في غرفة خلفية في نُزل ريفي تطلُّ على حديقة من الملفوف. وكانت هذه هي القصة التي ظلَّت تلحُّ على ذهني وأنا أتنقل بسيارة السباق من وادٍ ضيقٍ لآخر.
كان أول ما تبادر لي أن أكتب رسالة إلى رئيس الوزراء، لكن بعد التفكير قليلًا في الأمر اقتنعتُ بأن هذا سيكون عديمَ الجدوى؛ فمن ذا الذي سيصدق قصَّتي؟ لا بد لي من إظهار إشارة، دليل ما، والربُّ وحده يعرف ماذا يمكن أن يكون هذا الدليل. الأمر الأهم هو أنه لا بد لي من المضيِّ قُدُمًا، وأن أكون مستعدًّا للتصرف حين تصل الأمور إلى ذروتها، وذلك لن يكون أمرًا هينًا مع شرطة الجزر البريطانية التي تُلاحقني بكامل طاقتها ومراقبي جماعة بلاك ستون الذين يقتفون أثري بصمت وسرعة.
لم يكن لديَّ هدفٌ واضح من رحلتي، لكني اتجهتُ شرقًا مع أشعة الشمس؛ إذ تذكرتُ من الخريطة أنني إن اتجهتُ شمالًا فإني سأصل إلى منطقة تضمُّ مناجم الفحم والمدن الصناعية. في الوقت الحالي كنتُ بعيدًا عن الأراضي السَّبَخة وأجتاز مَرْجًا واسعًا منخفضًا على طول ضفة أحد الأنهار. سرتُ لأميال بجانب جدار إحدى الحدائق، وحين انحسرتِ الأشجارُ رأيتُ قلعة هائلة. سرتُ بالسيارة عبر قرية صغيرة قديمة أسقف منازلها مصنوعة من القش، وعبر جداول مائية هادئة في أرض منخفضة، واجتزتُ حدائق تتألق بما فيها من نباتات الزعرور وشجيرات القصاص الأصفر. كان يُخيِّم على الأراضي هدوءٌ شديد لدرجة أني لم أكد أصدق أني تركتُ خلفي في مكانٍ ما أناسًا يسعَون للنيل مني، وأنه في غضون شهر، إن لم يحالفْني حظٌّ من السماء، ستصير هذه الوجوه الريفية الممتلئة شاحبةً ومحدقة، وستمتلئ الحقولُ الإنجليزية بجثث القتلى.
في منتصف اليوم تقريبًا دخلتُ قريةً طويلة متناثرة المنازل، وقررتُ التوقفَ وتناول الطعام. في منتصف الطريق رأيتُ مكتب البريد، وعلى درجات سُلَّمه وقفتْ مديرتُه وأحدُ رجال الشرطة منهمكين في دراسة برقية. حين أبصراني تنبَّهَا، وتقدَّم رجلُ الشرطة إلى الأمام رافعًا يدَه، وصاح طالبًا مني التوقف.
كدتُ أن أكون أحمقَ وأنصاع لما يقوله. ثم خطر لي أنه ربما كان لهذه البرقية صلةٌ بي، وأن أصدقائي في النُّزل قد توصلوا إلى تفاهم فيما بينهم، وأجمعوا على الوصول إلى مكاني، وأنه كان من السهل عليهم للغاية أن يُرسلوا أوصافي وأوصاف السيارة في برقيات إلى ثلاثين قرية من المحتمل أن أمرَّ عليها. رفعتُ قدمي من فوق المكابح في الوقت المناسب. وحينئذٍ، خدش رجلُ الشرطة غطاءَ محرك السيارة بيده، ولم يبتعد إلا حين رأى جانب وجهي الأيسر.
رأيتُ أن الطُّرق العامة لا تصلح لأسير فيها؛ ولهذا تحولتُ إلى الطرق الجانبية. لم يكن الأمر سهلًا دون وجود خريطة؛ إذ كان ثمة خطرُ الوصول إلى طريق مزرعة ما وانتهاء الحال بي داخل بِركة من بِرَك البط، أو ساحة إسطبل خيل، ولم يكن بوسعي أن أتحمل مثل هذا النوع من التأخير. بدأتُ أرى كم كنتُ أحمقَ عندما سرقت هذه السيارة؛ فهذا الوحش الأخضر الكاسر سيكون أسهلَ دليل على مكان تواجدي في جميع أنحاء اسكتلندا. وإذا تركتُها ومضيت سيرًا على قدميَّ، سيُكتشف مكانها في غضون ساعة أو اثنين ولن يمكنني الفوزُ أبدًا في السباق.
