صياد السمك
جلستُ على قمة أحد التلال وأخذتُ أُقَيِّم وضعي. لم أكن أشعرُ بسعادة كبيرة؛ إذ إن ما كنتُ أشعرُ به من ألمٍ حادٍّ في جسدي يُعكِّر سعادتي الفطرية بنجاحي في الهرب؛ فقد أدَّت الأدخنةُ المتصاعدة من مادة اللينتونيت إلى تسميم جسدي إلى حدٍّ ما، ولم تعمل الساعاتُ التي أمضيتُها مستلقيًا على ظهري في برج الحمام على تحسين الوضع. كنتُ أُعاني من صداعٍ حادٍّ، وشعرتُ بإعياء شديد. كذلك كانت كتفي في حالة سيئة. في البداية ظننتُ أنها مجردُ كدمة، لكن بدا لي أنها متورمةٌ، ولم أكن أستطيعُ تحريكَ ذراعي اليسرى.
كانت خُطَّتي أن أتوجَّه إلى كوخ السيد تيرنبول، وأستعيدَ منه ملابسي، وخاصةً مفكرة سكادر، ثم أتَّجه إلى خط السكة الحديدية الرئيسي وأعود إلى الجنوب؛ فقد بدا لي أنه كلما أسرعتُ في التواصل مع هذا الرجل في وزارة الخارجية، السير والتر بوليفانت، كان هذا أفضل. لم أكن أعرف كيف سأتمكن من الحصول على أدلة أكثر مما لديَّ بالفعل. فعليه إما أن يصدِّقَ قصتي أو يرفضَها، وعلى أي حال، سأكون معه في أمانٍ أكثر من هؤلاء الألمان الأشرار. كنتُ قد بدأتُ أكنُّ مشاعرَ وُدٍّ تجاه الشرطة البريطانية.
كانت ليلةَ رائعة متلألئة بالنجوم، ولم أواجهْ صعوبةً كبيرة في العثور على الطريق؛ فقد عرفتْني خريطةُ السير هاري على طبيعة الأرض، وكلُّ ما كان عليَّ فعله أن أتجه درجة أو درجتين غرب الجنوب الغربي حتى أصل إلى الجدول المائي الذي كنتُ قد التقيتُ عنده بعامل إصلاح الطريق. طوال هذه الرحلات لم أعلم قط أسماءَ الأماكن، لكني أعتقد أن هذا المجرى المائي لم يكن سوى الجزء العلوي من نهر تويد. قدَّرتُ أني أبعُدُ حوالي ثمانية عشر ميلًا، وكان ذلك يعني أنني لن أتمكن من الوصول قبل الصباح؛ لذا كان عليَّ الاختباءُ نهارًا في مكانٍ ما؛ إذ كان مظهري شنيعًا للغاية وينبغي ألا يراه الناس في ضوء الشمس. لم أكن أرتدي معطفًا، ولا صدرية، ولا ياقة، ولا قبعة، وكان بنطالي ممزقًا بشدة، وكان السواد يغطي وجهي ويديَّ بفعل الانفجار. وأظن أنه كان لديَّ محاسنُ أخرى؛ إذ كنتُ أشعرُ باحمرارٍ بالغ في عينَيَّ. إجمالًا لم يكن مظهري جيدًا ليراه أيُّ إنسان من المواطنين الأتقياء على طريق رئيسي.
بعد طلوع الصبح بقليل حاولتُ تنظيف نفسي في أحد الجداول بجوار تلة، ثم توجهتُ إلى كوخ أحدِ الرعاة؛ إذ كنتُ أشعرُ بالحاجة إلى تناول الطعام. لم يكن الراعي في البيت، وكانت زوجتُه وحدها فيه، ولم يكن لديهم جيرانٌ لمسافة خمسة أميال. كانت سيدةً وقورة كبيرةَ السن، وشجاعة؛ إذ إنه على الرغم من شعورها بالرعب عند رؤيتي، كان لديها فأسٌ جاهز لتستخدمَه مع أيِّ شخص يقصد شرًّا. أخبرتُها أني قد تعرضتُ للسقوط، ولم أخبرها كيف، ورأتْ من مظهري أني أُعاني من الإعياء الشديد. مثل أي فاعل خير حقيقي، لم تطرح أي أسئلة، وإنما أعطتْني إناءً من الحليب مع القليل من الويسكي، وسمحتْ لي بالجلوس قليلًا بالقرب من الموقد في مطبخها. أرادتْ أن تغسل كتفي، لكنها كانت تؤلمني ألمًا شديدًا ولم أكن لأدعَها تلمسها.
