واحد من أهل الكهف
كان ينحدر من شارع الموسكي في طريقه إلى ميدان العتبة. وكان اليوم من أيام يوليو القائظة؛ الحر يكتم الأنفاس، والجو ملبَّد بالغبار، ورائحة العَرق واللهب والزحام تثقل الصدور، وضجيج العربات والناس والباعة تحث الأرجل على الفرار من هذا الجحيم. وكان يسرع إلى الرصيف بحثًا عن الظل حين سمع صوتًا ينادي: صابر. لم يلفت في أول الأمر؛ فلم يكن يدور في وهمه أن يعرف أحدٌ اسمَه في مثل هذه المنطقة المزدحمة من المدينة، وحتى لو عرفه أحد فلم يكن يتصور أن ينتبه إلى وجوده بينما الناس جميعًا مشغولون بالفرار إلى بيوتهم ومسرعون كالوحوش الضالة إلى مكانٍ يحتمون فيه من الغضب الجهنمي الذي أعلنته السماء على الأرض. ولكن الصوت عاد ينادي في إلحاح: صابر، صابر محمد مرزوق. ورأى عربة فخمة سوداء تميل إلى جانب الشارع حتى تحاذيه، وذراعًا بضة تخرج من نافذتها وتشير إليه. توقَّف كالمأخوذ وفتح فمه يريد أن يعتذر عن هذا الخطأ غير المقصود، ولكن دهشته زادت حين رأى وجهًا نسائيًّا يفتح له الباب ويصيح به في نبرة قاطعة: اركب! ولم يتمالك نفسه من إطلاق صيحةٍ جعلت بعض المارة يتوقَّفون ويلتفتون نحوه في اشمئزاز وحب استطلاع: بريسكا! وجذبته اليد البضة إلى داخل العربة قبل أن يتمكَّن من الإفاقة من دهشته فألقى بجسده على المقعد الأمامي والصوت الحاسم ذو البحة التي يعرفها يقول كأنه يصدر أمرًا عسكريًّا: «أغلق الباب. ليس عندنا وقت. على الله لا نكون أخذنا مخالفة.» وأسرعت العربة تنهب الأرض التي بدت كأنها لوح من الفحم تمده الشمس في كل لحظةٍ بمزيد من النار فيئن ويتلوى ويزفر ويدخن.
لم يكد ينتبه إلى نفسه وهو ما يزال بين مُصدِّق ومُكذِّب لوجوده في داخل العربة حتى تذكر أنه لم يسلِّم عليها، على بريسكا القديمة العزيزة التي تجلس الآن إلى جانبه ويداها على عجلة القيادة. أراح ظهره المتعَب إلى المسند المريح، والتقط نفسًا عميقًا، ثم مد يده في خجل: نسيت أن أصافحك. فأحس بيدٍ تفتش عن يده في سرعةٍ ولا تكاد تلمسها حتى تفلت بسرعة إلى عجلة القيادة، وصوت رقيق يقول معاتبًا في شبه سخرية: هل نسيت أن الكلام مع السائق ممنوع؟ ابتسم. رفع عينيه يتملَّى من الوجه الذي لم يكن قد وجد الفرصة حتى الآن ليشبع منه. كان هو نفسَ الوجه الأبيض المستدير الذي طالما تفرَّس في تقاطيعه السمحة المنسقة، وأنفه الدقيق الطويل كأنف نفرتيتي، وشفتيه الضيقتين المزمومتين اللتين طالما بذل من المحاولات ليستخرج منهما كنوزهما الشحيحة، والعينين الواسعتين الشديدتي السواد، المندهشتين دائمًا لسببٍ وبغير سبب، يظلهما حاجبان ثقيلان طالما قال عنهما