قصة الطوفان
تفاصيل مثيرةٌ للاهتمام بشأن ترجمات الألواح الآشورية في المُتحف البريطاني — حقائق مكتشَفة حديثًا بشأنِ الطوفان والنبيِّ نوح، مع إلقاء بعض الضوءِ على تاريخ عضو مجلس الشيوخ من ولاية مين واستيطان بروكلين.
بوسطن، ٢٦ أبريل – يذكر السيد جاكوب راوندز من لندن، أحد الأمناء المساعدين في المتحف البريطاني، في خطابٍ خاص أرسله لأحد المستشرقين البارزين في المدينة، بعض التفاصيل المثيرة للاهتمام بشأن التطور الذي حدث في ترتيبِ وترجمة ما خُطَّ من نقوش على الألواح والقرميد الناري اللذين جلبهما السيد جورج سميث من بلاد آشور وكلدو. كانت النتائجُ في الأشهر الثلاثة أو الأربعة الماضية مُرضية لأقصى حدٍّ؛ فالعملُ الذي كان قد بدأه جروتفيند منذ ٧٥ سنة، واصله علماءُ آثار أمثال راسك، وسانت مارتين، وكلابروت، وأوبرت، ورولنسون الذي لا يكلُّ ولا يملُّ. كان كلٌّ من هؤلاء يشعر بالرضا إن تقدَّم في هذا العمل خطوةً واحدة إلى الأمام، وقد أحرز فيه السيد جورج سميث تقدمًا سريعًا ومذهلًا مع زملائه الأكاديميين. فيمكن القول الآن: إن الكتابة المسمارية الآشورية البابلية، التي تُمثِّل الفرع الثالث والأكثر تعقيدًا في الثالوث، عثرت على أوديبها.
فأخيرًا أصبح من الممكن قراءةُ ألغازِ بلاد أكاد وسومر؛ فقد ترجم الآن السيد جورج سميث النقوشَ على الألواح المستخرجة من الأرض وقمامة التلال في مدينة نينوى بسهولةٍ ويُسر، تمامًا مثلما يترجم الأستاذ ويتني اللغة اليونانية، أو كما يترجم طالبٌ في الفصل الدراسي الخامس قصةَ الرجل والأفعى.
لم تمضِ سنواتٌ كثيرة منذ أعلن العلامة ويت أن هذه الحروف المسمارية، المرتبة بإتقانٍ فوق ألواح من المرمر الرَّمادي، أو السطح الطيني المجهَّز بعناية — مثل عيناتٍ من أنصال السهام في متحفٍ لوزارة قديمة من وزارات الحربية — تخلو تمامًا من المعنى الأبجديِّ، فهي مجرد زخارف غريبة، أو ربما آثار لديدان! إلا أنَّ تفسيرَها قد تحقق على أكمل وجه؛ فقد أخرجت تلال كالح ونينوى ودور شروكين ومدينة النبي يونس كنوزَها الأثَريَّة، وهي تكشف لنا الآن عن التاريخ المبكِّر لكوكبنا صفحةً تلو الأخرى.
يؤمِن كلٌّ من السيد سميث والسيد راوندز بالفكرة التي طرَحَها لأول مرةٍ فيسترجارد، والقائلة بأنَّ هذه الحروفَ المسمارية تُشبِه كثيرًا الكتابة الديموطيقية المصرية؛ وكذلك بأن حروفها الأبجدية — التي تحتوي على أكثر من ٤٠٠ رمز، بعضها يعبِّر عن مقاطع، وبعضها يعبِّر عن أصوات، وبعضها يعبِّرُ عن أفكار — بالغةِ التعقيد وعشوائية. وكما أشَرْنا من قبلُ، فإنَّ النقوش التي فكَّ السيد سميث ومساعدوه شفرَتَها كانت ضمن فئةِ الحروف البدائية أو البابلية، التي هي أكثرُ غموضًا بكثير من كلٍّ من خليفتَيها وما أُدخِل عليها من تعديلات، وهما ما يُطلق عليه الكتابة المسمارية الفارسية والميدية.
مكتبة سنحاريب
كانت الألواحُ ذات الأهمية الكبرى التي عُثِر عليها مدفونةً في تل نينَوى الشهير، الذي فُتح لأول مرة في عام ١٨٤٣ على يد إم بول إيميل بوتا، واستكشَفَه فيما بعدُ لايارد بنفسه.