لا أدري ماذا ظنَّتْ بشأني، فربما حسبتْني لصَّ منازلَ تائبًا؛ إذ عندما أردتُ أن أدفع لها نظيرَ الحليب وقدَّمْتُ لها جنيهًا ذهبيًّا كان أصغرَ عملة أحملها، هزَّت رأسَها وقالت لي شيئًا عن «إعطائها إلى مستحقِّيها». اعترضتُ على قولها هذا بشدة وأعتقدُ أنها صدَّقتْ أني شريف، لأنها أخذتِ المال، وأعطتني مقابلَه وشاحًا صوفيًّا اسكتلنديًّا تقليديًّا ثقيلًا وقبعة قديمة لزوجها. أرتني كيفية لفِّ الوشاح الصوفي حول كتفيَّ، وحين غادرتُ ذلك الكوخ كان مظهري يُشبه تمامًا الرجال الاسكتلنديين الذين تراهم في الرسوم المصاحبة لقصائد الشاعر برنز. إلا أنني على أي حال كنتُ ألبس ما يسترني نوعًا ما.
كان هذا مناسبًا؛ إذ حدث تغيرٌ في الطقس قُبيل الظهر وهطلتْ أمطارٌ غزيرة. عثرتُ على ملجأ تحت صخرة ناتئة عند انحناء نهرٍ صغير، حيث شكَّلتْ كومةٌ منجرفة من السرخس الذابل مرقدًا مقبولًا. تمكنتُ في هذا المكان من النوم حتى حلول الليل، واستيقظتُ وأنا أشعر بتقلُّصٍ عضليٍّ وألمٍ شديدَين؛ إذ كانت كتفي تؤلمني ألمًا حادًّا كألم الأسنان. تناولتُ كعكةَ الشوفان والجبن اللَّذَين كانت قد أعطتْهما لي الزوجةُ العجوز وبدأتُ التحركَ مجدَّدًا قبل حلول الظلام الدامس.
لا داعي لذكْر ما اختبرتُه من مآسٍ في تلك الليلة بين التلال الرطبة. لم تكن ثمة نجومٌ أسترشدُ بها، وكان لا بد لي من بذْل أقصى ما في وسعي لمعرفة الطريق مما أتذكره من الخريطة. ضللتُ طريقي مرتين، وتعرضتُ لسقطات سيئة في مستنقعات الخث. لم يكن يفصلني عن وِجهتي إلا عشرةُ أميال لو كنتُ سرتُ في خط مستقيم، لكن ما ارتكبتُه من أخطاء جعل المسافةَ تقترب من عشرين ميلًا. أكملتُ الجزء الأخير من الرحلة بعزم شديد وشعور بعدم اتزان ودوار شديدَين في رأسي. إلا أنني تمكنتُ من إكمالها، وفي الساعات الأولى من الفجر كنتُ أدقُّ على باب السيد تيرنبول. كان الضبابُ مطبقًا وكثيفًا، ولم أكن أستطيعُ رؤية الطريق العام من كوخه.
فتح السيد تيرنبول لي الباب بنفسه ولم يكن مخمورًا وكان مظهرُه يوحي بأكثر من كونه غيرَ مخمور؛ فقد كان متأنقًا يرتدي بِذْلة سوداء قديمة ولكنها كانت في حالة جيدة؛ وكان قد حلق ذقنه في وقتٍ أقصاه الليلة الماضية؛ وارتدى ياقة من الكتان، وكان يحمل في يده اليسرى إنجيلًا صغيرًا. لم يعرفْني في البداية.
سألني: «مَن أنت يا مَن تتجول هائمًا على وجهك هنا في صباح يوم العطلة؟»
لم أعُدْ أحسب الأيام على الإطلاق، إذن يوم العطلة كان السببَ في أناقته الغريبة.
كان رأسي يدور بشدة حتى إنني لم أستطِعْ صياغةَ إجابة مترابطة. إلا أنه تعرَّف عليَّ ورأى أنني مريض.
سألني: «هل معك نظارتي؟»
أخرجتُها من جيب بنطالي وأعطيتُها له.
قال: «لقد أتيتَ من أجل معطفك وصدريتك، تعالَ إلى الداخل. يا إلهي يا رجل! يبدو أن ساقَيك متعبتان، حاول أن تتمالك نفسك حتى أُحضرَ لك مقعدًا.»
أدركتُ أني كنتُ أُعاني من إحدى نوبات الملاريا؛ فقد كانت الحمى تنتشر في عظامي، وأدَّت الليلةُ الرطبة التي قضيتُها في إظهار الأعراض، بينما أدَّت إصابةُ كتفي وآثارُ الأبخرة إلى تفاقم شعوري بالإعياء. ودون أن أدريَ، كان السيد تيرنبول يُساعدني في تغيير ملابسي، ويضعني في السرير في واحدة من الغرفتين المحاذيتين لجدران المطبخ.