إنهما حارسان عنيدان، كل واحد منهما عبدٌ أسود ممدد فوقهما يذود المتطفلين العطاش عن البئر العميقة. وابتسم لذكرياته التي بدت له طائشة وطفلية وسخيفة. واختلس نظرةً أخرى إلى الوجه المحبوب ليرى إن كان قد تغيَّر فيه شيء. كان الشعر الفاحم قد صُفِّف بطريقةٍ لم يسترحْ إليها، جعلته يحن إلى الخصلة الطويلة التي كانت تتدلى منه ذات يوم وتهتز مع هزة الرأس في حرية وبراءة وطيش عرفها عنها. وكانت هناك صرامة لم يألفها تكاد تحفر تجعيدة على الجبهة العريضة المتكبرة وتكسو الوجه كله بمسحة من الجِد والتسرُّع والعزيمة التي لم يألفها فيها. وضحك فالتفتت إليه التفاتةً سريعة، لا عن اهتمام حقيقي، بل ربما لتثبت له أنها لم تنسَ وجوده إلى جوارها أو لتخفِّف قليلًا من جو المقابلة الذي خلا حتى الآن من المجاملة. وضحك مرة أخرى وهو يقول في نفسه: وماذا يهمني؟ أليست هي بريسكا العزيزة نفسها؟ قبل أن يتجه نحوها بصوتٍ يحاول ألا ينفض عنه ضباب الحلم: مَن كان يتصور أننا سنتلاقى؟
قالت بغير أن تبتسم أو تلتفت إليه: وفي هذا الحر!
فاستطرد كأنه يحاول أن ينتزع نفسه من الضباب فلا يستطيع: وبعد اثني عشر عامًا.
فقالت في فتور لم يلاحظه: ألم تخطئ في العدد؟
فأجاب مؤكدًا دون أن يفطن إلى الاشمئزاز الذي بدا في حركة شفتيها الممتعضتين: بالعكس، أستطيع أن أعُدَّهم باليوم، بل بالساعة إذا أردتِ. إنهم اثنا عشر عامًا وشهران و…
قالت مقاطعة وعيناها لا تزالان تتابعان الطريق الذي أصبح يسير الآن لدهشته محاذيًا للنيل: تقصد أننا عجزنا إلى هذا الحد؟ فأجاب في خجلِ مَن اكتشف غلطته بعد فوات الأوان، وفي صوتٍ متحمسٍ يكاد يسترضيها: بالعكس، أنت صغرت عن سنك (أراد أن يطري جمالها الرائع ولكنه خاف أن يتحول إلى خطيب)، أما أنا فقد زدت عن سني الذي تعرفينه.
سألته كأنها تسامحه: أعرفه؟
فود لو يستطيع أن يهزها من كتفها ليذكِّرها وهو يقول في ضحكةٍ أزعجه رنينُها الأجوف: هل نسيتِ أن عمري ثلاثمائة عام؟! والآن زدت عليها اثني عشر!
ضحكت ضحكة خيِّل إليه أنها صادرة من أعماق قلبها، وأسعده أنه استطاع أن ينتزع منها هذه الضحكة الصافية بعد هذه السنين الطويلة وهو على حاله المتواضع الذي كاد في غمرة حماسه أن ينساه، وساعده على أن يعود إلى ذكرياته انهماكها في قيادة العربة. كان ذلك حين تعرَّف عليها لأول مرة في المدرسة الثانوية في طنطا. كان يجلس في الفِناء كعادته بعد الظهيرة يذاكر دوره في مسرحية أهل الكهف، ويجرِّب الإلقاء بصوته الجهوري حين سمع صوت الأستاذ حامد ينادي عليه في لهفة وفرح: ميشلينيا، يا ولد يا ميشلينيا! وأسرع يجري نحو مصدر الصوت وهو يكاد