والت ويتمان

بقلم المترجم

كان مولد والت ويتمان في ٣١ من مايو ١٨١٩م، في «لونج أيلاند» من ضواحي نيويورك، في فترة مهمة من التاريخ الأمريكي. كانت البلاد قد خرجت لتوها من حرب جديدة مع بريطانيا، وتشهد توسعًا وامتدادًا عظيمين لحدودها في الغرب والجنوب، تضمن «صفقة لويزيانا» التي اشترت بموجبها تلك الولاية من نابليون بونابرت حين كان ما يزال إمبراطورًا لفرنسا. وكان الانقلاب الصناعي قد ظهرت بوادره في أمريكا، وتعاونت المخترعات الحديثة مع كل ذلك في إضفاء أهمية وتسارع على الاقتصاد والثقافة والفكر والسياسة، وكل مناحي الحياة في العالم الجديد.

وكانت طفولة شاعرنا في بيئة شبه ريفية، فلم تكن لونج أيلاند بالعمران الذي هي عليه اليوم؛ بل كانت في معظمها مزارع وحقولًا منبسطة، تصل إلى المحيط الأطلسي الذي يحد المنطقة. وقد أولِعَ ويتمان منذ صباه بالتجوال في الحقول، وصيد السمك والجلوس على شاطئ المحيط يرقب نوارس البحر في طيرانها الخفَّاق. كان أبوه من سلالة إنجليزية والأم من أصل هولندي، وكلاهما من أسر المهاجرين الأوائل إلى الأرض الجديدة بحثًا عن حياة جديدة وحرية دينية أو اجتماعية وطبقية. وارتبط الشاعر بأمه، بينما كانت علاقته بأبيه متوترة على الدوام. فعلاوة على حدة طباع الأب، كان مشغولًا بنفسه وبعمله في البناء والتجارة والزراعة، وبمشاكله المالية التي زادها تقلُّب الأوضاع الاقتصادية في ذلك الوقت. ومن ناحية أخرى، توثقت العلاقة بين الصبي والت وبين أجداده لأبيه وأمه، الذين كانوا يقصُّون عليه حكايات الثورة الأمريكية وحرب التحرير، وأمجاد واشنطن وآدمز وجفرسون وغيرهم من الشخصيات الأمريكية الهامة.

وتنقلت الأسرة إلى أماكن عديدة في نيويورك تبعًا لأعمال الأب ومشروعاته في بناء البيوت وبيعها بعد ذلك، خاصة في بروكلين التي كانت منطقة واعدة بالتطور والتوسع. بيد أن عدم الاستقرار المالي اضطر الصبي والت إلى ترك الدراسة وهجر المدرسة حين كان لا يزال في الحادية عشرة من عمره، ليعمل في مكتبٍ للمحاماة كي يزيد من دخل الأسرة التي نمت احتياجاتها بمجيء العديد من الإخوة والأخوات تباعًا. وقد حظي برعاية أصحاب مكتب المحاماة الذي عمل فيه، فأحاطوه بعنايتهم وقاموا بتدريبه على الكتابة بأسلوبٍ حسن، وطوروا لغته، ودفعوا له اشتراكًا في المكتبات المتنقلة التي كانت شائعة أيامها لإعارة الكتب؛ مما مكَّنَه من قراءة الكثير من الكتب الأساسية التي بذرت في نفسه حب القراءة والكتابة، وكان من أبرز تلك الكتب ترجمة ألف ليلة وليلة، التي ذكر ويتمان فيما بعدُ أنه كان لها أبلغ الأثر في إذكاء مشاعره وخياله.

ومن ذلك الحين، وبعد أن ترك العمل في مكتب المحاماة، تنقل والت ويتمان في أعمالٍ كثيرة متنوعة، فعمل منضد حروف في الطباعة، ثم شارك في تحرير سلسلة من الصحف التي تكاثر صدورها في تلك الحقبة من الفوران السياسي والاجتماعي، وساهم فيها بمقالات اجتماعية وسياسية، وأيضًا بقصص وقصائد، وإن كانت من النوع التقليدي ويغلب عليها النزعة التعليمية، ولا تنبئ بحال عن النقلة الهائلة التي سيخطوها الشاعر بعد ذلك مع ديوانه الذي أصبح علامةً فارقة في تاريخ الشعر الأمريكي.

ومن مفارقات القدر أن هذا الشاب الذي هجر الدراسة وهو ما زال صبيًّا؛ عمل بالتدريس بعد ذلك في المدارس الريفية الأولية التي انتشرت في أطراف وضواحي نيويورك. وكان ذا نظرة مستقبلية في أسلوب تدريسه؛ إذ هجر الطرق الشائعة آنذاك في التلقين عن طريق الحفظ، ولجأ عوضًا عن ذلك إلى تدريب تلاميذه على التفكير بأنفسهم واستنباط الآراء والحلول مما يقرءونه من دروس. كما أنه كان من أوائل المعارضين للعقاب البدني في المدارس، واختار سبلًا أخرى لذلك في مجال الثواب والعقاب.

وقد بدأت آراء ويتمان تتشكَّل منذ ذلك العهد المبكر؛ فقد ترعرع في ظل أسرة تؤمن بالمبادئ الديمقراطية وحرية التفكير، والإيمان بالمثُل التي جاء بها الآباء المؤسسون للوطن الأمريكي؛ ولذلك ربط ويتمان نفسه دائمًا بأفراد الشعب، خاصة الطبقات العاملة، والطبقات الدنيا، وأصبح نصيرًا لقضايا الضعفاء والمنبوذين. وتأثر الشاعر بما كان يقصه أبوه من خسارته للأموال بسبب استغلال رجال الدين له في المضاربة على صفقات خاسرة؛ لذلك نجده قد أصبح «ربانيًّا» يؤمن بالله الذي يدبِّر شئون الكون والخلائق، ولكنه يأخذ من الأديان فضائلها الأخلاقية، وإن لم يكن بالضرورة يتعامل مع القساوسة والمؤسسات الدينية.

ومع أن هذه الفترة قد شهدت التوسع الأمريكي غربًا وجنوبًا، وانضمام ولايات جديدة مثل تكساس وكاليفورنيا ونيومكسيكو إلى الاتحاد، لم يخلُ الأمر من فترات ركودٍ اقتصادي أصاب الكثيرين، ومنهم والتر ويتمان الأب، بالعسر والإفلاس. وكانت الشخصية الثقافية والأدبية الأمريكية في سبيل التشكل؛ إذ ظهر جيمس فينمور كوبر وهرمان ملفيل وناثانييل هوثورن في المجال القصصي الإبداعي، أما الشعر فكان تقليديًّا تغلب عليه الصفة التعليمية والحماس القومي والمعالم الأخلاقية، واشتهر من الشعراء هنري وادسورث لونجفلو وجون ويتيير وأوليفر هولمز وجيمس لويل، وشِعرهم يختلف عن التجديد الشعري الذي أتى به إدجار ألان بو وإميلي ديكنسون، ثم والت ويتمان.