النقوشُ في الأغلب موجودةٌ على الطَّميِ، ويبدو أنها كانت تمثِّل جدران مكتبة آشوربانيبال العظيمة داخلَ قصر سنحاريب.
كان سنحاريب على الأرجح مَلِكًا ذا عقلية بحريَّة؛ إذ إن جزءًا كبيرًا من النقوش يسلط الضوء على تاريخِ الطُّوفان ورحلة النبيِّ نوح، أو نياب، نظيره الآشوري، والذي يتشابه أيضًا، في بعض التفاصيل، مع دوكاليون من الأساطير الإغريقية. وُضعتِ الأجزاءُ والتفاصيل بعضها بجانب بعضٍ كي تتحدَّدَ معالم قِصَّةِ الطوفان، حتى أصبحت مكتملةَ الأركانِ؛ إنها حلقةٌ مميزة من حلقات الملحمة الضَّخمة التي انخرطَ في إعادة تشكيلها السيد سميث. وبالطبع يمكننا التماسُ العذر للسيد راوندز على المصطلحات الحماسية بطبيعتها التي استخدمها في وصف هذه الأعمال.
ويجدر به الشعور بالفخر؛ فهؤلاء الرجالُ في المتحف البريطاني يعمَلون بنجاح على تجميعِ ما يدَّعون أنه موسوعةٌ كاملة لتاريخ مقدسٍ ودنيوي جزءًا جزءًا، بدايةً من مفهوم المادة وميلاد العقل البشري. لقد وضعتهم أبحاثهم الاستثنائية على أعتاب السلطة، التي من منطلقها يعلنون الآن بجدِّية تصديقهم على النصوص المقدسة، حتى إنَّ الحالَ وصلَ بهم إلى التربيت على رأسِ موسى وإخبارِه أن نسختَه الموحى إليه بها كانت صحيحة.
كم كان السردُ لمغامرات نياب — أو نوح كما يُطلق عليه على نحوٍ أكثر ملاءمة — تصويريًّا للغاية، والنبذة المختصرة عن أساليبه في الملاحة واضحة للغاية، والحقائق المكتشفة حديثًا عن السفينة وركَّابها مذهلة لدَرجة أغرَتْني بأن أستفيد من الإِذنِ الكريم الذي حصلت عليه من عالِم بوسطن الذي حظِيَ بشرفٍ أن يكون المراسل المحترم للسيد راوندز، وبأن أدوِّن بشيءٍ من التفصيل، من أجل القُرَّاء، قصةَ الطوفان المذهلة كما حكتها الكتابةُ المسمارية الآشورية؛ تلك الكتابة التي ظلت مشفَّرة طيلةَ أربعة آلاف سنة حتى أزالتْ عبقريةُ شخص يُدعى سميث غموضَ معناها.
ارتفاع الماء
تأكد السيد سميث بواسطة هذه النقوش من أنه حينَ بدأ نوحٌ في بناء سَفينته وتنبَّأ بحدوث الطوفان، كان الرأي السائدُ حينها أنه إما مختلٌّ أو متنبئٌ ماكر اختلَقَ هذا — من خلال نبُوآت حماسية ومظهرٍ من الإخلاص التام — حتى يقلِّل من قيمة ضَيعةٍ ربما يَنوي أن يشتريَها، عبر سَماسرته، بحيث يمكن شراؤُها بأسعار زهيدة.
وحتى بعدما أغرقَ الماءُ الأراضي المنخفضة، وكان واضحًا أن الأمر لن يَقتصر على مجرَّدِ كونِه موسمًا رطبًا مُعتادًا، لم يتورع جيران نوح الأشرار عن ممارسة عادِتهم في التجمُّع بهدف السخرية من البناءِ غير المتقن للسفينة، والتشكيك في قُدرتها على الإِبحار. كثيرون كانوا يؤكِّدون أن هذا الشيء سينقلب مع أول هبَّة ريح، تمامًا مثل وعاء خشبيٍّ كبير ثقيل الحُمولة. وعليه جاء الناس من كل حدب وصَوب؛ ليشهدوا خيبةَ أملِ الشيخ المسن ويَسخروا منها.
