كانط والقانون الأخلاقي
ولكي يكون من المُمكن وجود جماعة من الأفراد في مجتمع ممزق فيجب أن يتجرد القانون عن أي شيء يخصُّ مَن هم تحت حكمه. وميزة ذلك أن القانون لا يستجيب لهؤلاء الذين يَسعَونَ لتأكيد سلطتهم واستغلالها؛ لكن الخطورة هي أن يئول الحال إلى تكوين مجموعة كبيرة من الرموز الكودية، فيبدو الأمر وكأنما يجب محوُ الناس واستنساخهم إن أردنا أن تتحقق المساواة والعمومية فعلًا، فكل فرد يعدُّ فريدًا ومستقلًّا؛ ولكن لأن جميع الأفراد يُثنى عليهم بهذه الصورة دون تمييز، فإن هذه القيمة تظل على شفا مناقضة ذاتها، فالكل سواسية؛ لكن ذلك كما سيبدو ليس إلا لأنهم اختُزِلُوا في خيالات مآتة مفرغة من مضمونها.
مع ذلك فإن مفهوم القانون هذا وسيلة عبقرية لتحقيق العمومية في وقت تتعثر فيه الوسائل التقليدية لتحقيق ذلك — كفكرة الطبيعة البشرية المشتركة على سبيل المثال — لأسباب ليس أقلها الرحالة المتحدِّثون عن التنوع الإنساني، إلا أن هذا يعني أننا الآن بحاجة للتفكير والتعقُّل من أجل وضع الآخرين في الاعتبار، فقد ضاعَت سمة العفْوية أو اللامبالاة البرجوازية المبكرة بلا رجعة. ومع دخول الطبقة البرجوازية في أوروبا لعصر تراكم رأس المال الصناعي، بما فيه من العمال المجهولين والمنافسين غير المعروفين والصراعات الطبقية المحْتَدَّة، تراجعت فكرة النُّبْل لتفسح المجال أمام ساحة القضاء أو السياسة باعتبارها نموذجًا للخطاب الأخلاقي.
هذا هو القانون الأخلاقي الشهير لإيمانويل كانط، الذي يخضع له كلُّ الناس بنفس الصورة، والذي يتمتع بقوة الأمر الإلهي الكاملة بينما يظل شأنًا دنيويًّا خالصًا، فهذا القانون، مثل الرب، من المسَلَّمات؛ فلا يمكن اختزاله إلى أي مبدأ أكثر أولية وهو لا يخضع للتفسير المنطقي. فنحن لا نكون أفرادًا عند لاكان، كما رأينا، إلا تحت حكم قانون يحقق التكامل بين وجودنا ووجود الآخرين. وبينما نتجه إلى دواخل النفس إن جاز التعبير في النظام الخيالي، فالآن يَلتفت كلٌّ منا إلى الخارج باتجاه سلطة تربطنا جميعًا معًا بهُوِيَّات مجهولة. يرى كانط أن الفرد لا يكون إنسانًا حقًّا — حرًّا وعقلانيًّا ومستقلًّا — إلا بالخضوع لسيادة قانون يُنظم ويُوفِّق بين أهداف الفرد وأهداف الكائنات الحرة العاقلة الأخرى. والفرق بين الفيلسوفين في هذا الصدد هو أن كانط يرى أن هذه الحرية موجودة على النطاق الباطن، في مستوًى حدسي لا يُمكن للعقل الواعي الوصول إليه، بينما يرى لاكان أننا في هذا النطاق الباطن أو اللاواعي نتمتَّع بأقل قدر من الحرية. لكن أيًّا كان الاختلاف فإننا دخلنا إلى منطقة نعرف فورًا أنها حديثة؛ ثقافة العلاقات العقدية والمصلحة الذاتية المستنيرة والقواعد الأخلاقية والقوانين العادلة وتعظيم المنفعة واحترام استقلال الآخرين والمعايير التوافقية والإجراءات المنطقية، فهو نظام بعيد كل البُعد عن الآنية الحسِّية للنظام الخيالي؛ لكنه كذلك — كما سنرى لاحقًا — هو عين ما يُدافع عن أكثر منظومة أخلاقية يرفضها النظام الواقعي.
إذًا تتمتع الرؤية الأخلاقية البريطانية بسحر جمالي معيَّن، لكنها خيار عاطفي بصورة زائدة. يرى كانط أن الخير ما هو إلا نزعة؛ فهو لديه حذر بروتستانتي من القيم التي تُكتسب بسهولة من دون الصراع الداخلي والانتصار على النفس. وينظر كانط بعين الإعجاب لقلق البرجوازيِّين من ذوي الفكر الذين يُصارعون ضمائرهم وليس التلقائية المرحة للأرستقراطيين، فهو لا يُعجبه عدم الاكتراث الجريء المُتعجرِف الراقي الذي عُرف في عصر النهضة باللامبالاة؛ فالأشياء الثمينة هي التي تجهد في طلبها؛ لذا فالطبيعة الرحيمة التلقائية حقيقة وراثية — وليست أخلاقية — عن البشر. وبينما يرى أرسطو أن أولئك الذين لا يُحصِّلون الرضا من الأفعال الفاضلة هم في الحقيقة ناقصو فضيلة، ويُصرُّ ديفيد هيوم على أن هذه المتعة عين الدليل على الفضلاء، يرى كانط أن أولئك المتَّصفين بالبرود، ويتمكنون رغم ذلك من فعل الخير، يتمتعون بالحظ الأوفر من الأخلاق. فكلما زادت مجاهدتنا للنزعات التلقائية لدينا أصبحنا أكثر جدارة بالثَّناء أخلاقيًّا؛ فالمتعة دافع دُونيٌّ في نظرته الناقدة القاسية، بعكس شافتسبري وهتشسون. وحيث إن نوبات التعاطُف المفاجئة هذه لا تشمل أفعالًا إرادية فهي لا تُعتبَر استجابات أخلاقية على الإطلاق، فالإحساس يُعد بصورة كبيرة عدوًّا لما هو أخلاقي، وما لا يُستلهَم من الواجب يجب أن يُفعل بدافع المتعة الخالصة حتمًا. إنها رؤية حياتية قائمة على الصرامة، إن لم تكن مؤذية، فهي لا تُفيد. فكما هو الحال مع السجائر، من الأفضل في المجمل ألَّا تجدَ السلوك الفاضل ممتعًا بصورة زائدة عن الحد.
