أوراق العشب
ذكرى الرئيس لنكولن
١
حين أزهرت أشجار اللَّيلك حديثًا في أفنية البيوت،
وأرخى النجم الكبير سدوله ليلًا غربي السماء؛
غَمَرني الحزن،
وسيغمرني دومًا مع كل عودةٍ للربيع.
آهٍ أيها الربيع الذي تَعُود دائمًا.
إنك ستجلب لي معك ثلاثة أشياءٍ:
أزهار اللَّيلك اليانعة،
والنجم المنسدل في الغرب،
وذكرى ذاك الذي أحببت.
٢
آهٍ أيها النجم الغربي الشامخ الذي هوى!
آهٍ يا ظلال الليل، أيها الليل المتقلب الدامع!
آهٍ لك أيها النجم العظيم الذي اختَفى،
وآهٍ لك أيتها الظلمة الحالكة التي تُخفي النجم،
آهٍ أيتها الأيدي القاسية التي تنتزع مني قواي،
آهٍ يا رُوحي العاجزة!
وآهٍ لك أيتها السحب القاسية،
التي تحيط بي من كل جانب،
ولا تجد رُوحي منها فكاكًا.
٣
في البستان الأمامي لبيتٍ ريفي قديم،
بالقرب من السور الذي يغشاه البياضُ؛
تَقوم شجرة اللَّيلك سامقة،
أوراقها على شكل القلب،
خضراء داهنة،
ذات براعم مدببةٍ غزيرة،
تقوم نافحةً عطرَها الذي أحبه،
كل ورقةٍ تحمل في طياتِها معجزة،
ومن هذه الشجيرة في الفناء الأمامي،
ذات البراعم الموشاة بالألوان الشاحبة،
والأوراق الخضراء المدهانة على شكل القلب؛
أكسر لي غصنًا يحمل زهرة.
٤
وفي مسارب الغَدير الخفية،
ثمة عصفورٌ خجول خفي،
يغرِّد منشدًا،
وحيدًا منفردًا ذلك الطائر،
كالناسِك المتعبد،
وحيدًا منعكفًا على نفسه،
يتحاشى الناس،
ينشد أغنيةً لنفسه،
أُغنية الحَلق الذي يدمى،
أُغنية الحياة النابعة من الموت.
إني أعلم تمامًا يا أخي العزيز،
أنك إن لم تُنشد وتُغني؛
تَمُت حتمًا.
٥
على صدر الربيع،
على الأرض،
في قلب المدن،
وسط الدروب والغابات العتيقة،
حيث انبجست الأقاحي حديثًا من الأرض،
ناظرًا إلى الأنقاض الرمادية،
وسط الحشائش في الحقول
المنتشرة على جانبَي الدروب،
عابرًا الحشائش التي ليس لها نهاية،
عابرًا أعواد القمح ذات الذرى الصفراء،
وكل حبةٍ منها تَبرز من كفنِها
في الحقول البنية الغبراء،
عابرًا شجرة التفاح،
ذات الأزهار البيضاء والوردية؛
يسير نعشٌ بالليل وبالنهار،
يحمل جسدًا إلى مرقِده الأخير.
٦
نعش يمر وسط الطرقات والدروب،
بالنهار وبالليل،
بينما السحابة السوداء تغطي الأرض،
وجلال الرايات الحَزانى،
والمدائن متشحة بالسواد،
مع منظر الولايات نفسها،
إذ تقف النساء بنقابٍ أسود على وجوههن،
مع مواكب لا نهاية لها تتعرَّج،
مع شعلات الليل،
مع المشاعل العديدة التي تتوهج،
مع البحر الصامت للوجوه والرءوس العارية،
مع اللحد فاغر الفاه، والنعش إذ يَصِل،
والوجوه الحزينة،
مع المراثي خلال الليل،
مع آلاف الأصوات،
تهتف عاليًا في حزن،
مع كل أصوات المراثي الحزينة من حول النعش،
الكنائس ذات الأضواء الخافتة،
والأُرغُن الراجف،
وأنت حيث ترحل وسط كل هذا،
مع صليل الأجراس التي تقرع وتقرع وتقرع،
هنا،
أيها النعش الذي يمر في بطء،
أعطيك غصني الصغير المكلَّل بزهرة الليلك.
٧
ليس لك،
ليس لك وحدك،
سأجلب البراعِم والأغصان الخضراء،
للنعوش كلها،
فإني أود أن أترنم لك،
إذ أنا منتعش كالصباح الباكر،
بأغنية،
أنت أيها الموت الحكيم المقدس.
باقات ورود في كل الأنحاء،
أيها الموت،
إني أغطيك بورودٍ وزنابق باكرة،
ولكن قبل أي شيء،
أغطيك الآن بالليلك الذي نبت مبكرًا،
وأكسر من الشجيرة أغصانًا وفيرة،
وآتي بحملي بين ذراعي،
وأصبُّه إليك،
لك وللنعوش كلها أيها الموت.
٨
آهٍ أيها النجم الغربي السابح في السماء،
الآن أعرف ما كنت تقصد،
حينما كنت أتريض منذ شهرٍ مضى،
حين مررت بي في صمت الليل،
ليل الظلال الشفافة،
حين علمت أنك تريد أن تُسِر لي شيئًا،
ذلك أنك انحنيت علي،
ليلة وراء ليلة،
حين هويت من السماء هابطًا،
كأنما تود البقاء إلى جواري،
بينما الكواكب كلها ترقب ما تفعل.
وطفقنا نجول معًا في الليل الرَّصين،
فقد امتنع النوم عني لا أدري لِمَه،
وقطع الليل شوطًا،
ورأيت على حافة الغرب
كيف كان الحزن يغمرني،
وإذ أنا أقف على ربوة
تلفُّها النسمات في الليلة الشفافة الباردة،
وأنا أرقبك تمر،
ثم تختفي في غياهب الليل المدلَهِمَّة،
وروحي هبطت إلى القاع
مُتعَبةً غير راضية،
مثلك أيها النجم الحزين،
وأُنهِكَت
ساقطةً في الليل،
وضاعت.
٩
غنِّ هناك فوق المستنقعات،
أيها المغني الحنون الحيي،
إني أسمع ألحانك،
أسمع نداءك،
أسمع وأهرع على الفور،
فأنا أفهمك،
بيد أني أتمهل لحظة،
فقد حجزني النجم المضيء اللامع،
ذلك الكوكب،
رفيقي السابح،
يحجزني، يمنعني.
١٠
أواه!
كيف لي أنا أن أصدح وأن أغرِّد،
من أجل ذلك الميت الذي أحب؟
وكيف لي أن أوشِّي أغنيتي،
من أجل تلك الروح العظيمة التي رحلت؟
وماذا سيكون عطري
الذي أرشه على قبر من أحب؟
أيتها الرياح البحرية،
التي تهب من الشرق إلى الغرب،
التي تهب من بحر الشرق ومن بحر الغرب،
كيما تلتقي هنا جميعًا،
على البراري،
بك، وبأنفاس نشيدي،
سوف أعَطِّر قبر من أحب.
١١
أوَّاه،
أي شيء أعلِّق على جدران الحجرة؟
وأي صور سوف أعلق على الجدران،
كيما أزين ضريح ذاك الذي أحبه؟
صور الربيع إذ يتنامى،
صور ضيعات وبيوت،
صورة أمسية أبريلية عند مغرب الشمس،
والدخان الرمادي يصَّاعد مشرقًا وضاحًا،
مع فيوض من النضار الأصفر،
آتية من الشمس الغاربة الواهنة الرائعة،
تحرق الهواء الممتد،
مع الحشائش العذبة الطازجة تحت الأقدام،
وأوراق الشجر وافرة خضراء شاحبة.
وعلى البعد،
الغمام الدافق،
وصدر النهر،
ودفعة ريح بين حينٍ وحين،
مع تلالٍ متدرجة على الشطآن،
وخطوط عديدة على صفحة السماء،
وظلال،
والمدينة في متناول اليد،
تزدحم بالمساكن والمداخن،
وكل مسارح الحياة،
الورش، والعمال عائدين إلى بيوتهم.
١٢
انظر،
هذا البلد، جسد وروح.
مانهاتن، مكاني،
بأبراجها المدَبَّبة،
والمد الزاخر المتلألئ،
والسفائن،
البلد الرحب المتنوع،
الجنوب والشمال يغمرها النور،
شطآن أوهايو وميسوري الباهرة،
وعلى الدوام،
البراري المترامية الأطراف،
تغطيها الحشائش وأعواد الذرة.
انظر،
أبدع الشموس،
هادئة، شامخة،
والصباح البنفسجي الأرجواني،
متشحًا بالنسمات الحانية،
والنور الرخو اللامتناهي
الذي وُلِد ولادةً حلوة،
والمعجزة التي تمتد وتتطاول،
وتعم الجميع،
والظهيرة التي اكتملت،
والمساء الذي ينسدل في لطف،
مُرحِّبًا بالليل وبالنجوم،
تلتمع فوق مدائني،
طاويةً الإنسان والأرض.
١٣
غنِّ، وواصل الغناء،
أيها الطائر البني الأغبر،
غنِّ فوق المستنقعات وفي المنعطفات،
واصبُب شدوك على الشجيرات،
دونما حدود،
في الغسق،
فوق أشجار الأرز والصنوبر.
واصِل الغناء يا أخي العزيز،
زقزِق أغنيتك المزمارية،
أغنيتك الإنسانية السامية،
بصوتٍ يتَّشح بأعمق الأحزان.
آهٍ لهذه الأغنية السلسالة الحرة الحنون!
آهٍ لهذه الأغنية البرية المنفتحة على روحي،
آهٍ لك أيها المغني الرائع!
ما أسمع إلا إياك،
مع أن النجمة تشدني إليها،
فهي سترحل عن قريب،
ومع أن الليلك يشدني إليه،
بعبيره الفاغم المسيطر.
١٤
والآن،
إذ أجلس أحدِّق فيما أمامي،
عند نهاية النهار،
بنوره الخافت،
وحقول الربيع،
والفلاحون يجهزون محصولهم
في امتداد أمَّتي الرحيب اللاواعي،
ببحيراتها وغاباتها
في جمالها الهوائي الفردوسي
(بعد أن تنزاح الرياح الكدرة والعواصف)،
تحت أقواس السموات،
للأصيل الذي يسرع في مروره،
وأصوات الأطفال والنساء،
ومد المياه تتحرك في كل اتجاه،
وأنا أرقب السفن وهي تُبحر،
إذ الصيف يدنو بكل ثرائه،
والحقول مشغولة بفلاحيها،
والبيوت المستقلة عن بعضها البعض،
كل منها يمضي قدمًا،
كل منها بطعامه وأعماله اليومية الصغيرة،
والطرقات،
بنبضاتها النابضة،
ونسيج المدن،
أراها، هنا وهناك،
إذ ظهرت هذه السحابة،
ظهر هذا الأثر الأسود الطويل،
تسقط عليها كلها،
وفي وسطها كلها،
تغمرني مع الجميع،
وعرفت آنذاك ما هو الموت،
وفكرة الموت،
ويقين الموت المقدس.
وعند ذاك،
ومع يقين الموت يسير إلى جواري من ناحية،
وفكرة الموت تسير إلى جواري من الناحية الأخرى،
وأنا في الوسط؛ بين رفقتي،
وكأني أمسك بأيدي رفاقي،
هرعت إلى الليل الخفي الغامض
الذي لا يتكلم،
ونحو شطآن المياه،
عبر الممشى المجاور للمستنقع، في الظلمة،
نحو أشجار الأرز الباسقة الظليلة،
والصنوبرات الشجية الساكنة.
•••
والمغنِّي،
الذي يخجل من الآخرين،
تلقَّاني بالترحاب،
ذلك الطائر البني الأغبر الذي أعرفه،
تلقَّاني مع رفيقي،
وأنشد ترنيمة الموت،
وسطرًا من الشعر،
لذلك الذي أحب.
•••
ومن الثنايا العميقة المنعزلة،
من أشجار الأرز العاطرة،
والصنوبريات الشجية الساكنة،
انبعثت ترنيمة الطائر.
واستغرقتني الترنيمة الساحرة،
إذ بقيت إلى جوار رفيقي في الليل،
كأنما شدَّتني أيديهم الممتدة،
وصاحبت صوت روحي أغنية الطائر.
تعالَ أيها الموت الجميل الملطف،
متعرجًا من حول العالم،
وحل في هدوء وسكينة،
حل بالنهار، بالليل،
للكل، لكل فرد،
عاجلًا أو آجلًا، أيها الموت اللطيف،
حمدًا للكون الذي لا يسبر له غور،
للحياة والبهجة،
ومن أجل كل شيء،
ومن أجل المعرفة،
وكلها عجيب،
ومن أجل الحب،
الحب العذب،
ولكن،
حمدًا، حمدًا، حمدًا،
لذراعَي الموت،
يحيطان بالمرء في ثقة،
ويلفانه في برود.
أيتها الأم التي تنزلق دومًا
بأقدام رهيفة،
ألم ينشد لك أحد مرحبًا بقدومك؟
إني إذن أنشد مرحبًا بك،
إني أمجدك فوق كل شيء،
إني أنشد لك أهزوجة،
كيما لا تتردد حين تحين ساعة حضورك.
•••
اقترب أيها المحرر القوي،
سوف أغني للموتى في حبور،
حين تحين ساعة حصدك إياهم،
إذ هم تائهون في محيطك الغامر الودود،
مغمورون في طوفان سعادتك،
أيها الموت.
أهديك ألحانًا ليليةً سعيدة،
أنظم رقصات من أجلك،
كيما أحييك،
أعلِّق الزينات وأقيم الاحتفالات،
لك،
على واجهةٍ مناسبة تمامًا،
من مناظر الطبيعة والسماء المرفوعة في الأعالي،
والحياة والحقول،
والليل العريض الغارق في الفكر.
الليل الصامت تحت النجوم العديدة،
وشاطئ المحيط،
والموجة الهامسة المبحوحة،
التي أعرف صوتها جيدًا،
والروح إذ تستدير تجاهك،
أيها الموت الرحيب المنقب،
والجسد ينسل ممتنًّا إلى جوارك.
•••
وفوق ذُرى الأشجار،
أرسل لك أغنيةً طافية في الهواء،
عبر الموجات التي تعلو وتهبط،
عبر آلاف الحقول،
والبراري الفسيحة،
عبر كل المدائن المكتظة،
وأرصفة الميناء والطرقات،
أرسل لك هذه الأغنية،
تطفو فوق الهواء،
بكل بهجة وحبور،
إليك أيها الموت.
١٥
والطائر البني الأغبر،
يواصل تغريده العالي القوي،
على نغمات روحي،
بألحانٍ صافية ذات مغزى،
تنتشر فتفعم الليل إلى حافته،
وعندها انفتح بصري،
بعد أن كان حبيسًا في عيني،
كأنما انفتحت أمامه،
مجالات ضخمة من الرؤى.
•••
ورأيت من طرف عيني
الجيوش،
رأيت، فيما بين أحلام صامتة،
مئات من رايات الحرب،
محمولةً عبر دخان المعارك،
تخترقها القذائف،
رأيتها أنا،
تنتقل من طرفٍ إلى آخر،
عبر الدخان،
مقطعةً، مُلطَّخة بالدم،
ولم يبق منها آخر الأمر،
سوى قطع ممزوقة على عصيانها،
وكل ذلك في صمتٍ رهيب،
والعصي مكسورة مُفَتَّتة.
رأيت جثث المعارك،
آلافًا منها،
والهياكل العظمية البيضاء
للشباب الغض.
رأيت ذلك،
رأيت أنقاضًا وأنقاضًا من جنود الحرب القتلى،
ولكني وجدتهم ليس على العهد بهم،
وجدتهم في راحةٍ تامة كاملة،
لا يقاسون شيئًا،
بينما بقي الأحياء يقاسون،
الأم تتألم،
والزوجة والطفل والرفيق المتفكر يتألمون،
والجيوش الباقية تتألم.
١٦
أترك ورائي الرؤى،
أترك ورائي الليل،
أترك ورائي أيدي رفاقي الممدودة،
أترك ورائي غناء الطائر المتنسِّك،
وغناء روحي التي تغني معه،
أغنية الانتصار،
أغنية تنبعث من الموت،
ولكنها تتغير وتتبدل على الدوام،
خافتة حزينة،
ولكنها ذات ألحان واضحة،
وتعلو وتنخفض،
تملأ الليل العريض،
تغوص وتخفت في حزن،
كأنها تُحذِّر وتُحذِّر،
بيد أنها تنبعث ثانيةً في بهجة،
تغطي الأرض وتملأ رحابة السماء،
مثل ذلك المزمور القوي الذي سمعته ذات ليلة
منبعثًا من أركانٍ دفينة خفية.
أتركك ورائي يا شجرة الليلك،
ذات الأوراق على شكل القلب،
أتركك هناك في فناء البيت،
مزهرة،
تعودين دومًا مع الربيع.
أتوقف عن أغنيتي من أجلك،
أتوقف عن حملقتي فيك في الغرب،
باتجاه الغرب.
أتوقف عن مناجاتك،
أيها الرفيق ذو الوجه الفضي
الذي يلمع ويتلألأ في الليل.
ولكن،
ليحتفظ الكل وكل واحد،
بما أنقذناه من الليل،
الأغنية،
والنشيد الرائع للطائر البني الأغبر،
والأغنية التوقيعية،
التي ردَّدت صداها في روحي.
لنحتفظ بالنجم المذنَّب المتلألئ،
ذي الوجه المفعَم بالألم،
والشهود الذين أمسكو بيدي،
إذ نحن نقترب من نشيد الطائر،
رفاقي، وأنا وسطهم،
وذكرياتهم الباقية على الدوام،
للميت الذي أحببته فائق الحب،
لأعذَب روح وأحكمها،
عرفتها أيامي وأوطاني،
وكل هذا من أجل ذكراه الحبيبة،
الليلك والنجم والطائر،
يلتحمون بأنشودة روحي،
هناك وسط أشجار الصنوبر العبقة،
وأشجار الأرز الجهمة العتماء.
١٨٦٥-١٨٦٦، ١٨٨١م
أيها القائد، أي قائدي
أيها القائد، أي قائدي،
ها قد انتهت رحلتنا المخيفة.
لقد تفادت السفينة كل الصخور،
وها قد حُزنا ما كنَّا ننشد من هدف.
لقد دنا المرفأ،
وأسمع الأجراس تدق،
والناس في فرحٍ طاغٍ،
وأعينهم ترقب قاع السفينة،
تشق العباب في ثبات،
إذ السفينة جهماء حزينة.
ولكن،
أوَّاه يا قلبي، يا قلبي، يا قلبي،
أوَّاه لك أيتها الدماء المراقة،
حين يرقد قائدي على سطح السفينة،
جثة باردة حزينة.
•••
أيها القائد، أي قائدي،
قُم وانهض كي تسمع رنين الأجراس،
قُم،
فالراية قد ارتفعت من أجلك،
وأبواق النصر تصدح لك،
ولك كل هذه الأكاليل والأزاهير،
ولك ازدحمت الشواطئ بالناس،
وهم ينادونك،
الجماهير المتماوجة،
ووجوهها تنشد مرآك،
آهٍ أيها القائد، يا أبتي العزيز،
هذي ذراعي تُوسِّد رأسك،
ما هو إلا حلم يتراءى على سطح السَّفين،
فقد سقطت جثةً باردة ميتة.
•••
قائدي لا يرد،
شفتاه شاحبتان ساكنتان،
أبي لا يشعر بذراعي،
فليس فيه نبضٌ ولا حياة،
وها قد رست السفينة سالمة،
وقد أنجزت مهمتها،
وصلت السفينة المنتصرة من رحلتها المرعبة،
وعلى متنها هدفها المنشود،
فلتمرحي يا شطآن،
ولتصدحي يا أجراس،
أما أنا،
فسوف أسير على سطح السفينة،
بخطواتٍ حزينة،
حيث يرقد قائدي،
جثةً باردة ميتة.
فليخيم الصمت على المعسكرات اليوم
(٤ مايو ١٨٦٥م)
فليخيِّم الصمت على المعسكرات اليوم.
وأنتم أيها الجنود،
فلنغطِّ أسلحتنا التي أنهكتها المعارك،
ولينزوِ كل واحد بروحه المتفكرة،
كيما نُحْيي ذكرى موت قائدنا العزيز.
لقد انتهت بالنسبة إليه
صراعات الحياة العاصفة،
والفوز والهزيمة،
ليس هناك بعد أحداث الزمن الكالحة
التي تهجم عبر السماء،
كالسحب المتعاقبة،
ولكن،
فلتغنِّ أيها الشاعر باسمنا،
غنِّ عن الحب الذي نُكِن له،
لأنك أنت الذي تقطن المعسكرات،
تعرفه حق المعرفة،
وإذ هم ينزلون النعش إلى باطن الأرض،
غنِّ،
إذ هم يغلقون أبواب الأرض عليه،
غنِّ سطرًا من الشعر،
من أجل قلوب الجنود
التي أثقلها الحزن.
١٨٦٥–١٨٧١م
هذا التراب كان يومًا ما الرجل
هذا التراب كان يومًا ما الرجل،
الحنون، الصادق، العادل والحازم
الذي، بيديه الحريصتين،
أنقذ وحدة هذه الولايات،
في وجه أشد الجرائم دنسًا،
في التاريخ المعروف،
في أي مكان وزمان.
١٨٧١م
دقات الطبول
قصائد الحرب الأهلية الأمريكية
في البدء،
قبل كل شيء،
أُنشد بخفةٍ على المسامع المنبسطة،
عن فخر مدينتي وبهجتها،
كيف قادت المدن الأخرى نحو السلاح،
كيف أعطت الإشارة،
كيف قفزت منتصبة،
على الفور،
دون تردد وبأطراف نشيطة.
آهٍ يا مانهاتن السامية،
يا مدينتي التي لا تضارعها مدينة!
أنت
التي تزيدها ساعة الخطر والأزمات
قوةً على قوة،
أنت
أصدق أنباءً من الصلب!
كيف نهضت مسرعةً
تنفضين عن كاهلك ثياب السلام،
بيدٍ لا مبالية.
كيف تغيرت موسيقى الأوبرا الناعمة،
وصدحت بدلًا منها الطبول والمزامير،
كيف قدت الطريق إلى الحرب،
وأصبحت أناشيد الجنود فاتحتنا،
كيف قادت الطريق
دقات طبول مانهاتن.
•••
لقد شاهدت طوال أربعين عامًا
استعراضات الجنود في مدينتي،
أربعون عامًا من الاستعراضات السلمية،
إلى أن قامت سيدة هذه المدينة الناشطة المضطرمة،
يقظانة وسط سفائنها وبيوتها،
وثروتها التي لا تُعَد ولا تُحصى،
يحيط بها مليون من أبنائها،
فجأةً،
وسط الليل الصموت،
بعد وصول الأنباء من الجنوب،
قامت بضرب الأرض بقبضتها،
في عنف وغضب.
ضربة كهربية،
زادها الليل قوةً وعنفًا،
إلى أن اندفقت خليتنا بطنين النذير،
آلافًا متعددة،
عند بزوغ النهار.