كان عاملُ إصلاح الطريق العجوز هذا صديقًا صدوقًا بحقٍّ؛ فقد توفَّت زوجتُه منذ عدة سنوات، وكان يعيش وحيدًا منذ زواج ابنته.
طوال ما يقرب من عشرة أيام كان يُوليني الرعايةَ الطبية التي كنتُ أحتاجُها. كلُّ ما أردته ببساطة كان أن أُتْرَك وشأني بينما تأخذُ الحمى مجراها المعتاد، وحين عادت حرارةُ جسمي إلى طبيعتها وجدتُ أن هذه النوبة أدَّت إلى شفاء كتفي بشكل أو بآخر. إلا أنها كانت نوبةً سيئة للغاية، وعلى الرغم من تمكُّني من النهوض من السرير في غضون خمسة أيام، فإنني استغرقتُ بعضَ الوقت حتى استطعتُ السيرَ على قدميَّ مرةً أخرى.
كان يخرجُ صباح كلِّ يوم، ويترك لي حليبًا يكفيني طوال اليوم، ويوصدُ الباب خلفه، ويعود في المساء ويجلس صامتًا في الزاوية بجوار المدفأة. لم يقترب أحدٌ من المكان، وحين بدأتْ حالتي تتحسن لم يُزعجْني مطلقًا بطرح أي أسئلة. أحضرَ لي عدة مرات صحيفة سكوتسمان مرَّ يومان على إصدارها، ولاحظتُ أن الانشغال بجريمة قتل بورتلاند بليس كان يبدو أنه قد تلاشى. لم يكن ثمة ذكرٌ للحادث، وكانت الأخبار في معظمها تدور حول شيء يُدعَى «الاجتماع العام» الذي، كما فهمتُ، كان نشاطًا كنسيًّا من نوعٍ ما.
في أحد الأيام أخرج حزامي من درج مغلق بإحكام، وقال: «يوجد قدرٌ هائل من الفضة فيه. يجدرُ بك أن تَعُدَّها لتتأكد أنها موجودة كلها.»
لم يحاول أبدًا معرفةَ اسمي. سألتُه عما إذا كان أحدٌ في المنطقة قد سأل عني بعد الوقت الذي أمضيتُه في إصلاح الطريق.
«أجل أتى رجلٌ في سيارة، وسألني عمن حلَّ محلي في ذاك اليوم، فأخبرتُه أنني أعتقد أنه سخيفٌ بسؤاله هذا. لكنه ظلَّ يلحُّ عليَّ، وحينها قلتُ له إنه ربما يقصد أخي الروحي من تل كليو الذي كان يُساعدني أحيانًا. كان شخصًا يبدو ويلزيًّا، ولم أستطِعْ فهمَ نصف ما يقوله بلغته الإنجليزية.»
كنتُ قد بدأتُ أشعر بالقلق في تلك الأيام الأخيرة، وقررتُ المغادرة حالما أشعر بأنني استعدتُ عافيتي. لم يحدث ذلك قبل يوم الثاني عشر من يونيو، ولحسن الحظِّ مرَّ بنا في هذا الصباح تاجرُ ماشية يأخذ بعضَ الماشية إلى بلدة موفات. كان رجلًا يُدعى هيسلوب، وكان صديقًا لتيرنبول، وقد أتى ليتناول الإفطار معنا وعرض أن يأخذني معه.
جعلتُ تيرنبول يقبل أن يأخذ خمسة جنيهات نظير إقامتي، وكم عانيتُ لأقنعَه بقبول هذا المال. لم أرَ في حياتي قط رجلًا حرًّا في تفكيره وتصرفه مثله. ازداد حدةً حين ضغطتُ عليه، واحمرَّ وجهُه خجلًا، وأخيرًا أخذ المال دون كلمة شكر واحدة. حين أخبرتُه كم أنا مَدينٌ له أصدر صوتًا أجشَّ وقال شيئًا من قبيل «ما جزاء الإحسان إلا الإحسان». قد يظنُّ المرءُ من طريقة وداعِنا أننا افترقنا ونحن نبغض بعضنا.
كان هيسلوب إنسانًا مرحًا، ظلَّ يتحدث طوال الطريق على الممر وفي وادي أنان المشمس. تحدثتُ عن أسواق جالواي وأسعار الخراف، واستقرَّ في ذهنه أني «راعي قطعان» من تلك الأنحاء وإن لم يكن يعرف تحديدًا من أين. فكما قلتُ أعطاني الوشاح والقبعة التي أرتديها مظهرًا اسكتلنديًّا مسرحيًّا. إلا أن قيادة الماشية عملٌ بَطِيءٌ للغاية، واستغرقنا معظم اليوم في قطْع اثني عشر ميلًا فقط.