قضَت أطروحة كانط المضادة على قدر كبير من المساحة البينية المشتركة بين النزعة الطبيعية والالتزام. ومن بين ما استُبعد كان المفهوم الأرسطي الخاص بالنزعة الأخلاقية التي ليست مسألة خاصة بالواجب المجرد ولا بالدافع الشعوري ولا العادة التلقائية ولا الفعل الإرادي الشاق؛ فالنزعات تتضمن عواطف؛ لكنها عواطف مقترنة بأحكام وموجهة نحو فعل محتمل، وليست نوبة أو وخزة داخلية تغذيها النزعة العاطفية لذاتها؛ فلكي نحسن التصرف فعلًا، علينا أن نمتلك أحكامًا ومشاعر ومواقف سليمة؛ لكن ما يهم في النهاية هو حسن التصرف. بهذه الصورة فإن الدافع الأخلاقي العقلي البحت عند كانط يُقدِّم تصورًا ناقصًا عن الفضيلة بقدر تصور أنصار مذهب الخير البدهي البحت، الذي يبدو أنه لا يترك سوى مساحة قليلة للتقييم العقلاني؛ فالنزعات ليست نوبات عمياء من الشعور التلقائي، بل هي حالات يجب بذل الجهد لاكتسابها وتهذيبها وممارستها ومراقبتها إلى أن تصير الأفعال التي تدفعنا إليها سهلة واعتيادية. فالرحمة والعطف والرغبة في العدل ليست مجرَّد مسائل تتعلق بالتفكير المفاهيمي، ولا هي تتبع وخزة جوع أو نوبة حسد مفاجئة، بل هي تشمل كلًّا من العقل والعاطفة، والفكر والشعور. كما لا يمكن لهذه المَلَكات أن ترتبط بتعاملاتنا مع من نعرفهم ومن لا نعرفهم، فنحن نتأثر بمصائب الغرباء ونحزن بدافع قربنا مِمَّنْ حولنا. لقد أصاب كانط في رؤيته أن أنصار مذهب الخير يُخاطرون بعزل أنفسهم عن الأخوَّة العامة؛ لكنه أخطأ في تصوره أن التفكير المجرد وَحْدَهُ يمكن أن يأخذنا لما هو أبعد من عواطفنا الداخلية.
إلا أن رؤية كانط أكثر جمودًا من هذا؛ إذ لا يُمكن استخلاص قانون عام حقيقي من الرغبة المشتركة في تحقيق السعادة؛ حيث إنَّ كل شخص يرغب في تحقيق السعادة بطريقته الشخصية الخاصة؛ ومِن ثَمَّ يظل المنطق الأخلاقي أسيرًا للخصوصية العمياء، فيجب أن يكون ثمة أساس أكثر إطلاقًا وعمومية للأخلاق من هذا، صورة علمانية نوعًا ما للرب المطلق الذي شأنه شأن كل القيم المطلقة أن يَحمل مقوِّماته بالكامل في ذاته. فكما أن الربَّ هو السبب الأبدي في وجود ذاته، كذلك القانون الأخلاقي عند كانط الذي هو غاية الجميع بالضرورة لأنه غاية في نفسه، فهو كل ما يُمكن أن ترنو إليه إرادة البشر، بعيدًا عن تطلُّعاتهم وميولهم وهو بالتبعية ما يمكنهم كذلك أن يريدَه بعضُهم لبعض. من هنا يأتي الأمر المُطلَق المشهور: لا تتصرَّف إلا تبعًا لقاعدة يُمكن اعتبارها قانونًا عامًّا، فإن كانت بشريتك تعني أن تكون عقلانيًّا، إذن فالتصرف العقلاني حتمًا هدفه إلزام سائر من سواي بطريقتي في التصرف؛ فالحرية هي تحرير النفس من كل الأشياء والرغبات المحتملة، وكل ما يسمى بالمصالح «المَرَضية» في سبيل عدم التصرف إلا تبعًا لقانون يضعه الفرد لنفسه، قانون واضح تحيط به هالة تجعله هدفًا في ذاته من دون أي اعتبار للطبيعة المميزة لهذا الفرد أو ذاك؛ ومِنْ ثَمَّ تجعله يُطبق تطبيقًا عامًّا. ولأننا نفرض هذا القانون على أنفسنا فهو يمثل أساس حريتنا؛ حيث إن الحرية مُرادِفة لتقرير الذات. سينتاب الأجيال اللاحقة شكٌّ أكبر في هذا الادعاء؛ حيث سيشكُّون في أن القوانين التي نفرضها على أنفسنا هي عامةً الأكثر قسرية وصرامة من غيرها. ثمة بعض القسر — كما يرى تيودور أدورنو — في حرية كانط التي من المفترض أنها غير مرضية في ظل القانون، وهو ما سيُسمِّيه فرويد الأنا العليا.
إنَّ هذا في واقع الأمر هو الجانب الخفي البغيض لنظرية أخلاق كانط التنويرية. فلأنه لا يمكننا أبدًا تبرير أفعالنا أمام القانون، فهو يُنمِّي فينا إحساسًا دائمًا بالقلق أو الغربة، وهو ما لا يقل عن الإحساس بأننا خاضِعون؛ فالقانون الأخلاقي إله قاسٍ، فهو — في أقصى درجات ساديته القاسية — يَختزلنا بترهيبه عديم الحس لنا إلى كائنات معدومة الوجود، وأشياء لا أهمية لها، وأجزاء من المادة لا معنى لها؛ فالمعادل للقانون الأخلاقي السامي هو الإنسان باعتباره بقايا وفضلات وكتلة من السلبية الخالصة. فالذات إذ تمر بانعدام الإحساس القاتل هذا — لأن القانون خالٍ تمامًا من المادة — تُعاني من كارثة أو انهيار للمعنى، انهيار يمثل حالة طوارئ دائمة وليس نوبة ذعر مؤقتة. ومن هذا المنطلق، يحتوي القانون الرمزي في جوهره على ما سيُسمِّيه لاكان النظام الواقعي، أي الحالة التي نكون فيها مُعدمين، مُنتزَعين من مكاننا، واقعين في هاوية اللامعنى، يسحقنا جوهر قاتل من انعدام المعنى أقرب إلينا من أنفاسنا.
تُعدُّ الأخلاق في رؤية كانط شأنًا فرديًّا وعامًّا، وبهذا فهي تُشبه الأحكام الجمالية؛ فالفعل الأخلاقي هو فعل يخصُّني حصريًّا وكليًّا، إلا أن اللحظة التي أكون فيها نفسي بلا مُنازِع هي نفسها اللحظة التي لا أكون فيها سوى مُمثِّل لقانون عام. ومن المهم للفرد أن يكون حيوانًا عامًّا، ونحن نكون في أفضل حالاتنا عندما نتصرف على هذا الأساس؛ فثمَّة شيء غير بشري أو غير شخصي يكمن في أعماق الذات يجعلها على ما هي عليه. ورغم أن هذه القوة السامية المُستحيل فهمها عند أوجستين والأكويني هي الرب، وعند أتباع فرويد هي الرغبة، فإن كانط يُسمِّيها القانون الأخلاقي؛ فهناك إذن مسار مباشر عنده من الفردي إلى العام، رغم أنه مسار لا يُمكن أن نسلكه إلا على حساب الخصوصية الملموسة.