لكنْ لم يكن ثمة سبيل للسخرية؛ فقد طفَت السفينة كقطعة من الفِلِّين؛ وأنزل نوح ثُقل التوازنِ في قاع السفينة ووقف عند الدَّفَّةِ يلوِّح مودِّعًا بمهابةٍ معاصريه الأشرار، بينما هبَّ على سفينة الأخيارِ نسيمٌ منعِشٌ من جهة الجنوب، وهي تتحرك كما لو كانت كائنًا حيًّا. ولا وجودَ لأيِّ شيءٍ على الإطلاق في السرد الآشوري يؤكِّد مقولةَ أنَّ نوحًا زاد من سرعة تحرك السفينة عن طريق رَفع ذيلِ مِعطَفِه. وكان هذا يُعد إجراءً غير ضروري وفيه خروج عن الوقار في الوقت نفسه؛ فقد وفَّر البناء المرتفع على سَطح السفينة مقاومةً كافيةً للريح ما ساعد على تحرك السفينة بسرعةٍ كبيرة.
نوح الملَّاح
بعدما زالت الرهبةُ الأولى لحداثة الموقف، واختفى الشُّعور بالرضا تجاهَ الرفضِ المهذبِ والحازم في الوقت ذاتِه لطلباتِ الركوبِ، وعقب رؤية الساخرين وهم يعانون من أجل الوصول إلى الأراضي المرتفعة بلا جَدوى قبل أن تحيط بهم المياه العاتية وتبتلعَهم في النهاية، كانت الرحلةُ مضطربةً وبغيضة؛ ففي نهاية المطاف، لم تكن السفينة مُتقنة الصُّنع؛ فقد كانت تترنح بفعل الرياح على نحوٍ مروع، وكان من الصَّعبِ توجيهها طوال الوقت تقريبًا. كانت الأمواج المتلاطمة ترتطم بشدةٍ بِقاعِها المسطَّح؛ مما جعل جميعَ الركاب يصابون بدوار البحر، ويشعرون بالبلاء الشديد.
وداخل الهيكل الخشبي البائس الذي كان بمنزلة مقصورة السفينة، احتشَدت الطيور والحيوانات والبشر معًا في فوضى. ويقول أحدُ الألواح عن الطوفان بأسلوب لا يَفتقر للمبالغة الدرامية: «لم يهنأْ أحدٌ في نومتِه قط بسبب وجود نمرٍ بنغالي يحدِّق فيهم من أحد الجوانب، أو قنفذ يقبع بجوار أرجلِهم العارية. لكن الأمر أصبح أكثر خطورة حين تململ الفيلُ، وحين شعر الدبُّ القطبي بالإهانة من إهمالٍ متوهَّم.»
لن أتوقع وصفًا تفصيليًّا من السيد سميث للرحلة البحرية للسفينة؛ فقد جمع بيانات من مخطط كامل لمسار نوح طوالَ الأشهر العديدة التي استغرقتها الرحلة. أما الطبيعة المتعرجة للطريق المتَّبع في الرحلة، والغرابة البالغة لإبحار نوح في دائرةٍ كبيرة، فهما دليل على أن هذا الملاحَ المبجل، كان دومًا ما يصيبه التوتُّر، في ظل الظروف الكئيبة المحيطة به، وهو عيبٌ علينا أن نسبل عليه، نحن أحفادَه، سِترَ الإحسان والصمت.
اقتباس من سجلِّ نوح
إلا أن أكثر الاكتشافات إثارةً للدهشة على الإطلاق تتمثل في مجموعة من الألواح التي تحمل تسجيلًا حقيقيًّا وحرفيًّا من سجلِّ سفينة نوح. عُهد بسجل الرحلة — الذي أولاه نوح دون شكٍّ عناية خاصة، لكونه ملاحًا حكيمًا — على الأرجح إلى سام؛ أكبر أبنائه والمسئول الأول عن السفينة. وربما انتقلتْ أجزاء من هذا السجل من جيل إلى آخرَ بين القبائل السامية؛ ولم يتردد السيد راوندز في التعبير عن رأيه بأن هذه الألواحَ الموجودة في المتحف البريطاني، قد نُسخت مباشرةً من البنود الأصلية في سجلِّ السفينة على يد نوح أو سام.