•••
وعندها،
من البيوت ومن الورش،
وعبر كل الأبواب،
قفز الرجال في ضجيجٍ وعجيج،
وهاك كل مانهاتن تعج بالسلاح،
على دقات الطبول،
على أهبة الاستعداد،
يصطف الشباب حاملين السلاح،
ويتسلح الصنايعية
(المسطرين، المسحاج، قادوم الحداد،
مُلقاةً على عجل)،
المحامي يترك مكتبه ويحمل السلاح،
والقاضي يترك المحكمة،
والسائق يترك مركبته في الطريق،
يقفز هابطًا،
ويدع أعنَّة الجياد تسقط فوق ظهورها،
البائع يترك متجره،
المدير، كاتب الحسابات، البواب،
الكل يسيرون،
وتتجمع الكتائب في كل مكان،
باتفاقٍ عام،
ويتسلح أفرادها،
والمجندون الجدد،
وحتى الأولاد،
ويعلمهم الكبار كيف يحملون العتاد،
ويعقدون الرباط في حرص،
يتسلحون في الخارج،
يتسلحون في الداخل،
وتلتمع خزائن البنادق،
وتتجمع الخيام البيضاء في المعسكرات،
وحولها الحراس المسلحون،
والمدفع ينطلق في الفجر،
وأيضًا عند مغرب الشمس،
وتصل فرق مُسلَّحة كل يوم،
يعبرون المدينة،
ويعسكرون في الميناء.
كم هم باهرون إذ يعبرون النهر،
يغمرهم العرق،
وبنادقهم على أكتافهم!
كم أحبهم!
كم أود أن أعانقهم،
بوجوههم السمراء،
وثيابهم ومخلاتهم يعلوها التراب،
دماء المدينة تغلي وتفور،
إلى السلاح! إلى السلاح!
الصيحات تتعالى في كل مكان،
والرايات تخفق على أسطح الكنائس،
وعلى كل البنايات العامة والمحلات،
الوداع المفعَم بالدموع،
الأم تقبِّل ابنها،
والابن يقبِّل أمه،
الفراق موجع للأم،
ولكنها لا تنبس بكلمة تُثنيه عن عزمه.
الصحبة الصاخبة،
وصفوف الشرطة تتقدم الجموع،
مفسحة لهم الطريق،
حماس بلا حدود ولا قيود،
والهتافات الصاخبة للجموع،
تحيي أبطالها.
•••
والمدفعية،
بمدافعها الصامتة،
تتوهج كالنضار،
إذ يجرُّونها تهدر على الصخور
(مدافع صامتة،
بيد أنها ستقطع حبل الصمت ذاك سريعًا،
وستطلق سراحها،
كيما تبدأ عملها الأحمر الناري)،
وكل همهمات الاستعدادات،
وكل التسلح ذي العزم،
وخدمات المستشفيات،
والشاش، والضمادات، والأدوية،
والنسوة يتطوعن للعمل ممرضات،
والعمل يمضي قُدمًا في جدية وعزم،
لم يعد وقت الاستعراض؛
بل الحرب!
قوم مُدجَّجُون بالسلاح،
يتقدمون
مرحبين بالمعركة،
لا مجال للتراجع،
الحرب!
فلتكن أسابيع أو شهورًا أو سنين،
قوم مُدجَّجُون بالسلاح،
مرحبين بها.
•••
إلى الأمام يا مانهاتن،
فأنت تستحقين أن يغني لك الناس،
أهلًا ومرحبًا
بحياة المعسكرات الرجولية.
•••
والمدفعية الهادرة،
ذات البنادق الوامضة وميض الذهب،
عمل من أعمال العمالقة،
ممن يجيدون استعمال السلاح،
أطلقوا النيران،
لا كما في الماضي للتحية والترحيب؛
بل عمِّروا المدفعية،
بما هو أكثر من البارود واللباد.
وأنتِ:
يا سيدة السفائن؛
أي مانهاتن،
يا سيدة هذه المدينة الفخورة الودود الهادرة،
يا مَن كانت يعمرها الشجن في وقت السلم،
أو عاقدة الحاجب عابسة وسط أبنائها:
ابتسمي اليوم،
وامزحي وابتهجي؛
أي مانهاتن العتيقة.
ألف وثمانمائة وواحد وستون
أيها العام المدَجَّج بالسلاح؛
أي عام النضال،
إني لا أدبج أشعارًا فخيمة،
ولا ترنيمات غزل وحب،
باسمك أيها العام الرهيب.
لست أنت بالشاعر الشاحب،
تجلس أمام مكتبك،
وتطارد مترددًا،
الإيقاعات المنطفئة؛
بل أنت رجل قوي منتصب الهامة،
تشتمل ثيابًا زرقًا،
وتتقدم حاملًا البندقية على كتفك،
قوي عضلات الجسد،
قد لوَّحت الشمس وجهك وجسمك،
وقد زرعت خنجرًا في جانب زنارك،
وإذ أسمعك تصيح عاليًا،
وصوتك الجهوري يدوِّي عبر القارة،
صوتك الرجولي، أيها العام،
يبدو مصاعدًا وسط المدن العظيمة،
رأيتك وسط رجال مانهاتن،
واحدًا من العاملين،
من ساكني مانهاتن،
ورأيتك أيضًا تعبر بخطوات واسعة،
براري إلينوي وإنديانا،
وتعبر الغرب سريعًا بخطوات مطَّاطيَّة،
وتتقدم عن طريق جبال «الليغاني»،
أو من بحيرات بنسلفانيا العظمى،
أو مبحرًا في نهر أوهايو،
أو جنوبًا عبر نهري تينيسي وكمبرلاند،
أو من شاتانوجا،
على ذُرى الجبل،
لقد رأيتك تسير،
ورأيت جسدك مفتول العضلات،
يغطيه القماش الأزرق.
كنت مُدجَّجًا بالسلاح،
أيها العام القوي،
سمعت صوتك العازم،
ينطلق مدوِّيًّا مرَّات ومرَّات،
أيها العام الذي انطلقت منشدًا،
عبر فوَّهات المدافع،
ذات الشفاه المستديرة،
إني أتمثلك مرة أخرى أيها العام،
مهرعًا، صادمًا، حزينًا، مُشوَّشًا.
دقي، دقي، أيتها الطبول
دقي، دقي، أيتها الطبول!
واصدح، اصدح، أيها النفير!
عبر النوافذ — عبر الأبواب —
تنفجرون كالقوة الدامغة،
إلى الكنيسة الوقور،
وتفرقون الجموع،
وإلى المدرسة حيث يدرس الدارسون،
ولا تتركوا العريس راقدًا،
فليس الوقت وقت سعادة مع عروسه،
ولا تتركوا الفلاح هادئًا،
يحرث حقله أو يجمع غلته؛
بل اعصفي بقوة،
ودقي أيتها الطبول،
واصدح أيها النفير.
•••
دقي، دقي، أيتها الطبول،
واصدح يا نفير!
فوق زحام المدن،
فوق ضجيج عجلات العربات في الطرق،
هل الأسرة مُعدَّة للنوم في البيوت؟
يجب ألا ينام أحد في هذه البيوت،
لا يساوم مساوم،
لا سماسرة ولا مضاربون،
أيمكنهم المضي في أعمالهم؟
هل يمضي المتحدثون في أحاديثهم؟
هل يعمد المغنون إلى الغناء؟
هل يقوم المحامي مدافعًا عن قضية أمام القاضي؟
إذن،
فلتقرعي سريعًا،
أيتها الطبول الرهيبة،
ولتصدح عاليًا أيها النفير.
١٨٦٧م
خارجًا من بومانوك أطير كالعصفور
خارجًا من بومانوك، أطير كالعصفور،
أحوم وأحوم محلِّقًا،
كيما أغني جوهر كل شيء،
أتَّجِه شمالًا،
كي أغني هناك أناشيد قطبية،
إلى كندا،
حتى أتشرَّب كندا كلها في داخلي،
ثم إلى ميتشجان،
وإلى وسكنسون وآيوا ومينيسوتا،
كيما أتغنَّى بأناشيدها
التي لا يمكن أن يقلدها أحد،
ثم إلى أوهايو وإنديانا،
كيما أتغنى بأناشيدهما،
وإلى ميسوري وكانساس وأركنسو،
كيما أتغنى بأناشيدها،
وإلى تينيسي وكنتاكي،
والكاروليناتين، وجورجيا،
كيما أتغنى بأناشيدها،
وإلى تكساس،
وأتجه إلى كاليفورنيا،
حيث أتجوَّل،
والكل يرحب بي، كيما أغني في المقام الأول،
على إيقاع دقات الطبول إذا لزم الأمر،
الفكرة الشاملة: عن العالم الغربي،
متوحدًا لا يتفرق،
وكذلك أغني أنشودة كل ولاية من هذه الولايات.
١٨٦٥-١٨٥٧م
أغنية الراية عند انبلاج الصبح
آه، أغنية جديدة،
أغنية حرة،
ترفرف، ترفرف، ترفرف، ترفرف،
بأصوات وأصداء أكثر وضوحًا،
بصوت الرياح وصوت الطبول،
بصوت الراية وصوت الأطفال،
وصوت البحر وصوت الآباء،
خفيضًا على الأرض، عاليًا في الهواء،
على الأرض حيث يقف الابن والأب،
وعاليًا في الهواء حيث تتطلع أعينهم،
وحيث ترفرف الراية خفاقة عند انبلاج الصبح،
كلمات!
كتب تزخر بالكلمات.
مَن أنتَ؟
كفى كلامًا ولتسمعوا وتروا،
هاكم أغنيتي أطلقها في الهواء الطلق،
وحتمًا علي أن أغني،
بينما الرايات والأعلام المثلثة تخفق وترفرف.
سوف أنسج الحبال وأعقدها معًا،
سوف أعقد رغبة الرجل ورغبة الطفل معًا،
وسوف أنفخ فيها الحياة،
سوف أشحذ نصل السونكي الوهاج،
سوف أجعل الرصاص والخردل يئز،
سأكون كمَن يرفع رمزًا ووعيدًا في وجه المستقبل،
وأصيح بصوت هادر: استيقظوا واحذروا،
احذروا واستيقظوا.
سوف أصب الشعر بخيوط من دماء،
مليئًا بالعزم، مليئًا بالبهجة،
ثم أطلقه حُرًّا بعد ذلك،
كيما يتقدم ويشعل المنافسة،
بينما الراية والعَلَم يخفقان.
العَلم المثلث
اصعد،
تعالَ هنا أيها الشاعر، أيها الشاعر،
اصعد،
تعالَ هنا أيها الروح، أيها الروح،
اصعد،
تعالَ هنا أيها الطفل الصغير،
كيما تطيرون معي في السحاب والرياح،
وتلعبون مع الضوء الذي لا تحده حدود.
الطفل
أبي،
ما هذا الذي في السماء يشير لي،
ويهز إصبعه الكبير نحوي؟
وماذا يقول لي كل هذا الوقت؟
الأب
أي صغيري،
أنت لا ترى أي شيء في السماء،
وهو لا يقول لك أي شيء على الإطلاق.
ولكن،
انظر أي صغيري،
انظر إلى تلك الأشياء المدهشة في البيوت،
وانظر كيف تفتح محلات النقود أبوابها،
وانظر كيف تتجهز العربات،
كيما تزحف عبر الطرقات مُحمَّلة بالبضائع.
آهٍ لهذه، آهٍ لها،
كم هي محبوبة يشقى الجميع من أجلها،
وكيف ينظر إليها أهل الأرض قاطبةً بحسد.
الشاعر
الشمس تصعد عاليًا،
طازجة وردية،
وعلى البعد الأزرق يطفو البحر،
جاريًا في قنواته،
وتهب الريح فوق صدر البحر،
طافيةً تجاه الأرض،
والريح الغربية أو الجنوبية الغربية،
هائلة مستمرة دومًا،
تطفو بخفة إلى جوار زَبَد المياه،
بيضاء كالحليب.
بيد أنني لست البحر،
ولا أنا الشمس الحمراء،
أنا لست الرياح التي تضحك كالفتيات الصغيرات،
لست الرياح الرحيبة التي تبعث القوة،
ولا الرياح التي تسوِّط،
أنا لست الروح الذي يسوِّط جسده دومًا،
إلى حدود الرعب والموت؛
بل أنا ذاك الذي يأتي خفيًّا،
لأغني، وأغني، وأغني
الذي يتمتم في الغدائر،
ويطوف رذاذًا على الأرض،
أنا الذي تعرفه الطيور في الغابات،
صباحًا ومساءً،
والذي تعرفه رمال الشاطئ والموجات السادرة،
يرفرف هناك عاليًا خفَّاقًا.
الطفل
آه، أي أبي، إنه حي،
إنه ممتلئ بالخلق،
لديه أطفال،
يبدو لي الآن أنه يتحدث مع أولاده،
إني أسمعه — إنه يُحدِّثني —
آه، كم هو رائع!
إنه يتمدد؛ إنه ينتشر ويجري بسرعة خاطفة،
آهٍ يا أبتاه،
إنه عريض جدًّا ويغطي السماء كلها.
الأب
اسكت،
اسكت يا طفلي المجنون،
إن ما تقوله يغمرني بالأسى؛
بل إنه يسوءني،
أقول لك مرة أخرى:
انظر مع الباقين،
لا تنظر إلى الرايات والأعلام تخفق عاليًا؛
بل انظر إلى الأرصفة جيدة الإعداد،
وارقب البيوت ذات الجدران الصلدة.
الراية والعَلَم الثلاثي
تحدَّث إلى الطفل،
يا شاعر مانهاتن،
إلى كل أطفالنا،
في شمال مانهاتن وجنوبها،
ركِّز على هذا اليوم واترك غيره،
لنا قبل أي أحد آخر،
حتى ولو لم نعرف السبب،
فعلى كل حال: ما نحن؟
ما نحن سوى شرائط قماش،
لا نفع فيها،
إلا حينما ترفرف في مهب الرياح.
الشاعر
إني أرى وأسمع فيكم،
ما هو أكثر من شرائط من قماش،
أسمع خطوات الجيوش،
أسمع دوريات الحراسة تتحدى،
أسمع صيحات الحبور من ملايين الرجال،
أسمع الحرية!
أسمع الطبول تُدق والأبواق تصدح،
وأنا نفسي أنطلق،
أرتفع في خفة،
وأحلِّق طائرًا على الفور،
أستعمل جناحي الطائر الأرضي،
وأستعمل جناحي الطائر البحري،
حتى أنظر من علٍ إلى أسفل.
لا أنكر نتائج السلام الثمينة،
وأرى مدنًا عامرةً بالسكان،
ذات ثروات لا تُعَد ولا تُحصى،
أرى مزارع لا عدد لها،
وأرى المزارعين يفلحون أرضهم،
أو يعتنون بصوامع غلالهم،
أرى الصنَّاع يعملون،
أرى المباني تُشيَّد في كل مكان،
تعلو وتعلو،
أرى قوافل من القطارات،
تسير مهرعة فوق قضبانها،
تجرها القاطرات،
أرى المحلات،
والمخازن في بوسطن وبالتيمور وتشارلستون ونيو أورليانز،
وأرى بعيدًا هناك في الغرب
المناطق الشاسعة مزروعة بالحبوب،
وأبقى هناك محلقًا حينًا،
وأعبر فوق غابات الأخشاب في الشمال،
وثانية نحو مزارع الجنوب،
وثانية إلى كاليفورنيا،
محتويًا كل شيء،
أرى النفع العميم،
التجمعات المنهمكة في العمل،
الأجور المكتسبة،
أرى الهوية،
تتشكل عبر ثمانٍ وثلاثين ولاية رحيبة سامية
(وما سيأتي بعدها من ولايات)،
أرى قلاعًا على الشطآن،
أرى سفنًا تقلع وترسو،
وأرى فوق كل شيء،
أجل أجل،
عَلَمي الثلاثي الصغير المتطاول،
على شكل الحُسام المهنَّد،
يخفق عاليًا،
معلنًا الحرب والتحدي،
وقد رفعته الحبال إلى الذرى،
إلى جوار رايتي العريضة الزرقاء،
رايتي ذات النجوم،
تنشر السلم فوق البحار وفوق الأرض.
الراية والعَلَم الثلاثي
أنشد أغانيك أيها الشاعر،
بصوتٍ أعلى وأقوى وأشد،
واجعلها تشق مدارًا أرحب وأبعد،
كي لا ينظر إلينا أولادنا،
بمعيار الثروة والسلم وحسب،
فبوسعنا أن نكون رعبًا ومجازر كما نحن الآن،
لسنا الآن أي واحدة من تلك الولايات الرحيبة السامية
(ولا خمس ولا عشر ولايات)،
لسنا سوقًا تجارية،
ولا مستودع معادن،
ولا مصرفًا ماليًّا في المدينة؛
بل نحن كل ذاك مجتمعًا،
والأرض السمراء الرحيبة،
بما تحتها من مناجم غنية،
ونحن شطآن البحر،
ونحن الأنهار، كبيرها وصغيرها،
والحقول التي ترويها،
ونحن أيضًا المحاصيل والثمار،
الخلجان والقنوات،
ونحن السفائن التي تبحر وتصل إلى موانيها،
ونحن نهيمن على كل شيء،
على المنطقة الممتدة إلى أسفل،
على الثلاثة أو الأربعة ملايين من الأميال المربعة،
والعواصم،
والأربعين مليونًا من الأنفس.
آهٍ أيها الشاعر،
سموًا في الحياة وفي الموت،
نحن، حتى نحن،
نتسع منذ الآن وننبسط،
مهيمنين هناك عاليًا،
ليس في الوقت الحاضر فحسب؛
بل لألف سنة،
نُنشد عن طريقك،
هذه الأغنية،
من أجل روح طفلٍ مسكين.
الطفل
آهٍ يا أبي،
لا أحب البيوت،
إنها لم تمثل قط شيئًا بالنسبة إلي،
كما أني لا أحب المال.
كل ما أبغي هو الصعود هناك إلى أعلى،
آهٍ يا أبي الحبيب،
إني أحب هذه الراية،
أريد أن أكون هذا العَلَم الثلاثي،
وسأكونه.
الأب
أي بني:
إنك تغمرني بالحزن،
لو أنك أصبحت هذا العَلَم الثلاثي،
فسيكون أمرًا مريعًا،
إنك لا تدرك أي يوم نحن فيه،
ولن تعرف مستقبل الأيام أبدًا.
لن يجلب هذا سوى المخاطرة،
وتحدي كل الأشياء.
إلى الأمام،
نقف أمام الحروب،
وآهٍ لها تلك الحروب،
ما لك أنت والحروب؟
بما فيها من آلام شيطانية،
ومذابح وموت قبل الأوان؟
الراية
إذن فأنا أغني للشياطين وللموت،
أنا سأتدبر في كل شيء،
نعم، كل شيء،
أنا العَلَم الثلاثي،
على شكل السيف المهنَّد،
وبهجة جديدة نشوانة،
وحنين الطفولة المِهذارة،
ممزوجة بصوت الأرض المسالمة،
وارتطام أمواج البحر،
والسفن السوداء تجاهد في البحر،
يحوطها الدخان،
والبدر المثلوج للشمال البعيد البعيد،
يمور بحفيف أشجار الأرز والصنوبر،
وطنين الطبول،
وصوت الجنود يغذون الخُطى،
والشمس الحارقة تبرد في الجنوب،
وموجات البحر تصل إلى الشاطئ العطش،
في ساحلي الشرقي،
والشيء نفسه يحدث في ساحلي الغربي،
وفي كل المناطق بين هذين الساحلين،
ونهري — المسيسيبي —
الجاري دومًا بمنحنياته وشلالاته،
وحقولي في إلينوي،
وحقولي في كانساس،
وحقولي في ميسوري،
القارة كلها،
تكرس الهوية كلها،
دون أن تترك ذرةً واحدة،
تدفقوا!
اغمروا ذاك الذي ينهال بالأسئلة،
وذاك الذي يغني،
مع الجميع، وكل ما ينتج الجميع،
ادمجوا الجميع، وادعموهم، واطلبوهم، واغمروهم،
لا بالكلام المعسول بعد،
ولا بالموسيقى العذبة؛
بل بالخروج من ظلمة الليل إلى الأبد،
لن يكون صوتنا بعد مقنعًا؛
بل ناعقًا كصوت الغربان في مهب الرياح.
الشاعر
أعضائي وعروقي تتطاول،
واتضحت غاياتي آخر الأمر.
أيتها الراية التي تنبجس في غبشة الليل،
إني أغنيك شامخًا عازمًا،
أتفجَّر بعد أن انتظرت طويلًا،
وقتًا طويلًا،
أعمى وأصم.
يعود لي سمعي ولساني
(علمني طفل صغير كيف أفعل ذلك)،
وأسمع من علٍ،
أيها العَلَم الثلاثي المحارب،
دعوتُك وطلبَك الساخرين؛
أحمق، أحمق،
بيد أني أغني لك رغم كل شيء أيها العَلَم!
لستم حقًّا بيوت سلام،
ولا تمثلون رخاء تلك البيوت ورفاهها،
ولو دعت الحاجة،
فستأخذون كل بيت من هذه البيوت لتدمروه تدميرًا.
إنك لم تفكر من قبل في تدمير تلك البيوت الثمينة،
شامخة، قائمة، مليئة بوسائل الراحة،
بَنَتها الأموال.
فلتبقَ شامخةً إذن؟
لا،
ولا حتى ساعة واحدة،
إلا إذا شمختم أنتم فوقها أعلى من كل شيء.
أيها العَلَم،
إنك لست المال الثمين،
ولست أنت نتاج المزارع والضياع،
ولا الغذاء المادي،
ولا المحلات الفاخرة،
ولا البضائع التي تفرغها السفائن على الأرصفة،
ولا السفن الباهرة
التي تحركها الأشرعة أو البخار،
والتي تبحر بحثًا عن حمولة أو تذهب لتفريغها،
ولا الماكينات، والعربات، والتجارة، والمكوس،
إنما أنت،
سوف أراك دائمًا كما أراك الآن،
تجري سريعًا منبثقًا من الليل،
وتأتي بمجموعة نجماتك،
نجمات تزداد حجمًا باستمرار،
تفرق الفجر من الليل،
أنت تقطع الهواء،
تلمسك الشمس،
تقيس السموات،
حيث يتطلع لها طفلٌ مسكين،
مبهورًا بمنظرها،
بينما الآخرون منهمكون في أشغالهم،
أو يتحدثون بمهارة،
ينصحون بالاقتصاد، الاقتصاد.
آهٍ لك أنت في الأعالي،
أيها العَلَم،
هناك حيث تتماوج،
كالثعبان يفح فحًّا غريبًا،
بعيدًا عن التناول،
مجرد فكرة،
ولكن من أجله يحارب الكل بضراوة،
ويُعرِّضون أنفسهم للموت،
الموت الذي أحبه،
أحبك غاية الحب أيها العَلَم،
يا مَن تضيء لنا طريق النهار،
بنجومٍ وُلِدَت خلال الليل!
إنك لا تُقدَّر بثمن،
العيون كلها عليك،
وأنت تسمق عاليًا،
تطلب كل شيء،
المالك المطلق لكل شيء،
أيتها الراية وأيها العَلَم!
وأنا أيضًا أترك البقية،
فهي لا شيء على عِظَم قدرها،
البيوت والآلات لا شيء،
إني لا أبصرها،
لا أبصر سواك،
أيها العَلَم الحربي،
أيها العلم العريض،
ذو الخطوط،
إني أغني لك فحسب،
ترفرف عاليًا وسط الرياح.
