اليتيم
في ليلة من ليالي وحدتي الطويلة هبطت إلى «مصنعي». ومصنعي هذا منطقة قائمة في نفسي، مجهولة لا يلم بها سواي. هي فلك صغير في ذاته، لا يكف عن الحركة والدوران. تأتي عليه ليالٍ يتلألأ فيها بالنجوم، فأنتشي بفرحةٍ عامرة مسكرة، ثم لا يلبث أن يلفه الضباب، ويصير كالسديم المتدثر بالغيوم. ومع أنني لا أملك شيئًا من عبقرية «بيراندللو» ولا من فن «توفيق الحكيم» فقد قلت في نفسي: لأقضِ الليلة مع «مخلوقاتي» التي تعذبني منذ أمد طويل. ومخلوقاتي هذه هي شخصيات قصصي المقبلة. وهي على تواضعها وشدة حيائها لا تنفك تؤرق نومي، وتعذِّب يقظتي، وتطالبني بالحياة.
نفضت التراب المتراكم على كتبي، وأدرت آلة «الجراموفون» ببضع مقطوعات من الموسيقى التي تحبها نفسي، ثم استويت جالسًا أمام مكتبي. كان رأسي يدور، وقلبي يكاد ينشق من شدة الخفقان. والحق أنني كلما التقيت بهذه الوجوه النحيلة الشاحبة تتملكني رعدة قاسية، ويختلج كياني كله كالمحموم. وشخصياتي دائمًا ما تكون ثائرة ساخطة، وأنا لذلك ألقاها بوجهٍ باسم، وأستمع إلى شكواها بصدر رحب، وأتقبل همومها بقلب رحيم. ولا تخلو صحبتنا التي تزدحم فيها الوجوه، وتتعالى الصيحات، ويشتد اللغط، من واحد أو اثنين يستولي عليهما الملل، فيشقان طريقهما وسط الجمع الثائر، ويمضيان في سبيلهما حانقين فلا أعود أراهما بعد ذلك أبدًا. أنا دائمًا سجين هؤلاء الضيوف الأعزاء، تنهال عليَّ اتهاماتهم من كل جانب، وتدوي صرخاتهم في أذني! ما أكثر ما انفجرت بالبكاء وأنا أحاول أن أبعدهم عني، وأسترحمهم، وأقسم لهم الأيمان بأني رجل طيب القلب لا أضمر لهم شرًّا، فما يخلصني منهم إلا النوم يعقد أجفاني، ويريحني منهم إلى حين.
في هذه الليلة التي هبطت فيها إلى نفسي كنت أعاني من مرض طويل، وكانت أعضائي ترتجف من الحمى. درت بعيني في المكان، ورأيت الوجوه الحزينة المكتئبة تحدق في وجهي، والأذرع الطويلة تشير إليَّ متوعدة، كانت من بينها وجوه واضحة القسمات، متميزة المعالم، أكاد إن مددت إليها يدي أن ألمسها، وأحسب أبعادها. وكانت من بينها وجوهٌ أخرى آثرتْ أن تنزوي في مكان بعيد عن الضوضاء، لم تكد تحاول أن تلفتني إليها. كان بعضها قد ملَّ الانتظار فجلس على الأرض القرفصاء، وانكب على قراءة كتاب قديم. وبعضها الآخر قنع بالتفرج على الجميع بعد أن يئس من أن يتقدم الصفوف، ويصل إليَّ ليبسط شكواه. من بين هذه الوجوه عرفت أناسًا طالت صحبتي لهم، وعمقت تجربتي معهم، حتى لقد كانوا يشاركونني في طعامي، ويلازمونني في نومي ويقظتي، ولا يتركونني ولو ذهبت ألتمس نسمة من هواء على شاطئ النيل. وكنت لطول خبرتي بهم أعرف حياتهم بماضيها وحاضرها ومستقبلها، بل إنني كنت أعلم تمامًا ما تهجس به خواطرهم. فإذا أضفت إلى هذا أنني أنا الذي اخترت لهم ملابسهم، ووضعتها بيدي على أجسادهم، لما أنكرت منهم ابتسامتهم الراضية التي يحيونني بها. ولكن من أصدقائي مَن يبدو العتب في أعينهم. الحق أنني لا أستطيع أن أدافع عن نفسي أمامهم؛ فهم قد صحبوني زمنًا طويلًا، واجتزنا معًا طرقات المدينة، وتقاسمنا الجوع والشبع ثم … فجأة وعلى غير انتظار، تخلَّوا عني وأخذوا يتسكعون في الحارات والأزقة الضيقة. ها أنا ذا أسمع واحدًا منهم يصيح: كيف تقتلنا أيها السفاح؟! فإذا ما حاولت أن أجيبه طرق أذني همسٌ خافت لشيخ عجوز غرقت لحيته في دموعه: أيرضيك أن تتركني في منتصف الطريق؟ وأهم بالكلام فيقاطعني: كيف تصنع لي ماضيًا جميلًا وتعجز عن أن تجد لي مستقبلًا؟! فإذا حاولت أن أعتذر له بالنسيان، وبأنني بشر على كل حال، وأن حياتي لا تسير متصلة كالخط المستقيم، بل تمزقها لحظات المرض، واليأس، وأكاد أقول: الحب، حتى ينبري لي شاب كنت أعرف طيشه وتهوره ليقول: إنني أخجل منك. لماذا لا تتركني وشأني؟ ألا يكفيك أنك حرمتني من كل سعادة، وقتلت حبيبتي قبل يوم الزفاف بساعات معدودة؟!
طالما هممت بأن أتحدث، وأن أدافع عن نفسي مخلصًا، وأن أبين طيبة قلبي، وسماح نفسي، وأنني لا أملك من أقدارهم شيئًا، وأنهم جميعًا قد وُلدوا كما يُولد أبناء آدم وفي يدِ كل منهم لوح مكتوب، وأني لو كنت أستطيع لأبعدت الموت عن طريقهم، ومحوت الألم من حياتهم.
لم أكد أحاول الدفاع عن نفسي حتى سمعت صيحة مبحوحة تحاول أن تجد لنفسها طريقًا بين الضجيج فلا تستطيع. ودققت النظر فوجدت صبيًّا صغيرًا يشب على قدميه، ويحشر جسده النحيل المتهالك بين الصفوف المتراصة أمامه، فنهضتُ من على كرسي ومددت إليه ذراعي وأنا أصيح من فرط تأثري: تعالَ أيها الصديق، تعالَ، إني في انتظارك، كنت قد نسيتك.
وإذا بي أمام صبي ضئيل، نحيل الجسد، مصفر الوجه، عليه بقايا ثوب رخيص مرقع. وعرفته في الحال. كان هو بعينه اليتيم الذي قضيت معه لياليَّ الأخيرة، وأنا أحاول أن أجد له مكانًا بين الأحياء. صاح في وجهي من الغيظ: «هكذا نسيتني!»
قلت في إخلاص: لم أنسَكَ يا صديقي، لم أنسَكَ! وأشرت إلى بقية أصدقائي الذين يتطلعون إلينا في دهشة.
– إذن فكيف تركتني أهيم وحدي في الطرقات؟
فقلت وصدري يسعل سعالًا شديدًا: لا لم أنسَك. والله شاهد على ما أقول!
فصاح غاضبًا وصوته يترقرق بالدموع: «بل تنكرت لي.» ثم التفت وراءه وتفحَّص الوجوه لحظة ثم قال: عفوًا! إني لست مثل هؤلاء؛ فما أنا إلا طفل يتيم، وضعت حياتي أمانة بين يديك فهربت من وجهي.
فقلت وأنا أنظر إليه بعينين مفعمتين بالحنان: أقسم لك أن ليس فيهم مَن هو أعزُّ عليَّ منك. ولكنني …
فقال وهو يُطرِق برأسه: ألست أولى من هؤلاء برعايتك؟ هذا الأمير الفرعوني الذي يتباهى بأناقته، ويضع يده على مقبض سيفه في خيلاء …
فقلت مستنكرًا: رويدك! ولا تُسئ إلى هذا الضيف العزيز. إني أعلم مبلغ تهوره وطيشه، وقد طالما حاولت أن أكفكف من غلوائه فلم أُفلِح. تصوَّر يا صديقي الصغير أنه — ويا للعجب — يحاول أن يهدم الهرم الأكبر! لا تندهش، لا تندهش؛ فهذا هو ما حدث. لقد تسلل ذات ليلة هو وجماعة من عبيده وحاشيته الغاضبين على خوفو الملك وصعدوا إلى قمة الهرم وألقَوا بعشرة أحجار كبيرة من فوق قمته. يجب عليك أن تجد لهم العذر؛ فقد كان من رأيهم أن هذا البناء الجميل ليس إلا رمزًا لذل أهل مصر، وعبودية …
فصاح الصبي اليتيم: ولكن ما لي أنا ولهؤلاء!