الشيء الذي تحتَّم عليَّ فعله على الفور هو الذهاب إلى أكثر الطرق المنعزلة على الإطلاق. وقد عثرتُ عليها بالفعل بعد قليل حين وصلتُ إلى أحد روافد نهر كبير، ودخلتُ في وادٍ صغير به تلالٌ شديدة الانحدار تُحيط بي من كل جانب، وفي نهايته طريقٌ ملتوٍ يصعد فوق أحد الممرات. لم أقابل أحدًا في هذا المكان، لكنه كان يؤدي بي إلى أقصى الشمال، ولهذا استدرتُ جهة الشرق على طريق سيئ وأخيرًا وصلتُ إلى خط سكة حديدية مزدوج كبير. رأيت من بعيد في الأسفل واديًا متسعًا وخطر لي أنه إن عبرتُ هذا الوادي فربما أجد نُزلًا نائيًا أقضي فيه الليل. كان المساء قد بدأ يُخيِّم، وكنتُ أشعر بجوع شديد؛ إذ لم أتناول شيئًا منذ الإفطار عدا فطيرتين اشتريتهما من عربة بائع مخبوزات. عندئذٍ سمعتُ ضوضاء في السماء، وفجأة ودون سابق إنذار رأيتُ تلك الطائرة الشيطانية، على ارتفاع منخفض، تبعُد عني نحو عدة أميال جهة الجنوب وتتجه نحوي بسرعة هائلة.
كان من المنطقي أن أتذكَّرَ أن وجودي في الأرض السَّبَخة المكشوفة يجعلني تحت رحمة هذه الطائرة، وأن فرصتي الوحيدة كانت في اللجوء إلى غطاء من أوراق الأشجار في الوادي. نزلتُ على التلِّ بسرعة كالبرق، ناظرًا حولي، كلما سنَح لي ذلك، لأراقبَ تلك الطائرة الملعونة. سرعان ما وصلتُ إلى طريق بين سياج الأشجار، وينحدر نحو وادٍ صغير منعزل لجدول مائي. ثم وصلتُ إلى غابة كثيفة الأشجار نوعًا حيث خفَّفتُ من سرعتي.
فجأةً سمعتُ إلى يساري صوتَ محرك سيارة أخرى، وما أصابني بالفزع أنني أدركتُ أني على وشك الوصول إلى عارضتَي بوابة تصل بين طريق خاص والطريق السريع. أصدر بوقُ سيارتي صوتًا بائسًا، لكن الوقت كان قد تأخر كثيرًا. ضغطتُ بأقصى قوة على المكابح، لكن اندفاعي كان شديدًا للغاية، ورأيتُ أمامي سيارةً تنزلق بعرض الطريق الذي أسير فيه. في غضون ثانية سيحدث تصادمٌ هائل. فعلتُ الشيء الوحيد الممكن، ودخلتُ مسرعًا بالسيارة في سياج من الأشجار على يميني، متمنيًا أن أجد شيئًا ما أملس من خلفه.
إلا أنني كنتُ مخطئًا في هذا؛ فقد انزلقت سيارتي عبر السياج كالزبد، ثم غاصت في شيءٍ ما أمامها على نحو مقزز. تصورتُ ما سيحدث بعد هذا، فوثبتُ على المقعد وكان من المفترض أن أقفز إلى الخارج؛ إلا أن فرعًا من فروع نبات الزعرور أصابني في صدري، ورفعني إلى أعلى وأمسك بي، في حين انساب من تحتي طنٌّ أو طنَّان من المعدن الباهظ الثمن، وقفز وتدحرج، ثم سقط بعنف بالغ إلى نحو خمسين قدمًا في قاع النهر.
استطعتُ ببطء التخلصَ من هذا الفرع، ونزلتُ أولًا على سياج الشجيرات، ثم بتأنٍّ بالغٍ على تعريشة من نبات القراص. حين وقفتُ على قدميَّ أمسكتْ يدٌ بذراعي، وسألني صوتٌ متعاطف ويبدو عليه خوفٌ بالغ إذا ما كنتُ قد أُصبتُ بأذًى.