إذًا فالعمومية المجردة والخصوصية المتناهية وجهان لعملة واحدة، فالأفراد هم القوة المحرِّكة لهذه الحضارة لكن تجرُّدهم من كينونتهم القوى المجرَّدة التي يُصدرونها؛ فالحرية تعني عدم فرض أي مبدأ لا يُشرِّع للنفس، إلا أن تقرير الذات ذلك في حد ذاته يهدد باختزال الفرد إلى طوطولوجيا عديمة المعنى. إن الأمر راجع للرجال والنساء ليمنحوا أنفسهم قيمة لا أن يجدوها — كما في النظام الخيالي — مُقدَّمة من العالم أو من الآخر، فالنظام الرمزي الذي يُقدِّمه لنا كانط قائم بذاته تمامًا؛ إذ لا يقوم لا على الطبيعة ولا على ما وراء الطبيعة، فحتى الأوامر الإلهية يجب أن تمرَّ على العقل البشري ليستبعد الأخطاء المنطقية منها. يبدو الأمر وكأننا لا نرتكز الآن إلا على أنفسنا، وإن كانت هذه من سمات نُضجنا الأخلاقي؛ إذ نتخلَّى عن اعتمادنا الخيالي الطفولي على الآخرين وعلى الكون، فهي كذلك علامة على اغترابنا عن الطبيعة التي لم يَعُد لها أي علاقة بشيء سامٍ مثل القيمة بعد أن اختُزلت في مجرد حقيقة أولية؛ لذا فإن المبدأ المعاصر الشهير «قيمتي أستمدها من نفسي وَحْدَها!» لا تفصله سوى شعرة عن أنين القائل: «أشعر بوَحْدَة شديدة في هذا العالم!»
إذًا فالتصرف الأخلاقي لا يوجهه سوى العقل والواجب الذي يحدده، وليس مجموعة الدوافع المختلطة (المتعة والرغبة والسعادة والمنفعة والرفاهية وغيرها) التي نَكتسِبها من الآخرين أو من العالم من حولنا أو من شهواتنا الفطرية والتي لا تَليق مِن ثَمَّ بالبشر الذين مصائرهم في أيديهم بالكامل. فالفعل الأخلاقي الحقيقي لا علاقة له بنتيجته، وهو افتراض أخلاقي غريب بالتأكيد؛ ففي طوطولوجيا متسامية، علينا أن نتحلى بالأخلاق؛ لأنه من الصحيح أخلاقيًّا أن نفعل هذا. إن ما يجعل الفعل أخلاقيًّا، شأنه شأن ما يجعل شيئًا ماديًّا سلعة، هو شيء يُجسِّده هذا الفعل يعلو ويتخطى أي سمة مميزة يتَّسم بها، وهو اتساقه المقصود مع قانون يُمكن تعميمه، فالإنسانية لا سبيل لها إلى الكيانات الغيبية المشئومة مثل الخير الأسمى، وهي التي تَستعصي عليها مثل الآخر اللاكاني الكبير، فلا يبقى بديل ممكن لهذا الشيء المفقود — بالنظر إلى أنه يجب أن يكون مطلقًا تمامًا — سوى الصورة المطلقة من القانون الأخلاقي؛ فالقانون إذًا يملأ فراغًا — أي غياب الخير الأسمى أو جسد الأم — بفروضه الأبوية؛ ومن هذا المنطلق فإننا نتحدث عن تحول من النظام الخيالي إلى النظام الرمزي.
إن الأخلاق أو العقل العملي شأنه شأن العمل الفني مستقل وقائم بذاته، فهو يحمل الغرض منه في ذاته ويرفض كل منفعة ويزدري كل نتيجة ولا يقبل أي جدل. وكما الحال عند سبينوزا، تتدنى المُصطلحات الرئيسية للمذهبين الخيري والعاطفي في القرن الثامن عشر — المتعة والعاطفة والبديهة والإحساس والإشباع والخيال والتصوير — غالبًا إلى درجة اللاأخلاقية. (يُمكننا أن نقول إن هذه الكلمات تنتمي كذلك إلى لغة علم الجمال.) إذًا فنحن نتحدث عن نظرية أخلاقية تتجاوز مبدأ المتعة؛ فالفعل الأخلاقي لا علاقة له بتوفير صور حية للخيال، ففكرة هيوم عن أننا نحتاج لمثل تلك الصور الحية لتَحفيز تصوُّراتنا الأخلاقية الخاملة مرفوضة دون جدال. وفي المقابل يرى كانط أن هذه «الصور والأدوات الطفولية» ليست فقط غير لائقة بالمخلوقات العاقلة مثلنا، بل يرى أيضًا أنها تُقلِّل من عظمة وسمو القانون الأخلاقي ومِن ثَمَّ تُضعف قوته الهائلة. من الممكن ألا توجد صورة محفورة للعقل أو الحرية الإنسانية؛ فالغموض الكلي للحرية — كما يرى كانط المتمرد في كتابه «نقد مَلَكة الحكم» — يجعل التصوير الإيجابي كله مستحيلًا، فهي ظاهرة حدسية خالصة يكون إدراكها على المستوى العملي وَحْدَهُ وليس بالصور الحسية؛ فنحن نعلم أننا أحرار لأننا نرى أنفسنا نتصرَّف بحرية بجانب أعيننا؛ لكن هذه الحرية شأنها شأن شبح الآخر الذي يسير إلى جانبك في قصيدة تي إس إليوت «الأرض الخراب» تختفي تمامًا إن حاولت النظر إليها مباشرة.
يثير هذا بالتأكيد مشكلة في نظام اجتماعي قائم على طبقة وسطى تَعتبِر الحرية فيه محورية؛ فالقيمة الأثمن تنفلت الآن من شبكة التصوير لتصبح نوعًا من الرمز الكودي الموحي أو مجرد أثر للسمو؛ فالذات — التي هي المبدأ الأساسي للقضية كلها — تتملص من تصنيفاتنا ولا تظهر ضمنَها إلا مجرد شيء يشبه التجلي الصامت أو الصمت الموحيِ، أي حضور يصطدم دون صوت بحدود فكرنا؛ إذ لا يُمكن الإحساس بها إلا باعتبارها نوعًا من الزيادة الفارغة أو سموِّ شيء دقيق. إذًا فالإنسان البرجوازي وهو في ذروة قوته يعمى عن ذاته؛ حيث إن حريته — التي هي جوهر تفرده — بطبيعتها لا يمكن تحديدها. فكل ما يُمكننا زعمه عن الذاتية — ذلك الفراغ الغريب الذي يُكوِّننا — هو أنها أيًّا كانت فهي ليست مثل الشيء على الإطلاق؛ ومِن ثَمَّ فهي تُحيِّر الإدراك؛ فالعارف والمعروف لا يتشاركان نفس النطاق، فمشروع العلم ممكن بصفة كبيرة، لكن العالِم باعتباره ذاتًا لا ينتمي للمجال الذي يدرسه، فحتى الأشياء التي يدرسها العالِم لا يمكنه أن يدركها إلا بصورها المُشاهَدة؛ لذا فإن اللاهوت السلبي للإنسان — إن جاز التعبير — هو وَحْدَهُ الممكن.
