القانون والرغبة في مسرحية «الصاع بالصاع»
أما أنجيلو «الدقيق» — وهو رجل «لاذع في نقده مشدَّد في تقشفه» «يتكون دمه من الثلج المنصهر» ويُقال إن بَوْلَهُ يتكون من الثلج الشديد الصلابة — فيلتزم بفصل صارم بين الأفراد الذين هم من لحم ودم وبين النظام الرمزي. وهذا هو السبب في قدرته على الحُلول محلَّ الدوق بسهولة ظاهرة؛ حيث إن المسألة تتعلق بتغيير رمزي لا عملي. بل لا يبدو هناك أي فرق بين أنجيلو الفرد وموقعه الرمزي، بين ميوله الخاصة وأفعاله العامة. يقول لإيزابيلا: «لا أريد ما لا أستطيع» (٢، ٢: ٥٢)، فهو ينظر لنفسه من المنظور الفوقي للنظام الرمزي ذاته، باعتبار أنه ما هو إلا حامل محايد لسلطته المحايدة. «إن القانون — ولست أنا — من يدين أخاك» هكذا يُبلغ إيزابيلا المفجوعة عندما يَحكم على أخيها كلاوديو بالموت بتهمة الزنا. ويضيف: «إن كان قريبي أو أخي أو ابني، فالأمر سيان» (٢، ٢: ٨٠–٨٢).
يتَّسم القانون المطلق العدالة بشيء لا إنساني بالضرورة، بإغفاله المؤكد للتحزب والخصوصية؛ فبرودُه الظاهر علامة على سِمَته اللاإنسانية. وأنجيلو — إن صح التعبير — مثال جيد على صاحب المذهب الكانطي العمومي، الذي يَبْغض تمامًا هذا التحيز لصالح الأصدقاء والأقارب الذي يميز أتباع ديفيد هيوم. ولكيلا يَصير القانون ملكًا لعصبة الطبقة الحاكمة الفاسدة، فيجب أن يُساوِيَ بدقة في معاملته للغرباء والأقارب. ويقول الحكمدار ذو القلب الطيب الذي لا يتمتع بأي من برود أنجيلو إنه لن يتعاطف مع قاتل وإن كان أخاه. ويقول أنجيلو بأسلوب لَبِقٍ إنه بتصرُّفه من دون تفضيل ورفضه السماح بالاستثناءات فهو يُظهر رحمة بأولئك الذين تُسيء إليهم أو تضرهم مثلُ هذه الأفعال. كما يشير أيضًا إلى أنه بإعدام مُجرم فهو يحمي ضحايا آخرين محتملين؛ فالعدالة ليست عدو الرحمة، بل شرط مسبق لازدهارها؛ إذ لا يوجد تعارض حقيقي بين ما هو رمزي وما هو عاطفي، فإن تَنازَلَ القانون لصالح الإنسان فهو يخاطر بأمن كل الناس الذين يطلبون حمايته.
وتأخذ إيزابيلا نفسُها اتجاهًا استبداديًّا في قولها: «الحقيقة تظل الحقيقة إلى آخر مدًى» (٥، ١: ٤٥-٤٦)؛ في الحقيقة، إن هذه هي المرة الوحيدة التي تشبه فيها للمفارقة أنجيلو الذي تمقت حكمه على أخيها. لكنها تُجبَر مع اشتداد الجدال على تبنِّي رؤية للعدالة أكثر استنادًا للسياق وهو ما تُوضِّحه بمثال لغوي: «وما نعتبره كلمة غضبى إذا قاله القائد، نَعُده إلحادًا وزندقة إذا قاله الجندي» (٢، ٢: ١٣٠-١٣١). وهي تقصد أن القانون ينبغي أن يراعي تغير السياق كما تُراعيه اللغة. ربما ينبغي له ذلك؛ لكن الخطر في هذه الحالة — إن حدثت المبالغة — هو أن ينتهي بنا الحال مثل إلبو، نُشرِّع لأنفسنا معانيَ متضاربة لكلماتنا. إن العلاقة بين استخدامين مختلفين للَّفظِ الواحد عند شكسبير نفسه يشبه العلاقة بين الهُوِيَّة واللاهُوِيَّة المتزامنتَين، التي تربط بين الدوق ونائبه أنجيلو. فهي ليست مجرَّد قضية اختلاف كما تقول إيزابيلا. وتُبرز بعض الصور المجازية العابرة في المسرحية التي تُطعِّم التعليقات العابرة والصور الخيالية الجانبية مفهوم الثبات أو التناسق، وهو ما يُمكن تمييزه مع ذلك عن الهُوِيَّة الذاتية الصارمة.
