مغامرة عامل إصلاح الطرق ذي النظارات
جلستُ على قمة الممر واستعرضتُ وضعي.
فمن خلفي كان الطريقُ يصعد خلال صدع طويل بين التلال، كان في وقتٍ ما الوادي الصغير الأعلى لنهر شهير. وأمامي فضاءٌ فسيح يمتدُّ تقريبًا لمسافة ميل، مليءٌ بفجوات مستنقعات وكتَل عشبية خشنة، ومن ورائه ينحدر الطريقُ انحدارًا شديدًا إلى وادٍ صغير آخر يصل إلى سهلٍ تذوب زرقتُه القاتمة بعيدًا. على يميني ويساري كانت ثمة تلال خضراء محدبة ملساء كأنها فطائر محلاة، لكن جنوبًا، أي جهة اليسار، كان ثمة لمحةٌ من جبال متعددة الألوان، والتي تذكَّرتُ من الخريطة أنها كانت سلسلةَ التلال الكبيرة التي اخترتُها لتكون ملاذي. كنتُ على كتلة صخرية شاخصة وسط أرض ريفية شاسعة ومرتفعة، وكان بإمكاني رؤيةُ كل شيء يتحرك عن بُعد أميال. في المروج أسفل الطريق الذي يمتدُّ نصف ميل إلى الخلف رأيت كوخًا يصدر منه الدخان، لكنه كان العلامة الوحيدة على وجود حياة بشرية في هذا المكان. وبخلاف هذا لم يكن يُسمَع إلا تغريد طيور الزقزاق ورقرقة جداول المياه الصغيرة.
كانت الساعة حينئذٍ حوالي السابعة، وبينما كنتُ أنتظر سمعتُ مرةً أخرى هذا الصوت المشئوم في الهواء. عندئذٍ أدركتُ أن هذا الموقع الممتاز قد يكون في الواقع مصيدة؛ فلم يكن ثمة سترٌ يحتمي به حتى طائر صغير في مثل هذه الأراضي الخضراء المكشوفة.
جلستُ ساكنًا ويائسًا تمامًا بينما ازداد الصوت ارتفاعًا. ثم رأيتُ طائرة قادمة من جهة الشرق، كانت تطير على ارتفاع كبير، لكن بمجرد أن نظرتُ إليها انخفضت بضع مئات من الأقدام وبدأت تحوم في دوائر ضيقة حول سلسلة التلال، تمامًا كما يحوم الصقر حول فريسته قبل الانقضاض عليها. والآن أصبحتْ تطير على ارتفاع منخفض للغاية، وعندئذٍ رآني المراقبُ الموجود على متنها. استطعتُ رؤيةَ واحدٍ من راكبيها الاثنين يتفحصني عبر نظارات.
فجأة بدأت ترتفع في دوائر لولبية سريعة، ثم اتجهتْ بسرعة نحو الشرق مرةً أخرى حتى صارت نقطةً في صفحة سماء الصباح الزرقاء.
جعلني هذا أفكر تفكيرًا جامحًا بعضَ الشيء؛ فقد حدَّد أعدائي مكاني، وبعدها قد أجد نفسي محاصرًا من كل جانب؛ فأنا لا أعرف إلى أي مدًى يصل نفوذُهم، لكني كنت على يقينٍ من أنه سيكون كافيًا. لقد رأتِ الطائرةُ دراجتي، وسيستنتجون أني سأحاول الهرب على الطريق السريع. في هذه الحالة ربما توجد فرصةٌ عبر الأراضي السبخة الموجودة على يميني أو على يساري. حركتُ الدراجة مائة ياردة بعيدًا عن الطريق السريع، وأدخلتُها في حفرة تكسوها الطحالب، حيث غاصت بين أعشاب إحدى البرك ونبات الحوذان المائي. بعد هذا تسلقتُ هضبة صغيرة فصرتُ أرى الواديَين جيدًا. لم يكن ثمة شيءٌ يتحرك على طول الشريط الأبيض الطويل الذي يمرُّ عبرهما.