١٨٦١-١٨٦٢–١٨٨١م
ابزغي أيتها الأيام من أعماقك التي لا يُسبَر لها غور
١
ابزغي أيتها الأيام من أعماقك التي لا يُسبَر لها غور،
إلى أن تغمري الجميع،
بأكثر قوة وعنف،
لقد التهمت ما أعطتنيه الأرض
في نهمٍ شديد،
بروحي النهمة الرياضية.
طالما هِمت في غابات الشمال،
طالما راقبت شلالات نياجرا تنثال،
لقد عبرت البراري ونمت على صدورها،
وعبرت صحاري نيفادا،
وعبرت الهضاب،
وتسلقت ذُرى الصخور،
التي تشاطئ المحيط الهادئ،
وطلعت إلى البحر،
أبحرت في وسط العواصف، وأنعشتني تلك العواصف،
وراقبت في بهجةٍ أثداء الموجات المنذرة،
ولحظت ذراها البيضاء،
حين تعلو هادرةً ملتوية،
سمعت الرياح تصفر،
ورأيت السحائب السود،
رأيت أدنى ما يعلو وما يرتفع
(رائعًا، وحشيًّا كقلبي، وقويًّا)،
سمعت الرعد المستمر،
وهو يهدر بعد البرق،
ولحظت خيوط البرق الخفيفة المدَبَّبة،
فجائية سريعة وسط الطنين،
يطارد أحدها الآخر في وسط السماء،
رأيت هذه الأشياء، ومثيلاتها
في دهشة وانتشاء،
وإنما بتأمل واحتواء.
لقد انتصبت قوة الأرض العاتية حولي،
بيد أني وروحي قد اغتذينا منها،
اغتذينا الرضا والاستخفاف.
٢
كان ذلك حسنًا يا روحي،
لقد أعددتني فأحسنت إعدادي،
والآن، فلنتقدم،
كيما نُشبع نهمنا الباطن العريض،
فلنذهب الآن كيما نتلقى ما لم تعطِه لنا الأرض والبحر قط.
لن نخترق الغابات الشاسعة؛
بل مدنًا أكثر رحابة،
ثمة شيء ينهمر من أجلنا الآن،
أشد من انهمارات شلالات نياجرا،
سيول من رجال.
أأنتم لا ينضب لكم معين؟
يا ينابيع الغرب الشمالي وغدائره؟
ماذا كانت عواصف الجبال والبحار تلك
بالنسبة إلى الطرقات والبيوت؟
ما هي بالنسبة إلى العواصف التي أراها تضطرم من حولي؟
هل فار البحر؟
أكانت الرياح تصفر أنشودة الموت تحت السحب السوداء؟
انظر! من أعماق لا يمكن سبر غورها،
شيء مميت ووحشي،
تنهض مانهاتن،
وتتقدم بوجه نذيري.
«سنسيناتي» وشيكاغو حطمتا القيود،
ما هذا الذي رأيته يفيض في مياه المحيط؟
انظروا ما الذي يأتي من هنا،
كيف يتسلق بيديه وقدميه في جسارة،
كيف ينطلق!
كيف يهدر الرعد الحقيقي بعد البرق —
كيف تلتمع ومضات البرق!
كيف تتقدم الديمقراطية —
بطبع فائرٍ انتقامي،
وتلتمع في الظلمة بومضات البرق!
ولكني تخيلت أني أسمع وسط الظلمة،
نواحًا ناعيًا ونشيجًا خافتًا،
خلال صمت قصير،
من اضطرابٍ يصم الآذان.
٣
تقدمي بدوي الرعد أيتها الديمقراطية!
اضربي بقبضتك الثأرية!
وأنت أيتها الأيام،
أيتها المدن،
إنكم تتطاولون أكثر من أي وقتٍ آخر!
وأنت أيتها العواصف،
اسحقي بضراوة،
بضراوة أشد وأكثر.
لقد أحسنت صنعًا لي،
فروحي التي ترعرعت وسط الجبال،
تتشرب غذاءك القوي الخالد.
طالما مشيت في طرائق مدائني،
في دروب بلادي،
وسط المزارع،
ولم أرضَ إلا قليلًا،
إذ ساورني شكٌّ كريه،
كالأفعى تسعى زحفًا أمامي على التراب،
فهجرت المدائن التي أحببتها دومًا،
كيما ألقي بنفسي في خضم اليقين
الذي يحيط بي من كل جانب.
جائع، جائع، جائع،
لطاقات أساسية ولجسارة الطبيعة،
فهي وحدها التي تنعشني،
وهي وحدها التي تسعدني.
كم انتظرت النيران الحبيسة
أن تنطلق توهجًا.
انتظرت طويلًا،
فوق الماء وفوق الهواء،
ولكني لم أعد بعدُ أنتظر.
لقد رضيت تمام الرضا،
تشبعت تمامًا.
لقد شهدت البرق الحقيقي،
لقد شهدت منظر مدائني الكهربية،
لقد عشت لأرى الإنسان يتفجر،
وأمريكا المحاربة تنهض،
ولهذا لن أبحث بعد اليوم،
عن الغذاء في بريَّات الشمال الموحشة،
لن أهيم بعد اليوم في الجبال،
ولن أبحر بعد اليوم في البحر العاصف.
١٨٦٥–١٨٦٧م
فيرجينيا-الجنوب
الأب النبيل ساقطًا في أيام نحسات،
لقد شاهدت — ويدي مرفوعة، مشرعة، منذرة،
وقد تجمدت ذكرياتي القديمة،
وتجمد الحب والإيمان —
السكين المجنونة تشرع في وجه أم الجميع.
الابن النبيل ذو الأقدام المفتولة،
رأيته يتقدم،
خارجًا من أرض البراري،
من أراضي المياه في أوهايو،
وفي إنديانا.
ويبعث العملاق القوي بأبنائه الأصحاء،
كي يساعدوا الآخرين،
وهم يرتدون الملابس الزرقاء،
وبنادقهم الوفية فوق أكتافهم،
وعندئذ،
تحدثت أمام الجميع،
بصوتٍ رصين،
أعتقد أني سمعتها تقول:
وأنتم، أيها المتمردون،
لماذا تسعون إلى الصراع معي؟
لماذا تطلبون حياتي
إذا كنتم قد دافعتم عني دومًا؟
فأنتم من قدمتم لي واشنطن،
وهؤلاء أيضًا.
١٨٧٢–١٨٨١م
مدينة السفن
أي مدينة السفن!
آهٍ أيتها السفن السوداء!
آهٍ أيتها السفن،
آهٍ أيتها البواخر والسفن الشراعية الجميلة،
ذات الصدر الأهيف،
أي مدينة العالم!
وكل بقاع الأرض أسهمت هنا،
أي مدينة البحر!
أي مدينة أمواج المد الزاخرة المتألقة،
المدينة التي تشهد دومًا
أمواج المد تتقدم وتنسحب،
تدور بشدةٍ إلى الداخل وإلى الخارج،
في دوامات فائرة وزَبَد!
أي مدينة أرصفة الموانئ والمحلات؛
مدينة الواجهات العالية
من المرمر والحديد!
أيتها المدينة الفخورة مضطرمة الوجدان،
أيتها المدينة المتوثبة المجنونة المفرطة!
اطلعي خارجًا أيتها المدينة،
لا من أجل السلام فحسب؛
لكن،
كيما تصبحين ذاتك الحقيقية،
مدينة الحرب،
لا تخافي،
لا تخضعي لأي مقارنة،
سوى مع ذاتك أنت أيتها المدينة!
انظري إلي،
تجسَّدي فيَّ كما تجسدت أنا فيك!
إني لم أرفض شيئًا قدمتيه لي،
وكل ما آمنت به آمنت به أنا أيضًا،
طيبٌ أم رديء لم أسألك ذلك أبدًا،
فأنا أحب كل شيء، ولا أدين شيئًا،
إني أغني وأحتفي بكل ما هو لك!
ولكن، كفى سلامًا!
لقد غنيت السلام وقت السلام،
ولكن طبول الحرب الآن هي طبولي،
والحرب،
الحرب الحمراء،
هي أغنيتي التي أنشدها عبر شوارعك،
أيتها المدينة!
١٨٦٥–١٨٦٧م
تاريخ ذي المائة عام
متطوع عام ١٨٦١-١٨٦٢م (في واشنطن بارك، بروكلين، مساعدًا لذي المائة عام).
أعطني يدك أيها الثائر العجوز،
إن قمة التل قريبة،
على بعد خطوات فحسب
(أفسحوا الطريق أيها السادة)،
لقد تبعتني عبر الدرب بخطًى وئيدة،
برغم سنواتك التي أربت على المائة.
باستطاعتك أن تسير، أيها الشيخ،
رغم أن عينيك بالكاد تبصران،
ذلك أن لك معينًا من قدراتك،
وسريعًا سوف أجعلها تساعدني.
استرح،
ريثما أشرح لك ما تعنيه الحشود التي تحيط بنا.
ففي السهل، أسفل هناك،
يتدرب المجنَّدُون ويتمرنون،
هذا هو المعسكر: سترحل منه كتيبة غدًا،
أتسمع الضباط وهم يصدرون الأوامر؟
أتسمع قعقعة البنادق؟
ما الأمر معك أيها الشيخ؟
لماذا ترتجف وتقبض على يدي بهذه الشدة؟
إن القوات تتدرب فحسب،
بيد أن البسمات تحوطها من كل جانب،
ومن صوتها، قريبًا منها،
يقف الأصدقاء مهندمي الثياب،
والنساء،
بينما شمس الأصيل تسطع باهرةً دفيئة،
وتكسو الخضرة مراعي الصيف،
ويهب النسيم العليل،
فوق مدن السلام الفخورة،
وفوق ذراع البحر،
الذي يفصل ما بينها.
بيد أن التدريبات والاستعراضات
قد انتهى وقتها،
وتعود القوات إلى ثكناتها،
وتتعالى صيحات الاستحسان،
ويتعالى تصفيق الأيادي!
ذو المائة عام
حين قَبضتُ على يَدِك
لم يكن ذلك لشعوري بالخوف،
إنما بسبب ما غمرني من فيض فجأةً من كل جانب،
ومن هناك حيث يتدرب الشباب،
ومن عند السلالم حيث يجرون،
وحيث نُصِبَت الخيام،
وعلى حدود البصر ناحية الجنوب،
والجنوب الشرقي والجنوب الغربي،
من فوق التلال،
وعبر الوهاد،
وعلى حدود الغابات،
وعلى طول الشطآن الموحلة
(التي امتلأت الآن)،
حيث جاء ثانية،
وأثار فجأةً عاصفةً هوجاء،
كما حدث منذ خمسة وثمانين عامًا،
لا مجرد استعراضٍ عسكري
يتلقَّاه الأصدقاء بالتصفيق والهتاف؛
بل معركة أشارك أنا فيها بنفسي،
أجل،
أشارك فيها بنفسي منذ فترة طويلة،
سائرًا فوق هذه الربوة،
فوق هذه الأرض،
أي،
هذه هي الأرض،
إن عينَي الكفيفتين — إذ أنا أتكلم الآن —
قد أعادت عُمَّارَها من وسط القبور،
والسنين تتراجع القهقرى،
وتختفي شوارعٌ وقصور،
وتظهر ثانيةً قلاعًا وحصونًا عاتية،
وتُنصَب المدافع العتيقة بحلقاتها.
أرى خطوط الأرض المرتفعة،
تمتد من النهر إلى الخليج،
أتأمل بانوراما المياه،
أتأمل الهضاب والمنحدرات،
هنا نَصَبنا معسكراتنا،
كان الوقت صيفًا كما هو الآن،
إني أتذكَّر كل شيء إذ أنا أتحدث،
أتذكَّر إعلان الاستقلال،
لقد تُلي ها هنا،
وأجرى الجيش استعراضًا بكامله،
لقد تُلي علينا ها هنا،
وكان القائد واقفًا يحيط به جنوده،
شاهرًا سيفه من غمده،
يلتمع في ضوء الشمس،
على رأس الجيش بكامله.
كان حدثًا جسورًا آنذاك،
كانت السفن الحربية الإنجليزية قد وصلت،
وكنا نراها واقفةً في الجانب الأدنى من الخليج، وأسطحها تزخر بالجنود،
وبعد أيامٍ قليلة،
رست السفن،
ونشبت المعركة بعدئذ،
وجابهنا عشرون ألفًا،
قوة متمرسة،
مُزوَّدة بمدفعية حسنة،
لن أحكي الآن تفاصيل المعركة؛
بل عن كتيبةٍ واحدة،
صدرت لها الأوامر في مطلع الأصيل،
بالتقدم والاشتباك مع ذوي المعاطف الحمراء،
سوف أحكي عن تلك الكتيبة،
وكيف سارت في ثبات،
وكيف جابهت الموت في عزم وبسالة.
مَن تظنون كان يمشي في عزم وبسالة مجابهًا الموت؟
كانت تلك الكتيبة
من الشباب اليافع،
عشرون ألفًا أقوياء،
تدربوا في فيرجينيا وفي ميريلاند،
ممن كان الجنرال يعرفهم شخصيًّا.
تقدموا إلى الأمام في زهوٍ،
بخطًى سريعة،
نحو مياه «جوانوس»،
حتى قام البريطان،
بعد أن تحركوا ليلًا،
دون أن يراهم المصطفُّون في الغابات،
بالظهور فجأة،
مطبقين من الشرق،
يطلقون نيرانهم في ضراوة،
مما قطع الطريق على تلك الكتيبة
من الشباب اليافع،
وجعلهم تحت رحمة العدو.
•••
كان الجنرال يرى كل هذا،
من فوق هذا التل،
وقام الشبان بمناورات متعددة يائسة،
كي يفكوا هذا الحصار،
توحدوا فيما بينهم،
متلاصقين،
وراياتهم ترفرف في الوسط،
ولكن، أوَّاه،
كان المدفع من فوق التل،
يفرقهم واحدًا واحدًا.
•••
إن هذه المذبحة،
لا تزال تملؤني ألمًا!
رأيت حَبَّات العرق،
تتجمع على وجه الجنرال،
ورأيتُه يعصر يديه في ألم.
وعندها عمد البريطان
إلى المناورة،
كيما يحملونا على العراك وجهًا لوجه،
ولكنا لم نكن واثقين من نصرٍ
على هذه الحال.
وحاربنا كما يجب،
في تجمعات منفصلة،
نتقدم محاربين عند نقاط عديدة،
بيد أن الحظ لم يكن حليفنا.
كان العدو يتقدم،
ويتخذ لنفسه أفضل المواقع،
بالتدريج،
وراح يدفعنا القهقرى،
إلى تحصينات هذا التل،
إلى أن أصبحنا نهدده هنا،
وحينئذٍ ترَكَنا.
كانت هذه نهاية كتيبة أصغر الشباب سنًّا.
ألفان من الأقوياء،
لم يعد منهم إلا القليل،
كلهم تقريبًا بقوا في بروكلين.
هكذا وهنا،
كانت وقائع أولى معارك جنرالي،
دون نسوة تُرى ولا شمس تدفئ،
لم تنتهِ بالتصفيق،
لم يضرب أحد كفَّيه هنا آنذاك،
ولكن،
في غياهب الظلام،
والأرض يلفها الغمام،
وتحت حبات المطر الجليدية،
كنا مستلقين تلك الليلة،
يعلونا الإحباط والغضب،
بينما كان السادة الصلفون،
إذ هم يعسكرون في مواجهتنا،
على مرمى السمع منا،
يحتفلون في احتقار،
يقرعون كئوس النبيذ
احتفاءً بانتصارهم.
•••
وأطل الصباح جَهِمًا رطيبًا،
ولكن،
حين أسدل الليل أستاره،
انقشع الغيم وانقطع المطر،
وعندئذ،
انسحب الجنرال،
صموتًا كالطيف،
حين اعتقدوا أنهم نالوه.
•••
لقد رأيته عند شاطئ النهر،
هناك،
عند المعدية التي تضيئها المشاعل،
متعجلًا الرسو.
وانتظر الجنرال حتى عَبَر كل الجنود والجرحى،
وعندئذٍ،
قبل مطلع الشمس بقليل،
وقعت هاتان العينان عليه لآخر مرة.
•••
كان الآخرون كلهم يعلوهم الوجوم،
ولا شك أن كثيرين فكروا في الاستسلام.
ولكن،
حين مر الجنرال إلى جِواري،
واقفًا في قاربه يتطلع إلى الشمس البازغة،
رأيت في عينيه شيئًا آخر غير الاستسلام.
خاتمة
كفى،
هذه نهاية قصة ذي المائة عام،
لقد تبادل الماضي والحاضر المكان،
وأنا نفسي،
بوصفي الوصلة بينهما،
ومنشِد المستقبل العظيم،
هو مَن يتكلم الآن.
•••
هل هذه إذن الأرض التي خطى عليها واشنطن؟
وهذه المياه التي أعبرها كل يوم بلا مبالاة،
هي التي عبرها في عزم وقت هزيمته
كما يَعبرُها الجنرالات الآخرون وقت أعظم انتصاراتهم؟
لا بد أن أكتب سطور القصة،
كيما أبعث بها شرقًا وغربًا،
لا بد أن أحفظ تلك النظرة،
كما أشرقت عليكم،
أي أنهار بروكلين.
انظروا،
كما تعود حلقة كل عام،
تعود الأطياف،
اليوم هو ٢٧ أغسطس،
وقد هبط البريطان أرضًا،
وتبدأ المعركة، وتسير في غير صفِّنا،
انظروا عبر الدخان إلى وجه واشنطن،
لقد تقدمت فرقة فيرجينيا وميريلاند،
كيما تشتبك مع العدو،
ولكنها حُوصِرَت،
ولعبت المدفعية القاتلة لعبتها عليها،
من أعلى التلال،
ويسقط صف وراء صف،
في حين تسقط الراية عليهم في صمت،
وقد تعمَّدت ذلك اليوم،
بدماء جروح العديد من الشباب،
ومعها الموت،
والهزيمة،
ودموع الأخوات والأمهات.
آهٍ يا تلال بروكلين ومنحدراتها!
أرى أنكم أكبر قيمةً مما يظن أصحابكم،
في وسطكم يقوم معسكر عتيق،
يقوم دومًا معسكر تلك الفرقة الميتة.
١٨٦١-١٨٦٢، ١٨٨١م
الخيَّالة تعبر مخاضة
يمتد طابور طويل في المعركة،
يتقدم وسط جزر خضراء،
متخذًا طريقًا متعرجًا،
تلتمع أسلحته تحت ضوء الشمس.
اسمعوا قرقعتها الموسيقية،
وانظروا النهر الفضي،
تقفز فيه الجياد (مطرطشة)،
وتتمهل كيما تشرب منه،
انظروا الرجال سُمر الوجوه،
كل جماعة، وكل فرد،
لوحة.
يستريحون على سروجهم في دَعة،
ويطلع بعضهم حين يصلون إلى الضفة المقابلة،
والبعض الآخر ما زال يدخل إلى المخاضة،
بينما الأعلام القانية،
قرمزية وزرقاء وبيضاء كالثلج،
ترفرف في فرح وسط الرياح.
١٨٦٥–١٨٧١م
فوق منحنى الجبل
أرى أمامي الآن جيشًا مرتحلًا يتوقف،
وفي أسفل واديًا خصبًا ينبسط،
يزخر بصوامع الحبوب،
وبالبساتين الصيفية،
ووراءه جوانب جبل متحدر،
صادمة للبصر،
شامخة في بعض جهاتها،
مُحطَّمة، مصطخرة،
وأشجار أرز متعلقة بها،
وأشكالًا طوالًا لا تكاد تُرى.
وتنتثر نيران المعسكرات هنا وهناك،
بعضها بعيدًا فوق الجبال،
وظلال الرجال والجياد،
يلوحون على البعد،
متطاولون،
مذبذبون،
على صفحة السماء،
السماء! السماء!
بعيدًا عن التناول،
ترصعهم النجوم الخوالد
التي تبزغ ساطعة.
١٨٦٥–١٨٧١م
فيلق من الجيش يتقدم
تتقدم الصفوف العارمة إلى الأمام،
بسحابتها المناوشة في المقدمة،
يصحبها حينًا صوت طلقة وحيدة،
تصفر كلسعة السوط،
وحينًا آخر،
زَخَّة طلقات مفاجئة.
وتتقدم الكتائب الكثيفة إلى الأمام،
تتوهج في خُفوت،
وتندفع تحت الشمس.
والرجال،
يغطي وجوههم التراب،
يصعدون ويهبطون،
في طوابير مصفوفة،
على تموجات الأرض،
بينما المدافع تنتثر في وسطهم،
والعجلات تهدر،
والجياد تتصبب عرقًا،
إذ فيالق الجيش تمضي قُدمًا.
١٨٦٥–١٨٧١م
إلى جوار شعلة المخيم الراجفة
إلى جوار شعلة المخيم الراجفة،
يمر موكب من حولي،
مهيبًا، عذبًا، متمهلًا.
ولكن، أول ما ألاحظه
هو خيام الجيش النائم،
والظلال المعتمة للحقول والغابات،
والظلمة تضيئها ركوات النيران المشتعلة هنا وهناك،
والصمت.
وثمة شخص يتحرك حينًا بعد حين،
كالشبح، بعيدًا أو قريبًا.
والشجيرات والأشجار،
تبدو وكأنها تتطلع إلي،
بعينٍ أرفع عيني إليها.
وترى أفكاري في تلك الأثناء،
أفكار رقيقة عجائبية،
عن الحياة والممات،
عن بيتي،
وعن الماضي،
عن الأشخاص الذين أحببتهم،
وعن الأشخاص البعيدين عني الآن،
تتابعت في جلال وبطء،
إذ أنا جالس على الأرض،
إلى جوار شعلة المخيم الراجفة.
١٨٦٥–١٨٦٧م
عُد من الحقل أيها الأب
عُد من الحقل أيها الأب،
فها قد وصلَنا خطاب من «بت».
وأنت أيتها الأم، تعالي إلى الباب الأمامي،
فها قد وصل خطاب من ابنك الحبيب.
•••
آه،
إنه الخريف،
انظروا الأشجار وقد اكتست خضرة داكنة،
وأضحت صفرتها أعمق، واحمرارها أعمق،
تُنعش قرى «أوهايو»،
وتزيدها حلاوةً وطلاوة،
بأوراقها التي تمور،
عندما يهزها الهواء العليل،
حيث التفاح ناضج يتدلى في البساتين،
والعنب على فروع الكرْمات.
ألا تتنسم عبير العنبات على كرماتها؟
ألا تتنسم أعواد الحنطة،
حيث كانت النحلات تطن منذ هنيهة؟
ولكن، فوق كل شيء،
انظروا إلى السماء الهادئة،
تشع شفافيةً بعد المطر،
ترصعها سحائب مدهشة.
وعلى الأرض أيضًا،
كل شيء هادئ،
كل شيء حيوي،
كل شيء بديع،
والضيعة تزدهر.
•••
وهناك في الحقول
كل شيء يزدهر.
ولكن،
عُد الآن من الحقل أيها الأب،
عُد،
فابنتك تناديك،
وتعالي إلى مدخل البيت أيتها الأم،
تعالي حالًا إلى الباب الأمامي.
وتهرع الأم قدر وسعها،
إذ تستشعر خطرًا محدقًا،
مرتعدة خطواتها،
لا تتمهل كي تسوي شعرها،
أو تلملم عباءتها.
•••
افتح المظروف بسرعة.
أوَّاه،
ليس هذا خط ابننا،
مع أن توقيعه عليه،
أوَّاه،
ثمة يد غريبة تكتب نيابةً عن ابننا،
أوَّاه يا روح الأم المثلومة!