يكذِّب عينيه. كان الأستاذ حامد يقف بقامته النحيلة، ونظارته السميكة تعكس أشعة الشمس الغاربة، وشعره المنفوش يكاد يغطي أذنيه، وذراعه الطويلة الضامرة العروق تشير إليه. وكانت هي تقف معه، صغيرة وعبيطة في سن التلاميذ، تلبس بلوزة حريرية بيضاء وجونلة رمادية مخططة وإلى جانبها رجل ضخم في ملابسَ عسكريةٍ أدرك لأول نظرة أنه أبوها. قدَّمه الأستاذ حامد مدرس التاريخ والمشرف على فريق التمثيل إليهما وهو يربت على رأسه ويقول: حضرته الأستاذ ميشلينيا! ثم وهو يسلِّم عليهما في خجل وبغير أن يرفع عينيه إلى وجهها: خلاص العقدة انحلت يا سيدي، ووجدنا بريسكا. سعادة البيك الحكمدار من مشجعي فن التمثيل، كان يعارض في أول الأمر ولكنني استطعت أن أقنعه. إن شاء الله تكون حفلة ناجحة ونكسب الكأس، لكن المهم كل واحد يحفظ دوره عن ظهر قلب. اللجلجة والتهتهة ممنوعة أمامي على المسرح! لم يستطِع يومها أن يراها عن قرب؛ فقد تصبَّب عَرقًا وكاد يغرق في هدومه، واستأذن منصرفًا وصوت الحكمدار يدوي في أذنيه: شدوا حيلكم، بس إياكم أن تأخذوا الحكاية جد!
وتتابعت المقابلات من ذلك اليوم. في كل يوم بعد الظهر يبدءون البروفة ولا ينتهون منها قبل غروب الشمس. هل يستطيع أن يذكر في حياته أسعد من تلك الأيام؟ ألم يكن يجري إلى المدرسة كالعصفور، بغير غذاء في معظم الأحيان وبسندوتش تدسه أمه في جيبه على الرغم عنه حتى لا يموت من الجوع، ليكون أول مَن يرى سامية وهي تنزل من العربة البوكس التي كانت توصلها إلى باب المدرسة؟ ألم يكن ينتظرها على الباب ويذهب إلى لقائها وكأنه رآها صدفة ويتحاشى عيني الشاويش مجاهد الغاضبتين وهو يصافحها ويصحبها إلى الردهة الواسعة التي أقاما فيها المسرح؟ ألم يُكثِر من أكل سكر النبات لكي يجلو صوته فيرن على المسرح كأنه يوسف وهبي أو جورج أبيض، ليقول في صوتٍ يتعمد أن يكون مؤثرًا ليصل إلى قلبها برغم أنف الشاويش مجاهد الذي يجلس في الصالة على كرسي يحضره له، ويكشر في وجهه كلما سمعه يمد رقبته ويلوح بذراعيه ويجري نحو سامية في لهفةٍ لا تخفى على الأصم: ها أنتِ أخيرًا يا بريسكا! وتقف هي — كما يقتضي الدور وتعليمات الأستاذ حامد الصارمة — مذعورة في بهو الأعمدة، تتلفت وراءها خائفةً صامتةً كالتمثال وهو يسألها هي دون غيرها: عجبًا! أهذا استقبالك لي؟! ما كنت ولا ريب تتوقعين رؤيتي الساعة؟ بل ربما كنت لا تحبينها. ويزداد ذهولها وشحوب وجهها الحلو الصغير كما تزداد تكشيرتها ودهشتها من جرأته وهو ينطلق كالراديو: لا بأس. بالرغم من هذا لا أكتمك أن مرآك في هذه اللحظة قد صيرني سعيدًا، سعيدًا يا بريسكا إلى أقصى غاية.