كما قلتُ لم يكن ثمة سِترٌ في المكان بأكمله يمكن لفأر أن يختبئَ تحته. ومع مضي ساعات اليوم غمر المكانَ ضوءٌ عذب منعش حتى عبِق المكان بضوء شمس يُشبه ذلك الذي كان يشعُّ على مراعي جنوب أفريقيا. كان من الممكن لي أن أحب هذا المكان في ظروف أخرى، لكنه الآن بدا وكأنه يخنقني؛ فقد كانت هذه الأراضي السبخة الفسيحة بمثابة جدران سجن، والهواء المندفع من التلال كان بمثابة هواء الزنزانة.
رميتُ عملةً معدنية في الهواء وقلتُ إن الصورة تعني يمينًا، والكتابة تعني يسارًا، فسقطتْ على الصورة، ولهذا اتجهتُ شمالًا. بعد وقت قصير وصلتُ إلى حافة نتوء جبلي كان يمثل الجدار المحيط بالممر. رأيت الطريقَ السريع على بُعد عشرة أميال تقريبًا، ورأيت عليه شيئًا ما يتحرك، واستنتجتُ أن هذا الشيءَ هو سيارة. رأيتُ من وراء النتوء الجبلي أرضًا سَبَخة خضراء متعرجة، تصل في النهاية إلى وادٍ صغير مشجر.
كانت الفترة التي قضيتُها في البراري الأفريقية قد جعلتْ عينيَّ حادَّتَين كعينَي الحدأة، وبوسعي أن أرى أشياءَ يحتاج معظمُ الناس إلى تلسكوب لرؤيتها … فرأيتُ من بعيد في أسفل المنحدر، على بُعد بضعة أميال، عددًا من الرجال يتقدمون إلى الأمام؛ مثل صفٍّ من مثيري الطرائد في رحلة صيد.
تواريتُ عن الأنظار وراء خط الأفق. كان هذا السبيلُ قد صار مسدودًا، وكان لا بد لي من تجربة الذهاب إلى التلال الأكبر حجمًا التي تقع جنوبًا وراء الطريق السريع. كانت السيارة التي رأيتُها آخذةً في الاقتراب، لكنها كانت لا تزال بعيدة عني بمسافة كبيرة وأمامها بعضُ المنحدرات الشديدة. ركضتُ بقوة، منحنيَ الظهر في معظم الوقت، فيما عدا في التجاويف الموجودة في الأرض، وبينما كنت أركضُ ظللتُ أراقب حافة التل أمامي. هل كان هذا محضَ خيال، أم أنني رأيتُ بالفعل شخصين يتحركان في الوادي الصغير خلف المجرى المائي؟
إذا وجدتَ نفسك محاصرًا من جميع الجهات في قطعة من الأرض، فلا يوجد إلا سبيلٌ واحد للهرب. عليك ألا تُبارحَ هذه القطعةَ من الأرض، واترك أعداءك يبحثون عنك فيها ولا يعثرون عليك أبدًا. كان هذا تفكيرًا منطقيًّا سليمًا، لكن كيف يمكنني الهربُ دون أن يلاحظوا وجودي في هذا المكان الفسيح المنبسط؟ كنتُ على استعداد لأن أدفنَ نفسي في الطمي حتى عنقي أو أستلقيَ تحت سطح المياه أو أتسلقَ أطول الأشجار، لكن لم يكن ثمة عودٌ واحد من الخشب، وكانت فتحات المستنقع عبارةً عن بِرَك صغيرة موحلة، وكان النهر عبارةً عن مجرًى ضيق من الماء الشحيح. لم يكن يوجد إلا نباتُ الخلنج القصير ومنحنى التل المكشوف، والطريق السريع الأبيض.
ثم رأيتُ في منعطف ضيِّق للطريق، خلف كومة من الحجارة، عاملَ إصلاح الطُّرُق.
كان قد وصل للتوِّ، وكان يطرق بمطرقته في ضجر. نظر إليَّ بعينين تخلوان من أي تعبير وتثاءب.