أما أغلب الأعمال التي مارسها والت ويتمان قبل تأليفه القصائد الأولى لديوان «أوراق العشب» فكانت في الصحافة. وقد تنقل فيما يقرب من عشرين صحيفة في الفترة من عام ١٨٣١م إلى ١٨٤٥م وكانت مساهمته إما بالاشتراك في التحرير، أو رئاسة تحرير الصحيفة، أو المشاركة بالمقالات والقصص والقصائد. وكثيرًا ما كانت صلته تنقطع في تلك الصحف نتيجة آرائه المتحررة الجريئة التي لا تتفق مع أصحاب الصحيفة، أو لكتابته مقالات تثير عليه حنق القرَّاء المحافظين التقليديين.

وفي فبراير عام ١٨٤٨م، يتاح لويتمان فرصة السفر إلى مدينة نيو أورليانز بولاية لويزيانا للعمل رئيسًا لتحرير صحيفة «الهلال» اليومية هناك. وقد رحَّب بقبول ذلك العمل الذي سيتيح له التعرف على الحياة الأمريكية في ولاية أخرى تختلف عن جو العمل والمعيشة في نيويورك. وقد استغل تلك الفرصة كي يزور في طريقه ولايات بنسلفانيا، وست فرجينيا، ميريلاند، أوهايو، كنتاكي، ميسيسبي، ثم لويزيانا. وقد عمد في أثناء الرحلة إلى تدوين خواطره وتعليقاته بشأن ما يراه من حوله في تلك الأماكن الجديدة عليه؛ عن الناس والعادات والطعام والمناظر الطبيعية والملابس وطريقة تعامل الناس هناك وأسلوب نطقهم للغة. وقد قضى في صحيفة الهلال أربعة أشهر، صحبه فيها أخوه الأصغر «جيسي» الذي عمل بوظيفة مكتبية بالصحيفة نفسها. وتتراوح أسباب ترك ويتمان العمل في تلك الصحيفة ما بين خلافاته المعتادة مع أصحاب الصحف حول ما ينشره فيها، إلى طلب أمه منه العودة بسبب مرض الأب وخوف الأم من تفشي الحمى الصفراء في نيو أورليانز وقتها. وقد كرر ويتمان زياراته لولايات جديدة في طريق العودة إلى نيويورك، فزار هو وأخوه: ميسوري، إلينوي، وسكنسون، ميتشجان، ثم ولاية نيويورك. وقد أيقظته تلك الزيارات على مدى رحابة الأمة الأمريكية واتساعها وإمكاناتها الهائلة، والتنوع الثقافي والعرقي الكبير وانصهاره في شخصية أمريكية متفردة. وقد تمثَّل إدراكه لكل ذلك في قصائده.

وواصل ويتمان بعد عودته الكتابة في الصحف، وشارك في الوقت نفسه في الأنشطة السياسية، متحالفًا مع الجماعات الليبرالية التي تدعو إلى التقدم والحرية في كل صورها، خاصةً إلغاء الرِّق وتحرير العبيد، وهو ما كان على رأس القضايا أيامها. وترجع إلى تلك الفترة جولاته العديدة في الهواء الطلق وعلى شواطئ البحيرات والأنهار وفي المناطق الخلوية المحيطة ببروكلين ولونج أيلاند وغيرهما من أحياء نيويورك وضواحيها. وقد بدأت آنذاك فكرة وضع ديوان يضم عددًا مختارًا من القصائد تختمر في ذهنه، وأخذ يبلورها على مر الوقت.

وفي هذه الأثناء، اهتم ويتمان كذلك بتيارين كانا قد شاعا في تلك الآونة؛ الأول: هو علم الفراسة Phrenology، الذي يقوم على معرفة شخصية الإنسان وقدراته العقلية من شكل جمجمته ورأسه ووجهه. وشارك ويتمان في دراسات هذا العلم وقرأ عنه، وأخضع نفسه لتحليل علمائه وتأثر بنظرياتهم. ويذكر النقاد أن ويتمان قد تبنى بعض مصطلحات هذا الاتجاه، وهي مصطلحات تصف اتجاهات عاطفية محددة، منها كلمات AMATIVENESS التي تشير إلى الحب بين الجنسين، وكلمة PHILOPROGENITIVENESS بمعنى حب الإنسانية، وكلمة ADHESIVENESS بمعنى الحب والصداقة الرجوليين. وترِد الكلمة الأخيرة كثيرًا في كتابات ويتمان وفكرته عن الصداقة والإخاء بين الرجال.
كذلك أغرم شاعرنا بعلم المصريات Egyptology وتاريخ مصر القديمة وحضارتها، وهو الموضوع الذي كان قد أصبح «صرعة» العصر في أوروبا وأمريكا في هذه الفترة التي أعقبت حل شامبليون وغيره من العلماء لطلاسم اللغة الهيروغليفية، مما مكَّن الكشف عن معلومات مُوَثَّقة عن مصر القديمة وحضارتها وثقافتها ومعتقداتها الدينية. وبالإضافة إلى الكتب التي طالعها ويتمان عن مصر الفرعونية، تعرَّف بعد ذلك إلى الدكتور هنري أبوت، الذي كان يدير ما أسماه «المتحف المصري» في وسط نيويورك. وقد كتب ويتمان عن ذلك المتحف مقالات يستبين منها مدى معرفته واطلاعه على حضارة الفراعنة. وقد تضمنت قصائد من «أوراق العشب» رموزًا عديدة وصورًا فخيمة عن الإله المصري القديم أوزوريس وقدراته في الخصب.

واستبانت حينذاك أيضًا شهية ويتمان التي لا تحدها حدود للمعرفة في كل صورها، فأخذ يطالع في فروع متعددة، بما في ذلك علم السلالات، والفلك، والجيولوجيا، وتطور العنصر البشري؛ وحضر محاضرات حول كل هذه الموضوعات. وقد تبدَّى الكثير من المعلومات التي تشرَّبَها من تلك القراءات في شعره اللاحق، خاصةً الأفكار الكونية، والكواكب والشهب، والمعلومات الجغرافية عن البلاد والشعوب في القارات المختلفة، والبحار والمدن والجبال، فأخذ يذكرها ويعددها، كما نرى في قصيدته «سلامًا أيها العالم» التي تتضمنها المجموعة التي بين يدي القارئ. وقد طالع ويتمان مؤلفات عددٍ متنوع من الكتَّاب والفلاسفة، من بينهم دانتي وشكسبير وسبينوزا وملتون وجونسون وبيرنز وسكوت وديكنز وكانط وكارلايل وكولردج وشيلي وكيتس، علاوةً على قراءاته عن الهندوسية والبوذية والطاويَّة والإسلام.