وجدتُ نفسي أنظر إلى شابٍّ طويل القامة يرتدي نظاراتٍ واقية ومعطفًا فضفاضًا من الجلد، وظلَّ يطلب البركةَ من الرب ويُقدِّم لي اعتذاراتٍ لا حصر لها. أما أنا، فبمجرد أن استعدتُ أنفاسي، كنتُ سعيدًا أكثر من أي شعور آخر. فما حدث كان طريقةً جيدة للتخلص من السيارة.
رددتُ عليه قائلًا: «الخطأُ خطئي أنا يا سيدي؛ فمن حسنِ الطالع أني لم أرتكب جريمةَ قتلٍ أُضيفها إلى سلسلة حماقاتي. لقد كانت هذه هي نهاية جولتي بالسيارة في اسكتلندا، إلا أنه كان من الممكن لها أن تكون نهايةَ حياتي.»
أخرج ساعةً وتفحَّصها، وقال: «أنت الشخص المناسب، يمكنني أن أفرِّغ نفسي لمدة ربع ساعة، ومنزلي يقع على بُعد دقيقتين من هنا. سأحرص على إعطائك ملابسَ ملائمة لترتديَها، وطعامًا جيدًا وسريرًا مريحًا. بالمناسبة أين أمتعتُكَ؟ أهي في النهر مع السيارة؟»
قلتُ: «إنها في جيبي.» ولوَّحتُ له بفرشاة أسنان. «أنا من المستعمرات البريطانية، وأسافر دون أمتعة كثيرة.»
صاح الرجل: «من المستعمرات البريطانية؟ يا إلهي! إنك بالضبط الشخص الذي كنتُ أدعو لأجدَه. هل أنت بأي حال من الأحوال من أنصار التجارة الحرة؟»
قلت، دون أن يكون لديَّ أدنى فكرة عما كان يقصد بهذا: «أجل أنا كذلك.»
ربَّتَ على كتفي وأسرع بي إلى داخل سيارته. بعدها بثلاث دقائق أصبحنا أمام منزل ريفي صغير مريح المنظر بين أشجار الصنوبر، وقادني إلى الداخل. أخذني أولًا إلى غرفة للنوم، ووضع أمامي ستًّا من بِذْلاته؛ إذ كانت بِذْلتي قد اهترأت تمامًا. اخترتُ واحدة فضفاضة زرقاء اللون من قماش السيرج، كانت تختلف اختلافًا واضحًا للغاية عن ملابسي السابقة، واستعرتُ منه ياقةً من الكتَّان. بعد هذا أدخلني إلى غرفة الطعام حيث وجدتُ بقايَا وجبة سابقة على الطاولة، وقال لي إن أمامي خمسَ دقائق فحسب لتناول الطعام. وأضاف: «يمكنك أخذُ وجبة خفيفة معك في جيبك، وسنتناول طعام العشاء حين عودتنا. لا بد لي من الوصول إلى القاعة الماسونية في الساعة الثامنة، وإلا فإن وكيلي سيُمسك بتلابيبي.»
شربتُ فنجانًا من القهوة وأكلتُ بعضًا من لحم الخنزير البارد، بينما ابتعد هو متحدثًا إليَّ وهو واقفٌ على سجادة المدفأة.
«كما تجدُ، أنا في حالة سيئة من الفوضى يا سيد، بالمناسبة لم تخبرْني باسمك. تويسدون؟ هل تربطك أيُّ صلة قرابة بتومي تويسدون من الستينيات؟ كلَّا؟ حسنًا، أنا مرشح ليبرالي في هذا الجزء من العالم، وكان لديَّ اجتماعٌ الليلة في براتلبرن، وهي مدينتي الرئيسية، والحصن الحصين لحزب المحافظين اللعين. أقنعتُ رئيس الوزراء الاستعماري الأسبق كرمبليتون، بالحضور والحديث نيابةً عني الليلة، وأعلنتُ عن الحدث على نطاق واسع للغاية، وروجنا للحدث في المكان بأكمله لجذب أكبر عدد من الناس. عصر هذا اليوم تلقيت برقية من هذا الشخص الدنيء يخبرني فيها أنه أُصيب بالإنفلونزا في بلاكبول، وها قد تُرِكْتُ لأقوم بالأمر كله بنفسي. كان من المفترض أن أتحدث لعشر دقائق والآن أصبح عليَّ الحديث لأربعين دقيقة، ومع أني أجهدتُ ذهني بالتفكير طوال ثلاث ساعات في شيء ما، إلا أنني لا يمكنني ببساطة الاستمرار كل هذه المدة. والآن لا بد أنك إنسان طيب وستساعدني؛ فأنت من أنصار التجارة الحرة ويمكنك أن تخبر جمهورنا عن مدى إخفاق سياسة الحماية في المستعمرات؛ فكلكم أيها الرفاق تتمتعون بموهبة الثرثرة التي كنت أتمنى لو أن الرب أنعم عليَّ بها. سأكون مدينًا لك إلى الأبد إن فَعَلْت.»