قال، كأنه يُخاطب العالمَ بأسره: «لعنة الله على اليوم الذي تركتُ فيه الرعي! كنتُ حينها سيدَ نفسي، أما الآن فأنا عبدٌ للحكومة، محكومٌ عليَّ بالعمل على الطريق، عيناي تؤلمانني وظهري مقوَّس.»
رفع مطرقتَه وضرب بها حجرًا ثم أسقط الأداة وهو يسبُّ، ووضع يديه فوق أذنيه، وصاح: «الرحمة! إن رأسي ينفجر!»
كان إنسانًا همجيًّا، في نفس حجمي تقريبًا لكن مع انحناءٍ أكثر في ظهره، ولحيةٍ لم تُحْلَق منذ أسبوع تقريبًا، ونظارةٍ كبيرة ببروزين عند طرفيها.
صاح مرةً أخرى: «لا يمكنني فعلُ هذا. فليبلغ عني مسئول المعاينة فحسب. سأذهب إلى سريري.»
سألتُه ما الخطب، على الرغم من أن هذا كان واضحًا كفاية.
«المشكلة أني لم أتخلص من حالة الثمالة؛ فليلةُ أمس تزوجتِ ابنتي ميران وظلوا يرقصون حتى الساعة الرابعة في الحفل. أما أنا وبعض الفتيان الآخرين فقد جلسنا نشرب الخمر، وها أنا ذا. فأنا لا أتمالك نفسي حين أرى اللون الأحمر للنبيذ!»
وافقتُه على أنه ينبغي عليه أن يُلازم سريره، فقال وهو يندب حظَّه: «إن الكلام سهل، لكني حصلتُ على بطاقة بريدية بالأمس تقول إن مسئول المعاينة الجديد على الطرق سيقوم بجولة اليوم؛ فهو إما سيأتي ولن يجدني، أو أنه سيجدني ثَمِلًا، وفي كلتا الحالتين انتهى أمري. سأذهب الآن إلى سريري وأقول إني أشعر بتوعُّك، لكني أشكُّ في أن هذا سيساعدني؛ فهم لا يهتمون بصحة أمثالي.»
هنا خطرتْ لي فكرة. فسألتُه: «هل يعرفك مسئولُ المعاينة الجديد؟»
«كلا؛ فقد تقلَّد منصبه منذ أسبوع فقط. إنه يتحرك بسيارة صغيرة، ويمكنه التحري ومعرفةُ كلِّ شيء عن الإنسان.»
سألته: «أين منزلك؟» فأشار بإصبع مهتز إلى كوخ بجوار مجرى النهر.
قلت له: «حسنًا، عُدْ إلى سريرك ونمْ في سلام، وأنا سآخذُ مهمتك لفترة وجيزة من الوقت وسأقابل مسئول المعاينة.»
حدَّق في وجهي بنظرة خاوية؛ ثم حين استوعب عقلُه الفكرة أشرق وجهُه بابتسامة خاوية ثملة.
صاح: «يا لك من صديق رائع! يمكنك تدبُّرُ الأمر بسهولة؛ فقد انتهيتُ من هذه المجموعة من الحجارة، ولهذا ليس عليك إلا أن تكسر المزيد قبل حلول الظهيرة. فقط خُذ المعول، ودحرج قدرًا كافيًا من المعدن من المحجر أسفل الطريق حتى تصنع كومة أخرى هذا الصباح. أنا اسمي ألكسندر تيرنبول، وأعمل في هذه المهنة منذ سبع سنوات، وعملتُ من قبلها لعشرين عامًا في الرعي على نهر لايثن واتر. أصدقائي يدعونني إيكي، وأحيانًا سبيكي؛ لأني أرتدي نظاراتٍ بسبب ضعف نظري. ليس عليك سوى أن تتحدث بأسلوب مهذَّب مع مسئول المعاينة وتُخاطبه بلقب سيدي، وهذا سيُشعره بالسرور. وأنا سأعود في منتصف النهار.» أعارني نظارتَه وقبعته القديمة القذرة، وخلعتُ معطفي وصدريتي وياقتي وأعطيتهم له ليأخذَهم معه إلى المنزل، واستعرتُ منه كذلك غليونَه الطيني العفن كأحد ممتلكاته الإضافية. أوضحَ لي مهامي البسيطة ودون إضاعة المزيد من الوقت شرع يمشي الهُوَينَى نحو سريره. ربما كان السرير هو بغيتَه الأساسية، لكني أعتقد أن ثمة قليلًا من الخمر متبقٍّ في قاع إحدى الزجاجات. تمنيتُ أن يذهب في أمان إلى مخبئه قبل ظهور أصدقائي في المشهد.