وبعد كل تلك الاستعدادات التراكمية، أصبح والت ويتمان ناضجًا لاستكشاف مهمته بوصفه شاعرًا مجددًا يعبر عن ضمير الشعب الأمريكي الرؤيوي. ومن غير المعروف الوقت أو المكان المحددان حين بدأ الشاعر يسطر القصائد التي ظهرت بعد ذلك في أول طبعة من طبعات ديوانه «أوراق العشب»، ولكن المعروف أنه قام بطبع الديوان على نفقته الخاصة، وظهر في ٤ يوليو ١٨٥٥م في بروكلين. وقد طبع الكتاب في مطبعة صديقين من أصدقائه، مما سمح له بالإشراف على عملية الطبع والمشاركة في تنضيد الحروف، وهو ما كان قد مارسه وأتقنه في أعماله السابقة. وقد صدر الديوان في حلَّة قشيبة، مُصدَّرًا بصورة له، من ألف نسخة، ويضم اثنتي عشرة قصيدة، ومقدمة ضافية عن فن الشعر. وقلب الديوان هو قصيدته الطويلة المعنونة «أغنية نفسي» المكوَّنة من ٥٢ مقطعًا، والتي تعتبر الركيزة التي صاغ فيها الشاعر أفكاره عن الإنسان والوجود والكون والعلاقات بين المخلوقات وآراءه عن وحدة الجسد والروح. وكانت هذه القصيدة هي التي اختصها خصومه بالنقد، لما تبدت فيها من صور حسية لم تكن مألوفةً في كتابات ذلك العصر، ومثَّلت نقلةً نوعية كبيرة في التأليف الشعري. ولم يقتصر تجديد ويتمان على مضمون قصائده؛ بل تعداه إلى الشكل؛ إذ ترك لقلمه وخياله العنان دون تقيُّد بالوزن والقافية، وابتدع لنفسه أسلوبًا خاصًّا به، حتى في طريقة تهجئة الكلمات وقواعد الترقيم والتكرار المقصود، والإكثار من العبارات الاعتراضية التي كان كثيرًا ما يسطرها بين قوسين في وسط القصيدة.

والقصائد الأخرى التي ضمتها الطبعة الأولى هي: «أغنية إلى المهن»، «التفكير في الزمن»، «النائمون»، «أغني الجسد الكهربائي»، «وجوه»، «أغنية المجيب»، «أوروبا»، «موَّال بوسطن»، «انطلاق صبي»، «الأساطير العظيمة».

ولم يُوَزَّع الديوان جيدًا على النحو الذي رجاه مؤلفه، وتراوحت التعليقات عليه ما بين ترحيبٍ فاتر، وهجومٍ عنيف على النبرة التحررية فيه، التي نعتها مهاجموه بالإباحية. وقد عمد ويتمان، كيما يلفت النظر إلى ديوانه، إلى كتابة ثلاث مراجعات تقريظية بنفسه، نشرها في الصحف غفلًا من الإمضاء. بيد أن أهم تشجيع قد جاء من الكاتب الشهير «رالف والدو إمرسون»؛ إذ بعث بخطاب إلى ويتمان من بوسطن حيث يقيم، يمتدح ديوانه ويهنئه على إنجازه ويتنبأ له بمستقبل واعد. وقد اشتهر من الرسالة السطور التالية: «إني أحييك في بداية مستقبل عظيم، لا بد أن يكون له أساسٌ طويل من قبلُ حتى يبدأ مثل هذه البداية. لقد فركت عيني كيما أتأكد أن شعاع الأمل ليس وهمًا، ولكني حين ألمس الكتاب بيدي أعرف أنه يقين يردني إلى الواقع.» وأعرب إمرسون في رسالته عن رغبته في مقابلة ويتمان عندما يزور نيويورك.

وقد أثَّر هذا الخطاب من الأديب والمفكِّر الكبير في ويتمان أبلغ تأثير، وكان يحتفظ به في جيبه ويعيد قراءته مرارًا. ودفعه حماسه للترويج لديوانه إلى نشر الخطاب في إحدى الصحف دون استئذان إمرسون. وبعد عام من نشر أول طبعة من «أوراق العشب» أصدر ويتمان الطبعة الثانية المزيدة عام ١٨٥٦م، أضاف لها عشرين قصيدةً جديدة. ومن هنا تبدو الخطة الفريدة التي اختطَّها ويتمان لقصائده وأشعاره الجديدة؛ إذ كان يضمها جميعًا إلى الديوان الأصلي «أوراق العشب» ويصدره في طبعات جديدة تضم كل ما سبقها، وسار على هذا المنوال حتى آخر حياته، حين أصدر آخر طبعات الديوان عام ١٨٩١م، وهي التي بين يدينا اليوم، وتربو صفحاته على الخمسمائة.

وفي طبعة عام ١٨٥٦م من الديوان، نشر ويتمان نص رسالة إمرسون إليه، والرد الذي أرسله إلى إمرسون وخاطبه فيه بعبارة «الصديق والأستاذ العزيز». ورغم ضيق إمرسون بما فعله ويتمان دون استئذانه، فقد واصل إعجابه به وبقصائده، وأوصى كل معارفه من الأدباء والمفكرين بقراءة «أوراق العشب»؛ مما أذاع صيت ويتمان في تلك الأوساط المثقفة، وقرأه زملاء إمرسون ومنهم «ثورو» المدافع عن الطبيعة ومؤلف «والدن» و«ألكوت» صاحب النظريات الحديثة في التعليم. وقد زار الاثنان ويتمان في نيويورك وكانت لهما مساجلاتٌ فكرية وأدبية معه.

وفي الفترات التي تخللت إصدار ويتمان للطبعات المختلفة لديوانه، واصل العمل في الكتابة للصحف؛ فكتب افتتاحيات ومقالات في جميع الموضوعات التي كانت مُثارةً في البلاد في ذلك الوقت، من وجهة نظر تحررية منحازة للعدل والديمقراطية. وفي عام ١٨٦٠م، أعد الطبعة الثالثة لديوانه، حيث أضاف إليها ٦٨ قصيدة جديدة ضمها إلى القصائد الاثنتين والثلاثين السابقة التي أجرى عليها تغييرات كثيرة. وتميزت القصائد الجديدة بمفهوم أعمق للحياة، وتصوير أشمل لقطاعات الحياة في المدن الأمريكية، وبيان العلاقات العاطفية مع التركيز على اصطلاحَي AMATIVENESS وADHESIVENESS اللذين سبقت الإشارة إليهما. وقد خلُص ويتمان شأنه شأن العرفاء GNOSTICS أن الخير والشر ماثلان دومًا في كل مناحي الحياة، يتصارعان في نفس كل بشر؛ ولذلك فعلى بني الإنسان أن يكونوا يقظين على الدوام للنضال ضد الشر والظلم، ونصرة الحق والحرية والديمقراطية.

وقد ضمت القصائد الجديدة مجموعتين باسم «كالاموس» و«بنو آدم»، تميَّزتا بتصويرٍ أصرح للعلاقات العاطفية والحسية بصور جديدة جريئة. وكان ويتمان ينظر إلى النشاط الجنسي بوصفه نشاطًا طبيعيًّا يشكِّل جزءًا من الحياة؛ ولذلك تغنَّى في شعره بعملية التوالد في الطبيعة والأجناس بكل صورها وأشكالها. وقد خلع ويتمان على الحب بمختلف أشكاله ومعانيه ظلًّا صوفيًّا، بلغ به مرتبةً عالية من دقة التعبير والتصوير في قصائده، عن طريق الصور البلاغية ذات الأسلوب الخاص به.