وهل ينسى أنها كانت تتلجلج وتنسى دورها الطويل خلال الفصلين الطويلين، وأنه كان يحفظه بدلًا منها ويلقِّنه لها كلمة كلمة لكي يحميها من تشنجات الأستاذ حامد العصبية ومن شد شعره وصراخه الذي لا ينقطع: يا ناس! احفظوا دوركم! حرام عليكم! الفن تعب، تضحية، استشهاد. هل تريدون أن يأكل الناس وجهي في المديرية كلها؟ هل ينسى أن عبد العزيز سيد أحمد ومحمود الحلواني كانا ينافسانه على دوره ولا يكتمان غيظهما منه؟ ألم يقل له عبد العزيز يومًا بعد انتهاء البروفة: ولد يا صابر! والنبي تأخذ أنت يمليخا. يا شيخ أنا زهقت منه ومن بؤسه. رجل غلبان لا له في الحب ولا في الستات. يعني مهما يكن. راع لا طلع ولا نزل. بس شاطر يصرخ ويقطع قلبي: إلى الكهف! إلى الكهف! إنا أشقياء، أشقياء. هذا العالم ليس عالمنا. خذه أنت يا صابر. ومعه قطمير فوق البيعة! ألم يحسده محمود الحلواني أيضًا وإن لم يصارحه بكلمة واحدة؟
لقد كان يتابعهما بعينيه الصامتتين في كآبةٍ لا تخفى عليه وإن حاول أن يداريها بصمته وعدم اكتراثه. كان يقول له وهو يركِّز عينيه على وجهها الصغير وقدميها النحيلتين: حلال عليك يا عم بريسكا المفعوصة. الحمد لله أنا مرنوش. فإذا نظر إليه نظرته التي تقول: اطلع منهم! قال له في استخفاف: ومتزوج وعندي عيال، الواحد منهم عمره ثلاثمائة سنة. المهم ربك يختمها على خير! كانوا جميعًا يغارون منه ويتمنون أن يقفوا وقفته أمامها، وأن يكلموها بكلامٍ لم يقولوه هم ولكنه يصدر عن قلوبهم الوحيدة الخاوية، وأن يصرخ الواحد منهم فيها أمام المدرسة وأمام المتفرجين وأبيها الحكمدار والحكومة كلها: بريسكا! لا تتركيني! لا تتركيني وإلا سقطت في الجحيم! صحيح أنهم لم يروه ينفرد معها — فالشاويش مجاهد رابض في الصالة ووجهه أسود من الليل وعيناه تطلقان شرارًا — ولم يشكوا لحظةً في أنه يمكن أن يتجرأ ويلمس شعرة منها. كما أنهم كانوا يلاحظون كيف تعامله كما تعاملهم جميعًا في أدب وبرود وتعالٍ وكأنها فعلًا الأميرة بنت الملك دقيانوس وهم مجرد مشعوذين مساكين معفَّرين بترابِ الزمن والكهف والنسيان. ولكنها الغيرة التي كانت تأكل قلوبهم وتُسعِد قلبه وتجعله يبدو أمام نفسه منتصرًا من غير أن يدخل في معركة!
ما كان أجمل هذه الأيام! إنه لا ينسى ذلك اليوم الذي تأخرت فيه عربة البوكس عن الظهور بعد البروفة. انصرف زملاؤه وتركوه يقف إلى جوارها عند سور المدرسة. ربما لم يخالجهم الشك في أن البوكس لا يلبث أن يحضر، وفيه مجاهد بوجهه الذي يقطع الخميرة ويجلب النحس. ثم إن عم حسان بواب المدرسة العجوز كان يقف معهما ويهز رأسه أسفًا على شبان هذه الأيام وعلى التمثيل والكلام الفارغ الذي يضيِّعون وقتهم فيه. وعندما طال انتظارهما أحضر لهما كرسيين. ومضى الوقت وهما يترقبان العربة في كل لحظة. كان يتكلم طول الوقت أو مع عم حسان (وإن كان بالطبع يقصدها هي) ليضيع الوقت، عن صعوبة التمثيل، عن المجد الذي ينتظر الممثل في حياته والبؤس الذي ينتظره في موته، عن عائلاتهم التي تعيش كالمواشي لا تفهم شيئًا في الفن ومع ذلك تجاهر باحتقاره. وعندما هتفت زائغة العينين مصفرة الوجه: يا خبر! الليل دخل! أخذته الشهامة وعرض عليها أن يوصلها. وعندما أبدت معارضتها في أول الأمر وتلفتت إلى عم حسان كأنها تستنجد به — وهو ولا هو هنا — قال لها في صوتٍ تعلَّم من كثرة الإلقاء على المسرح كيف يحافظ على ثباته: المسافة قريبة. ثم إنني لن آكلك! كانت السماء صافية في ذلك المساء كما لم يرها من قبل؛ فلم يكن يهتم في يومٍ من الأيام بأن يلاحظ إن كانت صافية أو غير صافية. وكان القمر بدرًا كاملًا، يمشي معهما كأنه طاقة فُتحت عليه من ليلة القدر، وديعًا، طيبًا، مبتسمًا كأنه أمير صغير يسبح في قاربٍ فضي ويراقب رعيته من النجوم التي تحرسه من حوله. قال لها وصوته يرتجف: ماذا تنوين أن تفعلي في المستقبل يا بريسكا؟ قالت وهي تراعي المسافة التي تفصل بينهما: أبي يريد أن أدخل الجامعة. فقال وكأنه يخاطبها من فوق خشبة المسرح: هذه إرادة أبيك. وأنت؟ فقالت في تهور وقد شجعتها نبرته القوية: سأمثِّل.