بعدها شرعتُ في تهيئة ملابس الدَّور الذي سأؤديه؛ ففتحتُ ياقةَ قميصي الذي كان من مربعات بيضاء وزرقاء شائعة كالتي يرتديها مَن يحرثون الأرض، وكشفتُ عن رقبة بُنِّيَّة اللون مثل أي عامل حِرَفي. شمرتُ أكمامي وأظهرتُ ساعدًا، يُشبه سواعد الحدادين، مسفوعًا من الشمس وخشنًا وبه ندبات قديمة. جعلتُ حذائي الطويل الرقبة وساقَي سروالي يكتسيان تمامًا باللون الأبيض من غبار الطريق، ورفعتُ سروالي وربطته بشريط أسفل الركبة. بعد هذا شرعتُ في العمل على وجهي؛ فصنعتُ بحفنة من التراب علامةً مائية حول رقبتي، المكان المتوقع أن يتوقف فيه اغتسال السيد تيرنبول المعتاد في أيام الآحاد. دلَّكتُ خديَّ المسفوعين بالشمس بكمية لا بأس بها من التراب. ولا شك في أنه يُفترض في عيني عامل إصلاح الطرق أن تكونَا ملتهبتين، ولهذا وضعتُ بعضَ التراب في عينَيَّ، وأسفر حكِّي لهما بقوة عن إحداث التأثير المطلوب.
كانت الشطائر التي أعطاها لي السير هاري قد ذهبتْ مع معطفي، لكن غداء عامل الطريق، الذي كان مربوطًا في منديل أحمر اللون، كان تحت تصرفي. أكلتُ باستمتاع بالغ العديدَ من قِطَع الفطائر السميكة والجبن وشربتُ القليل من الشاي البارد. وجدتُ داخل المنديل صحيفة محلية مربوطة بخيط ومكتوبًا عليها اسم السيد تيرنبول، من الواضح أنها أُعطيت له من أجل التفريج عنه في راحة منتصف النهار. أحكمتُ غلق الحزمة مرةً أخرى، ووضعتُ الصحيفة في مكان واضح بجواري.
لم يُرضني شكلُ الحذاء الطويل الرقبة، لكن بعد ضرب الحجارة به بقوة جعلتُ شكله يبدو كشكل سطح الحجر الصوان، وهو الشكل المميز لأحذية عمال الطرق. بعدها قضمتُ أظافري وظللتُ أحكُّها حتى أصبحتْ حوافُّها مشققةً وغير متساوية. إن الرجال الذين يعملون ضدي لا تفوتهم أيُّ تفاصيل. فككتُ رباطَ إحدى فردتَي حذائي وأعدتُ ربطَه في عقدة غير متقنة، وفككتُ الفردةَ الأخرى بحيث ظهر جوربي السميك الرمادي اللون من وجه الحذاء. بعد كل هذا لم أرَ أيَّ علامة لأي شيء على الطريق. لا بد أن السيارة التي كنتُ قد لاحظتُها منذ نحو نصف ساعة قد عادتْ أدراجها.
انتهيتُ من تنكُّري، وأخذتُ عربة اليد وبدأتُ رحلتي من وإلى المحجر الذي كان يبعد مائة ياردة.