ولما كانت الطبعة الثالثة من «أوراق العشب» تُطبَع في بوسطن؛ فقد سافر ويتمان إليها، فسنحت الفرصة له أخيرًا بلقاء إمرسون، الذي كان يدعوه دائمًا بالأستاذ. وقد نصحه إمرسون بحذف مجموعتَي «كالاموس» و«بنو آدم» من الديوان، خوفًا على سمعته وحب القرَّاء له. بيد أن ويتمان لم يقبل ذلك، ولم يضر ذلك الرفض بأية حال بالعلاقة الودية التي ربطته بإمرسون. وكان ويتمان يذكر دائمًا أن أكثر ما أثَّر فيه هو الأوبرات الإيطالية التي شاهدها على مسارح نيويورك، وكتابات رالف والدو إمرسون.

وقد أثارت قصائد طبعة عام ١٨٦٠م من «أوراق العشب» ردود فعلٍ متناقضة لدى القرَّاء؛ فمنهم من أعجِب بجمالها وألوانها المتعددة وإيقاعاتها الدافقة الجياشة، وإن كانوا قد لاحظوا بشيء من الدهشة تردد نغمة الموت بين ثناياها. وقد صور ويتمان على نحوٍ لم يسبق من قبلُ الرجال والنساء العاملين في شتَّى المهن، والآلات الجديدة، ومظاهر الطبيعة، ورحابة الأرض الأمريكية الآخذة في الاتساع مع انضمام الولايات الجديدة تباعًا. وبدا كما لو أن الشاعر يريد أن يحرر نفسه من الإحساس بالذنب بالتعبير عن مشاعره الدفينة على نحوٍ انسيابي، والاعتراف بكل ما يخالجه من حنين وعواطف. وعلى الطرف الآخر، انتقد الكثيرون تلك القصائد واعتبروها غير متفقة مع الأعراف والتقاليد السائدة في تلك الفترة، بما احتوت عليه من التركيز الصريح على علاقات الحب والحس بين بني البشر. ومن المدهش أن كثيرًا من النساء دافعن عن ويتمان، واعتبرن قصائده تعبيرًا طبيعيًّا عن مظاهر الحياة العادية. وقد زاد من تفهُّم النساء لويتمان مناصرته لقضايا المرأة ومناداته بالمساواة بين الجنسين.

وفي الفترة التي تلت نشر الطبعة الثالثة من الديوان، حتى نشوب الحرب الأهلية الأمريكية بعد ذلك بعام؛ قضى ويتمان وقته في رعاية أفراد أسرته وحل المشاكل العديدة التي كانوا يلاقونها. كذلك أغرم بركوب الحافلات العامة التي كانت تعمل وقتها في وسط نيويورك، وهي مركبات عامة تجرها الخيول تقوم مقام الأتوبيسات العامة الحالية. وكان ويتمان يحب الجلوس إلى جوار السائق؛ كي يتملى من مناظر المدينة. وقد جعله ذلك يتعرف على الكثير من سائقي تلك الحافلات ويصادقهم، ويتزاور معهم ويحدب عليهم في أثناء عملهم الشاق الطويل.

بيد أن نشوب الحرب الأهلية الأمريكية قد غيَّر حياة ويتمان تمامًا بعد ذلك. وكانت أسباب الحرب تختمر منذ سنوات عديدة، بسبب مشكلة الرِّق، فكلما تأهلت ولاية جديدة للانضمام إلى الاتحاد؛ ثارت قضية السماح بالرِّق فيها من عدمه. وحينما طلبت ولايات كاليفورنيا ونيومكسيكو ويوتا الانضمام إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام ١٨٤٦م؛ ثار الخلاف بين معارضي العبودية في الشمال، ومؤيديها في الجنوب. وتم التوصل وقتها إلى ما أصبح يُعرَف باتفاق عام ١٨٥٠م، ويقضي بتحريم الرِّق في كاليفورنيا، مقابل ترك الموضوع للسلطات المحلية والسكان في الولايتين الأخريين للفصل فيه حسب ظروف كل منهما.

وتجدد الخلاف ثانيةً عام ١٨٥٤م عند انضمام ولايتي كانساس ونبراسكا، وجرى حل المشكلة على النسق نفسه؛ أي تُرِك الموضوع للولايتين لتقريره. غير أن ذلك لم يُرضِ المطالبين بإلغاء الرِّق، الذين التفُّوا حول حزب جديد هو الحزب الجمهوري، ومرشحه للرئاسة لعام ١٨٦٠م؛ إبراهام لنكولن. وأعلن زعماء الحزب أنهم لن يسمحوا بانتشار الرِّق إلى أبعد من حدوده الحالية؛ فردت ولاية كارولينا الجنوبية بأنها ستنفصل عن الاتحاد في حال انتخاب لنكولن رئيسًا. وعلى هذا، ما إن تأكد فوز لنكولن برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية؛ أعلنت كارولينا الجنوبية «أن الاتحاد القائم بين كارولينا الجنوبية وباقي الولايات تحت اسم الولايات المتحدة الأمريكية؛ قد انحل بهذا القرار.» وبعد قليل، انضمت إليها ولايات ألاباما وجورجيا وفلوريدا وميسيسبي ولويزيانا وتكساس، وأعلنوا تكوين الولايات الكونفدرالية الأمريكية، وانتخبوا السناتور جفرسون ديفيز رئيسًا.

وبدأت العمليات الحربية بين الاتحاد والانفصاليين في ١٢ أبريل ١٨٦١م، حين أطلق جيش الكونفدرالية النار على حصن سومتر في كارولينا الجنوبية الذي كان في أيدي الاتحاديين. وكان الجانبان يعتقدان أن الحرب ستكون قصيرة، خاصةً الاتحاديين في الشمال الغني بموارده ومصانعه وقواته البحرية؛ إلا أن انتصار الجنوبيين في المعارك الأولى سرعان ما بدَّد ذلك الوهم. وخاض الجانبان حربًا ضروسًا طوال أعوام أربعة، ما بين معارك طويلة غير حاسمة. وقد أقام لنكولن عددًا من قادة الجيوش لإدارة الحرب، قبل أن تظهر قدرات الجنرال يوليسس جرانت، الذي قاد جيوش الاتحاد آخر الأمر إلى النصر على غريمه الجنرالي «لي» واستسلمت قوات الانفصاليين في «أبوماتوكس» بفرجينيا في ٩ أبريل ١٨٦٥م. وفي ١٤ أبريل اغتال جون ولكس بوث الرئيس لنكولن بينما كان يشاهد عرضًا مسرحيًّا في واشنطن.