لم يكن لديَّ إلا بضعُ أفكار قليلة عن التجارة الحرة بشكل أو بآخر، لكني لم أرَ فرصة أخرى للحصول على ما أريده عدا هذا. لقد كان رفيقي الشاب منشغلًا للغاية بالصعوبات التي كان يواجهها لدرجةٍ تمنعه من التفكير في مدى غرابة أن يطلب من غريب، نجا لتوِّه بأعجوبة من الموت وخسر سيارةً بقيمة ألف جنيه إسترليني، مخاطبة جمْع من الناس بالنيابة عنه ارتجالًا. إلا أن الضرورات الملحَّة لم تسمح لي بالتفكير في غرابة الأمر أو انتقاء واختيار مَن يقدِّمون لي الدعم.
قلت له: «حسنًا، أنا لستُ متحدِّثًا لبقًا جدًّا، لكني سأخبرهم قليلًا عن أستراليا.»
حين تفوَّهتُ بهذه الكلمات سقطتْ عن كاهله همومُ الدنيا، وانهال عليَّ بالشكر والثناء. أعارني مِعطفًا كبيرًا من تلك التي نرتديها في أثناء ركوب السيارة ولم يهتمَّ بأن يسألَني عن سبب ذهابي في رحلة بالسيارة دون أن أمتلكَ معطفًا فضفاضًا، وبينما كنا نسير في الطرقات الترابية، ردَّدَ على مسامعي الحقائقَ البسيطة لقصة حياته. كان يتيمًا، وربَّاه عمُّه، الذي نسيتُ اسمَه، لكنه كان في مجلس الوزراء، ويمكن للمرء قراءةُ خطبِه في الصحف. طاف العالمَ بعدما ترك كامبريدج، ثم، لعدم اشتغاله بوظيفة، نصحه عمُّه بالعمل بالسياسة. فهِمتُ أنه لم تكن له تفضيلاتٌ حزبية؛ فقد قال بمرح: «يوجد أناسٌ صالحون في كلَا الحزبين، ويوجد كذلك الكثيرُ من الأشخاص المزعجين. أنا ليبرالي؛ لأن أسرتي كانت دائمًا تنتمي لحزب الأحرار.» لكنه وإن كان غيرَ مبالٍ بالأمور السياسية، فقد كانت له آراءٌ قوية في شئون أخرى؛ فقد اكتشف أني أعرف القليل عن الخيل، فانطلق في الحديث عن الخيول المشاركة في سباق ديربي، وكان لديه الكثيرُ من الخُطط لتحسين مهارات الرماية لديه. إجمالًا، كان شابًّا غرًّا على قدرٍ كبير من النقاء والاحترام.
حين مررْنا بقرية صغيرة أشار إلينا ضابطَا شرطة بالتوقف، ووجَّهَا مصباحَيهما نحونا.
قال أحدُهما: «عذرًا يا سير هاري؛ فلدينا تعليماتٌ بالبحث عن سيارة، ووصفُها لا ينطبق على سيارتك.»