كل شيء يسبح أمام ناظريها،
ويمر متشحًا بالسواد،
وتعي الكلمات الأساسية فقط،
عبارات محطومة،
جرح رصاصة في الصدر،
مناوشات سلاح الفروسية،
يُنقل إلى المستشفى،
حالته ضعيفة الآن،
ولكنه سيتحسن سريعًا.
أوَّاه،
لا يوجد لي أحد سواه الآن،
في كل أوهايو العامرة الزاخرة،
بكل مدنها وطرقاتها.
وجهه الذي تضربه العلَّة بالبياض،
ورأسه المضطرب،
شديد الضعف،
يستند إلى الباب.
•••
لا تحزني هكذا يا أمي العزيزة؛
هكذا تتكلم الابنة التي لم تبلغ الحُلم بعد،
من خلال نشيجها،
بينما أخواتها يحضن بعضهن البعض،
في صمتٍ وفزع،
أترين يا أمي العزيزة،
الخطاب يقول إن «بت» سيتحسن سريعًا.
•••
وا أسفاه أيها الفتى المسكين،
إنه لن يتحسن أبدًا،
ولا حاجة له بأن يتحسن،
ذلك الروح الشجاع البسيط،
فبينما هم واقفون أمام الباب؛
كان قد مات بالفعل،
ابنهم الوحيد،
مات.
•••
بيد أن الأم،
هي التي تحتاج إلى التحسن،
هي،
بجسدها النحيل،
وقد اتشحت بالفعل سوادًا،
لا تقرب الطعام في نهارها،
ونومها مضطرب في ليلها،
تستيقظ مراتٍ ومرات،
تصحو في منتصف الليل،
تنتحب،
تفعمها لهفة واحدة عميقة؛
أن تنسحب دون أن يشعر بها أحد،
تهرب صامتةً من الحياة،
وتنسحب،
تتبع ابنها الحبيب الميت،
كي تبحث عنه وتبقى معه.
١٨٦٥–١٨٦٧م
قضيت سهرة غريبة في إحدى الليالي
قضيت سهرة غريبة في إحدى الليالي،
حين سقطت أنت يا بني، يا رفيقي،
إلى جواري ذلك اليوم،
لم ألقَ عليك سوى نظرة واحدة،
أجابتني عليها عيناك،
بنظرة لن أنساها مدى حياتي.
لمسة واحدة من يديك يا بني،
إذ تشخص ناحيتي،
وأنت راقد على الأرض،
وبعدها،
ألقيت بنفسي في خضم المعركة،
إذ القتال سِجال،
إلى أن حانت نوبة زميلي،
وقد مضى من الليل أكثره،
فعدت أدراجي إلى مكاني،
ووجدتُك باردًا،
وقد لفَّك الموت بدثاره،
أيها الرفيق العزيز،
وجدت جسدك،
ثمرة القبلات المتبادلة
التي لن تُتبادَل أبدًا على الأرض مرة أخرى،
وكشفت عن وجهك،
تحت ضوء النجوم،
فكان مشهدًا غريبًا.
كان هواء الليل يهب عليلًا منعشًا،
بقيت طويلًا هناك،
في سهرة حراسة،
بينما معسكر القتال
يتطاول من حولي
تغلفه العتمة.
كانت سهرة عجيبة،
سهرة عذبة،
تلك الليلة الصامتة العاطرة.
ولكني لم أذرف دمعةً واحدة،
ولم تصدر مني زفرةٌ طويلة واحدة؛
بل حدَّقت طويلًا طويلًا،
ثم أقعيت إلى جوارك،
مائلًا بجانبي على الأرض،
وأنا أمسك ذقني بين يدي.
أمضيت ساعات عذبة،
ساعات خالدة صوفية،
إلى جوارك، أي رفيقي الحبيب،
دون أن أذرف دمعة،
دون أن أنطق كلمة،
كانت سهرةً صامتة،
سهرة حب وموت،
سهرة من أجلك أنت،
يا بني، يا جندي،
بينما النجمات تتبع مسارها الصامت،
في الأعالي،
ونجمات أخرى تنبثق في المشرق.
سهرة أخيرة من أجلك،
أيها الفتى الشجاع.
لم أتمكن من إنقاذك،
فقد جاءك الموت سريعًا،
لقد أحببتك حبًّا خالصًا،
وراعيتك في حياتك،
وأنا على يقين من لقائنا ثانية،
وفي الهزيع الأخير من الليل،
مع انبلاجة الفجر،
لففت رفيقي في بطانيته،
وغطيت جسده جيدًا،
وطويت البطانية بعناية،
فغطيت بها تمامًا رأسه وقدميه،
بكل حرص.
وعندئذٍ وحينئذٍ فحسب،
إذ الشمس البازغة تغمرني،
وضعت ابني في قبره،
وأنهيت بهذا سهرتي الغريبة،
سهرة الحراسة الليلية،
والمعسكر تخيِّم عليه العتمة،
سهرة للفتى الذي تبادل القبلات،
ولن يعود إلى ذلك مرة أخرى على الأرض،
سهرة من أجل رفيق اختطفه الموت،
سهرة لا أنساها أبدًا.
أنا لا أنسى قط انبلاج النهار،
حين نهضت من على الأرض الباردة،
ولففت جنديَّ جيدًا في بطانيته،
ودفنته حيث سقط.
١٨٦٥–١٨٦٧م
مسيرة وسط القوات المستهدَفة، في دربٍ مجهول
مسيرة وسط القوات المستهدَفة،
في دربٍ مجهول،
درب يخترق غابةً كثيفة الأحراج،
يختنق فيها صوت وقع الأقدام.
لقي جيشنا انكسارات قاسية،
وتقهقر من بقي في جهامة،
إلى أن انقضى منتصف الليل،
وشعَّت علينا أنوار بناية معتمة الأضواء،
ووصلنا إلى فضاء فسيح وسط الغابات.
وتوقفنا لدى البناء المعتم.
كان كنيسة عتيقة ضخمة،
عند مفترق الطرق،
غدت الآن مستشفًى طارئًا.
ودخلت هنيهة،
فرأيت منظرًا يفوق كل صورة وقصيدة،
ظلالًا حالكة السواد،
لا يضيئها سوى شموع ومصابيح متحركة،
ومشعل واحد ثابت الطود،
ذي شعلة حمراء وحشية،
وسحائب من الدخان،
وإلى جوار هذا
أرى بغير وضوح أكوامًا من الناس،
ومجموعات من الأشكال
على الأرض،
وبعضهم مُمدَّدُون على مقاعد الكنيسة.
وعند قدمي
أرى بوضوحٍ أكثر أحد الجنود،
مجرد صبي،
يتهدده الموت نزفًا،
بعد أن أصيب في بطنه،
فأُوقِف له النزيف مؤقتًا،
بينما وجهه الطفولي
قد علاه البياض،
فأصبح أشبه بالزنابق.
وقبل أن أرحل،
أطوف على المشهد بعيني،
توَّاقًا أن أتشرب كل شيء:
الوجوه، التنوعات،
الأوضاع التي تتحدى كل وصف،
ومعظم الناس تخيِّم عليهم الظلمة،
وبعض الرجال قد حُم فيهم القضاء.
الجراحون يعملون،
ومساعدوهم يحملون لهم الشموع،
ورائحة الأثير،
ورائحة الدماء،
والأكوام،
أوَّاه،
يا لركام الأجساد الدامية،
والفناء الخارجي أيضًا يكتظ بها،
بعضها على الأرض الجرداء،
وبعضها على ألواح الخشب أو المحفَّات.
البعض يغطيه عرق تقلصات الموت،
وثمة أثاث وصرخات بين الحين والحين،
والطبيب يُصدر أوامر أو نداءات،
والتماعات الأدوات الجراحية الصغيرة،
المجبولة من الصلب،
تتجاوب مع التماعات المشاعل.
كل هذا ابتعثه الآن إذ أنشده،
أرى أمامي مرة أخرى،
أشكال الأجساد،
وأشم الرائحة،
ثم أسمع من الخارج الأوامر تصدر،
انتظموا يا رجالي،
انتظموا في الصفوف.
ولكني، أولًا،
أنحني فوق الصبي المحتضر،
إذ عيناه مفتوحتان،
ويمنحني نصف بسمة على شفتيه،
ثم تنغلق عيناه،
تنغلقان في هدوء،
وأهرع إلى الظلمة في الخارج،
معاودًا المسيرة،
أسير دائمًا في الظلمة،
في وسط الصفوف،
دون أن أحيد عن السير،
في الدرب المجهول.
بينما أجول مُتعَبًا في غابات فرجينيا
بينما أجول مُتعَبًا في غابات فرجينيا،
على إيقاع الأوراق الذابلة تحت قدمي،
فالوقت كان خريفًا،
شاهدتُ قبر جندي،
محفورًا في أسفل شجرة.
كان قد أصيب بجرحٍ مميت،
ودُفِن هناك مع تقهقر القوات.
كان سهلًا لي أن أدرك ما حدث:
خلال وقفة في منتصف النهار،
لم يكن هناك وقت،
ولكنهم تركوا هذه العلامة،
مكتوبةً على لوحٍ سُمِّر على الشجرة
من فوق القبر:
شجاع، حذر، صادق،
رفيق حبيب.
•••
أهيم في وادي الفكر،
طويلًا طويلًا،
ثم أستأنف تجوالي.
وتتابعت عليَّ فصول عديدة،
ومشاهد من الحياة كثيرة.
ومع هذا، أحيانًا،
من بين الفصول والمشاهد المتتابعة،
أجد نفسي بغتة،
سواء كنت وحدي أو في طريقٍ مزدحم،
وجهًا لوجه مع قبر ذلك الجندي المجهول،
وأرى تلك الكتابة الجرداء في غابات فرجينيا:
شجاع، حذر، صادق، رفيق حبيب.
١٨٦٥–١٨٦٧م
لا القبطان
لا القبطان المكلَّف بقيادة السفينة حتى المرفأ،
برغم العاصفة التي كثيرًا ما تقهره وتحيره،
ولا المستكشف الذي يخترق الأرض مُتعبًا من كثرة التجوال،
تحرقه شمس الصحاري،
وتجمِّده الثلوج وتغرقه مياه الأنهار،
صابرًا متحملًا من أجل الوصول إلى هدفه،
ليسا مثلي أنا،
أنا الذي كلَّفت نفسي — إن أرادوا أو لم يريدوا —
أن أنظم مسيرة عبر هذه الولايات،
مسيرة تكون صيحة قتال،
دعوة إلى حمل السلاح،
للسنوات والقرون القادمة.
١٨٦٠–١٨٨١م
أيها العام الذي رجف وارتجف من تحتي
أيها العام الذي رجف وارتجف من تحتي!
كانت رياح صيفك دفيئة،
بيد أن الهواء الذي تنفستُه
غمرني بالصقيع،
وهبطت جهمة كثيفة،
فغطت الشمس ولفَّتني في الظلمة.
•••
ساءلت نفسي:
هل يتعين علي أن أغيِّر أناشيد النصر التي أغنيها؟
هل يتعين علي بالفعل،
أن أتعلم كيف أنشد ترانيم البؤساء الحزينة،
وتراتيل المهزومين المكفهرة؟
مطبب الجراح
١
وإذا أصبحتُ شيخًا مُقوَّس الظهر،
لاقيت وجوهًا جديدة،
وتأملت في سنواتي الماضية،
كيما أتعامل مع الأطفال.
هيا أيها الشيخ، احكِ لنا قصصك،
كأنما هم الصبية والصبايا اللائي أحببنني.
وغضبت وثرت،
وهممت أن أطلق صفير الإنذار،
وأشعل حربًا لا هوادة فيها.
ولكن،
خذلتني أصابعي بعد حين،
وتهدَّل وجهي،
وقنعت بالجلوس إلى جوار الجرحى،
أهدئ من نفوسهم،
أو أرقب الموتى في صمت.
بعد سنوات طويلة من هذه الأحداث،
من هذه العواطف الهادرة،
من هذه الظروف المتقلبة،
من هؤلاء الأبطال الذين ليس لهم من نظير،
هل كان طرف هو الأكثر شجاعة؟
لقد كان الطرف الآخر شجاعًا بالمثل.
كُن شاهدًا مرة أخرى،
ارسم لنا صورة أقوى جيوش على الأرض،
تلك الجيوش فائقة السرعة،
فائقة الروعة،
ماذا رأيت مما بوسعك أن تحكي لنا عنه؟
ما الأثر الذي بقي فيك أطول وقتًا وأعمق؟
عن صوت الفزع الغريب،
عن الاشتباكات صعبة السجال،
أو الحصارات الرهيبة،
أي شيء يبقى منها في أعمق أعماقك؟
٢
أيتها الصبايا والصبيان
الذين أحبهم ويحبونني:
إن ما تسألوه عن أيامي وذكرياتي،
يعيد إليَّ ذاكرتي،
على نحوٍ مفاجئ،
أكثر الأمور عجبًا.
حين وصلت بعد مسيرة طويلة،
أنا الجندي في حالة انتباه،
مُغطًّى بالعرق وبالتراب،
وصلت بالكاد في وقتي،
واندفعت إلى المعركة،
أصيح بكل قوتي،
وسط الهجوم الكاسح،
أخترق ما ظفرنا به من تحصينات،
ولكن، انظروا،
لقد انمحت كما ينمحي النهر في جريانه السريع،
إنها تمر وتذهب ثم تنمحي،
إني لن أتوقف عند مخاطر الجنود أو مباهجهم،
فأنا أتذكَّر كليهما جيدًا،
أتذكَّر الكثير من المصاعب،
والقليل من المباهج،
وكنت برغم ذلك سعيدًا.
•••
ولكن،
في صمت،
في مواكب الأحلام،
إذ عالم الكسب والمظاهر والأفراح يستمر،
سوف يطوي النسيان ما مضى،
وتمحو الموجات آثار الأقدام من على الرمال،
وأعود مثنيَّ الركبتين،
وأدخل الأبواب،
بينما أنتم هناك،
أيًّا تكونون،
اتبعوني دونما ضجيج،
أقوياء القلوب.
•••
أحمل الضمادات والماء والإسفنجة،
متوجهًا نحو جرحاي،
مباشرةً وسريعًا،
إذ هم راقدون على الأرض،
بعد أن حملوهم هناك إثر المعركة،
حيث يصبغ دمهم الغالي،
حشائش الأرض بالحمرة،
أو أتوجه إلى صفوف خيمة المستشفى،
أو تحت سقف المستشفى الطارئ،
إلى الصفوف العديدة من الأسرة،
وأزورها من أولها إلى آخرها،
من كل جوانبها،
وأدنو من كل واحد فيها،
لا أُغفل أحدًا منهم،
وثمة مساعد يتبعني،
حاملًا صينية وجردل نفايات،
سرعان ما سيمتلئ بالأربطة الدامية،
يفرغه كيما يمتلئ ثانية.
أمضي قدمًا، وأتوقف،
أثني ركبتي وأمد يدًا ثابتة،
أضمد بها الجراح،
وأنا حازم مع الجميع،
فالآلام حادة،
ولكن لا مفر منها.
أحدهم يحوِّل نحوي عينيه المتوسلتين،
— يا للفتى المسكين —
إني لم أعرفك من قبل،
بيد أنه كان بإمكاني أن أموت من أجلك
في تلك اللحظة،
لو كان في هذا إنقاذك.
٣
أمضي، أمضي قدمًا،
انفتحي يا أبواب الزمن!
انفتحي يا أبواب المستشفيات!
إني أضمد الرأس المهَشَّم،
فلا تنزعي الضمادات أيتها اليد المحمومة،
إني أفحص عنق جندي الخيَّالة،
إذ اخترقته رصاصة من جوانبه،
تخرج منه الأنفاس بصعوبة،
والعينان تتصلبان،
ولكن الحياة تتصارع في داخله،
هيا أيها الموت الجميل!
دعني أفلح في إقناعك أيها الموت العذب،
تعالَ سريعًا،
بحق الرحمة.
ومن جذع ما تبقى من ذراع،
بعد بتر اليد،
أفك الأربطة الملطخة بالدماء،
وأزيل بقايا الجلد،
وأغسل الصديد والدم،
ويعود الجندي إلى وسادته،
يتمدد بعنقه المعقوص،
ورأسه المائلة،
عيناه منغلقتان،
ووجهه شاحب،
لا يجرؤ على النظر إلى الجذع الدامي،
ولم يرَه قط بعد.
وأداوي جُرحًا في الجنب،
عميق الغور،
يومان متبقيان له فحسب،
بنظرة إلى جسده الذابل المضيع،
والمسحة الصفراء المزرقة على وجهه.
إني أداوي الكتف المتهتك،
والقدم التي اخترقها الرصاص،
وأطهِّر القدم التي ضربت فيها الغنغرينة،
ذات المظهر المفزع المخيف،
بينما المساعد يقف ورائي،
ممسكًا الصينية والأربطة.
إني مخلص لعملي،
لا أدعه جانبًا أبدًا،
الفخذ المكسور،
والركبة، وجراح البطن،
أعالجها كلها وأكثر منها،
بيدٍ لا تهتز،
رغم أني أحمل في أعماق صدري
نارًا، وشعلات تتوهج على الدوام.
٤
وهكذا،
وسط الصمت،
وفي مواكب الأحلام،
أشق طريقي عبر المستشفيات،
عائدًا، مستمرًّا،
أهدئ نفوس الجرحى،
بيدٍ حانية،
أجلس إلى جوار المحمومين،
طوال الليل الحالك،
بعضهم في مقتبل الصبا والبعض يقاسي آلامًا رهيبة.
وأستفيد من التجارب حلوها ومرها،
ولطالما التفَّت ذراعا جندي
حول هذا العنق في حب،
وكم رقدَت قبلات جندي
على هاتين الشفتين
اللتين تغطيهما لحيتي.
١٨٦٥–١٨٨١م
وقت طويل جدًّا يا أمريكا
وقت طويل،
طويل جدًّا يا أمريكا،
طالما ارتحلت عبر طرق مُمَهَّدة هادئة،
وتعلمت من المباهج والرخاء فحسب.
ولكن، الآن،
الآن،
عليك أن تتعلمي من الأزمات الطاحنة،
وتمضي قُدمًا إلى الأمام،
وتصارعي أقسى مصير،
ولا تتراجعي.
عليك الآن أن تُبدعي،
وأن تُظهري للعالم،
كيف هم أولادك حين يتجمعون معًا،
فمَن هو حتى الآن، إن لم يكن أنا،
مَن أبدع صورة أولادك الحقيقية
حين يتجمعون معًا.
١٨٦٥–١٨٨١م
أعطني الشمس الزاهرة الصامتة
١
أعطني الشمس الزاهرة الصامتة،
بكل أشعتها الباهرة،
أعطني شجرة الخريف الزاخرة،
ناضجة حمراء من بستانها،
أعطني حقلًا ناميًا من العشب
الذي لم تعمل فيه يد التشذيب،
أعطني شجرة،
أعطني عنقود عنبٍ من شجيرة الكروم،
أعطني الذرة والحنطة الطازجة،
أعطني حيوانات تتحرك على مهل،
تبعث في النفس الرضا والاستحسان،
أعطني لياليَ من السكينة التامة،
كتلك الليالي فوق الهضاب العالية،
غرب المسيسيبي،
حتى أرى النجوم عن قرب،
أعطني حديقة،
يتصاعد منها الأريج مع مطلع الشمس،
تزخر بالزهور الجميلة،
حيث أستطيع أن أسير في هدوء،
أعطني زوجة عذبة الأنفاس،
بحيث لا أطيق لها فراقًا أبدًا،
أعطني طفلًا يظلله الكمال،
أعطني حياة منزلية في الريف،
بعيدًا عن ضوضاء العالم،
أعطني القدرة على أن أغرِّد
أغانيَ فطرية، وحيدًا مع نفسي،
لا تسمعها سوى أذني،
أعطني الوحدة، أعطني الطبيعة،
أعطيني مرة أخرى أيتها الطبيعة،
كل سكينتك الجوهرية.
•••
إني أطلب هذا كله،
بعد أن أرهقتني الإثارة التي لا تنتهي،
وعذَّبتني صراعات الحرب،
أطلب الحصول على كل هذه الأشياء،
بصرخات تنبع من قلبي،
ودون أن أكف عن الطلب،
ما زلت ملتصقًا بمدينتي،
يومًا بعد يوم، وعامًا بعد عام.
•••
أيتها المدينة،
أطوف بطرقاتك،
حيث تقيديني إليك زمنًا،
وترفضين إطلاق سراحي،
ومقابل ذلك،
تُتخمين روحي وتُثرينها،
وتُعطيني على الدوام وجوهًا،
آهٍ،
إني أرى الآن ما كنت أسعى إلى تجنُّبه،
فهي تُجابهني وترد على صيحاتي،
وأرى روحي ذاتها،
تطأ كل ما كانت تطلبه.
٢
أيتها الطبيعة،
حافظي على شمسك الزاهرة الصامتة،
حافظي على غاباتك،
وعلى المروج الهادئة المجاورة للغابات،
حافظي على حقول البرسيم والتفل،
وعلى حقول الذرة والبساتين،
حافظي على حقول الحنطة المزدهرة،
حين يطِن نحل الشهر التاسع.
أيتها الطبيعة،
أعطيني وجوهًا وطرقات،
أعطيني هذه الأطياف التي لا نهاية لها،
التي تعبر فوق أرصفة الطرقات!
أعطيني عيونًا لا تعرف نهايات،
أعطيني نسوة،
أعطيني رفاقًا ومحبين بالآلاف!
اجعليني أرى المزيد منهم كل يوم،
اجعليني أمسك بأيدي أناسٍ جُدد كل يوم!
أعطيني هذه المواكب،
أعطيني طرقات مانهاتن!
أعطيني شارع «برودواي»،
حيث يسير الجنود،
أعطيني صوت النفير ودقات الطبول!
الجنود وسط فرقهم أو ألويتهم؛
بعضهم يبدءون، متوهجين جسورين،
وبعضهم قد أنهى فترته،
يعودون في صفوفٍ قد قل عددها،
في مقتبل العمر، وإن كانوا أصبحوا شيوخًا،
منهوكين، يسيرون، لا يلحظون شيئًا.
أعطيني الشطآن وأرصفة الموانئ،
المليئة بالسفن السوداء!
آهٍ، أريد كل هذه الأشياء،
أريد حياةً كثيفة،
أجل،
مليئة حتى الحافة،
متنوعة،
حياة المسرح،
حياة الحانات،
حياة الفنادق الضخمة،
هذا ما أريد!
صالون السفينة البخارية!
أريد الرحلات التي تَعمر بالجماهير،
أريد مواكب حملة المشاعل!
الفرقة العسكرية المحتشدة،
المتوجهة إلى ساحة القتال،
تتبعها العربات الحربية المليئة بالمعدات؛
والناس، بلا حدود،
يسيرون بأصوات هادرة،
وعواطف جامحة، ومواكب،
وطرقات مانهاتن بنبضاتها القوية،
تدق الطبول في أرجائها،
كما يحدث الآن،
وجوقة المنشدين،
تعمل على الدوام في ضجيج،
وصليل البنادق وطقطقاتها،
وحتى منظر الجرحى.
جماهير مانهاتن،
بفرقهم الموسيقية العارمة!
وجوه مانهاتن وعيونها،
أريدها إلى الأبد.