قدَّمنا هذا العرض السريع لمسار الحرب الأهلية؛ لنعرض الآن الأثر الذي تركته في نفس ويتمان ونشاطه. ذلك أنه كان من أشد دعاة إلغاء الرِّق وتحرير العبيد. وما إن بدأت الاشتباكات الحربية؛ حتى واصل كتابة مقالات في الصحف دعمًا للوحدة، وبعد ما ألمَّت الهزيمة الأولى الكبيرة بالاتحاديين؛ كتب قصيدته «دقي دقي أيتها الطبول» يستنفر فيها همم الجنود والضباط، فاشتهرت وساعدت على رفع القوى المعنوية للقوات. وفي ديسمبر قرأ ويتمان اسم أخيه جورج — وكان قد تطوَّع في جيش الاتحاد — ضمن الجرحى في بلدة قريبة من واشنطن العاصمة؛ فقرر السفر إلى هناك للبحث عنه والاطمئنان على حالته. وكان ذلك القرار هو الذي وضع الشاعر في قلب الأحداث وشهد عن قربٍ الحالة التي كان عليها الجيش، وشهد نتيجة المعارك التي تتمثل في القتلى من الجانبين، ومعاناة الجرحى في المستشفيات الطارئة التي كان معظمها في حالةٍ بدائية يفتقر إلى الأطباء والممرضين والأدوات والأدوية. وقد ألهمت تجارب ويتمان في تلك الفترة الحرجة من التاريخ الأمريكي، قصائد الحرب الأهلية، إلى جانب مراثي الرئيس لنكولن، التي تشكل كالعادة جزءًا من «أوراق العشب»، وهي التي نقدمها في هذا الكتاب.

وكانت رحلة ويتمان إلى العاصمة طويلةً وشاقة، وزاد من صعوبتها تعرضه لسرقة نقوده، مما اضطره إلى استدانة بعض المال من أحد معارفه القدامى هناك، كما ساعده ناشره «تشارلز إلدردج» — وقد أصبح موظفًا في الحكومة الاتحادية وقتها — في الحصول على تصريح لزيارة الكتيبة التي كان أخوه جورج ملتحقًا بها. وهناك خفَّف من معاناة ويتمان أن وجد أخاه في حال طيبة؛ إذ كانت إصابته خفيفة وكان يتعافى تدريجيًّا. وقد هال ويتمان ما وجده من الحالة المتردية للمستشفى الذي كان فيه أخوه، وهو ما دعاه إلى العناية أيضًا بباقي المرضى والجرحى والتخفيف عنهم ومساعدتهم في كتابة الخطابات لذويهم. ويبدو أن العمل الذي قام به قد ذاع؛ لأنه حين عاد إلى واشنطن بعد أن اطمأن على أخيه عهدوا إليه بالإشراف على قطارٍ يحمل الجرحى إلى هناك. وفي واشنطن عاود ويتمان التردد على مستشفياتها العسكرية لتفقد أحوال الجرحى من الجنود والضباط، ومد يد المساعدة إليهم. وكانت مستشفياتها أيضًا في حالة متردية من ناحية النظافة والاستعدادات الطبية، والكثير منها قد أقيم بشكل طارئ لاستيعاب الأعداد المتزايدة من ضحايا الحرب؛ فكان الكثيرون لا مكان لهم إلا الأرض نظرًا للاكتظاظ الشديد.

وحين كان الشاعر ما يزال في واشنطن نجح صديقه تشارلز إلدردج في إيجاد وظيفة كتابية له فيما يشبه وزارة المالية الآن. وقد ساعد ذلك ويتمان على الإقامة في واشنطن. ولما كانت وظيفته لا تتطلب منه سوى العمل لثلاث ساعاتٍ يوميًّا فحسب فقد اتسع أمامه الوقت للاستمرار في كتابة مقالاته وأشعاره هناك، ومواصلة زياراته للمستشفيات، كما أتاح له ذلك الدخل المنتظم إرسال مساعدات مالية للأسرة في نيويورك. ولما كان الشاعر يعيش في تقشف من ناحية احتياجاته المادية؛ فقد كان ينفق بعضًا من دخله في شراء هدايا صغيرة يقدمها للجرحى الذين يزورهم في المستشفيات، كالحلوى والتبغ ومواد الكتابة وبعض الصحف والكتب. وكان يقضي أوقاتًا طويلةً في التخفيف عنهم ومواساتهم، والقراءة لهم. وكان لشخصيته الجذابة وحديثه الطلي بصوته الفخيم أثر كبير في إشاعة التفاؤل والمرح في نفوس مَن يزورهم في المستشفيات. وكان يعتني بالجميع دون اعتبار لأي جانب ينتمون، وهذا من طبيعة ويتمان التي تنظر إلى الأفراد بصفتهم البشرية والتي لا تفرق بين إنسان وآخر حسب اللون أو المعتقد أو أي اعتبارات أخرى.

وفي يناير ١٨٦٥م، قبل نهاية الحرب بشهور، انتقل الشاعر إلى وظيفة أفضل بمرتبٍ أكبر، فقد توسط له معارفه للتعيين في وزارة الداخلية للإشراف على إدارة أراضي السكان الأصليين. وأتاح له العمل الجديد زيادة مساعداته المالية لأسرته في نيويورك، والمزيد من الهدايا لمن يزورهم من الجرحى والمرضى في المستشفيات. وقد شهد ويتمان حفل تنصيب إبراهام لنكولن بعد انتخابه لفترة رئاسية ثانية، في مارس ١٨٦٥م، ووصف الحفل ومشاعره في المقالات التي كان يكتبها للصحف، والتي جمعها بعد ذلك في كتاب نثري بعنوان «نماذج من الأيام». ومع إدراك مدى إعجاب ويتمان بالرئيس لنكولن وتقديره لشخصيته يمكن قياس مدى الصدمة التي تلقاها — مع كل مؤيدي لنكولن — من حادث اغتيال الرئيس في أبريل من العام نفسه، بعد أيام من استسلام القوات الكونفدرالية الانفصالية وانتصار الاتحاديين بقيادة لنكولن ورئيس جيشه الجنرال يوليسس جرانت. وقد حضر الشاعر جنازة لنكولن، وفاضت مشاعره عندها بقصيدته «فليخيِّم السكون على المعسكرات اليوم»، ثم كتب بعد ذلك بقليل القصائد الأخرى في رثاء الرئيس، وهي من أعذب ما كتب من قصائد دخلت إلى وجدان الشعب الأمريكي. وحتى اليوم، ما تزال قصيدته «أيها القائد، أي قائدي» تُدرَّس في المدارس ويحفظها الناس عن ظهر قلب، وقد وردت في عدد من الأفلام الأمريكية، منها الفيلم المشهور «جماعة الشعراء الموتى» الذي لقي نجاحًا كبيرًا عند عرضه.

وقد نشر ويتمان قصائد الحرب الأهلية بعنوان «دقات الطبول» عام ١٨٦٥م، من ٥٣ قصيدة، ثم نشر القصائد في الطبعة الرابعة من «أوراق العشب» مضافًا إليها قصائد مراثي إبراهام لنكولن الأربع.

وقد أضافت تجربة والت ويتمان خلال سنوات الحرب، نضجًا وعمقًا على كتاباته ومشاعره الإنسانية. فعلى الرغم من أنه لم يشترك في القتال الفعلي، إلا أنه قد زار جبهة القتال، وشاهد المقاتلين يسقطون، وساعد الجرحى في المستشفيات، وساعد في تمريضهم، وشهد المحتضرين يموتون بين يديه، وكل هذا قد تمثل في كتاباته وقصائده، وعمل على ابتعاد نبرة شعره عن الصبغة الذاتية النرجسية التي تبدت في بعض قصائده السابقة. لقد عملت الحرب وتجاربه مع وقائعها على وضعه الإنسانية والبشر جميعًا في المركز الذي كان يشغله الشاعر من قبل، وعمَّقَت تلك المشاهد الأليمة من وجود تيمة الموت في قصائده، فقد شهده وعاينه عن قربٍ كل يوم. وإن مرأى الشاعر للجرحى والقتلى والأطراف المبتورة والأجساد الملطَّخة بالدماء، ومعالجته تلك الموضوعات في كتاباته؛ جعله يتقبل فكرة الموت بوصفها جزءًا لا يتجزأ من عملية الحياة.