لو لم يكن القلقُ يختلج في صدري لكنتُ استمتعتُ كثيرًا بذلك الوقت؛ فقد كان الطقس صحوًا والسماء زرقاء، والمشهد يتغير باستمرار بين تلال بُنِّيَّة اللون ومروج خضراء شاسعة، وصوت طيور القبرة والكروان المستمر وخرير مياه المجاري المائية المنحدرة. إلا أن ذهني لم يكن حاضرًا للاستمتاع بالصيف، ولا للتركيز في حديث هيسلوب إلا قليلًا؛ إذ مع اقتراب يوم الخامس عشر المشئوم كنتُ مثقلًا بالصعوبات الهائلة لمهمتي.
تناولتُ بعض الطعام على العشاء في حانة متواضعة في موفات، وسرتُ نحو ميلين إلى تقاطع الطريق مع خط السكة الحديدية الرئيسي. لم يكن موعدُ القطار السريع الليلي المتجه جنوبًا سيحين إلا قرب منتصف الليل، وحتى أقضيَ هذا الوقت اتجهتُ صوبَ منحدر التلِّ وغططتُ في النوم؛ إذ كنتُ متعبًا من المشي. نمتُ لوقت طويل جدًّا، وتعيَّن عليَّ أن أركض إلى محطة القطار لألحق بالقطار قبل أن يغادر بدقيقتين. منحني الملمسُ الصلبُ لوسائد الدرجة الثالثة ورائحةُ التبغ الرديء الجودة شعورًا بسعادة بالغة. على أي حال، شعرتُ الآن بأني قد بدأتُ اتخاذ خطوات فعلية تجاه تنفيذ مهمتي.
نزلتُ من القطار في مدينة كرو في الساعات الأولى من الصباح، وكان عليَّ الانتظارُ حتى الساعة السادسة لأستقلَّ القطار المتجه إلى برمينجهام. في فترة بعد الظهيرة وصلتُ إلى مدينة ريدنج، وغيَّرتُ القطار وركبتُ قطارًا محليًّا كان يمرُّ عبر أعماق بركشاير. بعد قليل وصلتُ إلى أرضٍ بها مروج مائية كثيفة، وجداول بطيئة كثيرة البوص. في نحو الساعة الثامنة مساء، نزل في محطة أرتينسويل رجلٌ متعبٌ تظهر عليه علاماتُ السفر، خليطٌ بين عامل في مزرعة وطبيب بيطري، وكان هذا الرجل هو أنا، وكان مُلقًى على ذراعي وشاحٌ صوفيٌّ من مربعات بيضاء وسوداء (إذ لم أكنْ أجرؤ أن أرتديَه جنوب الحدود). كان الكثيرُ من الناس على رصيف المحطة، واعتقدتُ أنه من الأفضل لي الانتظارُ والسؤال عن الطريق حتى أتيقن من المكان.
كان الطريق يمتدُّ عبر غابة من أشجار الزان الضخمة ثم عبر وادٍ ضحل، ولاحت من فوق الأشجار البعيدة الخلفياتُ الخضراء للتلال. بعدما تركتُ اسكتلندا بدا الهواء ثقيلًا وراكدًا، ولكن كانت تفوح منه بالتأكيد رائحةٌ حلوة؛ إذ كانت شجيرات الليمون والكستناء والليلك قبابًا مزهرة. بعد قليل وصلتُ إلى جسر، أسفله مجرًى مائيٌّ صافٍ بطيء يتدفق بين مجموعات كبياض الثلج من نبات حوذان الماء. فوقه بقليل كانت توجد طاحونةٌ؛ وكان ضارب السوط يُحدِث صوتًا عذبًا يبعث على السرور في هذا الغسق المعبَّق بالروائح العطرة. بطريقةٍ ما أشعرني المكانُ بالهدوء وجعلني أشعر بالراحة. شعرتُ برغبة في الصفير وأنا أنظر إلى الأماكن العميقة الخضراء وكان اللحن الذي تبادر إلى شفتي هو لحن أغنية آني لوري.