لقد أرسل إلى مراسله في بوسطن أدلةً مبكرة من بعضٍ من نُسخٍ طِبق الأصل لمطبوعات حجرية، الهدف منها تسليط الضوء على عمل السيد سميث المقبل؛ كتاب «تاريخ شامل عن الطوفان ورحلة النبي نوح». ولا بدَّ أن يُوضع في الاعتبار أن هذه النقوشَ تُقرأ من اليسار إلى اليمين، وليس مثل اللغة العربية وغيرها من اللغات السامية العديدة الأخرى التي تُقرأ من اليمين إلى اليسارِ.
وقد تحقق مثل هذا التقدم في تأويلِ اللهجات الآرامية، وبذلك يصبحُ من السهل نسبيًّا على السيد راوندز تحويلُ هذه إلى لهجتنا العامية، وهذا هو ما فعلَه على النحو التالي، من خلال ملء ثغرات معينةٍ في النقوش حين تكون الصلةُ واضحة:
يصعب التأكيد بما فيه الكفاية على أهمية هذه القصاصةِ من تاريخ الطوفان؛ فهي تُلقي الضوء على ثلاث أو أربع نقاط لم تُفهم جيدًا حتى الآن. وبعد الاطلاع على الموضوع من جميعِ جوانبه ومقارنة هذا الاقتباس المذكور هنا مع عدَد لا حصرَ له من الفقرات الأخرى التي لا يتسع المقام لذكرها، توصَّل السيد سميث والسيد راوندز إلى الآتي:
استنتاجات مهمة
-
(١)
عند تدوين هذه الجزئية في سجل السفينة على يد نوح (أو سام) كانت السفينة في مكانٍ ما قبالة شاطئ ولايةِ مين. تؤكد دائرة العرض هذا الاستنتاج؛ أما خط الطول فمع الأسف مَفقود. ويمكن العثور على أدلة موازية على أن نوحًا قد زار أمريكا الشمالية في أغنية شعبيةٍ قديمة، قائمة على تقليد عبري، إذ ورد ذكر مدينة بارنيجات. والخطأ الوحيد المتمثل في تحديد مكان جبل أرارات على بُعد ثلاثة أميال جنوب بارنيجات يرجِع دون شكٍّ إلى ارتباك بسيط في حسابات نوح؛ وربما كان هذا طبيعيًّا في ضوء الظروف العصيبة المؤسفة.
-
(٢)
«التهمنا بالأمس آخر زاحف بتيروداكتيلوس لدينا … وقُضي على الجعة اللاذعة وجميع الصناجات.» يقدِّم هذا الجزء حلًّا بسيطًا لمشكلةٍ حيَّرت العلم لفترة طويلة؛ فقد تبيَّن أن المؤن المخزَّنة في السفينة لم تكن كافيةً لهذه الرحلة التي طالت على نحوٍ غير متوقَّع. ونظرًا إلى المصاعب التي واجهها نوح وأُسرته من أجل العثور على الطعام، لجئوا مُجبَرين إلى ما لديهم من مخزون حيوانيٍّ؛ فالتهموا الحيوانات الأكبر حجمًا والصالحة للأكل أكثرَ من غيرها من الحيوانات التي حملوها معهم. التهم هؤلاء الرحَّالة الجوعى الأنواع المتبقية على قيد الحياة من زواحف إكتيوصوروس، وطيور الدودو، وحيوانات العصر السيلوري، وزواحف بليزوصور، وحيوانِ الصناجة. وعليه يمكننا تفسيرُ انقراض أنواع معيَّنةٍ عاشت، أو كانت موجودة في عصر ما قبلَ الطوفان كما يخبرنا علم الجيولوجيا. ولو اعتُبر هذا الاكتشاف النتيجةَ الوحيدة لأبحاث السيد سميث، فإن هذا معناه أن مجهوده لم يذهب سُدًى. وكان السيد راوندز محقًّا في ملاحظته أن الإشارة إلى الجعة اللاذعة تعطي دليلًا افتراضيًّا قويًّا على أن المُسكرات لم تكن مُحرَّمة!