فأجبته: أليس من حقه أن يعيش أيضًا؟
فقال: إن بيننا هوة عميقة من الزمن … خمسة آلاف عام. أنا أولى منه بالحياة. ألست أحيا معك في عصر واحد؟ ولكنك تهرب إلى الماضي السحيق تفتش فيه، شأن الكتَّاب الخياليين المعتزلين.
أردت أن أشرح له كيف أن مشكلات الروائيين الخالدة، وأنها لو جرت على ألسنة الأقدمين فهي تعبِّر عن مشاكلنا، ولكنه كان قد التفت إلى جاره المضحك وأخذ يشير إليه متهكمًا: وهذا الأبله؟! ماذا يعجبك فيه؟ فقلت: لا، لا، إنك الآن تعتدي على ضيوفي في بيتي. قال متعجبًا: هذا «البلياتشو»؟!
قلت: نعم، البلياتشو! ألا تعرفه؟ لقد انتهيت من شأنه، وعرفت مصيره، ولم يبقَ إلا أن يظهر على صفحات المجلة (لو تلطف صاحبها!) لا تسخر به؛ فإن كنت ترى هذه المساحيق على وجهه، والطرطور الأحمر الطويل على رأسه، وبذلته المرقعة الملونة، فلا يمكن أن يخفى عليك أن في عينيه دموعًا، ولولا أنه شديد الحياء لبكى الآن!
فقال الصبي اليتيم: هل تنكر أنه مخلوق يتسلى به الناس؟ فقلت محاولًا أن أسترضي صديقنا «البلياتشو» الذي همَّ بأن يلطم الصبي على وجهه: أنت تعلم يا صديقي أنني ما قصدت به أن يضحك الناس، ولا حتى أن يضحك عليهم. انظر! ها هو مدير المسرح يختفي وراءه. لقد جعلته يهدده بالفصل إذا هو لم يُضحِك الجمهور كما كان يفعل كل ليلة، ولكن صاحبنا البلياتشو لم يُفِد فيه الإقناع ولا الرجاء؛ فقد أصر على أن يبكي المتفرجين. أليس هذا عجيبًا؟ وإذا به يقف أمام جمهور متواضع من الفلاحين والفقراء ويعرض عليهم مأساة حياته. ولكنه كان كالدمية العاجزة فأخذوا يضحكون، أترى؟ ثم إنه أراد أن يستعطفهم فعرض عليهم زوجته — ليعرفوا مبلغ نكده — ولكن موجات الضحك كانت تهدر في المسرح، ولم ينجح في أن يبكيهم حتى حين نادى إليه أطفاله الصغار — سبعة أطفال جياع — وعرضهم عليهم. كانوا يحسبون أن كل عنصر من عناصر مأساته لم يُخلَق إلا ليزيد من غرابة المشهد؛ فلم ينقطع ضحكهم حتى هرول إليه مدير المسرح وضمه إلى صدره فرحًا ليقول له قبل أن يسدل الستار: ألم أقل لك يا صاحبي؟ ألم أقل لك …
فتقدم مني الصبي اليتيم وصوته يتهدج: ولكنني أنا أولى منه بالحياة، أنا أولى منه، أتسمع: أنا أضيعُ منه شأنًا.