١٨٦٥–١٨٦٧م
مرثية لاثنين من المحاربين القدماء
شعاع الشمس الأخير،
يسقط في وهنٍ،
على يوم الأحد إذ ينتهي،
وهنا على الأرضية،
وفيما وراء ذلك،
حيث يقام هناك قبر مزدوج.
انظروا،
يبزُغ القمر من الشرق،
فضيًّا مستديرًا،
يبدو جميلًا فوق أسطح البيوت،
قمر طيفي يُثير الرهبة،
قمر شاسع صموت.
أرى موكبًا حزينًا،
وأسمع صوت النفير الزاعق،
يُغرِق كل معابر طرقات المدينة،
كأنما بالأصوات وبالدموع.
•••
أسمع دقات الطبول الضخمة تُقرَع،
والطبول الصغيرة تُدمدم بلا انقطاع،
وكل دقة من الطبول الضخمة المتشنجة،
تضربني وتخترق كل جنباتي.
•••
إنهم يحضرون الابن مع أبيه،
لقد سقطا في الصفوف الأمامية،
عند الهجوم العنيف،
محاربان قديمان،
أب وابن،
سقطا معًا،
وكان بانتظارهما القبر المزدوج.
•••
ها هي أصوات النفير تقترب،
وتزداد دقات الطبول تشنجًا،
ويشحب نور النهار فوق الأرضية،
ويلفني المارش الجنائزي من كل ناحية.
وفي السماء الشرقية،
يحوم الطيف الهائل الحزين،
ويتحرك في هالة من نور،
إن هو إلا وجه أمٍّ كبير شفيف،
يلتمع ويُضيء على نحوٍ متزايد،
في وسط السماء.
•••
آهٍ أيها المارش الجنائزي القوي،
إنك تملؤني بالمسرة!
وأنت أيها القمر الكبير ذو الوجه الفضي،
إنك تغمرني بالسكينة!
وأنتما يا جنديَّاي المترافقان،
أيها المحاربان القديمان،
الذاهبان إلى مدفنكما،
إني أعطيكما أيضًا كل ما أملك.
القمر يعطيكما ضياءه،
والنفير والطبول تعطيكما الموسيقى،
وقلبي، أي جندياي،
يا محارباي القديمان،
قلبي يعطيكم الحب.
١٨٦٥-١٨٦٦، ١٨٨١م
فوق المذبحة، ارتفع صوت نبوءتي
فوق المذبحة،
ارتفع صوت نبوءتي:
لا تيأسوا،
فلسوف يحل الحب كل مشاكل الحرية.
إن مَن يحبون بعضهم البعض
لن يقدر على قهرهم أحد.
•••
ولسوف يجعلون كولومبيا ١ منتصرة،
أي أبناء أم الجميع:
إنكم لأنتم المنصورون غدًا،
ولسوف تضحكون غدًا،
احتقارًا للهجمات التي سوف تتلقونها
من بقية أهل الأرض.
ليس هناك من خطر
يثبط همة محبي كولومبيا،
ولو احتاج الأمر
سيُقَدِّم ألف شخص أنفسهم قربانًا،
فداء شخص واحد.
رجل من ماساشوستس،
سيصبح رفيق رجل من ميسوري،
ورجال من «مين»، ومن كارولينا الدفيئة وأوريجون،
سيشكلون ثلاثيًّا من الأصدقاء،
كل منهما سيصبح للآخر ذخرًا،
أكبر من كل ثروات الأرض مجتمعة.
وإلى ميتشجان
ستصل عطور فلوريدا حانيةً،
ليست عطور الزهور؛ بل عطورٌ أخرى،
أكثر جمالًا وعذوبة،
تعبر فيما وراء الموت.
سيصبح مألوفًا،
في البيوت وفي الطرقات،
رؤية الود الرجولي،
ستتعانق وجوه أشد الرجال جمودًا،
مَن يؤمنون بالحرية سيصبحون أحبابًا.
•••
ومن يدعمون المساواة سيصبحون رفاقًا.
سوف يربط هذا ما بينكم،
ويجمعكم معًا،
بأكثر ما تجمعه السلاسل الحديدية.
وأنا
تملؤني النشوة،
أيها الرفاق،
أيتها الأرض،
إني أرتبط بكم بحب الأحباب.
•••
أكنتم تتوقعون
أن يكون المحامون هم من يجمع بينكم؟
ربما بعقدٍ مكتوب؟
أو عن طريق قوة السلاح؟
كلا!
لا العالم، ولا أي شيء حي،
يمكن أن يربط بيننا بهذه الطرق.
١٨٦٠–١٨٦٧م
رأيت جنرالًا هرمًا في ورطة
رأيت جنرالًا هرِمًا في ورطة،
بكل شيبته،
كانت عيناه الرماديتان
تلتمعان في المعركة كالنجوم،
كانت كتيبته الصغيرة
قد حُوصِرَت تمامًا الآن،
ودعا من يتطوع لاختراق صفوف العدو،
جهد يائس.
رأيت مائة أو أكثر،
يتقدمون من الصفوف تطوعًا،
ولكنه اختار اثنين أو ثلاثة،
رأيتهم يتلقون أوامره على انفراد،
استمعوا إليه باهتمام،
وكان الجندي المناوب شديد الجدية.
رأيتهم يرحلون في جذل،
يجودون بحياتهم طواعية.
١٨٦٥–١٨٦٧م
رؤيا ضابط المدفعية
بينما تغفو زوجتي إلى جواري،
وقد انتهت الحرب من زمن،
ورأسي ينام مستريحًا فوق الوسادة،
إذ يمضي منتصف الليل خاويًا،
ومن وسط السُّكون،
ومن خلال الظُّلمة،
أسمع، مجرد سمع،
زفرات طفلي،
وفي حجرتي،
إذ أصحو من النوم،
تضغط تلك الرؤيا على نفسي.
تندلع الاشتباكات عند تلك النقطة،
ثم تستعر في أعماق الفانتازيا الخيالية.
تبدأ المناوشات،
يزحفون إلى الأمام في حذر،
أسمع طلقات الرصاص المتقطعة،
أسمع صوت الصواريخ المختلفة،
والهسيس القصير لرصاص البنادق،
أسمع القنابل تنفجر،
مُخلِّفةً وراءها سُحبًا بيضاء صغيرة،
أسمع القذائف تصفر وهي تمرق،
ويُثير المدفع ضجيجًا
أشبه بصوت الرياح بين الأشجار،
إذ تستعر المعركة الآن حامية،
وتعود مشاهد بطارية المدافع إلى بصري،
مرةً أخرى بكل تفاصيلها،
القعقعة والدخان،
كبرياء الرجال أمام آلاتهم،
ورئيس المدفعية،
يُحرك آلته ويصوبها،
ويختار الفتيل في الوقت المناسب،
وبعد أن يُطلق النار،
أراه ينحني ويتطلع مستشرفًا،
ليرى نتيجة عمله،
وفي نَواحٍ أخرى،
أسمع ضجيج فرقة هاجمة،
يقودها الكولونيل الشاب بنفسه هذه المرة،
شاهرًا سيفه،
أرى الثغرات التي خلفتها طلقات العدو،
والتي يتم سدها على الفور دون إبطاء،
أتنفس الدخان الخانق،
وتهبط بعدها سحائبه إلى أسفل،
سابحةً،
وتُخفي في ثناياها كل شيء.
ويسود صمت لثوانٍ معدودات،
حيث لا يُسدد أي من الجانبين طلقات،
وبعدها يعود العماء،
أشد ضجيجًا من ذي قبل،
بصيحاتٍ قلقة وأوامر من الضباط،
في حين تحمل هبَّات الرياح من بعيد،
صيحة استحسان إلى أذني،
تُنبئ عن ضربة ناجحة،
ودائمًا صوت المدافع،
قريبة أو بعيدة،
تُثير في أعماق روحي،
حتى في الأحلام،
انتشاءً شيطانيًّا،
وكل البهجة الجنونية القديمة.
ودائمًا تحركات المشاة العجلى،
تُغير المواقع والبطاريات والفرسان،
تنتقل هنا وهناك،
لا ألتفت إلى مَن يسقط ومَن يموت،
ولا ألتفت إلى الجرحى يقطرون دمًا،
والبعض يعود إلى الصفوف الخلفية يعرجون،
لطخات، قيظ، تدافُع،
والضباط المساعدون
يخبُّون أو يُسرعون الخطى جريًا،
وسط انفجارات الأسلحة الصغيرة،
ونذير هسيس رصاص البنادق،
كل ذلك أراه وأسمعه في مخيلتي،
والقنابل تنفجر في الهواء،
وفي الليل
الصواريخ المتعددة الألوان.
١٨٦٥–١٨٨١م
إثيوبيا تحيي العَلَم الملوَّن
مَن أنت أيتها المرأة العتماء،
بالغة الهِرم ولا تكادين تكونين إنسية،
ذات شعر أبيض ورأس متعممة،
حافية القدمين معرورقتاهما؟
لماذا تقومين على مشارف الطريق،
وتُحيين العلم؟
•••
حين يُحيط جيشنا برمال كارولينا وأشجارها،
تخرجين أنت، أي إثيوبيا،
وتتجهين نحوي،
إذ أنا أسير إلى البحر،
بأمر المقاتل «شيرمان».
إنني أيها السيد،
قد مضى عليَّ مائة عام،
منذ أن انتزعوني من أحضان أبوَي،
كنت طفلةً صغيرة،
أمسكو بي كما يُمسكون وحشًا كاسرًا،
وبعد ذلك
أحضرني تاجر العبيد القاسي إلى هنا،
عبر البحار.
•••
لم تقل شيئًا آخر،
ولكنها بقيت طوال اليوم
تهز رأسها الشامخ المعمَّم،
وتدير عينيها السوداوين من جانب لآخر،
وتمنح تحياتها إلى القوات والأعلام التي تمر أمامها.
ما الأمر يا سيدة الأقدار،
تبكين ولا تكادين تكونين إنسية؟
لماذا تهزين رأسك
الملتفة بعمامة صفراء وحمراء وخضراء؟
هل السبب هو ما ترينه،
أو ما سوف ترينه في المستقبل،
من أشياء بالغة الغرابة والعجب؟
١٨٧١م
لم أعد بعدُ شابًّا
لم أعد بعد شابًّا،
ولم أعد أحس رفاهة الشباب،
لا أستطيع خداع الزمن بكلامي،
فأنا متعثر في المجالس،
لا أعرف الرقص ولست من المتأنقين،
مجلس قلق وسط مجمع المثقفين،
ولا أتكلم وسطهم،
فلست من أهل الثقافة،
ولست عارفًا بالجمال ولا بالمعارف،
بيد أني أعرف شيئين أو ثلاثة،
لقد أطعمت الجرحى،
وواسيت كثيرًا من الجنود المحتضرين،
وأحيانًا، في فترات الانتظار،
أو في وسط المعسكر،
نظمت هذه القصائد.
١٨٦٥–١٨٧١م
سلالة المحاربين
سلالة المحاربين،
سلالة المنتصرين!
سلالة مَن جاءوا من الأرض،
متأهبين للصراع،
سلالة المسيرة الظافرة!
•••
لستم بعد سلالة التواكليين،
سلالة أنصاف الحلول؛
بل سلالة من لا يعرفون منذ الآن
سوى قانونهم الذاتي،
سلالة العواطف والعواصف.
١٨٦٥–١٨٧١م
انتبه أيها العالم
انتبه أيها العالم!
وأنتن أيتها النجمات المفضضات،
اللائي يذوي ضوءهن،
ويا درب اللبانة الجسور،
المنسوج من بياضٍ وافر،
ثمانٍ وثلاثون قطعةً من الفحم،
تئز وتتقِد،
حمراء متوهجة،
تنذر الجميع بالابتعاد،
الآن وبعد ذلك،
ستكون هناك على هذه الشواطئ.
١٨٦٥–١٨٦٧م
أي فتى المروج أسمر الوجه
أي فتى المروج
الذي لوَّحت الشمس وجهه:
قبل أن تأتي إلى المعسكر،
تلقينا كثيرًا من الهدايا التي احتفينا بها،
جاءنا الثناء والعطايا،
والغذاء الذي يشد العضد،
إلى أن أتيت أنت وسط المجنَّدين،
صموتًا،
لا شيء عندك تُعطيه،
ونظر بعضنا إلى البعض،
وعندها، انظروا،
أعطيتني أكثر مما تعطيني جميع هدايا العالم.
١٨٦٥–١٨٦٧م
انظر تحتك أيها القمر الجميل
انظر تحتك أيها القمر الجميل،
واغمر هذا المشهد بضوئك،
اصبب بحنانٍ طوفان الليل الساطع،
فوق الوجوه الجهماء المتورمة الأرجوانية،
فوق الموتى المنبسطين على ظهورهم،
وأذرعتهم مفتوحة مُمدَّدة،
اصبب شعاعك السخي أيها القمر القدسي.
١٨٦٥–١٨٦٧م
مصالحة
كلمة تهيمن على كل ما عداها من كلمات،
كلمة جميلة جمال السماء،
وجميل أن يطوي الزمن
الحرب وكل أعمال المجازر
في طيات النسيان تمامًا،
أن تقوم أيادي الأخوين —
الموت والليل —
مرة أخرى وإلى الأبد،
بغسل هذا العالم الذي غطته الأوزار،
فقد مات عدوي،
رجل إلهي مثلي تمامًا قد مات،
إني أنظر حيث يرقد،
أبيض الوجه ساكنًا في نعشه،
أقترب منه،
أنحني،
وألمس بشفتَي في رفق،
الوجه الأبيض في النعش.
١٨٦٥-١٨٦٦، ١٨٨١م
موكب مهيب
كم هو مهيب هذا الموكب،
واحدًا إثر واحد،
تعود صفوف الجنود،
مُنهَكين، عَرقى،
حين يمر الرجال حيث أقف،
حين تبدو الوجوه والأقنعة،
حين أتفكر في الوجوه وأدرس الأقنعة،
حين أرفع عيني من على هذه الصفحة،
وأدرسك، أي صديقي العزيز،
أيًّا كنت،
إنها لفكرة مهيبة،
فكرة روحي وهي تهمس،
في أذن كل جندي،
وفي أذنك أنت!
إني أرى وراء كل قناع
روعة روحٍ شقيقة لروحي،
أوَّاه،
إن الرصاصة لم يكن بوسعها
أن تقتل حقيقة ما كنتَه،
أي صديقي العزيز،
ولا طعنة السونكي
بوسعها قتل ما كنتَه حقيقة،
الروح!
إني أراك كما أنت:
عظيمًا كأعظم ما يكون،
حميدًا كأحمد ما يكون،
تنتظر في ثقة وقناعة،
وهو ما لم تستطع الرصاصة أن تنال منه،
ولا طعنة السونكي،
أي صديقي.
١٨٦٥–١٨٧١م
إذ أرقد ورأسي على حِجرك أيها الرفيق
إذ أرقد ورأسي على حِجرك أيها الرفيق،
أُعيد على مسامعك ما اعترفت لك به،
أعيد ما قلته لك وما قلته للهواء الطلق،
أعرف أن بي قلقًا،
وأنني أنقله إلى الآخرين،
أعرف أن كلماتي أسلحة،
مشحونة بالخطر،
مشحونة بالموت،
فأنا أجابِه السلام والأمن،
وكل القوانين الثابتة،
كيما أزعزع ثباتها،
وأنا أشد إصرارًا على عزمي،
لأن الجميع قد أنكروني،
مما لو كان قد قبلني الجميع،
بيد أني لا أحفل،
ولم أحفل قط،
لا بالخبرة ولا بالحذر ولا بالأغلبية،
ولا بالسخرية،
ولا بنُذر ما يُدعى بجهنم،
وإغراء ما يُدعى بالجنة،
لأن هذا لا يعني لي سوى القليل، أو لا شيء بالمرة،
أي رفيقي العزيز!
أعترف أنني قد دفعتك للمُضي معي قُدمًا إلى الأمام،
وما زلت أدفعك،
دون أدنى فكرة عما سيكون عليه مصيرنا،
أو ما إذا كنا سننتصر،
أو سننسحق وننهزم كلية.
١٨٦٥-١٨٦٦، ١٨٨١م
عنقود هش
أيها العنقود الهش،
أيتها الراية التي تجيش بالحياة!
تُغطي كل أراضيَّ،
وتوشِّي كل شواطئي!
أي راية الموت!
كم راقبتُك،
وأنت تشُقِّين طريقك،
عبر دخان المعارك!
كم سمعتُك تُخفقين وتُرفرفين،
أيها القماش المتحدي!
أيتها الراية الزرقاء السماوية،
أيتها الراية الشمسية،
المرقطة بأفلاك الليل!
آهٍ يا جمالي المفضض،
يا شارتي الصوتية البيضاء القرمزية،
آهٍ،
إني أغني أغنيتك،
أيتها الأم القوية!
أيتها المقدسة، يا أمي!
١٨٧١م
إلى رجل مدني
أتطلب مني أشعارًا حلوة؟
أتبحث عن أشعار سلمية فاترة أيها المدني؟
هل وجدت ما أقوله من أشعار،
عَصيًّا على الفهم؟
حسنًا، كل ما في الأمر،
أنني حتى الآن،
لم أكن أنشد كيما تتابعني وتفهمني،
ولن أفعل ذلك الآن.
لقد وُلِدت من ذات الأم التي ولدت الحرب،
وما دقات طبول الكتائب المستمرة،
إلا موسيقى عذبة في أذني،
كم أحب الموسيقى العسكرية الجنائزية،
بنُواحِها البطيء ونبضها المتشَنِّج،
تتقدم جنازة الضابط.
أي نفع يمكن أن يكون لك آخر الأمر،
شاعرٌ مثلي؟
دع عنك إذن أعمالي،
واذهب لتُرفِّه عن نفسك،
بما يمكنك أن تفهمه،
على إيقاع البيانو،
فأنا لا أرفِّه عن أحد،
وأنت لن تستطيع أبدًا أن تفهمني.
١٨٦٥–١٨٧١م
ها أنت منتصرة فوق الذرى
ها أنت منتصرة فوق الذُّرى،
ترقبين العالم،
بجبهة عاليةٍ قوية،
العالم، أيتها الحرية،
الذي تآمر عليك دون جدوى.
فقد تحررتِ من أضرار جسيمة لا حصر لها،
بعد أن تصديت لها،
وخرجت منتصرة،
تحف بك شمسك الباهرة،
تبدين الآن لم يمسسك سوء،
مُفعَمة بالقوة الخالدة،
والرفاه،
انظروا،
في هذه الساعات الجلية،
لست هنا كي أنشد أي قصيدة فخر،
ولا شعرًا رصينًا فخيمًا؛
بل كيما أقدم لكم،
عنقودًا من ظلال الليل،
ومن الجراح التي تقطر دمًا،
ومزامير من أجل الموتى.
١٨٦٥-١٨٦٦، ١٨٨١م
روحٌ أنجَز مهمته
(مدينة واشنطن، ١٨٦٥م)
أيها الروح الذي أنجز مهمته،
روح الساعات الرهيبة!
قبل أن ترحل،
عليك أن تمحو من أمام ناظري،
غاباتك من سيوف السونكي؛
أي روح المخاوف والشكوك المدلهمة،
الذي ما زلت تتقدم،
سادرًا دونما توقف،
روح الأيام العديدة المهينة،
والمشاهد العديدة الوحشية،
أيها الروح الكهربي،
يا مَن بصوتك المتعثر،
طُفت على الحرب التي انتهت الآن،
كشبحٍ لا يكل ولا يهدأ،
وأثرتَ الأرض بنفثةٍ من النار،
بينما تدق الطبول وتدقها،
الآن حين لا يزال صوت دقات الطبول
يدوي أجوف أجشَّ،
يتردد صداه من حولي،
إذ صفوف قواتك،
صفوفك الخالدة،
تعود،
تعود من المعارك،
إذ بنادق الشباب لا تزال مُعلَّقةً على أكتافهم،
إذ أتطلع إلى السونكي يبرق من فوق أكتافهم،
إذ نصال السونكي تلك المائلة،
تتراءى غابات كثيفة منها على البُعد،
تقترب وتمر بي، عائدة إلى بيوتها،
تتحرك بخطًى ثابتة،
تتمايل من هذه الناحية إلى الناحية الأخرى،
من الشمال إلى اليمين،
في تناسُق،
تعلو وتهبط،
بينما الخطوات تدق على الإيقاع.
أي روح الساعات التي عشتها،
يومًا حامية ملتهبة،
ويومًا شاحبة كالموت.
المس فمي قبل أن ترحل،
اضغط على شفتي،
اترك معي نبضك الغاضب،
هبه لي إرثًا،
املأني بتيارات تَشنجيَّة،
دعها تنبت من أشعاري الملتهبة الحارقة،
بعد أن ترحل،
دعها تتعرف عليك في المستقبل،
ماثلًا في هذه الأشعار.
١٨٦٥-١٨٦٦، ١٨٨١م
وداعًا أيها الجندي
وداعًا أيها الجندي،
أنت يا مَن كنت في المعركة الضارية
التي تشاركنا فيها،
المسيرات السريعة،
وحياة المعسكرات،
حياة الاشتباكات الحامية،
بين جبهات متعادية،
والمناوشات الطويلة،
حياة المعارك الحمراء،
بمجازرها،
وحوافزها،
اللعبة الوحشية الرهيبة،
سحر كل هذه القلوب،
الجسورة والرجولية.
إن مسرى الزمن،
الذي جرى في عروقك،
وعروق زملائك،
يملؤكم بالحرب،
وتعبيرات الحرب.
•••
وداعًا أيها الرفيق العزيز،
إن مهمتك قد أُنجزَت.
ولكني أنا —
الملتحف بالحرب —
أنا وروحي المناوئة،
ما زلنا في طريق معركتنا،
عبر دروب لم يسلكها أحد،
يصطف على جانبيها أعداء مختفون،
عبر عديد من الهزائم الفادحة،
والمحن العديدة
التي تهز الأفئدة،
نسير هنا،
هنا معًا إلى الأمام،
نبحث عن المعارك،
أجل، هنا،
نُعبِّر عن معارك،
أشد شراسةً وأكثر وقعًا.
١٨٧١م
عودي أيتها الحرية
عودي أيتها الحرية،
فقد انتهت الحرب.
من عندها، ومن عند كل شيء،
ستتَّسعين وتنمين،
دون أي شكوك،
واثقةً
تجتاحين العالم كله.
دعي عنك أرض الماضي
التي تسطر تاريخ ما سبق!
دعي عنك المنشدين
الذين يتغنون بأمجاد الماضي،
أغاني العالم الإقطاعي،
انتصارات الملوك،
الاستعباد،
الطوائف،
التفتي نحو العالم،
إلى الانتصارات التي في الطريق،
دعي عنك العالم المتخلف،
دعيه إلى منشدي الأمس،
أعطيهم الماضي.
إن ما يبقى
يبقى لمنشدين مثلك،
حروب المستقبل هي لك،
انظروا كم حصَّنتكِ حروب الماضي،
وسوف تُحصنك حروب المستقبل،
عودي إذن ولا تخافي أيتها الحرية،
عودي بوجهك الخالد،
إلى حيث يوجد المستقبل،
أعظم من كل ماضٍ سَبَق،
المستقبل الذي يجهز نفسه عن ثقة،
انتظارًا لك.