-
(٣)
توضِّح الإشارة إلى الزيادة المثيرة للاهتمام في أسرة يافث أن النساء النبيلات، اللاتي يبرز دورهن في الأزمات، كن يبذلن أقصى جهد لسدِّ الفجوة التي حدثت في تَعداد سكان الأرض بفعل المياه التي غمَرَتْها. ويُحتمل أن مصطلح «هيباجا» hibaga يُشير إلى التوائم الثلاثية؛ لكن السيد سميث، بكل ما يتصف به عالم الآثار الحقيقي من تحفُّظ، يفضِّل أن يكون في الجانب الآمن، ويستخدم كلمة توائم.
لحم الخنزير الأصلي هانيبال هاملين
-
(٤)
نصل الآن إلى استنتاجٍ مثيرٍ للدهشة وحتميٍّ في الوقت نفسِه. إنه يربط فخامة هانيبال هاملين بعَصر الطوفان؛ ومن ثَم، بالشيوخ الذين عاشوا حياةً مديدة وازدهروا قبل حدوث الفيضان. شك علماء الآثار لوقت طويل بأن التشابه بين اسم لحم الخنزير بالإنجليزية «هام» واسم هاملين أكثر من مجرَّدِ مصادفة. وتمخضت جهود شخص يُدعى سميث عن اكتشافه بين البقايا الآشورية لحلقة وصل تجعل الصلة واضحة تمام الوضوح. ورد ذكر حام، ثاني أبناء نوح، في هذه السجلات من نينوى على أنه هامبل هامين؛ ومن ثمَّ لا يمكن لأي عقل حصيفٍ إلا أن يرى إثبات الجذور البالغة القدم لعضو مجلس الشيوخ هذا من ولاية مين!
لاحظ الدلالة؛ تأرجح السفينة فوق المياه قبالة ساحل ولاية مين في انتظار الرياح الشمالية الغربية. في حين يوجد سبب يجعل حام المسكين، أو هامبل هامين كما يجب أن نُطلق عليه، يأسف على عدم قدرته على احتمالِ الرحلات البحرية. فالافتقار إلى الخضراوات الطازجة، ووجود نظام غذائي واحد معتمد على لحم الصناجة المملَّح، كان له أثره السلبي على جسد حام المسكين! أثناء عمله جابيًا بأحد موانئ البحر المتوسط قبلَ الطوفان مباشرةً، اعتاد حام تناول البازلاء الخضراء والهليون اللذين كانا يُرسَلان إليه يوميًّا من جنة عدن. لكن الآن أُلغي هذا الامتياز، وأصبحت جنة عدن واقعة تحت هذا المحلول الملحيِّ بأربعين قامةٍ كاملة. صار كل شيء ملحيًّا. فأصبح وجهه داكن اللون شاحبًا ومنهكًا. وأصبح معطفه ذو الذيل متدليًا على بِنية هزيلة. كان يمضُغ الشيروت بكآبة وهو يقف على السطح العلويِّ للسفينة واضعًا إبهامَيه في جيب صَدريَّته، ويفكر في أن بإمكانه تولِّي منصب على هذه الأرض لكن لفترة أطولَ قليلًا. بدأت لثَتُه تضعف، وبدأت تظهر عليه أعراض الإسقربوط؛ ومن ثَم، وبعد نقاشٍ محتدم — إذ إن هامبل يكره دومًا ترك أيِّ مكان سبق له أن وُجد فيه — أنزله نوح إلى الشاطئ.
لم يصلنا مزيدٌ من الأخبارِ عن هامبل هامين، لكن من المعقول للغاية افتراض أنه عقب نزوله على الشاطئ الصخري لولاية مين، عاش على أشجارِ التوت حتى تعافَى بما يكفي من مرض الإسقربوط، ثم أبحر في اتجاهٍ معاكس للريح في نهر بينوبسكوت على جذعِ شجرة، وأسس قرية هامدين القديمة، التي أسماها على اسمه، وانتُخب على الفَور ليتولى منصِبًا عامًّا.
سفينة منافسة
أخشى أنني أجدُ في رسالة السيد راوندز الطويلة والمثيرة جدًّا للاهتمام كمًّا هائلًا من الخيارات يُسبِّب حيرة وارتباكًا. فمن بين الأساطير الغريبة العديدة التي كشف السيد سميث غموضها، لن أختار إلا واحدةً أخرى، وسأسْتَعرضها بإيجاز؛ إنها قصة عن سفينة مُعادية.