إذًا يبدو الأمر وكأن الذات تُطرَد من عين النظام التي تحفظ تماسكه باعتبارها كانت أصله ومُكمِّله يومًا ما، فهي أصل النظام بكامله، وكذلك هي ثُقبٌ أسود في مركزه. فالقوة التي لا يمكن تصورها هي سلبية مطلقة في الوقت ذاته. ومحاولة رسم شكل محدد لهذا الطيف كمحاولة القفز على ظلِّنا؛ فالذات لا يمكنها أن تكون «جزءًا» من العالم إلا بقدر ما تمثِّل العين جزءًا من مجال الرؤية، فالذات عند كانط ليسَت ظاهرة بداخل الواقع بل هي نقطة فوقية مطلة عليه. وهي، عند كانط في ثورته الكوبرنيكية، ما يسعى من خلالها لإعادة العالم المادي إلينا؛ لكن الذات «في جوهرها» خلال تلك العملية تَنزلق من فوق حدود المعرفة وتغرق في الكيانات المدفونة المعروفة بالحدسيات التي لا يُمكن الحديث عنها. فالذات ليست بشيء يخضع للإدراك، شأنها شأن الملائكة الحارسة أو المثلثات المربعة مثلًا؛ إذ تجد الطبقة البرجوازية نفسها وهي في أَوجِ قوتها أن نفس النظام الاجتماعي الذي وضعَتْه، قد أقصاها لتعلِّق بين الذات المستعصية على الاختراق من ناحية وبين الشيء غير المعلوم من الناحية الأخرى.
إن الذات البشرية؛ إذ هي مُحدَّدة بصرامة من الخارج لكن حرة الاختيار من الداخل، حرة ومغلولة معًا. ويرى سبينوزا أن هذين الجانبين من وجودها متلازمان؛ فالحرية تكمن في معرفتها أنها مقيَّدة، وهي ثمرة كفاح الإنسان المترتِّب عليها ليُصبح حر الإرادة، فهي تعني التوقُّف عن اعتبار النفس كائنًا معزولًا واعتبارها جزءًا من نظام يقوم على الضرورة. ويُؤيِّد كانط تلك الحتمية عند سبينوزا — مجرَّدة من أسسها الميتافيزيقية — بل يضيف إلى عِلِّيَّات الطبيعة الراسخة مجالًا ساميًا للروح. وهو بذلك يحفظ الحرية على حساب إمكانية فهمها، فهي في نظر سبينوزا أمر خيالي أو خرافي. أما في نظر كانط فهي فرضية ضرورية؛ فالحكمة في رأي الفيلسوف الهولندي تكمن في تأمل هُوِيَّتنا في الطبيعة. أما نظيره الألماني فيرى أنها قضية ترسيخ استقلالنا عنها.
•••
إذن فكانط — في خطوة جريئة — ينقل قضية الأخلاق بكاملها من النظام الخيالي إلى النظام الرمزي، وهذا يعني كذلك الانتقال من المضمون إلى الشكل، أو من الموضوعي إلى الإجرائي. ويتضمَّن هذا انتقالًا من القدرة على دعم أخلاقك بشيء يتخطاها — كالرب والطبيعة والتاريخ — إلى الفوائد غير المؤكدة للتحرُّر الأبدي من أي أساس مماثل. ويعلن كانط في عمله «أسس ميتافيزيقا الأخلاق» أن الفلسفة الأخلاقية يجب أن تُطهَّر من المحتوى التجريبي والأنثروبولوجي بالكامل. وبما أن أي فعل من أفعال الإرادة التي تُحفِّزها ميول أو أشياء تجريبية هي أفعال «مَرَضيَّة»، فإن فعل الخير الأسمى الوحيد هو الإرادة الخالصة للخير نفسه. وإرادة الخير ليست إرادة شيء مُحدَّد، بل أن يتصرف الإنسان بما يتفق مع القانون الأخلاقي؛ لذا فإن هذا القانون لا يُقدم شيئًا سوى الإعلان عن نفسه، فهو — كما كتب كافكا إلى صديقه جريشوم شولم — يتمتَّع «بشرعية لكن لا مدلول له». فالوسط إن جاز التعبير هو ذاته الرسالة، فتعاليم القانون الأخلاقي مُطلَقة لكنه لا يبين لنا ماذا نفعل، فمثل ناظر مدرسة متحرِّر الفكر يسعى لتعزيز المبادرة الشخصية بين تلاميذه، هو يُوضِّح لنا السمات العامة التي ينبغي أن تُميِّز أفعالهم لكنه لا يبين عمدًا محتواها؛ فالمُتنوِّرون لا يحتاجون لأن يتمَّ إعطاؤهم قائمة بالأوامر الأخلاقية من موضع سلطة عليهم. إن الذين يحتاجون لهذه الأوامر غير قادِرين للسبب نفسه على أن يفهموا مغزاها أو يُنفِّذوها؛ إذ إن المرء يتردَّد في قبول الطعام من طباخ يحتاج إلى تعليمات مفصلة عن كيفية التعرُّف على حبة قرنبيط مثلًا.
قد يبدو القانون الكانطي في فراغِه أو طوطولوجيته مختلفًا عن أوامر الرب غير المشروطة التي يحلُّ محلَّها، باعتباره معبودًا يُملي أوامره بصيغة دقيقة غير مريحة، إلا أنه من ناحية أخرى لا يكاد يختلف عنه إطلاقًا؛ إذ إن ما يُسمى بالوصايا العشر ما هي إلا طريقة يَهْوَه في قول: «هكذا تكون محبَّتي.» فطلب الرب الأساسي ليس امتناع الإنسان عن السرقة أو الزنا بل أن ندعه يُحبُّنا لكي نتمكن بفضل نعمته تلك من أن نبادله الحب. إذًا فطوطولوجيا القانون الرمزي — «يجب أن تطيع؛ فالقانون في النهاية هو القانون والواجب هو الواجب» — هي طوطولوجيا حبٍّ عبثيٍ وفراغ سموٍّ مطلقٍ، فإن كان للقانون محتوى محدَّد فسيُمكن دائمًا مساومته وتملُّقه وتقديم الإذعان المطيع لقاء جزاء كبير. ولكن لأن شريعة موسى هي قانون الحب، فيجب على مضمونها أن يتخطى شكلها. إن ما يحبط فريسيي هذا العالِم هو صمت هذه الفضاءات السرمدية.