وفي مقابل فكرة الموت تعمقت أيضًا فكرة الحب في قصائده. فبعد أن كان الحب ذاتيًّا منعكفًا على ذاتيته، اتسع مجاله، وأصبح أكثر شمولًا؛ بل وعالميًّا ذا أبعادٍ أسطورية. ويتبدى ذلك في بعض قصائد الحرب، وفي الكثير من القصائد التي كتبها بعد ذلك عن موضوعات مختلفة. وبهذا اتخذ الشاعر وضع «المداوي» للروح والجسد، وكل الأرواح الوحيدة التي تنشد العافية والحب.

وفي تلك الفترة، كانت تلوح أمام ويتمان رؤًى بأن يصبح شاعر أمريكا القومي، وأن يحوز إعزاز قومه وحبهم، بيد أنه صحا من أحلامه تلك على صدمةٍ تلقَّاها من وزير الداخلية الجديد، وكان قسًّا سابقًا، حينما وقعت في يده نسخة من ديوان «أوراق العشب» فهاله ما جاء في قصائده وأصدر قرارًا بفصل ويتمان من عمله بالوزارة في يونيو ١٨٦٥م، ولم يخفف من وقع تلك الحادثة سوى قيام صديق ويتمان «وليام أوكونور» بالتوسط لدى مساعد النائب العام في واشنطن الذي كان من أشد المعجبين بشعر ويتمان، فعمل على تعيينه في مكتب النائب العام. وقد أعطى ذلك شيئًا من الاستقرار للشاعر، جعله يركز على إصدار الطبعة الرابعة المزيدة ﻟ «أوراق العشب» التي تضم دقات الطبول ومراثي لنكولن، بين ما ضمته من قصائد جديدة.

وفي حين ارتفعت بعض الأصوات المنتقدة لشعر ويتمان، منها الكاتبان المعروفان وليام دين هاول، والروائي المشهور هنري جيمس، وكان في مستهل حياته الأدبية آنذاك؛ فقد تصدى لها المعجبون بويتمان، ومنهم الكاتب جون بوروز، والصديق الذي تعاطف معه على الدوام وليام أوكونور، الذي كتب عنه خالعًا عليه اللقب الذي اشتهر به بعد ذلك؛ «الشاعر الأغبر الحميد»، الذي ورد في مقالة له مدح فيها ويتمان لموهبته وأمانته مع نفسه، ودافع عن حق الشاعر في الحرية الأدبية والتعبير عن ملكاته دون حذف أو رقابة من أي نوع. وكانت شهرة ويتمان قد عبرت المحيط إلى إنجلترا؛ حيث لاحظ الكاتب والناقد وليام روزيتي الطابع التجديدي في «أوراق العشب»، وأشار إلى الديوان بوصفه «أكبر عمل شعري في زماننا». وكان هو الذي أصدر قصائد ويتمان في إنجلترا، وامتدح قيمتها الأدبية والجمالية على حدٍّ سواء. وقد امتدح الشاعر الإنجليزي الشهير سوينبرن ويتمان، ووضعه في مرتبة الشاعر الصوفي الإنجليزي وليام بليك، وذلك قبل أن يفتر حماس سوينبرن لويتمان ويتهمه بالشكلية والدعائية.

وفي أواخر عام ١٨٦٥م يتعرَّف ويتمان على أحد سائقي عربات الجياد في واشنطن، هو بيتر دول، الذي أصبح من خلصائه وندمائه المقربين، ووجد فيه الصحبة التي ابتغاها دومًا. وكان يصحبه في نزهاته الطويلة في ضواحي واشنطن، ووجد الفتى فيه الرعاية والاهتمام اللذين كان يفتقدهما.

ومع تزايد الاهتمام بإنتاج والت ويتمان الأدبي، وانتشار الاعتراف به بوصفه «الشاعر الأغبر الحميد»؛ أصدر الطبعة الخامسة من ديوانه عام ١٨٧٠م، وكذلك كتاب «مشارف الديمقراطية» الذي جمع مقالاته وآراءه في الممارسة الديمقراطية في أمريكا، ويقابل فيه بين فكرته عن النزعة الفردية والنزعة الجماهيرية التي تعتمد عليها الديمقراطية، وعبَّر فيها عن رغبته في وجود «فردية ثرية مزدهرة متنوعة» باعتبارها الأساس الأقوى والأشد أخلاقيًّا للديمقراطية.

وفي ذلك العام، أخذت العلل الجسمانية التي كان الشاعر قد بدأ يشعر بها إبان زياراته للمستشفيات الحربية تتزايد عليه، من أوجاع الرأس والشعور بالدوار ونوبات الاكتئاب وسرعة إصابته بالبرد. بيد أن ذلك لم يمنعه من مواصلة أنشطته العادية والالتقاء بأصدقائه الذين كانوا يتزايدون باستمرار، والذين جعلوا حياته الوجدانية مليئةً وراضية. وفي مقابل ذلك لم تكن أحوال ويتمان المادية مُرضية، فرغم ترقيته في وظيفته إلى أعلى درجة في مستواها لم يكن مرتبه منها يزيد على مائة وخمسة وثلاثين دولارًا شهريًّا، كان يبعث منها الكثير إلى أمه وإخوته؛ بل وأحيانًا إلى صديقه بيتر دول حين كان يتعطل عن العمل.

ومع شهرة ويتمان المطردة انهالت عليه الدعوات لإلقاء محاضراتٍ وتلاوة أشعاره، منها دعوة من المعهد الأمريكي في نيويورك بمناسبة الاحتفال بافتتاح الدورة الأربعين للمعرض الصناعي القومي في سبتمبر ١٨٧١م، ورغم أنه لم يكن يُعرَف أنه كان لويتمان علاقات عاطفية؛ فقد جذب هو الكثير من النساء منهن السيدة «جولييت بيتش» التي كتبت مقالات تقرظ شخصيته وشعره، وتنبأت بأن ديوان «أوراق العشب» سيصبح في المستقبل كتاب شعر أمريكا الأمثل. وكانت هناك أيضًا السيدة «آبي برايس» وابنتها، اللتان شاركهما الاهتمام بالعلوم الروحانية وبأفكار الصوفي السويدي عمانويل سويدنبورج. أما السيدة الإنجليزية «آن جيلكرايست»، أرملة الكاتب ألكساندر جيلكرايست صاحب أشهر سيرة لحياة وعمل وليام بليك وقتها، فكانت شخصيةً أدبية وصديقة لأدباء ومفكري عصرها ومنهم روزيتي وكارلايل وسوينبرن وتنيسون. وكتبت السيدة تمدح أشعار «أوراق العشب»، ونشأت مراسلات مستمرة بينها وبين الشاعر، لم يفطن فيها ويتمان إلى العاطفة المشبوبة التي كانت تختمر في خيالها من فرط إعجابها به.