فسأل في توسُّل: إذا قمت مرة بدور بريسكا، فهل ستتذكرين ميشلينيا؟ قالت في غباءٍ خيَّب أمله: لمَ لا؟ وإن كنت لا أفكر في التمثيل على المسرح.
قال مفزوعًا: لن تمثلي على المسرح. أين إذن؟
فقالت ضاحكة من سذاجته في استهتارٍ روَّعه: في السينما طبعًا.
قطب وجهه. وسار صامتًا إلى جانبها لا يجد كلمة يقولها. كان يريد أن يستطرد في الحديث عن روعة التمثيل وعظمته، عن مجده وتعاسته، عن عذابه ولذته، فيجد طريقًا للحديث عما يحسه نحوها. ولمَ لا يفعل ويزيح الحجر الثقيل عن قلبه ويقول لها إنه أحبها من أول يوم وقف فيه أمامها وقال لها في صوتٍ جمع فيه كلَّ لهفته وشوقه وسخطه وتحديه لزملائه وللأستاذ حامد ولأبيها وللمدينة بأسرها: بريسكا العزيزة! إني أترقبك منذ وقت طويل. ولكنه لم يفعل. وشعر بيأسٍ يخنقه. أهذا هو آخر التعب والتفكير والحفظ والتمثيل؟ أهذه هي اللحظة التي كان ينتظرها ويعمل لها ويرتِّب الكلمات المحفوظة لاستقبالها؟ وتلاطمت الأفكار في رأسه كالأمواج العكرة الغاضبة. وتمخض الصراع في نفسه أخيرًا عن حركةٍ من يده، خُيِّل إليه أنها ستغيِّر تاريخه إلى الأبد. مد يده فلمس يدها. لم تُبدِ معارضة. رفعها إلى فمه وقبَّلها فسحبتها كأنما لسعتها شظية، وقالت في استهتارٍ أغاظه حتى تمنَّى لو يستطيع أن يصفعها: ألا تخشى أن يضعك أبي في التخشيبة؟! سحب يده إلى جانبه. ومضى صامتًا مُطرِق الرأس مفجوعًا. ولم يَطُل صمتُه فقد رأى نور كشاف يلمع من بعيد. وما هي إلا لحظات حتى كان البوكس يقف أمامهما وعم مجاهد — كما كانت سامية تسميه — يخرج منها كعزرائيل ويفتح لها الباب فتدخل وهو يقول لها: لا مؤاخذة يا ست هانم. البيه كان مع النيابة في جناية قتل. وتركاه واقفًا في مكانه دون أن يقول أحدهما كلمة أو يلتفت إلى وجوده.
وقفت العربة فأيقظته من حلمه. وجاء صوت سامية الضاحك: وصلنا يا يمليخا! تفضل معي.