إذن فالأمر الإلهي — شأنه شأن الأمر المطلق عند كانط — يخلو تمامًا من المضمون، فهو كعبارة القدِّيس أوجستين «أَحِبَّ وافْعَل ما شِئتَ.» فهو يشير باقتضابه إلى سمو الرب عما هو بشري، فمن السمو ألا يفرض الرب أوامر مُقيِّدة على مخلوقاته كما تفعل الأنا العليا السادية المبالغة في عدم واقعيتها لأنه لا يحتاج إليها. فحبه — باختصار — خالٍ من الرغبة. إن هذه — وليس القانون الأخلاقي عند كانط — هي الصورة الحقيقية لعدم المشروطية؛ فالحب الإلهي يعني عدم انتظار مقابل؛ ولهذا تكون مشاركتنا في هذا الحب في أعمق صورها عندما نتمكَّن من أن نحب دون شكر أو من طرف واحد. فإن كان يَهوَهْ في العقيدة المسيحية اليهودية ليس هذا المُستبِدَّ المتعالي الذي يفرض قيودًا شديدة الثقل على كاهلنا؛ فذلك يرجع من بين أسباب أخرى إلى أنه لا يحتاج إلى العالم؛ وهو ما يَعني أنه خلقه دون أن ينتظر مقابل، بدافع الحب لا الاحتياج؛ فالخلق هو الفعل المجاني الأول، فهي مسألةُ «متعة»؛ وهو ما يعني أنها مسألة لذة «لا طائل منها» بعبارة لاكان، فالوجود هبة وليس قدرًا؛ فلا ضرورة عند الرب لخلق أدقِّ جُسَيم مادي، بل إنه بعد إعادة النظر الناضجة في الأمر ربما يندم على فعلته هذه أشد الندم. وإن كان الآخر الكبير عند لاكان ذا رغبة في ذاته، فإن الرب في العقيدة المسيحية اليهودية ليس كذلك؛ وحيث إنه بالتبعية ليس لديه احتياجات عُصابية فهو لا يأمر بأن نتقرب إليه بالقرابين التي تأكلها النار أو الأوامر المتعلِّقة بالطعام والشراب أو السلوك المعصوم أخلاقيًّا، بل علينا أن ننحِّيَ جانبًا هذه المساومات الرديئة ونتقبل الحقيقة التي لا تُحتمَل، وهي أنه يغفر لنا دائمًا. فلسنا بحاجة إلى الانغماس في القلق البروتستانتي من أجل استيضاح ما يأمرنا به؛ إذ إنه لا يأمرنا بشيء أكثر من الحب. ولأنَّ الحب أمر عملي ومحدَّد فيجب أن يكون بالإمكان صياغته صياغة قانونية، إلا أن الذين يُعَرِّفونه بتلك الصيغ يُخطئون بقدر الذين يجعلونه مفهومًا مجردًا.
لا تنبع القيمة الأخلاقية — عند كانط شأنه شأن سبينوزا — من تأمُّل بعضِنا بعضًا في إطار خيالي، ناظرين إلى الآخرين من خلال ثنايا الذات المتقدة، بل تعتمد على النظر إلى النفس من الخارج، من المنظور اللاعاطفي للقانون الأخلاقي نفسه؛ وهو ما يعني النظر إلى النفس باعتبارها ذاتًا عامة؛ ومِن ثَمَّ معاملة النفس كمعاملة الآخرين. يرى كانط أنه لا يوجد فرق واضح بين الغرباء والأقرباء. فإن تعاملت مع الآخرين كما لو كانوا مكاني، فأنا أنظر لنفسي باعتباري غريبًا نوعًا ما. ومن الناحية الأخلاقية، فإننا أصدق ما نكون على حقيقتنا عندما نتصرف كما لو كنا أي شخص. إنني عندما أنقسم إلى شخصين وأنظر لنفسي من موقع النظام الرمزي نفسه، متفحِّصًا ذاتي بنظرة الغريب المحايدة، عندها فقط أكون مطابقًا لنفسي حقًّا. وهذه الرؤية أبعد ما يكون عن الرؤية الأخلاقية العاطفية عند هيوم أو سميث، وإن كان كلٌّ منهما مثاليًّا على طريقته الخاصة. إن لمح أنصار مذهب الخير في حالات التعاطُف نعيمًا يُعد كعيد حافل مثالًا للمدينة الفاضلة، فإن بعضًا من خلفائهم الأقل توهمًا عند مواجهتِهم نظامًا اجتماعيًّا مفككًا لا يشجع التواصلَ الاجتماعي اضْطُرُّوا إلى النُّزول بمدينتهم الفاضلة إلى مستوًى أكثر عمقًا حيث منطقة البديهة الغائمة التي هي الوطن المثالي للذوات العاقلة الحرَّة ولغاياتهم المتكاملة المتناغمة.
بل إنها تتشكَّل على مستوًى أعمق من هذا، فإن كان كانط الذي هو متشائم في المجمل تجاه الإنسانية يحتاج إلى فكرة الرب؛ فذلك لأسباب ليس أقلها أن احتمال اجتماع الفضيلة والسعادة في العالم الآخر أكبر بكثير من هذا العالم، إلا إن كنا ننظر إلى عالم الرواية الذي برز حديثًا؛ فالفجوة بين ما هو مثالي وما هو واقعي تتَّضح في تعليقه بأن الأمر المطلق يظل ملزمًا حتى وإن لم ينجح أي شخص في الالتزام به. في حقيقة الأمر، إن نجاح أي شخص في الالتزام فعلًا به من عدمه يظل مسألة غير مَحسومة، فكيف يُمكننا التأكد أصلًا من أن تصرفاتنا كانت من دون أدنى قدر من الدافع «المَرَضي»؟ فهل نحن غير مذنبين أمام الرب؟ إن القانون الأخلاقي — كما يعلم كانط — شيء مستحيل، وهي سمة يشترك فيها، كما سنرى، مع النظام الواقعي عند لاكان.
تتشابَك المتعة والقيمة الأخلاقية، وحب الذات والتعاطف، والتجريبي والمثالي في كتابات هتشسون وهيوم. أما مع كانط فيجب إبعاد المدينة الفاضلة أكثر وأكثر عن عالم دنيوي حسي لدرجة تظل معها كيفية تحقيق المدينة الفاضلة فيه — أي كيف للوجود البديهي أن يحلَّ محل الوجود الحسي — شيئًا غامضًا. يبدو الأمر وكأنه يجب حماية القيمة المطلقة من شرور النظام الواقعي بإبقائها مدفونة دائمًا. إذًا فمِن المفارقة أن القانون الأخلاقي — الذي ينظر للرجال والنساء باعتبارهم أفرادًا يُمكنهم التعامل بتجرد فيما بينهم — يقوم في معظمه على الواقع التجريبي؛ على عين مجتمع السوق الذي ينتقده بشدة، فالفعل الأخلاقي حقًّا — كالسلعة — هو نموذج للتبادُل؛ لكن هذا في السياق الأخلاقي يعني معاملة النفس والآخرين باعتبارهم غاية في ذاتهم، وهي عقيدة تختلف كل الاختلاف مع منطق السوق، ففي مقابل المصلحة الذاتية التي تَحكم المعاملات التجارية، يقدم أنصار مذهب الخير البريطانيون العاطفة والشعور. أما الفيلسوف الألماني فهو يقلب منطق السوق على عَقِبَيْهِ.