ظهر صيادُ سمك من الضفة، وبينما كان يقتربُ مني بدأ هو الآخر في الصفير. كان اللحن يجعل مَن يسمعه يقلِّده؛ إذ حذا الرجلُ نفسَ حذوي. كان رجلًا ضخمًا يرتدي سروالًا خفيفًا قديمًا غير مهندم، وقبعة عريضة الحافة، وتتدلَّى من كتفه حقيبةٌ قماشية. أشار لي برأسه، وفكرتُ في أنني لم أرَ قط وجهًا أكثر فطنة وأهدأ طبعًا. أسند صنارتَه الرفيعة المصنوعة من خشب الخيزران، والتي كان يبلغ طولُها عشرَ أقدام، على الجسر ونظر معي نحو الماء.
قال بلطف: «إن الماء صافٍ، أليس كذلك؟ أنا أُفضِّل دومًا نهرَ كينر على نهر تيست. انظر إلى تلك السمكة الكبيرة، إنها تكاد تزن أربعةَ أرطال على الأقل. غير أن النشاط المسائي للأسماك قد انتهى ولا يمكنك أن تغريَها بالطُّعم.»
قلت: «لا يمكنني رؤيتُها.»
«انظر! هناك! على بُعد ياردة من أعواد البوص فوق سمكة أبي شوكة بالضبط.»
«لقد رأيتُها الآن، يكاد المرء يُقسِم بأنه حجرٌ أسود.»
قال: «أجل.» وصفَّر جزءًا آخر من «آني لوري».
قال، ملتفتًا نحوي وعيناه كانتا لا تزالان مثبتتَين على النهر: «اسمك تويسدون، أليس كذلك؟»
قلت: «لا، أعني أجل، أجل.» كنت قد نسيتُ كلَّ شيء يتعلق بأسمائي المستعارة.
قال معقبًا: «إن المتآمر الحكيم هو الذي يعرف اسمَه.» وابتسم ابتسامةً واسعة وهو ينظر إلى دجاجة ماء برزتْ من ظل الجسر.
اعتدلتُ في وقفتي ونظرتُ إليه، إلى الفك المربع المشقوق والجبهة العريضة المجعدة وطيات الخد الصلبة، وبدأت أفكر في أنني وجدتُ أخيرًا حليفًا جديرًا بأن يكون إلى جانبي. بدتْ عيناه الزرقاوان الغريبتان عميقتين للغاية.
عبس وجهَه فجأةً. وقال، رافعًا صوته: «أنا أرى هذا أمرًا مخزيًا. إنه لأمرٌ مخزٍ أن يتجرَّأَ رجلٌ صحيحُ الجسد مثلك على التسول. يمكنك الحصولُ على وجبة من مطبخ منزلي، لكني لن أعطيَك مالًا.»
مرَّتْ أمامنا عربةٌ تجرُّها الكلاب، يقودها شابٌّ رفع سوطَه لتحية الصياد. حين اختفى عن الأنظار، أمسك الرجل بصنارته.
قال وهو يشير إلى بوابة بيضاء تبعد نحو مائة ياردة: «ذاك منزلي. انتظر خمس دقائق ثم لُفَّ وتعالَ إلى الباب الخلفي.» وبعد أن قال هذا انصرف وتركني.
فعلتُ كما طُلِب مني. وجدتُ كوخًا جميلًا به حديقة أمامية تمتدُّ حتى المجرى المائي، وغابة رائعة من نباتات الرباطية الدرهمية الأزهار والليلك تُحيط بالممر. كان الباب الخلفي مفتوحًا وفي انتظاري كبيرُ خدم مهيب الطلعة.
قال لي: «تفضَّل من هنا يا سيدي.» وأرشدني على طول ممرٍّ وإلى أعلى سُلَّم خلفي إلى غرفة نوم جميلة تطلُّ على النهر. وجدت في الغرفة لباسًا كاملًا متروكًا من أجلي، بكافة الملحقات؛ بِذْلة بُنِّيَّة من قماش صوفي ناعم، وقمصان وياقات، وأربطة عنق، وأدوات حلاقة، وفرشاة شعر، وحتى زوج حذاء من الجلد اللامع. قال كبيرُ الخدم: «رأى السير والتر أن أغراض السيد ريجي ستُناسبكَ يا سيدي. إنه يحتفظ ببعض الملابس هنا؛ لأنه عادةً ما يأتي في عطلات نهاية الأسبوع. يوجد حمَّامٌ في الغرفة المجاورة، وقد أعددتُه للاستحمام. سيكون العشاء جاهزًا بعد نصف ساعة يا سيدي. ستسمع حينها صوتَ الجرس.»