١٨٦٥–١٨٧١م
إلى الأرض الخصيبة التي وطِئَتها أقدامهم
إلى الأرض الخصيبة التي وطِئَتها أقدامهم،
أنادي وأغني لآخر مرة،
أخرج من خيمتي للمرة الأخيرة،
وأنزع عنها حبالها،
وسط طراوة هواء الصباح،
وسط حقول مترامية الأطراف،
ومناظر الطبيعة
التي عاد إليها السلام،
أخرج إلى الحقول الخصيبة المثمرة،
ومناظر الطبيعة فيما وراءها،
إلى منتهى البصر،
إلى الجنوب وإلى الشمال،
أخرج إلى الأرض الخصيبة،
في العالم الغربي،
الذي سيكون شاهدًا على أغانيَّ،
إلى تلال «أليغاني»،
إلى المسيسيبي الذي لا يكل ولا يتعب،
أنادي، مغنيًا على الصخور،
وعلى كل أشجار الغابات،
إلى وديان قصائد الأبطال،
إلى البراري عريضة الاتساع،
إلى البحر القَصيِّ،
إلى الرياح الخفيَّة،
والهواء النقي الذي لا ملمس له.
أُغني والكل يجيبني،
ولكن من دون كلمات.
الأرض المشاع شاهدة على الحرب وعلى السلم،
تقول لي دونما كلمة إنها تفهمني،
والبراري تُقرِّبني منها،
كما يُقرِّب الأب ابنه إلى حضنه العريض،
وثلوج الشمال وأمطاره —
التي نشأت في أحضانهما أصلًا —
يغذياني حتى النهاية،
ولكن شمس الجنوب الحارة
هي التي ستضفي نُضجًا
على أناشيدي.
١٨٦٥-١٨٦٦، ١٨٨١م
سلامًا أيها العالم
١
آه، خُذ بيدي يا والت ويتمان!
مثل هذه الروائع تَترى!
مثل هذه المناظر والأصوات!
مثل هذه الروابط المتصلة التي لا تنتهي،
كل منها معكوف على الآخر،
كل منها يشعر بالحب تجاه الآخرين،
كل منها يُشاطر الآخرين الأرض.
•••
ما الذي يتمدد في داخلك يا والت ويتمان؟
ما الأمواج والأراضي؟
ما الذي يصَّاعد؟
ماذا هنا من الأشخاص والمدن؟
مَن هم الأطفال، بعضهم يلعبون،
وبعضهم ينامون؟
مَن هُن الفتيات؟ مَن هُن النسوة المتزوجات؟
مَن هم جماعات الشيوخ،
يسيرون الهُوينى،
وأذرعتهم تطوق أعناق الآخرين؟
ماذا هنا من أنهار؟
ماذا هنا من غابات وفاكهة؟
ما اسم تلك الجبال التي تعلو،
شامخاتٍ وسط الضباب؟
ما هذه الآلاف من المساكن،
عامرة بساكنيها؟
٢
في داخلي
تتمدد خطوط عرض،
وتتطاول خطوط طول،
آسيا، أفريقيا، أوروبا،
إلى الشرق،
وأمريكا تختص بالغرب،
وينساب خط الاستواء الحار،
مُلتفًّا على محيط الأرض الشاسع،
والشمال والجنوب،
يا للعجب،
يُشكِّلان طرفَي المحور.
وفي داخلي يكمن أكثر الأيام طولًا،
وتدور الشمس،
فتحمل لي خواتم،
ولا تغرب شهورًا عِدة،
وتمتد شمس منتصف الليل في داخلي،
وتطلع في الأفق كيما تعود إلى الانحسار.
في داخلي ثمة مقاطعات، بحور، شلالات.
غابات، براكين، وعدة جزر:
ماليزيا، بولونيزيا،
وجزر الهند الغربية الكبرى.
٣
ماذا تسمع يا والت ويتمان؟
•••
أسمع العامل يغني وزوجة الفلاح تغني،
أسمع على البعد أصوات الأطفال والحيوانات في مطلع اليوم،
أسمع صيحات الحَدو،
يطلقها الأستراليون وهم يتتبعون الجياد البرية،
أسمع الرقصات الإسبانية بالصناجات،
تحت ظلال أشجار القسطل،
على أنغام الرباب والقيثارة،
وأسمع أصداءً متواصلةً تتصاعد من نهر التيمز.
أسمع أغاني الحرية الفرنسية الثائرة،
أسمع التراتيل المدرسية للقصائد الغابرة،
يغنيها بحَّارة الجندول الإيطاليون،
أسمع الجرادات في سوريا،
وهي تضرب الغلال والحشائش،
بشآبيب سحاباتها المخيفة،
أسمع التراتيل القبطية،
عند الغروب،
وهي تنسدل في استغراق،
على الصدر الرحيب،
للأم الوقور السوداء؛ النيل.
أسمع حداء البغَّال المكسيكي،
والأجراس المعلَّقة في أعناق البغال،
أسمع المؤذن العربي
ينادي من أعلى المسجد،
أسمع القساوسة المسيحيين
عند كنائسهم،
أسمع استجابة الوضيع والرقيع،
أسمع صيحة القوزاق،
وصوت البحار يدلف إلى مياه «أوكوفسك»،
أسمع حفيف قافلة العبيد،
إذ هم يغذون السير في صفوفٍ مثنى أو ثلاث،
والأغلال في معاصمهم وكواحلهم،
أسمع العبري يتلو تاريخه ومزاميره،
أسمع أساطير الإغريق المنغمة، وأساطير الرومان القوية،
أسمع قصة الحياة الإلهية، والموت الدموي للإله الجميل يسوع،
أسمع الهندوسي يُعلِّم تلميذه المفضَّل الغراميات والحروب والأمثال
ينقلها اليوم شعراء كتبوها منذ ثلاثة آلاف عام.
٤
ماذا ترى يا والت ويتمان؟
مَن هم أولئك الذين تُحيِّيهم والذين يُحيُّونك واحدًا تلو الآخر؟
•••
أرى أعجوبةً ضخمة مستديرة،
تسبح في الفضاء وتدور.
أرى مزارع وقرًى وأطلالًا وقبورًا وسجونًا،
ومصانع وقصورًا،
وأكواخ البؤساء وخيام الرُّحَّل،
كلها صغيرة الحجم على سطح الأرض،
أرى الجانب الظليل على إحدى الجهات،
حيث ينام النائمون،
وأرى الجانب المشمس في الجهة الأخرى،
أرى التحول السريع من النور إلى الظلال،
أرى أراضي قَصيَّة،
حقيقية ودانية لسكانها،
كما هي أرضي حقيقية ودانية لي.
•••
أرى مياهها غزيرة،
أرى قمم جبال،
أرى سلسلة جبال الأنديز التي تمتد إلى ما لا نهاية،
أرى بوضوح جبال الهملايا،
وشان شاه، والألتاي، والغاوت،
أرى الذرى الشاهقة لإبروز وكازبك والبازار وجوسي،
أرى جبال الألب الستيرية، وجبال الألب الكرنكية،
أرى جبال البرانس، والبلقان، والكاربتيان،
وإلى الشمال أرى «الدوفرا فيلدس»،
وهناك، في البحر، جبل هكلا،
أرى فيزوف، وإتنا، وجبال القمر،
وجبال مدغشقر الحمراء،
أرى صحراء ليبيا والصحراء الغربية،
وصحاري آسيا،
أرى جبال ثلج هائلة
في القارة القطبية والأنتاركتيكا،
أرى المحيطات العليا والدنيا،
الأطلسي والهادئ،
بحر المكسيك، البحر البرازيلي، بحر بيرو،
مياه الهندوستان، بحر الصين، خليج غينيا،
مياه اليابان، خليج ناجازاكي الجميل، المنغلق وسط جباله،
امتداد البلطيق، الكاسبي، بوثنيا، الشطآن البريطانية، خليج بسكاي،
البحر الأبيض المتوسط، والشمس الصافية،
وفي جزيرة من جزره إلى أخرى،
البحر الأبيض، والبحر المحيط بجرينلاند.
أرى بحَّارة العالم، بعضهم يجابهون العواصف،
وبعضهم يلفُّهم الليل وهم يراقبون،
وبعضهم يضلون الطريق بلا حول ولا قوة،
وبعضهم تعصف به الأمراض المعدية.
•••
أرى السفن الشراعية والسفن البخارية
في العالم أجمع،
بعضها يتجمع في الموانئ،
وبعضها يجول في أسفاره،
بعضها يخترق «رأسها العواصف»،
والآخر «الرأس الأخضر»،
وأخرى رءوس «جواردافوي وبون وماخادور»،
وأخريات «رأس دوندرا»،
وأخريات يعبرن مضائق «سندا»،
وأخريات «رأس لوباتكا»،
وأخريات مضائق «بهرنج»،
وأخريات «رأس هورن»،
وأخريات يُبحرن في خليج المكسيك،
أو بإزاء كوبا أو هايتي،
وأخريات خليج هدسون أو خليج «بافين»،
وأخريات يعبرن مضائق دوفر،
وأخريات يدخلن خليج «ووش»،
وأخريات مصب نهر «سولواي»،
وأخريات يلتففن حول «رأس كلير»،
وأخريات «رأس فينيستير»،
وأخريات يخترقن، «الشلد» أو «زويدر زي»،
وأخريات يدخلن ويخرجن من جبل طارق أو الدردنيل،
وأخريات يشققن طريقهن بعزم،
وسط أكوام جليد الشتاء،
وأخريات يصعدن أو يهبطن «الأوبي» أو «اللينا»،
وأخريات نهر النيجر أو الكونغو،
وأخريات الهندوس، والبورامبوتر، وكمبوديا،
وأخريات ينتظرن على أهبة الاستعداد،
جاهزات للإبحار في موانئ أستراليا،
ينتظرن في ليفربول وجلاسجو ودبلن ومرسيليا ولشبونة ونابولي وهامبورج
وبريمن وبوردو ولاهاي وكوبنهاجن،
ينتظرن في فالبراييسو وريو دي جانيرو وبنما.
٥
أرى قضبان السكك الحديدية في العالم كله،
أراها في بريطانيا العظمى، أراها في أوروبا،
أراها في آسيا وفي أفريقيا.
•••
أرى خطوط التلغراف الكهربائية في العالم كله،
أرى الأمازون والباراجواي،
أرى أنهار الصين الأربعة العظمى،
الآمور، والنهر الأصفر، واليانجتسي، والبيرل،
أرى نهر السين يتدفق،
والدانوب واللوار والرون والوادي الكبير.
أرى الفولجا متعرجًا،
والدنيبر والأودر،
أرى التوسكان يجري عبر الأرنو،
والفينيسي على طول البو،
أرى البحَّار الإغريقي يخرج من خليج إجينا.
٦
أرى موقع إمبراطورية آشور القديمة،
وفارس، والهند،
أرى هدير مياه الجانج فوق حافة سوكارا العالية،
أرى فكرة الألوهية المتجسدة وراء آلهة في هيئة آدمية،
أرى المكان الذي تترى فيه مواكب القساوسة في العالم، ومهابط الوحي،
والقرابين،
والبراهمة، والعرفاء، واللآما، والكهان، والشيوخ، والوعاظ،
أرى المكان الذي كان الدردوديون يجوبون فيه غابات مونا،
أرى نباتات الدبق ورعي الحمام،
أرى معابد الموتى، والأجساد، والآلهة،
أرى الرموز العتيقة.
•••
أرى المسيح يأكل رغيف عشائه الأخير وسط شبانٍ وشيوخ،
أرى المكان الذي عمل فيه هرقل القوي، الفتى الإلهي،
في إخلاص وقتًا طويلًا ثم مات،
أرى المكان الذي عاش فيه باخوس — ذلك الابن الليلي الجميل
ذو التناسق الجسماني — حياةً خصبة ولقي مصيرًا محزنًا،
أرى «كنف» مزدهرًا، مرتديًا اللون الأزرق، وعلى رأسه تاج من
الريش،
أرى هرمز، لا شية فيه، يحتضر، محبوبًا،
يقول للناس: «لا تبكوا من أجلي؛ إن هذا ليس بلدي الحقيقي،
لقد أتيت هنا منفيًّا من وطني، والآن أعود إليه، أعود إلى العالم السماوي
الذي يذهب إليه كل من حانت ساعته.»
٧
أرى ساحات المعارك في الأرض، حيث ينمو العشب، والأزاهير والقمح أيضًا أرى
آثار البعثات الاستكشافية قديمها وحديثها،
أرى بنايات لا اسم لها،
لمحات وضيئة لأحداث وأبطال وسجلات الأرض المجهولة.
أرى أماكن الملاحم البطولية،
أرى أشجار سرو وأشجار شربين وقد عبثت بها رياح الشمال،
أرى جلاميد وجرفًا، أرى مروجًا خضراء وبحيرات،
أرى قبور المحاربين الإسكندنافيين، أراها مرتفعة،
مُكلَّلة بأحجار عالية إلى جوار شاطئ المحيطات الفائرة،
كيما تقوم أرواح الموتى —
حين يخيم عليها الضجر — من قبورها الساكنة،
وتهيم ما بين المقابر وتتطلع إلى الموجات الهادرة،
وتنتعش بالعواصف والاتساعات الرحيبة والحرية والأفعال.
•••
أرى مراعي الإستبس في آسيا،
أرى هضاب منغوليا،
أرى عشرات الكاملوك والباشكير،
أرى القبائل الرُّحل،
مع قطعان الثيران والأبقار،
أرى النجاد تشقها الوهاد،
أرى الغابات والصحاري،
وأرى الجِمال، والجياد البرية، والغرانيق، والخراف ذات الذيول السمينة،
والوعول، وذئاب الجحور،
أرى مرتفعات الحبشة،
أرى قطعان الماعز ترعى، أرى شجرة التين، وشجرة التمرهندي، ونحيل
البلح،
وأرى حقول القمح ومساحات خضراء وذهبية.
أرى راعي البقر البرازيلي.
•••
أرى البوليفي يرتقي جبل سوراتا،
أرى راعي البقر الأرجنتيني يعبر السهول،
أرى فرسان الجياد الذين لا يُقهَرون،
وأنشوطتهم فوق ذراعهم،
أرى في مراعي البامبا الماشية البرية تهرب مختفية من صياديها.
٨ (٩)
أرى بقاع الثلج والجليد،
أرى سمكة السلمون ذات العيون الخارقة،
أرى الفنلندي،
أرى صياد الفقمة في حذائه الطويل يسدِّد حربته،
أرى رجل سيبيريا في زحافته البدائية تجرها الكلاب،
أرى صيادي خنازير البحر،
أرى بحارة الحيتان في جنوب المحيط الهادئ وشمال الأطلسي،
أرى الجرف الساحلي، والأنهار الجليدية، والسيول، والوديان، في سويسرا،
وألحظ الشتاء الطويل والعزلة.
•••
أرى مدن الأرض وأجعل من نفسي جزءًا منها دون جهد،
فأنا باريسي قُح،
وأنا من سكان فيينا، وسان بطرسبرج، وبرلين، والقسطنطينية،
وأنا من أولايدا، من سيدني، من ملبورن،
من لندن، مانشستر، برستول، إدنبرة، ليمريك،
أنا من مدريد، قادس، برشلونة، أوبورتو، ليون، بروكسل،
برن، فرانكفورت، شتوتجارت، تورين، فلورنسا،
أنا أنتمي إلى موسكو، كراكو، وارسو، أو شمالًا من كريستيانا،
أو ستوكهولم أو أركسوتسك السيبيرية، أو شارع من شوارع أيسلندا،
أسير بخطواتي في كل هاته المدن، ثم أرتفع عنها ثانية.
١٠
أرى سُفنًا تجاريةً تغادر أراضي لم يكتشفها أحد،
أرى الأنماط البدائية، القوس والسهم، والرباط المسموم،
والصنم البدائي، والزنَّار الياباني.
•••
أرى مُدنًا أفريقية وآسيوية،
أرى الجزائر، طرابلس، درن، موجادور، تمبكتو، منروفيا،
أرى الجموع في بكين، كانتون، باريس، دلهي، كلكتا، طوكيو،
أرى رجل كرومان في كوخه، ورجال دوهمان والأشانتي في أكواخهم،
أرى التركي يدخن الأفيون في حلب،
وأرى الجماهير المزدانة في مهرجانات كيفا وهيرات،
أرى طهران، أرى مسقط والمدينة والرمال التي تفصل بينهما، أرى القوافل
تمضي خَببًا،
أرى مصر والمصريين، أرى الأهرامات والمسلَّات،
أرى التاريخ منقوشًا على الحجر، وسجلات الملوك الغُزاة، والأسر الحاكمة،
منقوشة في ألواح من الحجر الرملي، أو كتل من الجرانيت،
أرى في ممفيس مستودعات المومياوات، بل مومياوات مُحنَّطة،
ملفوفة بالكتان، راقدة هناك قرونًا وقرونًا،
أتطلَّع إلى ساكن طيبة ذي العينين البيضاوَين والعنق المدلَّى واليدين
المعقودتين فوق الصدر.
•••
أرى كل بسطاء الأرض، يعملون،
أرى كل السجناء في السجون،
أرى الأجساد الآدمية المشوَّهة،
الأعمى، الأكمه، الأبله، الأحدب، المجنون،
القراصنة، اللصوص، الخونة، القتلة، تجار الرقيق،
الأطفال المساكين، والعجائز المساكين.
•••
أرى الرجال والنساء في كل مكان،
أرى جماعات الفلاسفة،
أرى الروح البنَّاءة في عنصري،
أرى ثمار المثابرة والعمل في عنصري،
أرى المراتب، والألوان، والهمجيات، والمدنيات،
وأطوف بينهم، وأمتزج بهم دون تفريق،
وأحيي كل سكان الأرض.
١١
أنت، أيًّا كنت، أنت، يا ابن أو ابنة إنجلترا!
أنت، يا مَن تنتمي لقبائل وإمبراطوريات الصقالبة العظام!
أنت أيها الروسي من روسيا،
أنت أيها الأفريقي مجهول الهوية ذو الروح الإلهية،
عريضًا، جميل الرأس، نبيل التكوين، رائع المصير،
على قدم المساواة معي.
•••
أنت أيها النرويجي! السويدي! الدنماركي! الأيسلندي! البروسي!
أنت أيها الإسباني قاطن إسبانيا، أنت أيها البرتغالي!
أنت أيتها الفرنسية وأنت أيها الفرنسي، قاطنا فرنسا!
أنت أيها البلجيكي! أيها الهولندي عاشق الحرية!
ذو العنصر الذي تحدرتُ أنا منه أيضًا.
أنت أيها النمساوي القوي! أنت أيها اللومباردي! أيها الهون
البوهيمي!
أنت أيها الفلاح في سوريا!
أنت يا جار الدانوب!
أنت أيها العامل في الراين، أو في الألب، أو الويزر!
وأنت أيتها المرأة العاملة أيضًا!
أنت يا ساكن سردينيا! والسوابي! وأيها البافاري!
والولاشي! والسكسوني! والبلغاري!
أيها الروماني، والنابوليتاني! أنت أيها اليوناني!
أنت أيها المتادور البارع في حلبات مصارعة الثيران في إشبيلية!
أنت يا قاطن الجبال تعيش دومًا دونما شريعة في جبال طوروس أو
القوزاق،
أنت يا راعي الجياد في بُخارى، تراقب مُهراتك وجيادك وهي ترعى،
أنت أيها الفارسي جميل القامة، تسابق الريح على صهوة جوادك،
وتطلق سهامك إلى أهدافها!
أنت أيها الصيني وأنت أيتها الصينية في الصين! أنت أيها التتاري
في بلاد التتار!
أنتن يا نساء الأرض، تباشرن أعمالكن في انهماكٍ تام،
أنت أيها اليهودي ترحل في سنيِّك المتقدمة متحديًا الأخطار،
كيما تخطو قدمك مرة واحدة على أرض سوريا!
أنتم يا بقية اليهود، تنتظرون مسيحكم في كل أنحاء الأرض!
أنت أيها الأرمني المتفكر، مستغرقًا في الفكر،
إلى جوار غدير من غدران نهر الفرات،
أنت يا مَن تصعد جبل أرارات! أنت يا مَن ترقب أطلال نينوى!
أنت أيها الحاج واهن القدم، يا مَن تحيي أنوار مآذن مكة مِن على
البعد!
أنتم أيها الشيوخ على طول المضيق من السويس إلى باب المندب،
أتحكمون في أسركم وقبائلكم!
أنتم يا زارعي أشجار الزيتون، تتعهدون ثماركم
في حقول الناصرة أو دمشق أو بحيرة طبرية!
أنتم يا تجار التبت في البطاح الشاسعة،
أو في متاجر لاسا تساومون!
أنت أيها الرجل الياباني أو المرأة اليابانية!
أنتم يا مَن تعيشون في مدغشقر، سيلان، سومطرة، بورنيو!
آسيا وأفريقيا وأوروبا وأستراليا، أنتم جميعًا يا قاطني القارات،
دون تمييز بين مكان وآخر!
أنتم جميعًا يا مَن تعيشون في الجزر العديدة من أرخبيلات البحر!
وأنتم يا مَن سَتُولدون عبر القرون وتسمعونني!
وكل واحد منكم، في كل الأماكن التي لم أذكرها،
فلتعلموا أني أعنيكم أيضًا!
أشرب في صحتكم وأتمنى لكم أطيب الأمنيات!
لكم جميعًا مني ومن أمريكا.
•••
كل فرد منا حتمي،
كل فرد منا لا حدود له،
حق الحياة على الأرض، كل واحد وكل واحدة له،
كل فرد من حقه تحقيق أهدافه الأزلية الأرضية،
كل فرد هنا مُقدَّس مثله مثل الآخرين.
١٢
أنت أيها البدائي لا تعرف اللسان الذرب!
أنتم أيتها القطعان ذات الشعر الصوفي!
أنتم أيها المملوكون، يا مَن تتركون قطرات العرق،
أو قطرات الدماء تسيل على وجوهكم!
أنتم أيتها الأشكال الآدمية، يا مَن ينظر لكم أحط المخلوقات
بازدراء،
رغمًا عن لغتكم وروحانيتكم البراقتين!
أنت أيها القزم، في كبمتشلك وجرينلاند ولاب،
أنت أيها الزنجي الجنوبي، عاريًا، أحمر،
يغطيك السناج، ذو الشفاه الغليظة، تزحف طالبًا غذاءك،
أنت أيها الكافري، البربري، السوداني!
أنت أيها البدوي، شاحب الوجه، خشن الطباع، لم يمسسك التعليم!
أنت أيتها الجماهير الممرورة في مدارس، نانكين، كابول، القاهرة!
أنت أيها الجوال الساري ليلًا في الأمازون!
أنت أيها الفيجي! أنت أيها الباتاجوني!
أنا لا أفضِّل أحدًا عليكم أيضًا!
لا أنطق حرفًا ضدكم، وأنتم هناك بعيدًا،
فستبرزون إلى جواري في الوقت المناسب.
١٣
لقد طافت روحي بتعاطف وعزم حول الأرض كلها،
لقد بحثت عن أقراني وعن أحبائي ووجدتهم حاضرين لي في كل أرض،
وأومن أن رابطةً إلهيةً قد ساوتني بهم.
•••
أنت أيتها الأبخرة الضبابية، أرى أنني صعدتُ منك،
وفي صحبتك رحلت إلى قارات قصية، وهبطتُ هناك لأسباب عدة،
أرى أنني قد هببت معك أيتها الرياح؛
وأنت أيتها المياه، لقد داعبت كل الشواطئ معك،
لقد جريت في كل نهر أو مضيق يجري في العالم،
ووقفت في محاور الجزر وعلى الصخور التليدة،
كي أهتف من هناك:
•••
سلامًا أيها العالم!