وكان عام ١٨٧٣م عامًا قاسيًّا على شاعرنا؛ إذ أصابته في مطلعه جلطة دماغية أقعدته عن الحركة. وأرجع بعض الأطباء سبب الجلطة إلى تراكم مواد سامة أو فيروسات تعرض لها في زياراته المتكررة للمستشفيات في أثناء الحرب الأهلية، بينما رأى أطباء آخرون أن سببها هو الاضطرابات الانفعالية التي كان ويتمان عرضة لها على الدوام. ولما كان مرضه ذاك قد أعجزه عن القيام بمهام وظيفته الحكومية فقد سمحوا له باستخدام شخص آخر يقوم بعمله، وكان يدفع له خمسين دولارًا شهريًّا، مما مكَّنه من الاحتفاظ بباقي مرتبه للإنفاق على نفسه وعلى أسرته. وقد شهد ذلك العام أيضًا وفاة شقيقته «مارتا» في فبراير، ثم وفاة أمه في شهر مايو. وقد تحايل ويتمان على نفسه لزيارتها قبل وفاتها بثلاثة أيامٍ حيث كانت العائلة تقيم في كامدن بنيوجرسي، وسقط بعد ذلك في وهدة المرض والاكتئاب. ولم يبدأ ويتمان في التعافي تدريجيًّا إلا في العام التالي، حيث واصل كتابة المقالات والقصائد الجديدة؛ غير أن شعره بدأ يتخذ منحًى تشاؤميًّا في كثير من الأحيان، مثل ما يتبدى في قصيدته «صلاة كولومبس»، حيث يركز فيها — لا على إنجازات كولومبس واكتشافاته —؛ بل على أيامه الأخيرة التي عانى فيها من المرض واليأس والإحباط. كذلك واصل ويتمان قراءاته السابغة، خاصةً في كتب الفلسفة التي كان يُغرَم فيها على وجه الخصوص بآراء هيغل الخاصة بالمطلق والعملية الدينامية للحياة، ونظريته في الديالكتيك التي تكشف عن النمو وتحقيق الذات للعقل والحرية. وقد أمدت فلسفة هيغل ويتمان بالأمل مُمَثَّلًا في فكرة انبثاق مجتمع جديد من فورة الحرب الأهلية التي عانت منها البلاد.

وفي عام ١٨٧٤م، ألغت الحكومة وظيفة ويتمان ضمن إجراءاتها لتخفيض الإنفاق؛ مما حرم الشاعر من أي دخل منتظم، وجعله يعتمد في معيشته — وكان قد بقي في منزل العائلة في نيو جرسي — على ما ينشره من مقالات وقصائد، وأي دخل يعود عليه من كتبه المنشورة. وخلال ذلك، أصدر ويتمان مجموعة قصائد منفصلة بعنوان «نهيران»، وبدأ في الإعداد لطبعة جديدة من «أوراق العشب».

وفي عام ١٨٧٥م، اتخذت المراسلات الجارية بينه وبين المعجبة الإنجليزية مسز جيلكرايست منحًى جديدًا؛ إذ كانت تملأ خيالها بإمكانية الزواج من الشاعر والإقامة معه لرعايته، برغم أن ويتمان كان أبعد ما يكون عن التفكير في مثل هذه الخطط. وفشلت محاولات الشاعر في إثنائها عن السفر من إنجلترا إلى أمريكا مع بناتها الثلاث للالتقاء به. ولحسن الحظ، ما إن اطَّلَعت مسز جيلكرايست على حالة ويتمان الصحية وأوضاعه المعيشية؛ حتى أدركت استحالة وجود أي علاقة جسدية بينهما. وبدلًا من ذلك، قامت بينهما صداقة وطيدة، فكانا يلتقيان ويتناقشان في الأمور الأدبية، ويحدثها ويتمان عن روائيته المفضَّلة، الفرنسية جورج صاند، ويلقي من الذاكرة مقطوعات عديدة من مسرحيات شكسبير وقصائد تنيسون وقصائده هو نفسه، مما كان يمتع السيدة الإنجليزية وبناتها.

وما إن تعافى ويتمان بعض الشيء من الشلل الذي أصابه وأصبح قادرًا على المشي بمساعدة العصا مع بعض العرج الخفيف، حتى ذهب إلى مزرعة أحد أصدقائه في ريف نيوجرسي، ومكث هناك فترات طويلة يسعد بصحبة صديقه وعائلته. وكان يطوف في أرجاء المزارع والبساتين في تلك المنطقة، وينهج نهج روسو وثورو في دراسة ما يصادفه من نبات وحيوان وطير في أطوارها المختلفة دراسة فاحصٍ مُدقِّق. وقد أضاف ويتمان ما كان يكتب من ملاحظات عما رآه في تلك الفترة في كتابه «نماذج من الأيام». وساعد جو الريف النقي وجولات ويتمان المنتظمة على عودة ماء الحياة إلى شرايينه وقاربت قواه عهدها السابق مما خفف إلى حدٍّ كبير من آثار الجلطة التي أصابته.

وساعد تقدم ويتمان الصحي على استعادته نشاطه السابق وزادت قدرته على الحركة؛ فزار نيويورك لإلقاء بعض المحاضرات هناك، خاصةً عن الرئيس لنكولن. وفي خريف عام ١٨٧٩م تحققت إحدى أمانيه بزيارة الغرب الأمريكي؛ إذ جرت دعوته كضيف شرفٍ وشاعر زائر إلى مهرجان ثقافي في ولاية كانساس، وشارك فيه بالمحاضرة وإلقاء القصائد وإجراء المقابلات الأدبية. وزار بعدها ولاية ميسوري لزيارة أخيه جيف وعائلته هناك، ثم مدينة دنفر، فوادي الميسيسبي؛ ثم قفل عائدًا بالقطار في رحلة طويلة إلى كامدن بنيوجرسي. ورغم المشقة التي لاقاها في رحلته، فقد غمرته البهجة مما رآه واطلع عليه من مناحي طبيعة بلاده: تكوين الصخر، الأشجار، الصبَّار، العشب والحشائش بكل أنواعها وألوانها، رعاة البقر، وحتى الأسماء الغريبة للمدن والقرى التي زارها. وأتبع ذلك في يونيو ١٨٨٠م برحلة إلى صديقه الدكتور «ريتشارد باك» في أنتوريو بكندا، ورحل معه لزيارة المدن الكندية الرئيسة والبحيرات المشهورة هناك. وكان ويتمان يدوِّن ملاحظاته في أثناء الرحلة لمقالات مقبلة، بينما كان الدكتور باك يفعل الشيء نفسه لدراسته النقدية عن والت ويتمان، التي صدرت في عام ١٨٨٣م.