قال مضيفي: «حسنًا.» بينما شكرتُ أنا العنايةَ الإلهية على الطرق الغريبة التي كنتُ أنجو بها. بعد ذلك لم يَعُدْ يتكلم؛ إذ بدأ عقلُه ينشغل بشدة بالخُطبة التي سيُلقيها. ظلَّ يُتمتم بشفتيه، ويدور بعينيه في كل مكان، وبدأتُ أنا أُعِدُّ نفسي لكارثة ثانية. حاولتُ التفكير في شيء أقوله، لكن عقلي كان خاليًا كصخرة صماء. بعد ذلك وقفنا أمام أحد الأبواب في شارع، وتلقينا ترحيبًا صاخبًا من بعض الرجال الذين كانوا يضعون أوسمة على شكل أزهار. كان في القاعة نحو خمسمائة شخص، معظمهم من النساء، والكثير من الرءوس الصلعاء، وعشرة أو عشرين من الشباب. كان الرئيس قَسًّا ضئيلًا بأنف حمراء، وكان يتحسر على غياب كرامبليتون، ويُناجي نفسَه بشأن ما أصابه من إنفلونزا، وقدَّمني للحضور على أنني «أحدُ قادة الفكر الأسترالي الموثوق بهم»، كان رجلَا شرطةٍ يقفان عند الباب، وتمنيتُ أن يلحظَا تلك الشهادة. بعد ذلك بدأ السير هاري.
لم أسمع في حياتي قط مثل هذا الكلام؛ فهو لم يكن يعرف أيَّ شيء عن مبادئ الخطابة. كان معه حفنةٌ من الملحوظات التي كان يقرأ منها، وحين تركها ظلَّ يتلعثم في الكلام لوقت طويل. كان يتذكر بين الحين والآخر عبارةً قد حفظها عن ظهر قلب، فكان يعتدل في وقفته، ويُلقيها بأسلوب هنري إيرفينج الممثل المسرحي، وفي اللحظة التالية ينكبُّ على أوراقه ضعف ما كان عليه في السابق ويُتمتم بصوت خفيض. كان المكتوب فيها مروعًا أيضًا. تحدَّث عن «التهديد الألماني»، وقال إنه برُمَّته من ابتكار حزب المحافظين من أجل خداع الفقراء لتجريدهم من حقوقهم وعرقلة الفيض العظيم للإصلاح الاجتماعي، لكن هؤلاء «العمال النقابيون» أدركوا هذا وسخروا من أنصار حزب المحافظين إلى حدِّ الازدراء. كان يؤيد تأييدًا تامًّا تخفيضَ عدد أسطولنا برهانًا على حسن نوايانا، ثم إرسال إنذار نهائي إلى ألمانيا نُخبرها فيه بفعل الأمر نفسه وإلا سنقضي عليها. قال كذلك إنه لولا حزب المحافظين وأنصاره لكانت ألمانيا وبريطانيا رفقاء عمل في السلم والإصلاح. فكَّرتُ في المفكرة السوداء الصغيرة التي في جيبي! فلم يكن أصدقاء سكادر يكترثون لا بالسلم ولا بالإصلاح.
مع كل هذا أعجبتني الخطبة على نحوٍ غريب؛ فيمكنك أن ترى لطفَ هذا الشاب يشعُّ من وراء الكلام الرديء الذي ردَّدَه وحفظه عن ظهر قلب. كذلك خفَّف هذا الخطاب حِملًا عن ذهني؛ فربما لم أكن خطيبًا بارعًا، لكني كنتُ أفضلَ ألف مرة من السير هاري.
لم يكن حديثي بمثل هذا السوء حين جاء دوري؛ فقد أخبرتهم ببساطة كلَّ ما استطعتُ تذكُّرَه عن أستراليا، وأنا أدعو ألا يكونَ بين الحضور شخصٌ أسترالي يعرف بشأن حزب العمال والهجرة والخدمة الشاملة. أشكُّ في أني تذكَّرتُ الإتيان على ذكْر التجارة الحرة، لكني قلتُ إنه لا وجودَ لأنصار حزب المحافظين في أستراليا، فقط أنصار حزب العمال وحزب الأحرار. جلب هذا هتافَ الجمهور، وتحمَّسوا قليلًا حين بدأتُ أخبرهم عن نوع الأعمال التجارية الرائعة التي يمكن للإمبراطورية تحقيقُها إذا كثَّفنا حقًّا جهودنا.
إجمالًا أعتقد أنها كانت خطبةً ناجحة. ومع ذلك لم أُعجِب القَسَّ، وحين وجَّه عباراتِ الشكر الرسمية، تحدَّث عن خطاب السير هاري ووصفه بأنه «خطاب سياسي محنك»، وقال عن خطابي إنه «خطاب يتسم بفصاحة وكيل من وكلاء الهجرة».
حين عُدنا إلى السيارة مرةً أخرى كانت معنوياتُ مضيفي مرتفعةً للغاية لانتهائه من مهمته. قال: «يا له من خطاب رائع، يا تويسدون. والآن ستعود معي إلى المنزل؛ فأنا أعيش وحدي، وإذا قضيتَ معي يومًا أو يومين فسأجعلك تختبر تجربة صيد أسماك رائعة جدًّا.»