خرج الخادم المهيب الطلعة، وجلستُ فاغرًا فمي على مقعدٍ وثيرٍ مغطًّى بقماش قطني منقوش. كان الأمر أشبهَ بمسرحية إيمائية صامتة، أن أخرج فجأةً من عالم التسول إلى هذا العالم المريح المرتب. كان من الواضح أن السير والتر يُؤمن ببراءتي، على الرغم من عدم قدرتي على تخمين السبب في ذلك. نظرتُ إلى نفسي في المِرآة ورأيتُ إنسانًا همجيًّا منهكًا داكنَ البشرة، بذقن أشعث لم يُحْلَق منذ أسبوعين، وفي عينَيه وأذنيه ترابٌ، لا يرتدي ياقةً وقميصه غير مهندم، عليه ملابس صوفية قديمة بشعة المظهر ويلبس حذاءً طويلَ الرقبة لم يُنظَّف منذ شهر تقريبًا. أديتُ دور المتشرد على أكمل وجه وكنتُ تاجرَ ماشية لا بأس به، وها أنا الآن أجد كبيرَ خدم أنيقًا يُرشدني إلى داخل محراب الراحة الفاخرة هذا. وأفضل ما في الأمر أنهم حتى لم يكونوا يعرفون اسمي.
قررتُ ألا أُربكَ عقلي، بل أن أتقبل العطايا التي قدَّمتها الآلهة لي. حلقتُ ذقني وأخذتُ حمامًا فاخرًا، وارتديتُ الملابس الرسمية والقميص الرائع النظيف، ولم يكن المقاس مختلفًا كثيرًا عن مقاسي. وحين انتهيتُ نظرتُ في المِرآة فوجدتُ رجلًا شابًّا لا بأس بمظهره.
كان السير والتر في انتظاري في غرفة طعام هادئة الإضاءة حيث وجدتُ طاولة مستديرة صغيرة مضاءة بشموع فضية. كان مظهرُه يشعُّ احترامًا وطمأنينة وأمنًا؛ فقد كان تجسيدًا للقانون والسلطة وجميع النُّظُم التي كانت تُدهشني وتُشعرني بأني شخص يتدخل فيما لا يعنيه. كان من المستبعد أنه كان يعلم حقيقة هويتي، وإلا ما كان سيعاملني هكذا. أما أنا فلم يكن يمكنني ببساطة تقبُّل حسن ضيافته على أساس ادعاءات كاذبة.
قلت له: «أنا ممتنٌّ لك أكثر مما يسعني التعبير، لكن لزامًا عليَّ أن أوضح الأمور. أنا رجل بريء، لكني مطلوبٌ من الشرطة. لا بد لي من أن أخبرَك بهذا، ولن أتفاجأَ إن طردتني بعدها.»
ابتسم وقال: «لا بأس، لا تجعل ذلك يُفسد عليك شهيتَك. يمكننا التحدثُ في هذه الأمور بعد تناول العشاء.» لم أتناولْ وجبةً قط أفضل مذاقًا من هذه؛ إذ إنني لم أكن قد تناولتُ أيَّ شيء طوال اليوم عدا الشطائر التي حصلتُ عليها من محطة القطار. أحسن السير والتر ضيافتي؛ إذ شربنا شَمْبانيَا جيدةً وبعد ذلك نبيذًا معززًا حلو المذاق من نوع غير شائع. كاد جلوسي في هذا المكان أن يُفقدني عقلي؛ إذ كان يقوم على خدمتي خادم وكبير خدم أنيق، وأتذكر أنني عشتُ الأسابيع الثلاثة الماضية مثل الخارجين عن القانون، مُطارَد من جميع الناس. أخبرتُ السير والتر عن أسماك النمر في نهر زمبيزي التي تقضم إصبعك إذا واتتها الفرصة، وتحدَّثنا عن رياضة الصيد في جميع بقاع العالم؛ إذ كان محبًّا للصيد بعض الشيء في أيامه الخوالي.
ذهبنا إلى غرفة مكتبه لتناول القهوة، وكانت غرفةً مبهجة عامرة بالكتب والجوائز ويسودها شعورٌ بعدم الترتيب والراحة. قررتُ أني إن تخلصتُ يومًا من هذه المهمة التي أضطلعُ بها وحصلت على منزل خاص بي، فسأصنع فيه غرفة تُشبه هذه الغرفة تمامًا. وبعد أن رُفِعَت فناجين القهوة وأشعلنا السيجار، رفع مضيفي ساقَيه الطويلتين فوق مسند كرسيه وطلب مني أن أبدأ في سرْد قصتي.
قال لي: «لقد اتبعتُ تعليمات هاري، وما أغراني به لفعل هذا كان قوله إنك ستُخبرني بشيء يوقظ حواسي. كلِّي آذانٌ مصغية يا سيد هاناي.»
لاحظتُ بإجفالة أنه دعاني باسمي الحقيقي.