وأغضبه أن تناديه بيمليخا مع أنه لم يكن يكره شيئًا كما كان يكره ذلك الدور، الذي كان يقوم به عبد العزيز. وأين يأس يمليخا وانهزامه وتحوُّل صوته وجسمه من حيويته وحماسه، بل تهوره وعذابه؟ قال وهو يحاول أن يفتح الباب فتسارع بمساعدته: تريدين ميشلينيا. هل نسيت أيضًا أنني ميشلينيا؟ واندفعت تصعد السُّلم وهي تشير إليه ضاحكة: وهل عندي وقت لأتذكر كل شيء. أسرع، أسرع. أمامي نصف ساعة فقط أغيِّر فيها هدومي وأذهب للاستديو.
انطلقت تجري على السُّلم الرخامي الجميل وهو في إثرها. أسخطته إجابتها التي كان يتمنَّى أن تكون أكثر احتشامًا، كما أغضبه أنها لم تعطِه الفرصة ليتفرج على العمارة الفخمة من الخارج. ودَّ لو يسألها عن الحي الذي تسكن فيه، ولكنه أشفق على نفسه من سخريتها. وفتحت باب الشقة امرأة عجوز، صغيرة الوجه، وتعجَّب لضيق عينيها وتكشيرة حاجبيها التي بدا له أنها لا تتناسب مع الطرحة البيضاء الوقور التي كانت تضعها على رأسها. قالت سامية دون أن يحيِّيها: اعملي شاي بسرعة يا أم محمد. عندي صداع. لا تنسي الأسبرين على المكتب. ثم التفتت بسرعة لصابر الذي وقف في الصالة مذهولًا يتأمل قطع الأثاث الفخمة ويتعجب من تكويناتها الحديثة الجريئة ويحدِّق في اللوحات والمصابيح التي تطلع كأوراق الشجر المضيئة من كل الجدران، وقالت دون أن يبدو عليها الاهتمام أو الاستغراب لذهوله: واعملي للبيه شاي أيضًا. أو تحب الكوكا كولا يا يمليخا؟! انتزع نفسه من تأملاته وقال غاضبًا: قلت لك ميشلينيا! ثم في خجلٍ من صياحه في بيتٍ غريب عليه وهو ينظر في تودُّد إلى العجوز: أشرب شاي مع الهانم. قالت أم محمد وهي تنظر إليه نظرةً ودودة دون أن يبدو عليها أنها اهتمت بالإصغاء إليه: «حسني بك منتظرك من ساعة. قاعد في الصالون.» جرت سامية كالفراشة وفتحت بابًا وهي تهتف: صحيح؟ هالو! تعالَ يا حسني. ليس عندي وقت للسلام والكلام. عارفة كل شيء (وهنا ظهر على باب الصالون رجل يقترب من الأربعين أذهل صابرًا بياضُ جلدِه الشديد وصغر وجه ودقة شاربه المرسوم بعناية فوق شفةٍ غليظة داكنة لا تتناسب مع رشاقة الوجه واتساع العينين اتساعًا شديدًا).
نسيت أعرِّفكم ببعض. حضرته الأستاذ حسني، مخرج فيلمي الجديد: مصرع العشاق. أليس كذلك يا حسونة؟ أو نسميه اسمًا آخرَ لا فيه موت ولا دم؟ مصرع الأحباب مثلًا؟ اسم شيك. أو أقول لك، نسأل الأستاذ ميشلينيا. حضرته الأستاذ صابر، صابر محمد مرزوق، زميلي في التمثيل، أيام زمان (ومدت في الميم إلى حدٍّ أخاف صابرًا حتى خُيِّل إليه أنها شدته من رأسه فخشي أن يصطدم بالسقف). أليس كذلك يا ميشو؟ (وهنا خُيِّل لصابر أنها تنادي على كلب) عن إذنكم. أغيِّر هدومي. لحظة واحدة، اقعدوا مع بعض.