وفيما يتعلق بالحب باعتباره قانونًا، يقدم كانط الإجابة الصحيحة الأكثر تطرفًا على السؤال الذي يؤرِّق فلاسفة الخير البريطانيين: «كيف نتعامل مع هؤلاء الملايين من المجهولين لنا فيما وراء نطاق عواطفنا؟» بإنكار أن العاطفة هي العامل الفاصل هنا من الأساس، فالأمر المطلق كما رأينا لا يميز بين الغرباء والجيران. إن عدم أهمية هُوِيَّتك مطلقًا عند كانط — عندما يتعلَّق الأمر بالأخلاق — يمثل من ناحيةٍ ثغرة في طريقته المجردة في التفكير، ويمثل من ناحية أخرى نقطة قوة كبيرة. ففي المسيحية، على نحو مشابه، ليست الصلات المحلية ولا الهُوِيَّة الثقافية العامل الأهم؛ فالمعتقد الديني لا يتعلق بالنسب ولا العادات الضيقة ولا الطقوس الغذائية الخاصة ولا المعبودات المنزلية ولا التراث الوطني ولا الهُوِيَّات التقليدية؛ فالإنجيل هو نقد لسياسة الهوية من قبل أن يظهر هذا المصطلح.
كل هذا — بعبارة القديس بولس — هراء عند الأغيار، باختصار عند هؤلاء الذين يسعون مثل كانط لبناء اقتصاد أخلاقي أو رمزي حَسَن الإدارة. هناك بالتأكيد جانب مظلم لهذا التهور الخلاق المعروف بالانتقام الذي يمكن أن يكون مفرطًا وهدامًا بكل الأشكال السلبية؛ ولهذا لا يمكن غَضُّ الطَّرْف ببساطة عن العدالة القائمة على رد الصاع بالصاع — وكذلك عن النظام الرمزي الذي تنتمي إليه — كما يفضل بعض مناصري النظام الواقعي. يأمرنا العهد القديم بأن نتبع سياسة العين بالعين، وهي أمر مستنير تمامًا في هذا السياق. فهي ليست (كما تراها الحكمة الشائعة) تفويضًا مطلقًا للثأر الشنيع، بل محاولة لتحديد الجزاء بقدر الإساءة، فعلينا أن نأخذ العين بالعين، وليس الجسد كله. ليس تجاوز هذا الحد مُحبذًا دائمًا. وهذا هو ما تعجز عن إدراكه أي نظرية أخلاقية للنظام الواقعي، وذلك كما سنرى لاحقًا.
لا يناصر كانط القانون بسبب حبه للتشريع؛ فالفوضويون والأرستقراطيون وَحْدَهُمْ هم من يرفضون التسليم للقانون. لكنه يُناصر القانون لأنه يؤمن بأن القانون ينبغي حبه واحترامه لذاته وليس لما يأمر به؛ فالفعل السليم أخلاقيًّا لا يجب أن يقتصر على الالتزام بالقانون بل يجب أن يكون في سبيل القانون ذاته. إن القانون عند كانط في الحقيقة لا يُلزم بأي شيء على الإطلاق إلا أن تتخذ أفعالنا صورة معينة، فهو معلِّم سلوك أكثر منه واعظ لعقيدة. في المقابل يرى القديس بولس أن القانون نظام يُناسب الأطفال أو حديثي العهد بالأخلاق؛ المستجدين الذين يحتاجون التوجيه في ظل وصاياه قبل أن ينضجوا على نحو كافٍ ليستوعبوا معناها الحقيقي، فهم كالأطفال الذين يجب أن يتحملوا مَلَلَ تعلُّم جداولهم عن ظَهْر قَلْب إن أرادوا أن يصيروا علماء رياضيات مشهورين. فالقانون وسيلة لا غاية في ذاته؛ فهو بالتأكيد نموذج أولي ضروري للحياة الجيدة، لكنه ليس كذلك بالنسبة للذين بلغوا النضج الأخلاقي، الذين لا أحد منا من بينهم. إن الذين في حاجة للقانون باعتباره كتيب الإرشادات بالنسبة للعامل الفني لا يزالون في طفولتهم الأخلاقية، كالمتحدث الجديد للعربية مثلًا الذي يحتاج للرجوع إلى المعجم باستمرار. وعندما يستطيع هؤلاء التخلي عن هذا القانون سيَرَونَ العالم على الوجه السليم. ولكن لأن الطفولة الأخلاقية هي حالة إنسانية مزمنة فإن القانون لسوء حظنا وجوده دائم مثل دوام وجود الفقراء.
يرى القديس بولس أن الفضيلة هي الاعتياد التلقائي لفعل الخير الذي يؤدِّي إلى نقش القانون على القلب بدلًا من ألواح الحجر. ويبدو أنه يعتبر القانون الأخلاقي — مثل كبش الفداء أو الفارماكوس — جيدًا وسيئًا في نفس الوقت لأسبابٍ من بينها أنه ينبهنا دون قصد إلى احتمالية الخطيئة، كمقال بإحدى صحف الإثارة يخبئ شهوانيته وراء ستار السخط الأخلاقي، وكذلك لأنه يوجهنا إلى الخير دون أن يكون خيرًا في ذاته. إذًا يمكن للقانون وهو إذ يضعنا على الطريق الصحيح أن يحول دائمًا بيننا وبين ما يدعو إليه، فيُصبح هو ذاته ما تتعلَّق به رغبتنا، وهذا ما يجعل القانون بوجهَين من الناحية الأخلاقية؛ إذ يمكننا دائمًا أن نقع في حب القانون بدلًا مما يُمليه، مثلما قد نجد أنفسنا مفتونين بالمدرِّب وليس من محبِّي اللعبة. ومن بين الذين يقعون في حب القانون لذاته — ناظرين للشكل على حساب المضمون — الفيتيشيون أو الفريسيون الذين لا يمكنهم تحمل سلبية الرب السامية ويَسْعَونَ لملء فراغ الغيرية غير المحتمل بصورة واضحة للرب. إن الفيتيشية هذه هي التي حرَّمتها الوصية الأولى من الوصايا العشرة؛ حيث إن الصورة الوحيدة الحقيقية لِيَهْوَهْ هي الصورة البشرية.
إننا نتحرَّر من القانون عندما ندرك قبل كل شيء أنه قانون العدل والرحمة وليس فرمانًا يستبدُّ بالمنع والتحريم. إن هذا هو الدرس المستفاد من صلب المسيح؛ حيث يقلب موت المسيح الصورة الشيطانية أو الفريسية ليَهْوَهْ باعتباره «نوبودادي» (بحسب عبارة بليك) أو أنا عُلْيَا أو طاغية متعطش للدماء لكشف حقيقة القانون باعتباره دعوة للحب والعدل، وهي دعوة من المرَجَّح أن تُودِي بحياة من يؤمنون بها على يدِ الدولة السياسية. إن اتفاق المسيح مع قانون الرب المُحرِّر هذا — مع أنه، كما يقولون، «ابن» الرب — هو ما أدَّى إلى تعذيبه وقتله؛ فالقانون في حد ذاته هو المُتجاوز.