تذكرتُ أن أحد أفراد الكشافة في روديسيا، والذي كان قد فعل العديدَ من الأشياء الغريبة في شبابه، أخبرني ذات مرة أن السرَّ في تأدية أحد الأدوار أن تتقمصَه بالكامل. فحسبما قال، لا يمكنك المتابعةُ في الأمر إلا إذا تمكنتَ من إقناع نفسك بأنك أنت هذا الشخص. ولهذا أبعدتُ عن ذهني جميعَ الأفكار الأخرى وركزتُ تفكيري في إصلاح الطريق. فكرتُ في أن الكوخ الأبيض الصغير هو بيتي، وتذكرتُ السنواتِ التي كنت قد قضيتُها في الرعي على ضفاف نهر لايثن واتر، وشغلتُ ذهني في حُبِّي للنوم على سرير مربع وشرب زجاجة من الويسكي الرخيص. بعد كل هذا لم يظهر أيُّ شيء على الطريق الأبيض الطويل.
بين الحين والآخر كان يخرج خروفٌ هائمًا بعيدًا عن نباتات الخلنج ليحدِّق فيَّ، ونزل طائر مالك الحزين مندفعًا في تجمُّع لمياه النهر وشرع في صيد الأسماك، دون أن يُلاحظ وجودي وكأنني مجرد مَعْلَمٍ على الطريق. واصلتُ دحرجةَ حمولاتي من الحجارة على الطريق، بجدِّ واجتهادِ إنسانٍ محترف في هذا العمل. سرعان ما شعرتُ بالحرِّ واستحال الترابُ الموجود على وجهي كتلًا صلبة ومتحجرة. كنتُ قد بدأت بالفعل أعدُّ الساعاتِ المتبقية على حلول المساء الذي ينتهي عنده عملُ السيد تيرنبول الرتيب. وفجأةً سمعتُ صوتًا هشًّا قادمًا من الطريق، وحين رفعتُ نظري رأيتُ سيارةً من طراز فورد بمقعدين يجلس فيها شابٌّ مستدير الوجه يرتدي قبعة بولر.
سألني: «هل أنت ألكسندر تيرنبول؟ أنا مسئول المعاينة الجديد لطرق المقاطعة. أنت تعيش في بلاكهوبفوت، ومسئول عن القطاع من لايدلوبايرز حتى ريجز، أليس كذلك؟ حسنًا! يا لها من مساحة جيدة من الطريق يا تيرنبول، وقد أصلحتَها على نحوٍ لا بأس به. وجدتُها ملساء أكثر مما ينبغي قليلًا على بُعد ميل من هنا، والحواف تحتاج إلى تنظيف. احرص على الاهتمام بذلك، طاب صباحُك، والآن ستعرفني حين تراني في المرة القادمة.»
من الواضح أن ملابسي كانت جيدةً بما يكفي لإقناع مسئول المعاينة المخيف هذا. واصلتُ عملي، ومع اقتراب النهار من فترة الظهيرة سعدتُ بوجود حركة مرور خفيفة. تقدمتْ عربةُ خباز صعودًا على التل، وابتعتُ منها كيسًا من بسكويت الزنجبيل ملأتُ به جيوب سروالي للطوارئ. بعدها مرَّ راعٍ مع مجموعة من الخراف، وأزعجني إلى حدٍّ ما بسؤالي بصوت مرتفع: «ماذا حدث لسبيكي؟»
أجبتُه: «في سريره يعاني من ألم في المعدة.» فتابع الراعي طريقَه. وقبل انتصاف اليوم مباشرةً جاءت سيارةٌ كبيرة على التل، ومرَّت بالقرب مني وتخطتني بنحو مائة ياردة. نزل راكبوها الثلاثة كما لو أنهم يريدون أن يُمدِّدوا أرجلهم، وتقدموا ببطء نحوي.