وجلس صابر على كرسي أشار إليه الأستاذ حسني. لم يرفع وجهه إليه؛ فقد كان لا يزال مبهورًا بالجو البلوري الذي وجد نفسه فيه فجأة كأنه في قصر مسحور، مأخوذًا بالثراء والفخامة والإهمال البديع في كل شيء، وغارقًا إلى أذنيه في كلماتِ سامية التي نزلت كالمطر فوق رأسه، فلم يدرِ هل هي تجامله أم تسخر منه. وقبل أن يفيق جاءه صوتُها — صوت بريسكا المحبوبة الذي أصبح خليعًا وجريئًا وغير مبالٍ — يقول: مَثِّلْ والنبي يا ميشو، قل له يا حسونة حتة صغيرة من أهل الكهف. كان اسمها أهل الكهف، بتاعة الحكيم. أليس كذلك؟ علشان خاطري، أنا سامعة.
وقبل أن يفيق مرة أخرى جاءه صوت الأستاذ حسني الهادئ الناعم الذي خُيِّل إليه أنه يشم له رائحةً كرائحة العطر: «لو تكرمت يا أستاذ، ولو سطرين ثلاثة. تأكد أنني أقدِّر المواهب، وربما يكون لك نصيب تشتغل معنا. أنا أخرجت لسامية ثلاثة أفلام، وأمامنا الآن فيلم.»
لم يدرِ صابر بماذا يرد. تكوَّم على نفسه كأنه يدافع عنها ضد هجومٍ مدبَّر خسيس. ولما عاد الأستاذ حسني يلح عليه في صوتٍ جادٍّ لم يخطئ فيه نغمة صادقة تشجعه، ألقى بظهره على المسند الناعم وقال في هدوء: معذرة. بعد أن يحضر الشاي.
وصرخت سامية من وراء غرفة النوم الموارب تلعن أم محمد وتستعجلها وتهدِّدها في نفَس واحد. وجاءت صينية زجاجية تزينها خطوط ذهبية وفوقها أكواب الشاي. مدَّ صابر يده فتناول كوبه وأحس بنشوة الدفء بعد الجرعة الأولى، نشوة يكاد يغرق فيها تعب اليوم كله. وأغمض عينيه، وتمنَّى لو يستطيع أن يتمدَّد ويستريح وينسى كل شيء. وقبل أن يغفو جاءه صوتُ سامية من وراء الباب: نسيت أسألك يا ميشو: أين كنت الآن؟ قال وهو يغالب النعاس: كنت أتسوَّق من الموسكي. سألت من جديد: هدوم مثلًا؟ قال في صوتٍ لا يخفي ضيقه: لا، بقالة للدكان. سمن وزيت وصابون وتوابل من كل الأصناف. أصلي أنا الآن أعمل مكان أبي. سألت للمجاملة: يعني تاجر؟ أجاب كأنه يؤكد حزنه على المصير الذي انتهى إليه: نعم، على قد الحال. والدي مات وأنا في التوجيهية. حضرتك كنت انتقلت من البلد مع البيك الحكمدار، ترك لي ثلاث بنات وولدين. كان لا بد من وجودي معهم لأباشر الأرض وأقعد في الدكان. سألت من جديد في استهتار تعجَّب كيف تقدر عليه: وعندك أولاد يا ميشو؟ فأجاب في حسرة ولكن في استسلام: خمسة، يبوسوا أيديك.
وفاجأته صيحة من الأستاذ حسني: اسكتي أنت! الرجل يريد أن يمثِّل. يالله يا أستاذ، قل لنا قطعة على الماشي.