تناولنا عشاءً ساخنًا كنتُ في أمسِّ الحاجة إليه، ثم شربنا مشروبًا كحوليًّا في غرفة تدخين كبيرة مبهجة على صوت طقطقة حطب المدفأة. اعتقدتُ أن الوقت قد حان لأُخبرَه بالحقيقة؛ فقد رأيتُ في عينَي هذا الرجل أنه إنسان جدير بالثقة.
قلتُ له: «اسمع يا سير هاري، عندي شيءٌ مهم أريد أن أخبرَك به. أنت شخص طيب وأنا سأكون صريحًا معك. من أين أتيت بهذا الكلام الفارغ المسمم الذي تحدَّثتَ به الليلة؟»
اكفهرَّ وجهُه وسألني بكآبة: «هل كان بهذه الدرجة من السوء؟ لقد بدا غيرَ مترابط بعض الشيء. لقد حصلتُ على معظمه من مجلة «ذا بروجريسف» وكتيبات يُرسلها لي باستمرار وكيلٌ يعمل معي. لكن ألا تعتقد بالفعل أن ألمانيا يمكنها خوضُ الحرب معنا يومًا ما؟»
قلتُ له: «إذا طرحتَ هذا السؤال بعد ستة أسابيع فلن تحتاج إلى إجابة من أحد. إذا أعرتني انتباهك لنصف ساعة سأخبرك بقصة.»
ما زال بوسعي أن أرى أمامي هذه الغرفةَ المضيئة ذات الجدران المزينة برءوس الغزلان واللوحات العتيقة المعلقة عليها، والسير هاري واقفٌ في توتُّر متكئًا على الحافة الحجرية للمدفأة، وأنا أجلس مستلقيًا على مقعد ذي مسندين أتحدث إليه. بدوت وكأنني شخصٌ آخر يقف جانبًا ويستمع إلى صوتي، ويحكم بتروٍّ على مصداقية قصتي. كانت هذه المرة الأولى التي أُخبر فيها أحدًا بالحقيقة كاملة تمامًا كما فهمتُها، وقد أفادني هذا كثيرًا؛ إذ وُضع الأمر في نصابه في ذهني. لم أغفل ذكْرَ أيِّ تفاصيل؛ فقد أخبرتُه كلَّ شيء عن سكادر وبائع الحليب والمفكرة وما فعلتُه في جالواي. عندئذٍ تحمَّس للغاية وتقدَّم إلى الأمام وجلس على سجادة المدفأة.
قلتُ له في ختام حديثي: «كما ترى فأنت تأوي في منزلك الآن الرجلَ المطلوب في جريمة قتل بورتلاند بليس. ومن واجبك الآن أن تُرسلَ سيارتَك في طلب الشرطة وتُسلِّمَني لهم. ولا أعتقدُ أن الأمر سيطول بي كثيرًا؛ فسيقع حادثٌ، وسيُغرَس سكينٌ في أضلعي بعد ساعة أو نحو ذلك بعد القبض عليَّ. ومع ذلك، فإن هذا واجبك بصفتك مواطنًا يلتزم بالقانون. ربما ستأسف على هذا التصرف بعد شهر من الآن، لكن ليس ثمة ما يدعوك إلى التفكير في ذلك.»
كان ينظر إليَّ بعينين لامعتين ثابتتين، ثم سألني: «ماذا كانت وظيفتُك في روديسيا يا سيد هاناي؟»
قلتُ له: «مهندس تعدين، لقد جمعتُ مالي بنزاهة، وقضيتُ وقتًا طويلًا في جمعه.»
«لم تكن وظيفةً تُضْعِف الأعصاب، أليس كذلك؟»
ضحكتُ وقلتُ له: «حسنًا، فيما يتعلق بذلك، فإن أعصابي جيدةٌ بالقدر الكافي.» أخذتُ خنجرَ صيدٍ من حامل مثبَّت على الجدار، وقمتُ بخدعة تفعلها قبائلُ الماشونا القديمة في روديسيا بأن قذفتُه في الهواء وأمسكتُ به بين شفتيَّ. تلك الحيلة تحتاج إلى جَنان ثابت بقدْر كبير.