لهذا فإن كانط — وهو أعظم مناصر للتنوير الليبرالي — يسير بوجهه السيئ، إن جاز التعبير؛ إذ صار حقك في الحرية والاحترام والحقوق المتساوية مع أقرانك لا يرجع إلى أن والدك نبيل أو سيد إقطاعي، بل لأنك تنتمي للجنس البشري. إن الجرأة التي تُمَيِّز هذا القول مذهلة. وكذلك القوة الثورية للتجريد والعمومية، خلافًا لما يراه ما بعد الحداثيون. كما أنه بمجرد أن تترسخ هذه العقيدة فسيتمكن المجتمع البرجوازي من قياس ما هو قاصر عنه حتمًا من مُثُلها المثيرة للإعجاب. قد تكون الأخلاق الرمزية متنافرة غير متآلفة؛ لكنها تنبئ بقدوم عصر الذات المقررة لنفسها. وبذلك فهي تفتح بابًا يتجاوز الجوانب الأقل جاذبية لما يُسميه هيجل بالنظام الأخلاقي؛ الامتثالية الثقافية، والعادات غير الانعكاسية والإلزامية العمياء للتقاليد. لكن بما أنها تحثُّك في الوقت ذاته على ما يتجاوَز الجوانب الأكثر الإيجابية للنظام الأخلاقي هذا — القرابة والمشاركة والفضيلة الاعتيادية والعواطف الخاصة — تصير هذه النقطة نقطة قُوَّتها ونقطة ضعفها في آنٍ واحد.
مِنْ ثَمَّ فإن الأخلاقيين من هذا النوع، كما أشرنا من قبل، لديهم مشكلة نوعًا ما مع الغرباء والنماذج المختلفة الذين تقل إمكانية إظهار الخيال لعواطفهم. أما كانط فيرحب في المقابل بالغريب عن طريق القانون الأخلاقي؛ لكنه إذ يفعل هذا يقلل من منزلة الصداقة والتعاطف الحساس. فبما أن الناس عليهم أن يكافحوا من أجل دعم غايات بعضهم بعضًا فهم، من وجهة نظر كانط، بعيدون عن أن يكونوا كالبدو الفُرادَى؛ إلا أنه طالما وُضعت هذه الغايات على يدِ كل فرد لنفسه بدلًا من أن تُبنى بصفة مشتركة من خلال الممارسة المشتركة، فيظل كانط في نطاق المذهب الليبرالي؛ إذ إن الحب يعني أن يجد الإنسان غايته في الآخر وليس مجرد أن يناصر الغاية التي وضعها لنفسه. وكما هو متوقع، فكانط عاجز أيضًا عن فهم أن مناصرة الفرد لغاية الغير على نطاق واسع ليست ممكنة إلا في ظل نظام اجتماعي غير منقسم بنيويًّا.
إن ما تحتاجه النظريتان الخيالية والرمزية هنا هو مفهوم المنظومة، فالمنظومات التي يبدو أنها ذات قيمة عند هيوم وهتشسون وزملائهما هي العائلة والنادي. من المؤكد أن القانون والملكية قضيتان شغلتا هيوم بقوة؛ إلا أنه يتعامل معهما في أغلب الأحيان على نحو تصوُّري؛ أي باعتبارهما مفهومين لا باعتبارهما واقعًا اجتماعيًّا. أما عند كانط وتابعيه فالقانون الأخلاقي بالتأكيد منظومة بالمعنى الواسع؛ إلا أن المُعطى الأخلاقي الأساسي عندهم هو الفرد، الذي يُعامل في معظم الوقت باعتباره معزولًا عن أي سياق اجتماعي، فهل يمكن إذن أن توجد صورة من التبادل الإنساني تختلف عن العلاقة المباشرة وجهًا لوجه، التي هي باختصار رمزية وليست خيالية؟ يجيب هيجل وماركس عن هذا التساؤل بالإيجاب، تمامًا مثلما فعل روسو من قبل، فالدولة في نظره يجب أن تُبنى بحيث تترجم اهتمامنا الفطري تجاه احتياجات الآخرين إلى مراعاة واعية للخير العام.
يرى هيجل أن تركيز كانط على الحرية والعمومية ضروري لكنه أُحادي الجانب؛ إذ اشترى حريته الأولية على حساب فراغ اجتماعي وسياسي معين. ولا يمكن لهذه الحرية أن تزدهر حقًّا إلا عندما تُمارس في ظل النظام الأخلاقي الهيجلي، من خلال مشاركة الذات في الصورة المادية للحياة الاجتماعية. إن التجريد الشكلي لفلسفة كانط الأخلاقية — التي ترفض بعناد أي تناول لواقع العالم — يجب أن يُرد إلى عالم العلاقات الاجتماعية التجريبي؛ إذ يجب أن يتجسد القانون في نزعاتنا وثقافتنا العامة. ويمكن اعتبار أن هذا يمثل — تقريبًا — انصهارًا للنظامين الخيالي والرمزي معًا، للسياق الاجتماعي الذي نجد فيه انعكاس أنفسنا فيمن حولنا وعالم القانون الأخلاقي العام. إن الوجود الأخلاقي عند هيجل — كما عند أرسطو — هو قضية ترتبط بالسياسة، وقبل كل شيء بالدولة التي تُجسِّد عند هيجل صورة معينة من الحياة، وتمثل رُوح العقل العام. وإلى هذا الحد يمكن دمج الفردي والعام، والحرية والمجتمع، والحق المجرد والفضيلة الملموسة. وبعكس كانط، يُقر كل من هيجل وماركس بأن الذات وغاياتها تقومان على علاقات الذات مع الآخرين؛ فهما يَرَيانِ أنها ليست مجرد قضية أفراد منفصلين يتصرفون على الطريقة الكانطية ليحققوا التناغم بين غاياتهم المختلفة، ساعِينَ إلى جعل هذه الغايات مُتَّسق بعضها مع بعض، مع تعزيز قدرة بعضهم بعضًا على تحقيقها. إن ما يُمَكِّن هيجل وماركس من التفكير بهذا الأسلوب هو مفهوم التنظيم المؤسسي، فهيجل بالدرجة الأولى هو من يدرك أن الأخلاق يجب أن تكون مسألة تنظيم اجتماعي وليس مجرد رغبات فردية منعزلة؛ فالمؤسسات هي الوسيلة التي يمكن للآخرين من خلالها أن يكونوا جزءًا منا حتى وإن كانوا غير معروفين لنا؛ فهي وسيلة للجمع بين الغرباء تمامًا في مشروع واحد. وهي تمثل إلى هذا الحد حلًّا فريدًا لمشكلة النظامين الخيالي والرمزي؛ فالأول تبادلي لكنه مُقيِّد، والثاني عامٌّ لكنه مُفكِّك.