كنت قد رأيتُ اثنين منهم من قبل من نافذة النُّزل في جالوي أحدهما هزيل وأنيق وداكن البشرة، والآخر هادئ ومبتسم. أما الثالث فقد كان ذا ملامح ريفية، ربما كان طبيبًا بيطريًّا أو مزارعًا صغيرًا. كان يرتدي سروالًا قصيرًا واسعًا رديءَ الصنع، وكانت عيناه لامعتَين ويقظتين كعينَي دجاجة.
قال الأخير: «صباح الخير، يا لسهولة هذا العمل الذي تؤديه!»
لم أرفع نظري إليهم حين اقتربوا مني، والآن حين بادروني بالكلام، فردتُ ظهري ببطء وألم واضح، تمامًا مثل أيِّ عامل إصلاح طرق، وبصقتُ في الأرض بقوة، تمامًا مثل أي اسكتلندي من الطبقات الدنيا، ونظرتُ إليهم بثبات قبل أن أُجيبَ عليهم. وجدتُ أمامي ستَّ أعين لم يكن ليفوتَها أيُّ شيء.
قلتُ بأسلوب يميل إلى الوعظ: «ثمة أعمالٌ سيئة وأعمال أفضل. فيا ليتني كنتُ أعمل بمثل وظيفتك، تجلس طوال اليوم مرتاحًا على الوسائد دون أيِّ عمل؛ فأمثالُك بسياراتهم الفارهة هم من يُخربون الطرق التي أُصلحها! لو كان لنا حقوق، لكان على أمثالك أن يُصلحوا ما يفسدونه.»
كان الرجل ذو العينين اللامعتين ينظر إلى الصحيفة الملقاة بجوار حزمة تيرنبول.
قال: «أرى أنك تحصل على صحيفتك في وقت معقول.»
نظرتُ إليها بعدم اكتراث وقلتُ: «أجل، في وقت معقول. فبالنظر إلى أن هذه الصحيفة صدرت يوم السبت الماضي فأنا متأخر بستة أيام فقط.»
التقطَها وحدَّق فيما هو مكتوب في أعلى الصفحات، ووضعها أرضًا مرةً أخرى. ظلَّ أحدُ الرجلين الآخرين ينظر إلى حذائي الطويل الرقبة، وتفوَّه بكلمة بالألمانية لفتتْ نظرَ المتحدث إليهما، وقال: «لديك ذوقٌ رفيع في الأحذية الطويلة الرقبة؛ فهذا الحذاء من صنْع إسكافي ريفي.»
قلت بسرعة: «كلَّا، هذا غير صحيح؛ فقد صُنع في لندن. لقد حصلتُ عليه من السيد النبيل الذي أتى إلى هنا في العام الماضي من أجل الصيد. ليتني أتذكر اسمه.» وحككتُ رأسي كأني نسيتُ اسمه. تحدَّث الرجل الأنيق بالألمانية مرةً أخرى، فقال المتحدث: «هيا لنواصل طريقنا، هذا الرجل لا غبارَ عليه.»
وطرحوا سؤالًا أخيرًا.
«هل رأيتَ أحدًا يمرُّ في وقت مبكر من صباح اليوم؟ ربما كان يستقلُّ دراجة أو ربما كان يسير على قدميه.»
كدتُ أسقطُ في الفخ وأُخبرهم بقصة راكب دراجة مرَّ مسرعًا في الطريق في ضوء الفجر الرمادي. لكن انتابني شعورٌ بوجود خطر في هذا، فتظاهرتُ بالتفكير العميق.
قلت: «لم أستيقظ اليوم في وقت مبكر للغاية؛ فكما ترون، لقد تزوجتِ ابنتي ليلة أمس، وسهرْنا لوقت متأخر؛ لهذا خرجتُ من منزلي في نحو السابعة صباحًا ولم أرَ أحدًا على الطريق حينها. ومنذ مجيئي إلى هنا لم أرَ إلا الخباز وقطيع راتشيل، بالإضافة إليكم أيها السادة.»
أعطاني أحدُهم سيجارًا، فشممتُها بحذر ووضعتُها في حزمة تيرنبول. ركبوا سيارتَهم وغابوا عن أنظاري في غضون ثلاث دقائق.