بدأتُ من بداية الأحداث تمامًا. أخبرتُه عن شعوري بالملل في لندن، وعن الليلة التي عدتُ فيها إلى المنزل لأجد سكادر يتحدث إليَّ أمام باب شقتي. حكيتُ له كلَّ ما أخبرني به سكادر عن كاروليدس ومؤتمر وزارة الخارجية، فجعله ذلك يضغط على شفتَيه ويبتسم.
ثم أوصلني الحديثُ إلى جريمة القتل، فعادت الجديةُ تكسو وجهَه مرةً أخرى. سمع مني كلَّ ما حدث مع بائع الحليب والوقت الذي قضيتُه في جالواي، وفكي لشيفرة مفكرة سكادر وأنا في النُّزل.
سألني بحدَّة: «أهي معك هنا؟» وتنفَّس الصعداء حين أخرجتُ المفكرة الصغيرة من جيبي.
لم أخبرْه بشيء عن محتويات المفكرة. ثم وصفتُ له لقائي بالسير هاري، والخُطب التي ألقيناها في قاعة الاجتماعات. حين سمع ذلك، ضحك ضحكًا صاخبًا.
«لقد تحدث هاري بهُراء فارغ، أليس كذلك؟ أنا متأكد من هذا. إنه أكثرُ الناس طيبة على الإطلاق، لكن عمَّه الأحمق ملأ عقلَه بأفكار خيالية. تابِع يا سيد هاناي.»
استمتعَ كثيرًا بحديثي عن اليوم الذي قضيتُه كعامل إصلاح للطريق، وجعلني أصفُ له الرجلين اللذَين كانَا يركبان السيارة وصفًا دقيقًا، وبدا أنه يبحث عنهما في ذاكرته. ابتهج مرةً أخرى حين سمع بما أصاب ذلك المغفل جوبلي.
لكنه عاد إلى جديته مرةً أخرى وهو يسمع قصةَ الرجل العجوز في المنزل المطلِّ على الأرض السَّبَخة. ومرةً أخرى كان عليَّ أن أُطلعَه على أوصافه بالتفصيل.
«عديم المشاعر وأصلع الرأس، ويُحرِّك عينيه مثل طائر … يبدو كطير بريٍّ مشئوم! وأنت فجرتَ صومعتَه، بعدما أنقذك من قبضة الشرطة. يا له من تصرف جريء!» بعد قليل وصلتُ إلى نهاية رحلاتي. نهض من مكانه ببطء، ونظر نحوي وهو واقف فوق سجادة المدفأة.
قال: «يمكنُك إبعادُ التفكير في الشرطة عن ذهنك؛ فأنت في مأمن من الوقوع في قبضة القانون.»
صحتُ قائلًا: «يا إلهي! هل قبضوا على القاتل؟»
«كلَّا، لكنهم منذ أسبوعين أسقطوا اسمَك من قائمة المشتبه بهم.»
سألتُه في ذهول: «لماذا؟»
«السببُ الأساسي أنني تلقيتُ خطابًا من سكادر؛ فقد كنتُ على معرفة بالرجل، فقد أدَّى عدة أعمال من أجلي. لقد كان يجتمع فيه الجنون والعبقرية، لكنه كان يتصف إجمالًا بالنزاهة. كانت المشكلةُ الوحيدة بشأنه هي ميلَه إلى العمل بمفرده. وذلك جعله عديمَ النفع في أي عمل مخابراتي مع الأسف؛ فقد كانت لديه مواهبُ استثنائية. في رأيي أنه كان أشجعَ إنسان في العالم؛ إذ كان يرتجف من الخوف طوال الوقت، ومع ذلك لم يمنعْه أيُّ شيء من مواصلة ما يقوم به. وصلني خطابٌ منه في الحادي والثلاثين من مايو.»
«لكنه لقيَ حتفه قبل أسبوع من هذا التاريخ.»
«لقد كتب الخطابَ وأرسله في يوم الثالث والعشرين. من الواضح أنه لم يكن يتوقع موتَه المفاجئ. عادةً ما كانت خطاباتُه تصلني بعد أسبوع من إرسالها؛ إذ كانت تُرسَل تحت ستار من السرية إلى إسبانيا ومنها إلى نيوكاسل. لقد كان مهووسًا، كما تعلم، بإخفاء آثاره.»