قال صابر معتذرًا وقد أعجبه اهتمام الأستاذ حسني به: ولكنني لا أذكر شيئًا. ألحَّ الأستاذ حسني: أي شيء؟ قال صابر في إخلاصٍ كاد أن ينفجر له حسني ضاحكًا لولا أنه تحكَّم في نفسه: الحقيقة أنني نسيت أغلب دوري مع الست هانم، كانت دنيا وراحت. سأل حسني في عطفٍ وكأنه يتمنَّى لو يستطيع أن يبكي: كان دور ميشلينيا نفسه؟ فأحس صابر أن الإلحاح عليه زاد عن حدِّه وأنه من الجحود وقلة الذوق أن يقابله بالصمت والجمود، فتحامل على نفسه وشدَّ عضلاته ووقف في وسط الصالة. أطاح رأسه بهزة واحدة إلى الخلف وكشَّر ملامحه. عقد جبينه وزمَّ شفتيه بكل قوَّته ومدَّ ذراعيه إلى الأمام كالمستجدي وقال: «نهاية الفصل الثالث، بهو الأعمدة، الوقت ليل والمكان مضيء.» ثم انفجر في صوتٍ فوجئ به حسني. وذُعرت أم محمد فأسرعت تجري من المطبخ ووقفت خلفه تنظر إليه في ذهول: نعم، نعم، الوداع! يا … يا … لست أجسر! الآن أرى مصيبتي وأحس بعِظَمِ ما نزل بي. لا مرنوش ولا يمليخا رُزئا بمثل هذا. إن بيني وبينك خطوة، بيني وبينك شبه ليلة، فإذا الخطوة بحار لا نهاية لها، وإذا الليلة أجيال، أجيال، وأمد يدي إليك وأنا أراك حية جميلة أمامي فيحول بيننا كائن هائل جبار: هو التاريخ!
ويبدو أنه لم يكن قد انتهى حين أطلت سامية فجأة من الباب، بقميصِ نومٍ وردي شفاف، ومدت ذراعها ضاحكة ضحكة رنَّت في أذنه كوقع وعاء نحاسي يرتطم فجأة بالبلاط: الوداع يا ميشلينيا!
لا يدري صابر حتى الآن ماذا حدث له في تلك اللحظة. تراخت عضلاته، تفكك جسده، انهار على الأريكة كأنه تمثال من القش. لم يستطِع أن يثور، لم يستطِع أن يبكي، لم يفكر أيضًا لا في الثورة ولا في البكاء، بل ربما لم يفكر في أي شيء بالمرة. وأسرع حسني إلى غرفة النوم متأففًا وهو يؤنب سامية بصوتٍ يحاول أن يكون مرتفعًا. ودقَّ جرس الباب في هذه اللحظة فدخل رجل ضخم، شعره مجعد وطويل وفاحم، وعيناه شديدتا السواد مخيفتان إلى حدِّ أن صابرًا لم يستطِع أن يثبِّت عينيه فيهما أكثر من لحظة واحدة. كان صوته أجشَّ، وبدا لصابر كأنه ثور غبي وهو يقول: هل هذه مواعيد يا عالَم؟ من الصبح أنتظركم، والناس تسأل عنكم، والبلاتوه جاهز، والمنتِج الذي كان موعده معك يا سي حسني على البار، وكاتب السكربت يا ست سامية منتظر هناك على نار. إن لم تنزلوا حالًا ضاعت علينا الفرصة. أعوذ بالله من هذا الحر، الدنيا نار. بسرعة يا ست سامية، اعملي لك قلب.
كان الرجل الضخم قد وقف أمام باب غرفة النوم فسدَّه بهيكله الجبلي وصوته الأجش وكل شيء هائل فيه. لم يلاحظ وجود صابر، بل وقف في مكانه كأنه يكتم أنفاسه. ورنَّ جرس التليفون، وسمع صابر صوت سامية تتكلم في نفَس واحد، ووجد نفسه ينهض من على الكرسي وقد خُيِّل إليه أنه استراح قليلًا. ودون أن يحس به أحدٌ مشى على أطراف أصابعه إلى الباب الخارجي ففتحه في هدوء. حتى العجوز الطيبة أم محمد، التي كانت تقف لحظتها في المطبخ وتعطي له ظهرها بحيث يرى طرحتها البيضاء فوق رأسها بوضوح، لم تحس به وهو يغلق الباب وراءه.