شعرتُ براحة عارمة تغمر قلبي، لكني واصلتُ جرَّ حجارتي في عربة الجر. وكان من الحكمة أنني فعلت ذلك؛ إذ بعد عشر دقائق عادت السيارة، ولوَّح لي أحدُ راكبيها؛ فهذه الجماعة لا تترك شيئًا للصدفة.
انتهيتُ من تناول خبز تيرنبول وجُبنه وسرعان ما انتهيت من أمر الحجارة. كانت الخطوة التالية هي ما حيَّرني؛ فلم يكن بوسعي الاستمرارُ في عمل إصلاح الطرق هذا لوقت طويل؛ فقد أبقت العنايةُ الإلهية الرحيمة تيرنبول داخل منزله، لكنه إن ظهر على الساحة فستكون ثمة مشكلة. كنتُ أعلم أن الحصار ما زال مُحكمًا حول الوادي الصغير، وإذا سرتُ في أيِّ اتجاه فسألتقي بأناس يستجوبونني. إلا أنني لا بد أن أخرج من هذا المكان؛ فلا يمكن لأعصاب أيِّ إنسان أن تتحمل تعرضَه لتجسس الآخرين عليه لأكثرَ من يوم واحد.
ظللتُ في موقعي حتى الساعة الخامسة، وبحلول ذلك الوقت كنتُ قد عزمتُ على الذهاب إلى كوخ تيرنبول عند هبوط الليل وتجربة حظِّي في محاولة عبور التلال في جنح الظلام. ولكن فجأة ظهرتْ سيارةٌ جديدة على الطريق، وخفَّفتْ من سرعتها على بُعد نحو ياردة أو ياردتين مني. كانت ريحٌ جديدة قد هبَّت، وأراد راكب السيارة أن يُشعلَ سيجارة. كانت سيارةً سياحية، وكان مقعدها الخلفي مليئًا بمجموعة متنوعة من حقائب السفر. كان يستقلُّها رجلٌ واحد فقط، وبالصدفة الرائعة كنتُ أعرفه. كان اسمه مرمادوك جوبلي، وكان عارًا على البشرية؛ فقد كان سمسارًا دمويًّا، يُجري أعماله بتملق الأبناء البكر وأقرانهم من الشباب الأغنياء والسيدات المسنات الحمقاوات. كان «مارمي»، حسبما فهمت، شخصيةً مألوفة في حفلات الرقص، ومسابقات البولو والمنازل الريفية. كان بارعًا في الترويج للفضائح، وكان مستعدًّا للزحف ميلًا على وجهه من أجل أيِّ شخص يحمل لقبًا أو يمتلك مليونًا. تعرفتُ مهنيًّا على شركته حين أتيتُ إلى لندن، وكان لديه من اللياقة ما يكفي لأن يدعوني إلى العشاء في ناديه. هناك ظلَّ يتفاخر ويتباهى على نحو مفرط، وظلَّ يتحدث عن الدوقات اللاتي يعرفهنَّ حتى أعياني تفاخرُه وخيلاؤه. سألتُ رجلًا فيما بعدُ لماذا لم يركله أحدٌ، وكان ردُّه أن الرجال الإنجليز يحترمون الجنس الأضعف.
على أي حال، ها هو أمامي الآن، متأنق في ملبسه، ويقود سيارة فخمة جديدة، ومن الواضح أنه في طريقه إلى زيارة بعضٍ من أصدقائه الرفيعي المستوى. سيطرت عليَّ لحظةُ حمق مفاجئة، وفي ثانية كنت قد قفزتُ في المقعد الخلفي من السيارة وأمسكته من كتفه.
قلتُ طرِبًا: «أهلًا يا جوبلي، مرحبًا يا صديقي!» انتابه ذعرٌ هائل، وسقط فكُّه السفلي وهو يُحدِّق فيَّ، وقال وهو يلهث: «مَن أنت بحق الشيطان؟»
قلتُ: «اسمي هاناي، من روديسيا، أتذكرُ؟»
قال والكلام يكاد يخنقه: «يا إلهي الرحيم، القاتل!» قلت له: «بالضبط. وستحدث جريمةُ قتلٍ ثانية، يا عزيزي، إن لم تفعل ما أقوله لك. أعطني معطفَك هذا، وهذه القبعة أيضًا.»