شاهدني وعلى وجهه ابتسامةٌ، وقال: «أنا لا أريد إثباتًا، فربما أكون مغفلًا بعض الشيء على منصة الحديث، لكني أستطيع الحكم على الرجال؛ فأنت لستَ بقاتل ولستَ أحمقَ، وأعتقد أنك تقول الحقيقة، ولهذا سأدعمك. والآن ماذا بوسعي أن أفعل؟»
«أولًا أريد منك أن تكتب خطابًا إلى عمِّك، فلا بد لي من الاتصال بأفراد في الحكومة قبل الخامس عشر من يونيو.»
جذب شاربَه وقال: «هذا لن يُفيدَك في شيء؛ فهذا شأن يخصُّ وزارة الخارجية، ولن يكون لعمِّي علاقةٌ به، إضافةً إلى أنك لن تستطيع إقناعه أبدًا. كلا سأقوم بما هو أفضل؛ سأكتب إلى السكرتير الدائم لوزارة الخارجية؛ فهو أبي الروحي وأحدُ أفضل الأشخاص على الإطلاق. ماذا تريد منه؟»
جلس إلى طاولة وبدأ يكتب ما أُمليه عليه. كان فحوى الخطاب أنه إذا ظهر شخصٌ يُدعى تويسدون (رأيت من الأفضل الالتزام بهذا الاسم) قبل يوم الخامس عشر من يونيو فعليه أن يُحسن معاملته. قال في الخطاب إن تويسدون سيُثبت هويتَه بقول عبارة «بلاك ستون» وتصفير لحن أغنية «آني لوري».
قال السير هاري: «حسنًا، تلك هي الديباجة المناسبة. بالمناسبة، يمكنك العثورُ على أبي الروحي، واسمه السير والتر بوليفانت، في كوخه الريفي بمناسبة أسبوع العنصرة. إنه قريبٌ من أرتينسويل على نهر الكينر. انتهينا من هذا الأمر، والآن ماذا بعد؟»
«أنت تقريبًا في مثل طولي. أعرْني أقْدمَ بِذْلة صوفية لديك. أي شيء سيفي بالغرض ما دام لونه مختلفًا تمامًا عن ألوان الملابس التي أتلفتُها عصر هذا اليوم. ثم أرني خريطةً لهذه المنطقة واشرح لي طبيعة الأرض. أخيرًا، إذا جاءت الشرطة تبحث عني، فقط أرِهم السيارة التي سقطتْ في النهر الصغير. أما إذا ظهرت الجماعة الأخرى، فأخبرْهم بأني ركبتُ القطار السريع المتجه جنوبًا بعدما قابلتُكَ.»
فعل أو وعد بفعل جميع هذه الأشياء. حلَقتُ ما بقيَ من شاربي، وارتديتُ بِذْلة عتيقة أعتقد أن لونها يُسمَّى مزيج هيذر. أعطتني الخريطةُ فكرةً عن المكان الذي كنت موجودًا فيه، وأطلعتني على أمرين أردتُ معرفتهما، وهما مكان السكة الحديدية الرئيسية المتجهة إلى الجنوب، ومكان المقاطعات البرِّية القريبة. في الساعة الثانية أيقظني من غفوتي على المقعد في غرفة التدخين، وأرشدني وأنا لا أكاد أرى أمامي في هذه الليلة المظلمة المرصعة بالنجوم. عثرنا على دراجة قديمة في كوخ المعدات وأعطاها لي.
قال بلهجة آمرة: «أولًا انعطف يمينًا وسِرْ بحذاء غابة التنوب. عند مطلع الفجر ستكون قد وصلت إلى التلال. بعدها عليك أن تترك الدراجة في أحد المستنقعات وتسير في الأراضي السَّبَخة على قدميك. يمكنك البقاءُ لأسبوع بين رعاة الأغنام، وستكون عندها بأمان كما لو أنك في غينيا الجديدة.»
قدْتُ الدراجة بدأب على طرق التل المنحدرة المصنوعة من الحصى حتى بدأ ضوءُ الصباح يظهر باهتًا في السماء. ومع انقشاع الغيوم أمام سطوع الشمس، وجدتُ نفسي في عالم أخضر فسيح فيه أودية صغيرة واقعة في كل جانب وأفق أزرق بعيد. يمكنني هنا، على أي حال، أن أكتشفَ أعدائي من بعيد.