وفي وسط هذه الفترة من النشاط والإبداع الهادئ، نزلت بويتمان محنة جديدة. كانت الطبعة الجديدة من «أوراق العشب» الصادرة في بوسطن عام ١٨٨١م تلقى رواجًا حسنًا ومراجعات إيجابية، حين أخطر النائب العام للمدينة الناشر بأن قصائد ويتمان محظور نشرها. بعد أن سبق تصنيفها بوصفها أدبًا إباحيًّا، وطلب إجراء حذوفات كثيرة إذا كان للحظر أن يُرفع. ولم يكن ويتمان يرضى إلا بتغييرات بسيطة لا تمس جوهر القصائد؛ لذلك رفض طلبات النائب العام، التي كان منها ضرورة حذف قصائد بأكملها، منها قصيدتا «ثمة امرأة في انتظاري» و«أغنية إلى بغي عادية»؛ لذلك بقي الحظر مفروضًا على الكتاب، ولذلك انتقلت حقوق نشر كتب ويتمان إلى ناشرين آخرين في فيلادلفيا. وهب صديق ويتمان أوكونور مرة أخرى لمساعدته، برغم اختلافاتهما الشديدة في ذلك الوقت حول الكثير من الآراء والمعتقدات، خاصةً حق الانتخاب للمرأة؛ فقد فسر أوكونور حظر بوسطن لديوان «أوراق العشب» بوصفه تعديًّا على حرية الصحافة، وأثار ذلك في الصحف؛ مما أثار العتب على ناشري بوسطن لعدم لجوئهم إلى القضاء لرفع الحظر عن الكتاب. وقد سعد ويتمان بذلك الهجوم على الرقابة الأدبية، فقد كان دومًا عدوًّا لأي قيدٍ يُوضَع على التعبير والإبداع في كل المجالات.

وتواصلت شهرة ويتمان في إنجلترا، وسعى الكثير من أدبائها وفنانيها إلى الالتقاء به عند زيارتهم لأمريكا. ومن بين من سعوا إليه الكاتب الشهير أوسكار وايلد، الذي زاره وترك في نفسه أثرًا بالغًا. وقد تبادل الأديبان النقاش العميق حول النظريات الجمالية لوايلد، التي كان ويتمان يختلف معه في بعضها، ولكنه عبَّر عن إعجابه بوايلد وقال عنه: «لقد بدا في نظري كصبي عظيم كبير فخيم. إنه مريح، منطلق، رجولي، ولا أفهم لماذا يكتبون عنه تلك الأمور التي تسخر من حياته.»

وحين قرر أخو ويتمان جورج وزوجته «لو» الانتقال من كامدن بنيوجرسي، وكان ويتمان يعيش معهما منذ وفاة الأم عام ١٨٧٣م، عزم ويتمان على شراء منزل خاص به في كامدن، وحين عثر على منزل مناسب، اشتراه عام ١٨٨٤م. ورغم أن المنزل كان قديمًا وفي حاجة إلى إصلاحات كثيرة، كانت له ميزة القرب من محطة القطارات، ومن عربات النقل العامة التي كان يمكن أن تحمل الشاعر إلى «المعديات» العابرة إلى مانهاتن. ولم يتغير أسلوب معيشة ويتمان في بيته الجديد في شارع «ميكل»؛ ذلك أن احتياجاته كانت قليلة، وتطوَّعت أرملة عطوف، اسمها مسز ديفيز، بأن تصبح مدبرة منزله.

وواصل المعجبون بالشاعر وأصدقاؤه زيارته في منزله الجديد، ومع إدراكهم قلة الموارد المالية التي يعتمد عليها، كانوا يمدونه من حين لآخر بما يمكنه من سداد نفقات معيشته على نحوٍ مناسب، ومن بين الشخصيات التي ساهمت في المساعدة وليام روزيتي، ومسز جيلكرايست، وهنري جيمس، وروبرت لويس ستيفنسون، وهافلوك إليس، وكثير غيرهم. وتسابق المصورون على رسم صورته، ومنهم ج. و. ألكساندر وتوماس إيكنز.

وفي تلك الفترة، جدد ويتمان صلته بهوراس تروبل، الذي كان قد تعرف عليه حين كان تروبل ما يزال في الخامسة عشرة من عمره. وقد نشأت صداقة عميقة بين الشاعر وتروبل الذي كان يعمل آنذاك في أحد المصارف، وأصبح من ألصق الناس بويتمان، وسيكون له دور في الكتابة عنه ونشر كتبه اللاحقة. وقد أصبح يلازم الشاعر على الدوام، ويسجل على الورق كل أقوال ويتمان وخطراته، ونصوص المحادثات التي تجري بينهما، وهو ما شكَّل في خاتمة المطاف كتاب تروبل ذا الخمسة مجلدات المعَنوَن «مع والت ويتمان في كامدن».

وحين رأى أصدقاء ويتمان صعوبته المتزايدة في المشي اقترحوا أن يكتتب محبو الشاعر لشراء عربة يجرها حصان وأهدوها له ليستخدمها في تنقلاته، وساهم في ذلك الاكتتاب أدباء معروفون منهم مارك توين والشاعر ويتيير. وقد ابتهج ويتمان بتلك الهدية التي أتاحت له حرية التنقل بسهولة، وكان يسعد بأن يقودها بنفسه طوال السنوات الثلاث التالية حتى عام ١٨٨٨م، حين تعيَّن عليه التوقف عن تلك الرحلات ولزم منزله مع ممرض يعتني به. وكان هوراس تروبل هو الذي ساعد ويتمان على نشر آخر طبعة من «أوراق العشب» عام ١٨٩١م، وهي التي تعتبر أكمل طبعة، كما ساعده على إكمال كتاب آخر يجمع بين النثر والشعر بعنوان «أغصان نوفمبر»، الذي عرض ويتمان في مقدمته آراءه في النظرية الجمالية، واستعرض ما استهدفه من وضع قصائده والأسباب التي هجر لأجلها الموضوعات التقليدية، وقارن بين أفكاره عن نظرية الشعر وأفكار أدباء القرن التاسع عشر الآخرين. ومن بين ما ذكره: «إني أعتبر «أوراق العشب» والنظرية التي يقدمها؛ شيئًا تجريبيًّا، على النحو نفسه الذي أعتبر فيه جمهوريتنا الأمريكية تجربة فريدة في النظرية التي تقدمها، إن «أوراق العشب» هي نتاج طبيعتي الانفعالية وصفاتي الشخصية الأخرى، وهي محاولة من أولها لآخرها لوضع «شخص»، «إنسان» (هو أنا، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، من أمريكا) على السجل، بكامل الحرية والشمول والصدق.»

وجاءت النهاية في ٢٦ مارس ١٨٩٢م، بعد إصابة الشاعر بالحمى وانسداد في رئته اليمنى. وتوافد الآلاف على المنزل لإلقاء نظرة أخيرة على جثمانه. وفي الجنازة، جرت تلاوة نصوص من كونفوشيوس، وبوذا، والكتاب المقدس، والقرآن الكريم.

لقد نجح ويتمان في تغيير مسار الشعر الأمريكي والشعر العالمي.

المراجع

  • Bloom, Harold, edited by: Walt Whitman, Modern Critical Views, Chelsea House Publishers, 1985.
  • Kaplan, Justine: Walt Whitman, a life, Simon and Schuster, New York, 1980.
  • Knapp, Bettina L.: Walt Whitman, Continuum, New York, 1993.
  • Loving, Jerome: Walt Whitman, University of California Press, 1999.
  • Reynolds, David S.: Walt Whitman-s America, Alfred A. Knopf, New York, 1995.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