فعل ما طُلِب منه؛ إذ كان الذعرُ يعمي بصيرتَه. ارتديتُ معطف القيادة الأنيق الذي أعطاني إياه فوق سروالي القذر وقميصي الرديء، وأغلقتُ أزراره حتى رقبتي وبذلك أخفيتُ عيوب ياقتي. وضعتُ القبعة على رأسي، وأكملتُ مظهري الفاخر بارتداء قفازاته. وهكذا تحوَّل عاملُ إصلاح الطريق المغبر في لحظة إلى واحد من أكثر سائقي السيارات أناقة في اسكتلندا. وضعتُ على رأس السيد جوبلي قبعة تيرنبول الرديئة وأخبرتُه أن يُبقيها على رأسه.
بعد ذلك حولتُ اتجاه السيارة بقدرٍ من الصعوبة؛ فقد كانت خطتي أن أعودَ في الطريق الذي كان قد جاء منه؛ إذ كان من المحتمل أن المراقبين سيتركون هذه السيارة تمرُّ دون الالتفات إليها؛ كونهم قد رأوها من قبل، كما أن هيئة مارمي كانت تختلف تمامًا عن هيئتي.
قلتُ له: «والآن يا طفلي العزيز، اجلسْ هنا ساكنًا وكن ولدًا مطيعًا. أنا لا أُضمرُ لك سوءًا. كلُّ ما في الأمر أنني سأقترض سيارتَك لساعة أو اثنين. أما إذا مارست أيَّ خدعة، وقبل كلِّ شيء إذا فتحتَ فمَك، فأقسم بالرب في علاه أني سأكسر رقبتك، مفهوم؟»
استمتعتُ بتلك الرحلة المسائية بالسيارة؛ فقد قدتُها لنحو ثمانية أميال في الوادي، عبر قرية أو اثنتين، ولم يسعْني إلا ملاحظةُ وجود العديد من الأشخاص الغريبي المظهر على جانب الطريق؛ كان هؤلاء هم المراقبين الذين كانوا سينهالون عليَّ بالأسئلة لو كنتُ أرتدي ملابسَ مختلفة عما أرتديه أو برفقة أشخاص آخرين. ما حدث أنهم نظروا بعدم اكتراث نحوي، وأمسك أحدُهم بقبعته محييًا، ورددتُ عليه التحية بتهذيب.
مع حلول الظلام توجهتُ إلى وادٍ صغير جانبي تذكرتُ من الخريطة أنه يؤدي إلى جانبٍ غير مطروق من التلال. سرعان ما تركتُ القرى ورائي، ثم تخطيتُ المزارع، وتخطيتُ حتى الكوخ الواقع على جانب الطريق. وصلتُ الآن إلى أرض سَبَخة منعزلة حيث بدأ الليلُ يسدلُ ظلمةً على وهج غروب الشمس المنعكس على بِرَك المستنقع. توقفنَا في هذا المكان، وعكستُ اتجاه السيارة بلطف وأعدتُ إلى السيد جوبلي ممتلكاته.
قلتُ له: «ألف شكر، لقد فاقت فائدتُك ما كنتُ أظن، والآن يمكنك الذهابُ والبحث عن الشرطة.»
بينما كنتُ جالسًا على منحدر التل، شاهدتُ الضوء الخلفي للسيارة وهو يخبو في الأفق، وبدأت أفكر في أنواع الجرائم المتنوعة التي اختبرتُها حتى الآن؛ فعلى عكس الاعتقاد السائد، لم أكن قاتلًا، لكني صرتُ كذابًا متمرسًا، ومحتالًا وقحًا، وقاطعَ طريق لديه ميلٌ ملحوظ إلى السيارات الغالية.