فقلت أهدئه: «ولكنك لم تروِ لي شيئًا، ماذا حدث لك؟»
– إن هذه «المخلوقات» جميعًا تنعم بحياة محدودة، لها طرفان نابتان. أما أنا فشيء هائم في شوارع القاهرة، لا اسم له، ولا عنوان، ولا ماضٍ، و…
فقلت وأنا أرفع حاجبي من الدهشة: «كيف حدث هذا؟ كيف؟»
– هكذا وجدتني بين يديك. قلت لي كن يتيمًا … شريدًا، أتذكر يوم لقيتني في ميدان «العتبة» المزدحم بالناس والعربات. لقد جريت وراءك باكيًا، وتشبثت بطرف ردائك وأنا أتوسل إليك أن تختم حياتي (أو تبدأها). ابتهلت إليك أن ترحمني، أن تلقي بي تحت عجلات التِّرام، أو تقذف بي تحت إحدى العربات الأمريكية الفاخرة، أو حتى إحدى العربات «الكارو»، ولكنك أشحت بوجهك عني، وقلت في استكبار: إن ضرورة الفن لا يمكن أن تسمح بهذا، فجريت وراءك أستعطفك باكيًا، حتى لقد التفت إلينا جمْعٌ كبير من الناس كانوا ينتظرون «الأوتوبيس» ووصفوك بالذهول، ولكنك انتهزت فرصة الزحام وركبت العربة وتركتني فاغرًا فمي من الدهشة.
قلت في لهفة: حسن، حسن. أكمل، أكمل …
فتنهد الصبي وقال: آه لو تركتني لأقع بين يدي البوليس! لكان ذلك أرحم بي، وأكثر إنسانية. أتذكر يوم كانت عربة البوليس التي تجمع الشحاذين والمتشردين وذوي العاهات من الشوارع واقفة عند سور «الأزبكية»، ونزل منها رجلان أمسكا بتلابيب امرأة عجوز كانت ملقاة على أرض الرصيف تستجدي عابري السبيل؟ قذفوا بها إلى العربة وهي تصرخ بين أيديهم: أولادي! أولادي! فقلت مقاطعًا: حقًّا؟ لقد نسيت كل هذا!
فاستطرد قائلًا: هنالك تضرعت إليك أن تتركني لأذهب معهم إلى السجن، أو إلى الملجأ، أو إلى أي مكان، ولكنك ناديتني قائلًا: لا تذهب، هكذا كُتب عليك أن تحيا. ليتني ما أطعتك!
فقلت للصبي: ولكن هذا المسلك من جانبي هو خير ما يمكن اللجوء إليه. أليس أوقع في النفس أن أزيد من شقائك؟ لا تنسَ أنك بهذا ستنال عطف الكثيرين.
– لا أريد هذا العطف.
– وربما سمع بك أحد الحكام من الوزراء أو …
– وهل يقرأ الحكام قصصك؟!
– أعترف لك يا صديقي أنني أشك في ذلك!
– إذن فلمَ لا تتركني؟
– لأنك سجين (وهنا أشرت إلى بقية الوجوه التي يزداد شغفها بحديثنا قائلًا: كهؤلاء؟)
– إذن فأطلق سراحي، إني أريد الحرية، الحرية، الحرية …
– ولكني لا أملك لك شيئًا.
– كيف؟
– تستطيع أن تذهب بنفسك إلى وزارة الشئون الاجتماعية، أو إلى أحد الملاجئ، أو …
فأشار إلى ملابسه، وإلى قدميه العاريتين وقال في انكسار: أبهذه الهيئة؟!
– صدقني يا عزيزي، لو استطعت لبدلت حياتك كلها، ولاشتريت لك بذلة جديدة، ووضعت في قدميك العاريتين حذاء لامعًا …
فتهلل وجهه بالأمل وهتف: وما الذي يمنعك؟
– هكذا وجدتك أمامي.
في هذه اللحظة كان سعالي قد اشتد، وكانت الحمى التي أعاني نوباتها منذ أسبوع قد ألحت عليَّ. فدارت رأسي وغامت عيناي، وماجت الأصوات من حولي، فاختلطت الصيحات العالية، بالبكاء المكتوم والهمس الخافت، وانطمست وجوه شخصياتي أمام عيني. عندئذٍ تمالكت نفسي وصحت بأعلى صوتي: «يا سيد! (وكان هذا هو اسم خادمي الأبله) هات الدواء.»
وبعد أن شربت منه جرعتين، قمت إلى فراشي، وأغمضت عيني، واستولى عليَّ نوم عميق.
حدث هذا منذ أسبوع. وأنا منذ ذلك اليوم أتذكر الصبي اليتيم.
وما زلت أبحث له عن مصير.