فلتنظر مثلًا إلى فكرة التعاون المستقل، على النحو الذي تصوَّر ماركس ازدهاره في ظل الاشتراكية. فأعضاء هذا المشروع لا يدعمون أهداف بعضهم بعضًا إراديًّا، بل تكون هناك صورة من التبادلية مدمجة في بِنية المنظومة نفسها. وهي منظومة تنجح تمامًا عندما يكون أعضاؤها المتعاونون غرباء عن بعضهم بقدر ما تنجح عندما يتصادف العكس؛ فالمنظومة إذ تسهم بجهودها المميَّزة في الكيان كله تضمن أن كل عضو فرد له دور في نفس الوقت في تعزيز تطور زملائه، فتجرُّد النظام الرمزي يُستغل لتحقيق التضامن بين الأشخاص، تضامن يتمتع بلمسة رقيقة من النظام الخيالي. إن هذا — وليس مفهوم كانط عن الفضيلة الأخلاقية باعتبارها شركة مساهمة — هو الأساس الأخلاقي الذي تنبني عليه الاشتراكية، فتحقيق هدف كل فرد يصير شرط تحقيق هدف الجميع، ومن الصعب التفكير في نظام أخلاقي أكثر قيمة من هذا.
•••
وحتى كانط المنكِر لذاته بشدة لا يمكنه إنكار إغراءات النظام الخيالي جملة واحدة، فالعالم ليس ضدنا؛ لكنه، بقدر ما يمكننا الحكم عليه، ليس في صفنا كذلك. ولا يشعر الفرد بأن الواقع يشجعنا. مع ذلك توجد طريقة للتوفيق بين العقل والطبيعة، وهذه هي دائرة العالم الجمالي. ورغم أننا لا يمكننا أبدًا الإجابة على الأسئلة الميتافيزيقية المستعصية مثل ماهية الواقع في ذاته، فيمكننا مع ذلك أن نسمح لأنفسنا بأن نتصور أنه محكوم بغايات إيجابية وينظمه نوع من القانون؛ ومِن ثَمَّ فطبيعته مثل طبيعتنا. إن هذا النوع من التخيل الاستكشافي هو ما نستخدمه عندما نصدر أحكامًا جمالية على الطبيعة، عندما يدهمنا إحساس بأن صورها تتوافق مع قانون معين، وإن كنا غير قادرين تمامًا على أن نحدد ماهيته. لا يتضمن الشيء الجمالي عند كانط أي فعل إدراكي؛ لكن يبدو أنه يُخاطِب ما يمكننا أن نُسمِّيه قدرتنا على الإدراك بصفة عامة؛ ليكشف لنا بصورة تُشبه مرحلة «ما قبل الفهم» عند هايدجر عن أن العالم هو المكان الذي يُمكننا فهمه من حيث المبدأ؛ إذ يُلائم بحاله هذا عقولنا ملائمة رائعة حتى قبل وقوع أي فعل معرفي.
إذًا فجزء من مُتعة العالم الجمالي تنبع من الإحساس بأننا نألف مكاننا في العالم على نحوٍ يبدو مناقضًا لاستنتاجات العقل، فنحن نرى الشيء خلال إصدار الحكم الجمالي كما لو كان ذاتًا تُبدي الوحدة والإرادة والحرية التي نتمتع نحن بها. بهذا الشكل فإننا نشعر بانسجام ممتع بين العالم وبين ملكاتنا الخيالية والفكرية، كما لو كان المكان مصمَّم بصورة غامضة ليناسب غاياتنا، فالشيء يُفصَل من شبكة الوظائف العملية التي يَعلق بها عادة، ويُمنَح بدلًا من ذلك شيئًا من حرية الإنسان واستقلاله. وبفضل هذه الذاتية الخفية، يبدو الشيء كما لو كان يتحدث حديثًا مفهومًا لمن يدركونه، فيحرك فيهم أملًا بأن الطبيعة ليسَت غير عابئة كليًّا بغاياتهم.
إن كان العقل والقانون الأخلاقي يَخرجانا إذن من عالم النظام الخيالي؛ فالعالم الجمالي يُعيدنا إليه من جديد؛ فالذات والآخر يَلتفِت كلٌّ منهما للآخر بلطف. ويبدو أن الواقع يُقدَّم إلينا تلقائيًّا، مثل شيء يتسلَّل إلى راحة أيدينا كما لو كان تصميمه يراعي قدرتنا على الإمساك؛ ففي العالم الجمالي يمكننا أن نبتعد قليلًا عن موقع الأفضلية الخاص بنا ونستدير إلى أنفسنا ونتأمَّل التوافُق التام ظاهريًّا بين قدراتنا الإدراكية والعالم ذاته. عندها نجد أنفسنا في موقف علماء الفيزياء المُعاصِرين الذين يَعْجَبون من أن أذهاننا، وهي نتاج التطور الأعمى، قادرة على اكتشاف البِنَى الأساسية للكون، دون أي فائدة عملية ظاهرة. ويرى كانط أن الشيء الجميل يتمتع بوضع فريد لكن عام؛ إذ يبدو أنه يُقدَّم تمامًا إلى الذات ويخاطب ملكاتها، فهو «يُشْبِع رغبة» ويبدو مطابقًا للذات بنحو مُعْجِز؛ ورغم أنه يعطينا إحساسًا بالإشباع، فهو لا يستثير فينا أي استجابة شهوانية. وربما ليس من الوهم أن نجد في هذه الصورة المادية المثالية — التي تُنتزع منها كل الرغبة والشهوة الحسية — ذكرى لجسدِ الأم كما تُرى في النظام الخيالي.
يبدو الأمر كما لو أن توماس هاردي — برفضه العنيد لفكرة تواطؤ الكون الحميد — قد اتفق أخيرًا مع بابا الفاتيكان. وفي النهاية فإن رؤية العالم الخالي من المعنى ثبت أنها مُستفزة أيديولوجيًّا جدًّا لكانط، وبالتأكيد لهربرت جيمس باتون، الذي نُشرت شروحه لأفكار كانط في أعقاب الحرب العالمية الثانية. ويبقى احتمال وجود تواطؤ له حكمة بيننا وبين الكون — أي تناغم مُسبَق بين الذات والشيء — مجرد فرضية؛ إلا أنها فرضية تمنحنا على الأرجح «حافزًا كبيرًا للعمل الأخلاقي»؛ وذلك بعبارة باتون. فالرجال والنساء يواجهون صعوبة في تقبل أن القيم الأخلاقية ليس لها أصول إلا في أنفسهم، وربما يعانون من انهيار يَصحبه هلع إلى العدمية نتيجة لهذا الإدراك. إن ما يُخبِرُنا به العقل — أو النظام الرمزي — ليس تمامًا ما تقبله الأيديولوجيا أو النظام الخيالي؛ فالعالم الجمالي هو ذكرى باهتة للاتحاد العضوي في عصر عقلاني وأثر باهت للسمو الديني. فالتناغم أكثر أهمية في المجتمع الفردي من ذي قبل؛ لكنه يوجد في مجتمع يسوده الإحساس أو بِنية مشتركة تقوم على العاطفة وليس في كيانات سياسية أو اقتصادية.