إن تلك هي النتيجة الحتمية لمعاملة الآخرين بما تُحبُّ أن يعاملوك به، فضعفي الأخلاقي لا يمنعني من الحكم على العمل المشين أخلاقيًّا عند الآخرين، مثلما لا يمنعني عجزي عن الغناء من أن أعرف الغناء الرائع عندما أسمعه.
إن الرحمة في عين أنجيلو شأنها شأن العاطفة مجردة بصورة خطيرة، فهي تُغْفِل مدى حُسن أو سوء الفعل، فتُضحِّي بهذا الحكم من أجل دافع ذاتي خالص. ومن هذا المنطلق فإن الرحمة — للمفارقة — تتَّسم باللامبالاة تجاه خصوصية القانون ذاته التي تسعى لتلطيفه. إلا أن أنجيلو مخطئ في تصوره أن الرحمة نوع من البقعة العمياء الإدراكية، فعبارة هاملت التي يُوبِّخ فيها بولونيوس: «لو عاملت كل امرئ بموجب استحقاقه، فمن ينجو من الجلد بالسِّياط؟» لا تعني أنه لا ينبغي للإنسان تسجيل الخطأ بل أن يغفره. وتقع إيزابيلا هي الأخرى في هذا الخطأ؛ إذ تطلب من أنجيلو بأسلوب بلاغي: «كيف يكون حالك، لو أن الرب — وهو قمة العدالة — كان ليحكم عليك، كما أنت؟» (٢، ٢: ٧٥–٧٧). لكن الفرق هو أن الرب لا ينظر للرجال والنساء بما هم عليه، فهو ينظر إليهم في ضوء خوفهم وضعفهم وهو ما يُسهِّل مسامحته لهم. فالحب والعلم، كما يشير الدوق ضِمْنًا، متلازمان بالطبيعة. والحب الصادق — كما يقول لاكان — هو حب الآخر على نقصِه، فالرحمة والواقعية رفيقان متلازمان.
كذلك فإن القانون العادل لا يتجرد من المواقف العملية التي يحكم عليها، فيتغاضى في عجرفة عما يُميِّزها بل يُطبق قواعده العامة على هذه المواقف بدرجة من الكياسة، أو الحكمة العملية (كما يقول أرسطو)، فيُراعي حالتها وهيئتها الخاصة. وبذلك تكون الأحكام القانونية مثل المنطوقات؛ أي تطبيقات محدَّدة لا تقبل الاختزال لأعراف معينة شديدة العمومية. فإن لم يكن القانون يُجرِّد ويساوي فستكون لدينا قوانين بعدد المواقف، وكل موقف منها سيكون مستقلًّا حينها (فعليًّا، قانونًا في حد ذاته) ومِن ثَمَّ يكون مطلقًا؛ إذ لا جدال مع الشيء الذي يماثل نفسه، فالشيء الذي يماثل نفسه لا يمكن قياسه، وهو أحد الأسباب التي تجعل مسرحية «الصاع بالصاع» مليئة بالطوطولوجيات. إن تلك الاسمية القانونية — رغم شغفها الشديد بالخصوصية — ستكتب شهادة وفاة العدالة. لكن القانون — باستمداده الهُوِيَّة من الاختلاف — كاللغة، لا يعيش إلا في إطار سياقات إنسانية محددة لا يمكن إغفالها أمام مبادئه الأساسية. إن الوسيط بين العام والخاص في حالة القانون واللغة هو التأويل، فالدوق عندما يزور السجن يطلب أن: «يعرف طبيعة جرائمهم؛ حتى أَعِظَهم بما ينبغي» (٢، ٣: ٦–٨). فعمل الخير لا يُفرِّق، رافضًا بعكس العقيدة الإنجليكانية الفيكتورية التفريق بين من يستحقونه ومن لا يستحقونه؛ لكنه دقيق مع ذلك في التمييز بين أنواع الاحتياج المختلفة، فهو شأنه شأن أي قانون فعَّال يتسم بالعمومية والخصوصية معًا.