ما من مدن يخترقها النور والدفء إلا وأنا أخترقها بنفسي أيضًا،
وما من جزر تطير إليها الطيور بأجنحتها إلا وأنا أطير إليها
بجناحيَّ.
•••
إليكم جميعًا، باسم أمريكا،
أرفع يدي منتصبةً عاليًا، وأرسم الإشارة،
كيما تبقى من بعدي أبدًا في مرمى البصر،
واضحةً لكل أوكار الإنسان ومنازله.
١٨٥٦–١٨٨١م
أغنية الطريق الفسيح
١
أخرجُ إلى الطريق الفسيح،
سائرًا على قدمي،
والبهجة تغمر فؤادي،
موفور الصحة،
حرًّا،
أشعر أن الدنيا كلها تنبسط أمامي،
والدرب الطويل الأسمر أمامي،
يقودني إلى حيث أشاء وأختار.
•••
منذ اليوم،
لا أنشد حظًّا حسنًا،
فأنا نفسي الحظ الحسن،
منذ اليوم،
لن أشكو ولن أتضرر،
ولن أؤجل الأمور،
ولن أرغب في شيء،
لقد خلَّفت من ورائي الإشفاق على الذات،
والمكتبات،
والانتقادات،
أرحل إلى الطريق الفسيح،
قويًّا راضيًا.
الأرض، هي تكفيني،
لا أريد أن تكون مجرات النجوم السماوية
أكثر قربًا مني،
فأنا أعلم أنها في مكانها السليم حيث هي،
أعلم أنها تكفي مَن ينتمون إليها.
•••
ولكني أحمل هنا معي
أعبائي القديمة اللذيذة،
أحملهم معي، رجالًا ونساءً،
أحملهم معي أينما ذهبت،
وأقسم أنه يستحيل علي أن أتخلَّص منهم،
فأنا مليءٌ بهم،
وسأملؤهم بي كذلك في المقابل.
٢
أدلف إليك أيها الطريق،
وأتطلع حولي،
أرى أنك لست قفرًا وحيدًا هنا،
وأومن أن هناك الكثير هنا أيضًا،
مما لا يمكن رؤيته؛
هنا درسٌ عميقٌ بقبول كل شيء،
لا تفضيل شيء ولا استبعاد شيء،
سود البشرة ذوو الشعر الصوفي،
المجرمون، المرضى، الأميون،
ليسوا بمُستَبعَدين هنا؛
النسوة اللائي يلدن،
والبحث عن الطبيب،
تهويم الشحَّاذين،
ترنُّح السكارى،
جماعة الميكانيكيين الضاحكين،
الشاب الهارب من منزله،
عربة الرجل الثري،
الغندور،
العاشقان الهاربان،
رجل السوق المبكر،
عربة الموتى،
نقل الأثاثات إلى المدينة،
العودة من المدينة،
كلهم يعبرون،
وأنا أعبر،
كل شيء يعبر،
لا يمكن استبعاد أحد،
كل واحد مقبول هنا،
وكل واحد سيكون عزيزًا عندي.
٣
أيها الهواء
الذي تمنحني النفَس الذي أتكلم به!
أنت أيتها الأشياء،
إنكم تخلقون معنًى لما أريد التعبير عنه،
بعد أن كان أشتاتًا مُبَعثَرة،
وتعطونه شكلًا،
وأنت أيها النور،
إنك تحيط بكل الأشياء،
وبي وأيضًا،
بفيض أشعة رهيفة متكافئة!
وأنت أيتها الدروب المطروقة،
تتفرعين من جانبي الطريق
في أغوار لا انتظام فيها،
أرى أنك مُحمَّلةٌ في داخلك
بوجودٍ غير منظور،
كم أنت عزيزة عندي!
•••
وأنت،
أي طرُق المدينة المرصوفة بالحجارة!
أنت أيتها الأرصفة الصلدة،
عند أطراف الطرق!
أنت أيتها المعديات البحرية،
أنت أيتها الألواح الخشبية والعواميد في الموانئ،
أنت أيتها الجوانب التي بطائنها من خشب!
أنت أيتها السفن القصية!
أنت يا صفوف المنازل!
أنت أيتها الواجهات التي تخترقها النوافذ!
أنت أيتها الأسطح!
أنت أيتها الشرفات والمداخل!
أنت أيتها الأبواب الحديدية،
أنت أيتها النوافذ،
التي تبين جوانبها الشفافة عن الكثير في الداخل،
أنت أيتها الأبواب والسلالم،
أنت أيتها الأقواس!
أنت أيتها الأحجار الرمادية،
للطرقات التي لا نهاية لها!
أنت أيتها التقاطعات المزدحمة بالمارة!
لقد أخذتم شيئًا مِن كل مَن لمسكم،
ولسوف تنقلون لي ما أخذتموه منهم،
سرًّا وخفية،
لقد عمرتم سطحكم الفاتر،
بالأحياء وبالأموات،
وأرواحهم تريد أن تستبين فيها،
وتصبح من أصدقائي.
٤
الأرض تتسع عن اليمين وعن الشمال،
الصورة حية،
وكل جزء فيها يبدو في أبهى ضياء،
وتجيء الموسيقى حين تمس الحاجة إليها،
وتتوقف حين لا يحتاجها أحد،
الصوت البهيج للطريق العام،
الشعور الطازج المرح
الذي يبعثه الطريق في النفوس.
•••
آهٍ أيها الطريق السريع الذي أرحل فيه،
هل تقول لي: لا تتركني؟
هل تقول لي: لا تخاطر؟
لو تركتني ستضل الطريق؟
هل تقول لي: إني مريحٌ تمامًا،
أرضي مُمَهَّدة والكل يقبلني،
فكن معي دائمًا؟
آهٍ أيها الطريق العام،
إني أرد عليك بأني لا أخشى أن أتركَك،
ومع ذلك فأنا أحبُّك،
إنك تعبِّر عني أفضل مما أعبِّر به أنا عن نفسي،
إنك ستكون عندي أعز من قصيدتي.
•••
إني أومن بأن كل الأعمال البطولية
قد تشكلت فكرتها في الهواء الطلق،
وكل القصائد الحرة أيضًا،
إني أومن أنه بوسعي التوقف هنا،
وإتيان المعجزات،
إني أومن بأني سوف أحب
كل ما سأصادفه في الطريق،
وأن كل من سيراني سيحبني،
وأومن بأن مَن أراه،
لا بد أن يكون سعيدًا.
٥
منذ هذه الساعة،
أعلن نفسي طليقًا من كل حدود،
ومن كل حواجز وهمية،
أتوجَّه حيثما أشاء وأبغي،
سيد نفسي على نحو كامل مُطلَق،
أصغي إلى الآخرين،
وأنظر فيما يقولون بعناية،
أتوقف، وأبحث، وأستقبل، وأتفكر،
وأخلع عني أي قيود قد تثقلني،
في رفق،
ولكن بعزم قوي.
•••
إني أستنشق جرعات كبيرة من الفضاء،
الشرق والغرب ملك يميني،
والشمال والجنوب ملك يميني.
•••
إنني أكبر وأفضل مما كنت أظن،
لم أكن أدري أن عندي كل هذه النعمة.
•••
كل شيء يبدو جميلًا في ناظري،
بوسعي أن أقول مرارًا للرجال والنساء:
لقد أحسنتم صنعًا معي،
وأود أن أفعل الشيء نفسه معكم،
سوف أتزوَّد في طريقي لنفسي ولكم،
سوف أمتزج في طريقي مع الرجال والنساء،
سوف أطرح وسطهم سعادة وصلابة جديدتين،
ومَن ينبذني لن يسبب لي أي أذًى،
ومَن يقبلني سوف يصبح مُبارَكًا،
وسوف يباركني.
٦
والآن،
لو ظهر ألف رجل كامل من كل وجه،
لَما أدهشني ذلك،
ولو ظهرت ألف امرأة جميلة،
لما أدهشني ذلك.
•••
إني أرى الآن
سر خَلق أفضل الناس،
السر هو العيش في الهواء الطلق،
والأكل والنوم مع الأرض،
هنا يكمن خَلق عمل شخصي عظيم،
مثل هذا العمل،
تهفو إليه قلوب العنصر البشري بحاله،
وما يبعثه من قوة وإرادة،
سوف يعلو على أي قانون،
ويسخر من أي سلطة أو فكرة تقف ضده.
•••
ها هنا يكمن اختبار الحكمة،
الحكمة — في نهاية الأمر —
لا يمكن اختبارها في المدارس،
ولا يمكن نقل الحكمة من أحد يملكها،
إلى آخر لا يملكها،
الحكمة هي عمل من أعمال الروح،
لا تخضع لبرهان،
إنها هي برهان نفسها،
وهي تنطبق على كل مرحلة،
وعلى كل الأشياء والصفات،
وهي مكتفية بذاتها،
هي يقين حقيقة الأشياء وخلودها،
وامتياز الأشياء في طوفان الغمام،
التي تدفعها إلى الخروج من الروح.
إني الآن أعيد النظر
في الفلسفات وفي الأديان،
إنها صالحة لقاعات المحاضرات،
ولكنها قد لا تكون كذلك تحت السحب العريضة،
وعبر مسارح الطبيعة والمياه الدافقة.
•••
ها هنا يتحقق إدراك المرء،
هنا يرى الإنسان قدر قيمته،
إنه يرى هنا ما يوجد في داخليته،
الماضي، المستقبل، الجلال، الحب،
لو أنها تخلو منك
فإنك تخلو منها.
إن اللُّب الذي يكمن في قلب الأشياء،
هو الغذاء الحقيقي فحسب،
أين هو ذاك الذي سيمزق
القشرة عن اللب،
من أجلك ومن أجلي؟
أين هو ذاك
الذي سيبطل المخططات وينزع الأغلفة،
من أجلك ومن أجلي؟
•••
هنا يكون «التلاحم» الحق،
إنه شيء غير سابق الصنع؛
بل تلقائي،
أتعرف ما هو أن تكون محبوبًا من الغرباء
حين تمر في الطريق؟
أتعرف ماذا تريد أن تقول
تلك العيون التي تنظر إليك؟
٧
هنا تكمن دفقات الروح،
دفقات الروح تأتي من الداخل،
تعبُر من خلال بوابات،
تثير أسئلة على الدوام،
لماذا كل هذا الحنين؟
لماذا كل هذه الأفكار التي تحوطها الظلمة؟
لماذا حين يكون الرجال والنساء إلى جواري
يمد نور الشمس الدماء في عروقي؟
لماذا حين يتركونني
تهبط بيارق بهجتي خامدة إلى القاع؟
لماذا توجد هناك أشجار
لا أمر من تحتها
إلا وتحط علي أفكار جليلة
ذات أنغام عذبة؟
أعتقد أنها تبقى هناك مُعلَّقةً على تلك الأشجار،
طوال الشتاء والصيف،
ولا تُسقِط من ثمارها إلا حين أمر أنا تحتها؛
ما هو سر التواصل
الذي يحدث بيني وبين الغرباء على نحوٍ فجائي؟
ومع بعض سائقي العربات العامة،
حين أجلس بجوارهم؟
ومع بعض الصيادين
الذين يجذبون شباكهم إلى الشاطئ،
حين أمر بهم وأتوقف عندهم؟
ما الذي يجعلني حرًّا،
لقبول التمنيات الطيبة
من النساء والرجال؟
وما الذي يجعلهم أحرارًا
لقبول تمنياتي الطيبة لهم؟
٨
إن دفقة الروح هي السعادة الحقة؛
هنا توجد السعادة،
أومن أنها تتخلَّل الهواء الطلق،
منتظرةً في كل حين،
إنها الآن تتدفق نحونا،
ونحن مملوءون بها تمامًا.
•••
هنا يظهر الطابع السيَّال والجذاب؛
الطابع السيَّال والجذاب
هو طزاجة الرجال والنساء وعذوبتهم.
إن حشائش الصباح
لا تنمو كل يوم من جذورها،
بأكثر طزاجةً وعذوبة،
من ذاك الذي ينمو طازجًا عذبًا،
باستمرار وعلى الدوام،
من داخل نفسه.
وينبجس عَرَق الحب من الصغير والكبير،
وينصب في الطابع السيَّال الجذاب،
ومنه يسقط — مقطرًا —
السحر الذي يسخر من الجمال والإنجازات،
ويتصاعد نحوه الألم الراجف المشتاق،
للاتصال فيما بين النفوس.
٩
هيا نمضي معًا،
أيًّا كنتم،
تعالوا وارحلوا معي!
إذا رحلتم معي؛
لن تشعروا أبدًا بأي تعب أو مشقة.
•••
الأرض لا تتعب قط،
الأرض — في البداية — تكون خشنة، صامتة، غير مفهومة،
والطبيعة — في البداية — تكون خشنة وغير مفهومة،
ولكن،
لا تصابوا بالإحباط،
استمروا،
ثمة أشياء إلهية محفوظة جيدًا،
أقسم لكم إن هناك أشياءً إلهية،
من الجمال بحيث لا تستطيع الكلمات لها وصفًا.
هيا نمضي معًا،
يجب ألا نتوقف هنا،
مهما يكن جمال هذه المحلات المزدانة،
ومهما تكن راحة هذا المسكن،
لا يمكن أن نبقى هنا،
مهما تكن الحماية التي يوفرها هذا المرفأ،
ومهما يكن من هدوء هذه الحياة،
فلا يمكن لنا أن نلقي مرساتنا هنا،
ومهما تكن الحفاوة التي تحيط بنا من كل جانب،
فلا يمكن أن نستمتع بها إلا لوقت قصير.
١٠
هيا نمضي معًا،
الحوافز ستكون أكبر،
فلسوف نبحر بلا هدف وسط مياه هائجة،
سوف نذهب حيث تهب الرياح،
وتصطفق الموجات،
وحيث تنطلق السفينة «اليانكية» بأقصى سرعتها.
هيا نمضي معًا،
في قوة، في حرية، الأرض، العناصر،
الصحة، التحدي، المرح، احترام الذات، حب الاستطلاع،
هيا نمضي معًا،
بعيدًا عن كل القواعد!
بعيدًا عن قواعدكم،
أنتم أيها الكهنة الماديون ذوو العيون الوطواطية.
•••
الجثة المتعفنة تسد علينا الطريق،
يجب ألا ننتظر دفنها.
•••
هيا نمضي معًا،
ولكن، كونوا على حذر أيضًا،
إن مَن يرحل معي
لا بد أن تجري في شرايينه أفضل الدماء،
وأن يمتلك أفضل قوة جسمانية،
وأكبر قدرة على التحمل،
لا أحد يخضع للتجربة إلا إذا كان شجاعًا موفور الصحة،
لا تأتي إلى هنا لو كنت قد أنفقت بالفعل أحسن ما عندك،
لا يأتي إلى هنا
سوى ذوي الأجسام العذبة العازمة،
لا أجسام مريضة،
ولا شاربي الخمر،
ولا ذوي الأمراض التناسلية،
إنهم لا مكان لهم هنا.
•••
لا أنا ولا مَن معي
نقنع بالحجج والبراهين،
لا بالاستعارات ولا بالأشعار،
إننا نقنع بحضورنا ووجودنا.
١١
أنصِتوا،
سوف أكون صريحًا معكم،
إنني لا أقدِّم الجوائز التقليدية السهلة،
ولكني أقدِّم جوائز جديدة صعبة،
هذه هي الأيام التي يجب أن تمروا بها،
إنكم لن تجمعوا ما يُسمَّى الثروات،
سوف تنثرون بأيدٍ سخية
كل ما تكسبون أو تنجزون؛
ما إن تصلوا إلى المدينة التي تقصدونها،
وما إن تستقروا فيها على أرضكم،
إلا ويدفعكم نداء لا يمكن مقاومته،
إلى الرحيل مرة أخرى؛
ولسوف يقابلكم المخلَّفون
بالبسمات الساخرة وعبارات التهكم،
ولن تردوا على أمارات الحب التي تتلقونها،
إلا بقبلات الرحيل الحارة،
ولن تسمحوا لمن يمد لكم أيديهم بالمحبة
أن يعيقوا رحيلكم.
١٢
هيا نمضي معًا،
في خطى الرفاق العظماء،
كيما ننتمي إليهم!
إنهم أيضًا يسيرون في الطريق،
إنهم الرجال يتميزون بالخفة والجلال،
وهن النساء العظيمات،
إنهم يستمتعون بالبحار في هدوئها،
ويستمتعون بالبحار حين تهزها العواصف،
بحارة في عديد من السفن،
ومشاءون على أميال عديدة من الأرض،
ساكنو الكثير من البلاد البعيدة،
قاطنو البيوت القصية،
يضعون ثقتهم في الرجال والنساء،
ويلحظون المدائن،
يعملون وحدهم؛
يتمهلون كي يتطلعوا إلى الشجيرات،
والأزاهير،
والأصداف على الشواطئ؛
هم مَن يرقصون في الأفراح،
ويقبِّلون العروس،
ويهدهدون الأطفال،
ويحملونهم بين أذرعتهم؛
هم الجنود في الثورات،
ومَن يقفون على حافة القبور الفاغرة،
ومَن يدلون النعوش في القبور؛
هم مَن يرحلون في كل الفصول
على طول مدار السنين؛
السنون العجيبة
تخرج الواحدة منها من أعقاب سابقتها؛
هم مَن يرحلون كأنما مع رفاق،
وما رفقتهم إلا ذاتهم نفسها
في مراحل مختلفة من حياتهم،
إنهم يخرجون من قشرة أيام طفولتهم
الكامنة فيهم دون أن تحقق ذاتها؛
هم يرحلون يغمرهم المرح،
يصطحبون معهم شبابهم،
هم مَن يرحلون مع رجولتهم الملتحية العازمة،
وهناك مَن يرحلن مع أنوثتهن،
رحيبات، سامقات، راضيات.
هم مَن يرحلون مع شيخوختهم السامية،
رجالًا ونساءً على حد سواء،
شيخوخة هادئة، متسعة،
عريضة بحجم الكون،
شيخوخة تتدفق حرة،
بعذوبة حرية الموت الدانية القطوف.
١٣
هيا نمضي معًا،
إلى الهدف الذي ليس له نهاية،
كما لم تكن له بداية،
كيما نتحمل الكثير،
ونمشي الكثير طوال النهار،
ونستريح في الليل،
نصهر كل شيء في الطريق الذي نرحل إليه،
وفي الأيام والليالي التي نرحل إليها،
كيما نصهرها مرةً أخرى،
لبدء رحلات أكثر سموًّا،
كيما لا نرى في أي مكان،
سوى ما يمكن أن تصل إليه وتتركه خلفك؛
ولا نفكِّر في أي زمن،
مهما كان بعيدًا،
إلا الزمن الذي تصل إليه وتخلفه وراءك،
ألا نرى أي طريق هنا أو هناك،
إلا الطريق الذي ينفسح من أجلك،
والذي ينتظرك؛
ألا نرى أي كائن من خلق الله أو أي شيء آخر،
إلا وأنت أيضًا تتجه نحوه،
ألا نرى أي ممتلكات،
إلا ويمكنك أن تحوزها،
تتمتع بكل شيء
دون أن تصنعه أو تشتريه،
تجعل البهجة جزءًا منك،
ولكن دون أن تحوز أي ذرةٍ منها،
أن تحصل على أفضل ما في مزرعة الفلاح،
وأفضل ما في فيلَّا الرجل الثري الفخيمة،
والبركات الفاضلة للزوجين السعيدين،
وثمار البساتين وزهور الحدائق،
أن تحصل على ما في المدن المنضغطة التي تمر بها،
وتستخدمه لنفسك،
أن تحمل في نفسك بعد ذلك المباني والطرقات،
أينما ذهبت أو رحلت،
أن تجمع عقول الرجال من داخل رءوسهم،
حين تقابلهم،
وأن تجمع الحب من داخل قلوبهم،
وأن تأخذ محبيك إلى الطريق الذي تسير فيه،
رغم أنك ستتركهم وراءك بعد ذلك،
أن تتعرف على الكون ذاته بوصفه طريقًا،
أو طُرقًا عديدة،
طُرقًا ترحل فيها الروح.
•••
فليفسح الجميع الطريق أمام تقدم الأرواح،
كل الأديان، كل الأشياء الثابتة، الفنون، الحكومات،
كل ما كان أو ما يظهر على هذه الكرة الأرضية،
أو على أي كوكب آخر،
يختفي في الزوايا والأركان،
أمام مسرى الأرواح،
على طول طرق الكون الفسيحة.
•••
إن كل صور التقدم الأخرى —
مقابل تقدم أرواح الرجال والنساء
على طول طرق الكون الفسيحة —
إن هي إلا الرمز والدعم لها.
•••
أحياء على الدوام،
يتقدمون على الدوام،
في عز، وفخامة، وحزن، وانسحاب،
في ارتباك، وجنون، واضطراب، وضعف،
وسخط،
ويأس، وفخر، ومحبة، وسقم،
حين يقبلهم الرجال،
وحين يرفضهم الرجال،
إنهم يذهبون! إنهم يذهبون!
أعرف أنهم يذهبون،
ولكني لا أعرف أين يذهبون،
بيد أني أعرف أنهم يذهبون إلى الأفضل،
نحو شيء عظيم.
أيًّا كنت، تَقدَّم!
رجلًا كنت أم امرأةً، تَقدَّم!
يجب ألا تبقى نائمًا
تتكاسل هناك في البيت،
حتى لو كنت أنت الذي بنيته،
أو لو كان قد بُني من أجلك.
•••
اخرج من هذا المكمن المظلم!
اخرج من خلف الستار!
لا فائدة من الاحتجاج،
فأنا أعرف كل شيء وأكشفه.
انظر إلى دخيلة نفسك وتفكَّر فيها،
فهي ليست أفضل من الآخرين في شيء،
ومن وراء مظاهر الضحكات،
والرقصات، والغداء، والعشاء،
ما تحت الأردية والزخارف،
في أعماق تلك الوجوه المغسولة الحزينة،
تعرَّف على الازدراء الصامت، وعلى اليأس الخفي.
•••
لا الزوج ولا الزوجة ولا الصديق
يُوثَق بهم لسماع الاعتراف؛
بل الذات الأخرى، قرين كل شخص،
تمضي متواريةً مختفية،
لا شكل لها ولا منطق،
تمضي عبر طرقات المدن،
مُهذَّبة ودودة في الصالونات،
وفي عربات القطارات،
وفي البواخر،
وفي المنتديات العامة،
في بيوت الرجال والنساء،
على الموائد،
وفي غرف النوم،
في كل مكان،
في أردية جميلة،
ووجه باسم،
وقامة سامقة،
والموت كامن في عظام الصدر،
والجحيم كامنة في عظام الجمجمة،
تحت المعطف والقفاز،
تحت الزنار والورود الصناعية،
تحافظ على آداب اللياقة،
لا تنطق بحرف عن نفسها،
تتحدث عن كل شيء،
إلا عن نفسها!
١٤
هيا نمضي معًا،
عبر النضالات وعبر الحروب!
فمن المستحيل الانحراف عن الهدف المحدَّد.
•••
هل نجحت نضالات الماضي؟
ما الذي نجح؟
أنت؟
أمَّتك؟
الطبيعة؟
افهمني جيدًا الآن:
قضى جوهر الأشياء
أن يخرج من ثمار أي نجاح مهما كان
حَدثًا يجعل من الضروري
القيام بنضالٍ أكبر.