تمتمتُ قائلًا: «ماذا قال فيه؟»
«لا شيءَ، مجرد أنه كان في خطر، لكنه وجد ملاذًا آمنًا مع صديق جيد، وأنه سيتواصل معي قبل الخامس عشر من يونيو. لم يعطني أيَّ عنوان، لكنه قال إنه يعيش بالقرب من بورتلاند بليس. أعتقد أن هدفه كان تبرئةَ ساحتك إن حدث أيُّ شيء. حين وصلني الخطابُ ذهبتُ إلى سكوتلاند يارد، واستعرضنا تفاصيل التحقيق، واستنتجنا أنك كنتَ أنت ذلك الصديق. تحرَّينا عنك يا سيد هاناي، ووجدنا أنك إنسانٌ محترم. اعتقدتُ أنني كنتُ أعرف أن الدوافع وراء اختفائك، لم تكن فقط الشرطة، وإنما أيضًا الأيدي الأخرى، وحين وردني خطابُ هاري المكتوب بخط رديء خمنتُ باقي الأمر. كنتُ أنتظرُ حضورك في أي وقت الأسبوع الماضي.» يمكنكم تصورُ مقدار العبء الذي أزاحه هذا الكلام عن كاهلي. شعرتُ بأني إنسانٌ حرٌّ مجددًا؛ إذ أصبحتُ الآن في مواجهة أعداء بلدي فقط، وليس قانون بلدي.
قال السير والتر: «والآن دعنا نُلقي نظرة على المفكرة.»
استغرقنا ساعةً تقريبًا في قراءتها، وشرحتُ له الشيفرة، وقد استوعبها بسرعة كبيرة. صحَّح قراءتي لها في عدة نقاط، لكني كنتُ محقًّا بشأن الموجود فيها بوجه عام. اكتسى وجهُه بجدية بالغة قبل أن ينتهيَ من مطالعته للمفكرة، وجلس صامتًا لفترة.
قال أخيرًا: «أنا لا أدري ماذا نستنتجُ منها. إنه محقٌّ بشأن أمر واحد وهو ما سيحدث بعد غد. كيف، بحق الشيطان، كُشِف هذا الأمر؟ ذلك أمر بغيض في حدِّ ذاته. لكن كل هذا الكلام حول الحرب، وجماعة بلاك ستون يبدو عند قراءته كرواية ميلودرامية عنيفة. لو كان لديَّ المزيدُ من الثقة في كلام سكادر لكنتُ اقتنعتُ بالأمر. مشكلته كانت خيالَه المفرط؛ فقد كان يتمتع بحسٍّ فنيٍّ، وأراد لقصته أن تكون أفضلَ مما أراد الرب لها أن تكون. كذلك كان لديه الكثيرُ من التحيزات الغريبة. على سبيل المثال، كان اليهود يُصيبونه بالغضب؛ اليهود والأوساط المالية العليا.»
كرَّر قائلًا: «بلاك ستون.» ثم قال: «الصخرة السوداء (قالها بالألمانية)، إنها تُشبه أقصوصة رخيصة الثمن. ثم كل هذا الكلام بشأن كاروليدس. إنه أضعف جزء في القصة؛ فأنا على يقين من أن كاروليدس الفاضل هذا سيعيش على الأرجح أكثر مني ومنك. فلا توجد دولةٌ في أوروبا تريد التخلصَ منه. بالإضافة إلى أنه كان يحاول لتوِّه كسبَ وُدِّ برلين وفيينا ويُزعج رئيس وزرائنا. كلَّا! لقد حاد سكادر عن الصواب في هذا الأمر. بصراحة، يا هاناي، أنا لا أصدق ذلك الجزء من قصته. ثمة عملٌ ما سيئ يجري، وهو اكتشف أكثرَ مما ينبغي وفقد حياتَه بسبب هذا. لكني على استعداد لأن أُقسم أنه عمل تجسسيٌّ عادي؛ فثمة قوةٌ عظمى أوروبية معينة لعبتُها المفضلة هي شبكة التجسس التابعة لها، وأساليبها ليست محددةً جدًّا. وبما أنها تُعطي الأجرَ لقاء العمل بالقطعة، فمن غير المرجح أن يقف عملاؤها الأوغاد عند ارتكاب جريمة قتل أو اثنتين. إنهم يريدون معرفةَ أماكن تمركز قواتنا البحرية ليضمُّوها إلى ما لديهم من معلومات في مكتب القيادة العليا للبحرية الألمانية، إلا أن مساعيهم هذه ستذهب أدراجَ الرياح.» دخل كبيرُ الخدم في هذه اللحظة إلى الغرفة.
«يوجد اتصالٌ هاتفي خارجي من لندن يا سير والتر. إنه السيد إيث، ويريد التحدث إليك شخصيًّا.»
ذهب مضيفي للإجابة على الهاتف.
عاد بعد خمس دقائق بوجه شاحب. قال: «إنني مَدينٌ بالاعتذار إلى روح سكادر. لقد لقيَ كاروليدس حتفَه بطلق ناري هذا المساء بعد السابعة ببضع دقائق.»