في وقت حدوث الطوفان كان يعيش تاجر اسمه بريث، وقد كان كفئًا في مجال بقالة التجزئة. في الواقع، كان مليونيرًا قبل حدوث الطوفان. وقد تحوَّل بريث عن الوثنية بفضل الدعوة المؤثِّرة جدًّا للنبيِّ نوح، لكنه ارتدَّ فيما بعدُ. إلا أنه حين بدأ البرقُ والرعد، وبدأت السماء تُظلم في الشمال الشرقي، أظهر بريث علاماتٍ على عودَته إلى التقوى. وبالتالي ذهب إلى سُلم الصعود إلى متن السفينة وطلب إذنًا ليركب هو وعائلته. لكن نوحًا، الذي كان يُدوِّن الحيوانات على ظهر فاتورة ضريبية قديمة، رفض بحزمٍ مجردَ التفكير في عودته.
انتفع بريث في ذلك الوقت بالمال الذي كسبه بجدارة من تجارة البقالة؛ ففعل به أكثر شيء معقول ممكن في ظل هذه الظروف؛ فبنى سفينةً لنفسِه، وكتب على جانبها بحروف كبيرة هذه الكلمات: «الخطة الآمنة الوحيدة للملاحة العالمية!» وأطلق عليها اسم «العلجوم». صُنعت سفينة «العلجوم» على غرار سفينة نوح، ولما لم تكُن ثمة حقوق ملكية فكرية في تلك الأيام، لم يسَعْ نوحًا إلا أن يتمنَّى أن يتبيَّن عدم أهليَّتِها للملاحة.
وفي سفينة «العلجوم»، ركب بريث مع زوجته برياثا وابنتيه، فيسار وباران، وزوجَي ابنتيه، لامبرا وبينيش، ومجموعة مختارة من الحيوانات لا تقلُّ كثيرًا عن مجموعة نوح نفسه. أقنع لامبرا وبينيش، المخادعان، خمسين امرأة من أجمل النساء اللاتي تمكَّنا من الوصول إليهن بالركوب معهما.
لم يكن بريث في نفس براعة نوح في الإبحار؛ فقد أبحر بالسفينة قبل الموعد المحدد بأربعين يومًا كاملة. وفقد قدرته على تحديد موقع السفينة وظل هائمًا على وجهه في المحيط طوال سبع سنوات وثلاثة أشهر؛ إذ كان يقتاتُ هو ومن معه على الفئران في السفينة. لقد غفَلَ بريث بحماقة عن تزويد سفينته بمؤن تكفِي لرحلة طويلة.
بعد هذا الإبحار الطويل، تمكَّن ركاب سفينة «العلجوم» وطاقَمُها من الرسوِّ في مساء يوم مطير ونزلوا على الشاطئ بأنفسهم وأمتعتهم مع راكون وجمَلٍ عربي؛ الحيوانات الوحيدة الباقية من حديقة حيواناتهم التي كانوا يفتخرون بها. وبمجرد نزولهم إلى اليابسة، انفصل الرجال الثلاثة، بعدما عقَدوا اتفاقية ثلاثية لصداقة دائمة وقسموا مجموعةَ الزوجات بينهم. أخذ بريث ثماني عشرة زوجة، وأخذ لامبرا ثماني عشرة زوجة هو الآخر، وكان على بينيش — الذي بدا أنه شخص متساهل وكسول للغاية بحيث يصعب أن يدخُل في شجار — أن يرضى بالسَّبع عشرة المتبقية.
وتُلقي ألواحُ النبي يونس بعضَ الضوء على السؤال المثير للاهتمام بشأن مكان رسوِّ هذه المجموعة. بالتأكيد تعني «خايارتا» جزيرة، وتُشير كلمة «دينيم» دون شكٍّ إلى كلمة طويل. وعليه ربما ثمةَ ما يُبرِّر رأي السيد راوندز بأنَّ سفينة «العلجوم» ألقتْ مرساتها في خليج والاباوت، وأن مجتمعَي بروكلين وبليموث تُعزى أصولهما إلى هذه الرحلة الاستكشافية الفريدَة.