إن دعوتي هي دعوة إلى النضال،
إني أدعو إلى الثورة الفعَّالة،
إن مَن يمضي معي
لا بد أن يكون مُسلحًا جيدًا،
إن مَن يمضي معي
لا بد أن يتحمَّل الجوع والفقر
وغضب الأعداء
والهجران.
١٥
هيا نمضي معًا،
الطريق مُنفَسِحٌ أمامنا!
إنه آمن، فقد خبرته —
لقد سارت قدماي فيه طويلًا —
لا تتوقف!
دع الورق على المكتب بلا كتابة،
دع الكتاب على الرف مُغلَق الصفحات،
دع الآلات في الورشة!
دع المال لا يُكتَسَب!
دع المدرسة في مكانها!
لا تأبه لصيحة المدرس!
دع الكاهن يعظ من فوق منبره!
دع المحامي يدافع في المحكمة،
والقاضي يشرح القانون.
أيها الرفيق،
إني أعطيك يدي!
إني أعطيك حبي،
أثمن من أي مال،
إني أعطيك نفسي،
دون وعظ ولا قانون،
فهل ستعطيني نفسك؟
هل ستأتي لترحل معي؟
هل سيعضد أحدنا الآخر
طالما بقيت فينا حياة؟
١٨٥٦–١٨٨١م
طريقي إلى الهند
١
إني أغني أيامي،
أغني منجزات العصر الحاضر العظيمة،
أغنِّي أعمال المهندسين الخفيفة القوية الحديثة،
التي تفوق عجائب الدنيا السبع القديمة بكل عظمتها،
في شرق العالم القديم: قناة السويس،
وفي العالم الجديد: خطوط السكك الحديدية،
رائعة، واسعة الامتداد؛
وفي أعماق البحار،
توجد مطمورة الأسلاك الجميلة البليغة؛
لكني قبل كل شيء ورغم كل شيء
أصيح معك أيتها الروح الآن ودائمًا:
الماضي! الماضي! الماضي!
الماضي؛
الذكرى المعتمة التي لا يُسبَر لها غور!
الهوة الزاخرة،
الحالمون والظلال!
الماضي؛
عظمة الماضي الأبدية!
فما هو الحاضر إن لم يكن نموًّا من الماضي؟
كالصاروخ حين ينطلق بعد أن يتشكل،
ثم يتبع مساره بعد أن يتعدى حدًّا معينًا،
كذلك هو الحاضر
الذي يتشكل تمامًا في الماضي،
والماضي هو الذي يدفعه قُدمًا.
٢
ابدئي أيتها الروح طريقك إلى الهند!
ألقي الضوء على الأساطير الآسيوية،
وعلى الحكايات البدائية.
•••
لستن وحدكن،
أنتن يا حقائق العالم السامية،
ولا أنتن،
يا حقائق العالم الحديث؛
بل أيضًا الأساطير والحكايات القديمة،
لآسيا وأفريقيا؛
شعاعات الروح،
التي تصل إلى أرجاء قصية،
والأحلام التي ينطلق عنانها؛
الأسفار والأساطير
التي تغوص في أغوار الأعماق،
مواضيع الشعراء الجسورة،
الأديان القديمة؛
إنكم أيتها المعابد
لَأكثر جمالًا من الزنابق والأزاهير،
حين تنصبُّ عليكم أشعة الشمس المشرقة!
أنتن أيتها الحكايات،
تزدرين المجهول،
وتهربن من أيدي ما هو معلوم،
فتصعدن إلى السموات العُلى!
أنت أيتها البروج الشامخات الباهرات،
مُزدانة،
حمراء حمرة الورود،
مصقولة بالذهب!
بروج من الحكايات الخالدة،
المجبولة من أحلام الإنسان!
إني أرحب بك أيضًا،
تمامًا كما أرحب بالآخرين!
وأغنيك أنت أيضًا بكل بهجة.
•••
طريق إلى الهند!
انظري، أي روحي،
ألا ترين صنعة الله منذ الأزل؟
لقد خُلقَت الأرض كيما يسير فيها الإنسان،
تربط فيما بينها الطرق،
والأعراق، المتجاورين؛
للتزاوج فيما بينهم،
والمحيطات كي يعبرها الإنسان،
والبعيد يصبح قريبًا،
والأراضي ترتبط فيما بينها.
•••
إني أغني عبادة جديدة؛
أنتم أيها القباطنة، الرحالة، المكتشفون،
أنتم أيها المهندسون، المعماريون، الميكانيكيون،
أنتم، لا من أجل التجارة والنقل فحسب؛
بل باسم الله،
ومن أجلك أيتها الروح.
٣
طريق إلى الهند!
انظري أي روحي،
هناك لوحتان صُنِعَتا من أجلك،
أرى في إحداها قناة السويس،
مفتوحةً تعمل،
أرى مسير البواخر،
والإمبراطورة أوجيني في المقدمة،
ألحظ من فوق السطح المنظر الطبيعي الغريب،
السماء الصافية،
والرمال الزاخرة على البعد،
أترك ورائي الجماعات المبهرجة،
وتجمعات العاملين،
والآلات الضخمة.
•••
وفي لوحة أخرى مختلفة،
ولكنها ملكك كلها بالقدر نفسه أيتها الروح،
أرى في قارتي،
خطوط سكك الباسيفيكي الحديدية،
تقهر كل العقبات والحواجز؛
أرى قطارات على الدوام،
ذات عربات،
تتلوى عبر وادي «بلات»،
تحمل المسافرين والبضائع؛
أسمع القاطرات تتدافع وتزأر،
والصفارة البخارية الحادة؛
أسمع الأصداء،
تتردد عبر أرحب المسافات في العالم.
•••
أعبر وديان «لارامي»،
ألحظ الصخور ذات الشكل المخيف،
والجبال المنعزلة؛
أرى نباتات الزينة وافرة،
والبصل البري،
والصحاري اليَباب،
مُقفرة لا لون لها؛
ألمح على البعد،
أو سامقةً فوق رأسي مباشرة،
الجبال العظمى،
أرى نهر «ويند» وجبال «واهستاش»،
أرى جبل «مونيومنت» و«عش النسر»،
أمر على «برومنتوري» وأصعد «نيفاداس»،
أمسح جبل «إلك» العظيم وألف من حول قاعدته،
أرى سلسلة جبال «همبولت»،
أعبر الوادي وأخوض النهر؛
أرى المياه الرقراقة لبحيرة «تاهو»،
أرى غابات أشجار الصنوبر السامقة،
أو حين أعبر الصحراء الكبرى،
الوهاد ذات الطبيعة القلوية،
أرى سرابًا سحريًّا من مياهٍ ومروج،
وأترك هناك، وراء كل هذه الأشياء،
خطوطًا رقيقة متكررة،
تقيم جسرًا،
فوق ثلاثة أو أربعة آلاف ميل،
قطعتها رحلاتي فوق الأرض،
رابطًا ما بين البحر الشرقي والبحر الغربي،
والطريق الذي يربط أوروبا بآسيا.
•••
آهٍ أيها البحار الجنوي،
حلمك! حلمك!
بعد قرون من مثواك في قبرك،
يحقق الشاطئ الذي وجدته حلمك.
٤
طريق إلى الهند؛
نضالات قباطنة عديدين،
حكايات بحارة عديدين قد رحلوا،
تتسلل خلسة إلى روحي،
وتنتشر هناك وتمتد،
كالسحائب والسحابات الصغيرة
في السماء بعيدة المنال،
على طول كل أحداث التاريخ،
هبوطًا على المنحدرات،
كالغدير الجاري،
غائرًا في بعض الأماكن،
وبارزًا على السطح في أماكن أخرى،
أفكار متواصلة،
وتتابُع متنوع،
انظري أيتها الروح:
من أجلك،
ومن أجل طلعتك،
تُقام المشاريع،
وتبدأ الرحلات مرة أخرى،
والحملات الاستكشافية،
يعود فاسكو دي جاما إلى الإبحار،
يعود القوم إلى غزو الفكر،
تعود بوصلة البحَّار إلى العمل؛
أراضٍ تُكتشَف، وأمم تُولَد،
وأنت تُولَدين يا أمريكا،
كيما تبلغين شأوًا عاليًا،
وحين تتم الإنسانية فترة اختبارها
سوف يتم آخر الأمر اتساقك مع العالم.
٥
آهٍ أيها الجسم الكروي الكبير،
تسبح في الفضاء،
تغطيك القوة والجمال من كل جانب،
ويتناوب عليك الضوء والنهار،
والظلمة الروحية الخصبة،
ومواكب سامية لا تُوصَف،
من الشمس والقمر،
ونجوم لا حصر لها في الأعالي؛
وفي أسفل:
تنويعات متعددة من الحشائش والمياه،
من الحيوانات، والجبال، والأشجار،
كلٌّ له غاية يحار فيها الفهم،
هدف خفي غامض،
ولأول مرة، الآن،
تبدأ أفكاري في الإحاطة بك.
•••
من حدائق آسيا،
يهبطون كلهم،
آدم وحواء،
ومن ورائهما ذريتهما التي لا حصر لها،
يسيحون، يشتاقون، يملؤهم الفضول، يقومون باستكشافات قلقة،
ويوجهون الأسئلة في حيرة،
لا صورة لهم،
تضطرم فيهم الحمية،
وقلوبهم لا تعرف معنى السعادة،
يرددون دائمًا هذين السؤالين الحزينين:
لماذا أنت هكذا غير راضية أيتها الروح؟
وإلى أين تقودينا أيتها الحياة الساخرة؟
آهٍ،
مَن يستطيع أن يُطمئن هؤلاء الصبية المحمومين؟
مَن يستطيع تفسير هذه الاستكشافات القلقة؟
مَن سيتحدث بسر الأرض الجامدة؟
مَن يربطها بنا؟
ما هذه «الطبيعة» المنفصلة
التي لا طبيعية فيها؟
ما صلة هذه الأرض بما نحبه؟
أرض لا حب فيها،
ليس فيها نبضة واحدة ترد على نبضاتنا،
أرض باردة،
مكان للقبور.
•••
ورغم ذلك،
تأكدي أيتها الروح
أن الهدف الأول ما يزال باقيًا،
وسوف يتحقق،
وربما قد حان الآن وقت تنفيذه.
بعد أن تعبر كل البحار
(ويبدو أن هذا قد حدث بالفعل)،
بعد أن ينجز القباطنة والمهندسون العظام عملهم،
بعد المخترعين النبلاء، بعد العلماء،
بعد الكيميائي، والجيولوجي، وعالِم السلالات،
سيجيء أخيرًا الشاعر الجدير بهذا اللقب،
سيأتي ابن الله الحق يغني أغانيه.
•••
وعندها،
ستبدو قيمة أعمالكم،
أيها الرحالة، أيها العلماء والمخترعون،
وستحل السكينة في القلوب،
كأنها قلوب الأطفال الحزانى،
كل ودٍّ سيلقى استجابةً كاملة،
وستنكشف الأسرار،
وستزول كل هذه الفروق والانفصالات،
كيما تنضم بعد ذلك إلى بعضها البعض،
وتتصل فيما بينها،
الأرض كلها،
هذه الأرض الباردة الجامدة التي لا صوت لها،
سيكون لها مبررات وجودها،
فسينجز الثالوث المقدَّس على نحوٍ مجيد،
ويندمج على يد ابن الله الحق، الشاعر؛
فهو بالفعل سوف يعبر المضايق ويغزو الجبال،
سوف يدور حول رأس الرجاء الصالح،
لغرضٍ في نفسه،
لن تنفصل بعد ذلك الطبيعة والإنسان،
فسوف يصهرهما معًا ابن الله الحق.
٦
أيها العام،
إني أغني أمام بوابتك المنفتحة على مصراعيها!
أي عام إنجاز الهدف!
عام التزاوج بين القارات والمناخات والمحيطات!
لم يعد «دوتشي» فينيسيا هو مَن يتحكم في البحر الأدرياتيكي؛
إني أرى فيك أيها العام،
الكرة الأرضية الشاسعة تعطي،
وتعطي كل شيء،
أوروبا لآسيا، وتنضم إليهما أفريقيا،
وينضم الكل إلى العالم الجديد،
والأراضي والمناطق الجغرافية،
يرقصون أمامك حاملين أكاليل احتفالية،
كالعرائس والعرسان، يدًا في يد.
•••
طريق إلى الهند!
رياح باردة من القوزاق القصية،
المهد الساكن للإنسان،
ونهر الفرات ينساب،
ويتوهج الماضي من جديد.
•••
انظري أيتها الروح،
الماضي يتقدم إلى الأمام،
أقدم بلاد الأرض،
وأكثرها سكانًا، وأغناها،
نهرا الإندوس والجانج وروافدهما العديدة
(أنا الذي أجوب اليوم شواطئ أمريكا على قدمي،
أرى كل شيء، وأحدد كل شيء)،
قصة الإسكندر،
يموت فجأةً وسط حملاته الحربية،
الصين في جانب،
وفارس وجزيرة العرب في الجانب الآخر،
وفي الجنوب: البحار العظمى وخليج البنغال،
والآداب المتدفِّقة والملاحم الهائلة،
والأديان والطوائف؛
ويراهما القديم الخفي، بعيدًا في الوراء على الدوام،
وبوذا، ذلك الشاب الرقيق؛
إمبراطوريات وُسطى وجنوبية،
ومعها كل متعلقاتها ومَن امتلكوها،
حروب تيمورلنك،
مملكة أورانجزيب،
التجار، والحكام، والمستكشفون،
المسلمون، الفينيسيون،
البيزنطيون، العرب، البرتغاليون،
الرحالة الأوائل المشهورون أبدًا،
ماركو بولو،
ابن بطوطة المغربي،
شكوك تتطلب حلولًا،
الخريطة المجهولة،
فراغات تتطلب أن تمتلئ،
قدم الإنسان المنطلقة في حرية،
ويداه اللتان لا تكلَّان أبدًا،
وأنت نفسك أيتها الروح،
لن تتراجعي أبدًا في وجه أي تحدٍّ.
•••
ينتصب أمامي ملاحو القرون الوسطى،
عالم سنة ١٤٩٢ الذي أيقظ المشروعات الكبرى؛
كان ثمة شيء آنذاك
ينمو محتقنًا في عروق الإنسانية،
كعصارة الأرض في وقت الربيع،
حين كانت عصور الفروسية تغرب عنها الشمس.
ومَن تكون أنت أيها الظل الحزين؟
ضخمًا، مثل رؤيا رؤيوية،
بأطراف جليلة وعيون تشع تقًى،
تنشر من حولك في كل مكان
كلمةً ذهبية مع كل نظرة من نظراتك،
وتشيع فيها ألوانًا خلابة.
كما يفعل المؤرخ الرئيس،
حين يتوجه إلى هدفه،
عبر مساحات شاسعة،
أرى الأدميرال ذاته يستشرف الآخرين
(نموذجًا تاريخيًّا للشجاعة والعمل والإيمان)،
أراه وهو يُبحر من ميناء «بالوس»،
يقود أسطوله الصغير،
أرى رحلته، وعودته، وشهرته العظيمة،
ثم أرى المصائب التي حلَّت عليه،
والحاقدين عليه،
أراه في سجنه مُقيَّدًا بالأغلال،
أرى مذلَّتَه، وفاقته، وموته.
•••
أقف يغمرني الفضول وسط الزمن،
ألاحظ جهود الأبطال،
هل يطول الانتظار؟
ومرارة النميمة، والفاقة، والموت؟
هل تظل البذرة منسيةً طوال قرون في قلب التربة؟
انظروا، الساعة المناسبة التي اختارها الله،
إذ تشق البذرة التربة في الليل،
وتتبرعم، وتزدهر،
وتملأ الأرض نفعًا وجمالًا.
٧
نشق طريقنا بالفعل أيتها الروح،
نحو الفكرة الأساسية الأولى،
لا الأراضي والبحار فحسب؛
بل إلى طزاجتك الذاتية الصافية،
نحو النضج الفتي،
من مرحلة الاحتضان إلى مرحلة الإزهار،
نحو ممالك تتبرعم فيها الكتب المقدسة.
آهٍ أيتها الروح التي لا تحدها حدود،
دائمًا سأكون معك ودائمًا ستكونين معي،
نبدأ بالطواف حول العالم،
والطواف حول الإنسان،
والقيام برحلة العودة إلى عقله،
إلى جنة حِجاه الأولى،
العودة، نعم، العودة إلى ينابيع الحكمة،
إلى مصادر الحدس الصافي،
مرة أخرى إلى جوار الخلق الجميل.
٨
آهٍ،
ليس في مقدورنا أن ننتظر أكثر من هذا،
لسوف نبحر نحن أيضًا أيتها الروح،
وأيضًا سوف نمخر في جذل،
عباب البحار التي لا حدود لها،
ولسوف نتوجه دون وجلٍ إلى شطآن مجهولة.
سنبحر فوق موجات من النشوة،
وسط رياح هفهافة،
إذ أنت أيتها الروح تدفعين بنفسك نحوي،
ثم أدفع أنا بنفسي نحوك،
ونتغنى بأغنيتنا الإلهية
في إيقاعات حرة،
ننشد احتفاءنا باستكشافنا البهيج.
•••
إنك تغمرينني بالمسرة أيتها الروح،
وأنا أغمرك بالمسرة،
وسط ضحكات وكثير من القبلات؛
دعي الآخرين ينتقدون ذلك،
دعي الآخرين يبكون الخطيئة، والندم، والمهانة.
•••
إننا أيتها الروح نؤمن أيضًا بالله،
أكثر مما يؤمن به الكهنة،
ولكننا لا نجرؤ على تناول سر الله.
•••
إنك تملئينني بالمسرة أيتها الروح،
وأنا أملؤك بالمسرة،
إذ نحن نبحر عبر هذه البحار،
أو نمر وسط التلال،
أو نصحو في ظلام الليل،
والأفكار، الأفكار الصافية.
عن الزمن، والفضاء والموت،
تنقلني كالمياه المتدفقة،
كأنما عبر مناطق لا حدود لها،
مناطق أتنفس عبيرها،
مناطق أسمع حفيف موجاتها،
وتغسلني في كل موضع،
اغمرني يا إلهي بفيضك،
ارفعني يا إلهي إليك،
كيما نطوف أنا وروحي في كل مكان،
إلى جوارك.
•••
أنت أيها المستشرف،
دونما اسم،
الجوهر والزفرة،
نور النور،
تبذر أكوانًا أنت في القلب منها،
أنت، المركز الأعتى للحق والخير والحب،
أنت أيها النبع الأخلاقي والروحي،
نبع الود أنت مستودعه؛
آهٍ يا روحي المتفكِّرة،
أيها العطش الذي لا يُروى،
ألم تنتظري هنالك؟
ألم تنتظري ربما،
نيابة عن كلينا،
الرفيق الكامل؟
أنت أيها النبض،
إنك تحرك النجوم والشموس والمنظومات،
التي تدور وتتحرك في نظامٍ وأمن واتساق،
عبر اتساعات الفضاء التي لا شكل لها؛
كيف يمكن لي أن أفكِّر؟
كيف يمكن لي أن أزفر نَفَسًا واحدًا؟
كيف يمكن لي أن أتكلم،
بينما أنا من خلال ذاتي،
لا أتمكن من تقديم نفسي،
لتلك العوالم الفائقة؟
إن فكرة الإله تملؤني بالرجفة،
أمام الطبيعة وعجائبها،
أمام الزمن والفضاء والموت،
ولكني أعود وأهتف بك أيتها الروح،
فأنت ذاتي الحقيقية،
وها أنت تسيطرين على الأجرام السماوية
في عذوبة ورقة،
وتروِّضين الزمن،
وتبتسمين للموت في رضًا،
وتملئين حتى الحافة رحابات الفضاء.
بأعظم من النجوم أو الشموس،
تتابعين رحلتك قافزةً أيتها الروح،
أي حبٍّ يمكن أن يتطاول ويتسع،
إلا حبنا؟
أي طموحات ورغبات،
يمكن أن تفوق طموحاتنا ورغباتنا أيتها الروح؟
لأي أحلام بالمثال؟
أي خطط من الصفاء والكمال والقوة؟
أي رغبة بهيجة
في إعطاء كل شيء للآخرين؟
•••
ومعاناة كل الآلام في سبيل الآخرين؟
إني أفكر في المستقبل أيتها الروح،
حين تقومين بعد أن ينقضي وقتك،
وبعد أن تكوني قد عبرت جميع البحار،
وتحديت كل الأخطار،
وأنهيت رحلتك،
بالوقوف أمام الله،
مسلمةً إليه نفسك،
بعد أن حققت هدفك،
إذ ملأتك الصداقة،
واكتمل لك الحب،
ووجدت أخاك الأكبر،
إذ الأخ الأصغر يذوب حنانًا بين ذراعيه.
٩
طريق إلى ما بعد الهند!
هل في جناحيك ما يكفي من الريش
للقيام بهذه الرحلات القصية؟
هل قمت برحلات مماثلة لتلك الرحلات أيتها الروحُ؟
هل شققت المياه على هذا النحو من قبل؟
هل انغمرت في السنسكريتية والفيدا؟
إذن،
اتركي لهما العنان.
•••
طريق إليكم،
إلى شطآنكم،
أيتها الأحاجي العتيقة الهائلة!
طريق إليكم،
إلى السيطرة عليكم،
أيتها المعضلات الخانقة!
إليكم،
المرصعون ببقايا هياكل عظمية،
لم تصل إليكم حين كانت ما تزال على قيد الحياة.
•••
طريق إلى ما بعد الهند!
آهٍ لسر الأرض والسماء!
لسرك يا مياه البحر!
أيتها الجداول والأنهار المتعرجة!
لسرك أيتها الغابات والحقول!
أيتها الجبال الوطيدة في بلدي!
لسرك أيتها البراري!
أيتها الصخور الرمادية!
آهٍ أيها الصباح الأحمر!
أيتها السحب!
أيتها الأمطار والثلوج!
أيها النهار والليل،
طريق إليكم!
•••
آهٍ أيتها الشمس وأيها القمر!
وأيتها النجوم كافة،
كوكب الشعرى اليمانية وكوكب المشتري!
طريق إليكم!
إلى الطريق، إلى الطريق فورًا!
إن الدماء تغلي في عروقي!
هيا يا روحي!
ارفعي المرساة فورًا،
اقطعي الحبال وانصبي الشراع،
وارفعيها كلها عاليًا!
ألم نقف هنا بلا حراك كالأشجار المزروعة في الأرض
بما فيه الكفاية؟
ألم نُقعِ هنا بما فيه الكفاية،
نأكل ونشرب كالحيوانات؟
ألم تُعمِ الكتب أبصارنا،
وتغيب عقولنا بما فيه الكفاية؟
فلنرحل إذن أيتها الروح،
ونتجه إلى المياه العميقة فحسب،
تغمرنا الجرأة،
نستكشف،
أنا معك وأنت معي،
فنحن ذاهبان حيث لم يجرؤ بحار على الذهاب،
سوف نخاطر بالسفينة وبنفسَينا وبكل شيء.
•••
آهٍ يا روحي الباسلة!
آه، أبحري إلى مدًى أبعد وأبعد!
آهٍ أيها الفرح الجسور وإن كنت آمنًا!
أليست البحار كلها بحار الله؟
آه، أبحري إلى مدًى أبعد وأبعد وأبعد.
١
يقصد الولايات المتحدة الأمريكية.