لكن المشكلة تتعلق بكيفية الاتصاف بالعدل أو بالرحمة دون الدخول في حالة اللامبالاة الباردة عند لوشيو الذي يُهدِّد غروره بقدرته على التعامل في المواقف الصعبة بتدمير فكرة القيمة في ذاتها؛ فإن كان أنجيلو — كما يوحي اسمه باللاتينية — ملائكيًّا، فلوشيو شيطاني. فبينما يُعرف الملائكيون — كما يقول ميلان كونديرا — بخطابهم «الطيب» على نحو خاص وبلاغتهم الجافة وعاطفتهم المهذبة، فإن الشيطانيين لا يرون من حولها سوى التردي؛ فالكهنة والسياسيون ملائكيون، بينما الصحفيون بصحافة الإثارة شيطانيون، فالشيطانيون ليسوا أشرارًا؛ إذ إن الشر يستلزم الإيمان بالقيمة الأخلاقية حتى وإن كان من أجل مخالفتها. فإبليس في شعر ميلتون ليس شيطانيًّا بينما شيطان توماس مان في مسرحية «دكتور فاوستس» شيطاني. أما لوشيو فهو مؤمن بالمذهب الطبيعي الأخلاقي، لا يرى شيئًا حقيقيًّا سوى الرغبة، ويعتبر كلمة «إنساني من لحم ودم» تصنيفًا وصفيًّا لا معياريًّا، فموقفه اللامبالي من القانون يظهر في رد صديقه بومبي المتسم بالاحترام المصطنع على خبر حظر بيوت الدعارة في فيينا: «هل سعادتك تقصد إخصاء كل شبان المدينة؟» (٢، ١: ١٣٦). «قليل من التسامح مع الفسق» (٣، ٢: ٥٣) هي السياسة البديلة التي يقترحها لوشيو بدافع المصلحة على أنجيلو، فسعة أفقه بحقٍّ ضربٌ من السخرية، فالشيء المطلق الوحيد الذي يُقره هو الشهوة، أما القوانين والألقاب والقيم والشعارات فما هي إلا واجهة ثقافية بَرَّاقة.
إن الساخر هو شخص لا يؤمن إلا بواقعية المُتعة، معتبرًا الآخر الكبير أو النظام الرمزي معتقدًا زائفًا فارغًا يَستخدمه ليُحقِّق غايته. ومن هذا المنطلق فإن السخرية مُحاكاة تهكمية قاسية للكوميديا، وهي فن يثق بالقيمة الأخلاقية لكنه ينظر إليها من زاوية المفارقة والسخرية في ضوء عجزنا الحتمي عن مجاراتها، فهي برفضها مطالبتنا بالكثير علاج لمن هم تحت نير الأَنا العُلْيا الذي لا يرحم. فالكوميديا تمجد القيمة الإنسانية بوعي ظريف لاعتباطية تقاليدنا ووجودنا الذي لا أساس له، فهي بهذا المعنى — وليس لأنها تبشير بمستقبل متناغم — فن يوتوبي، فتتيح وفرتها وغزارتها سموًّا لحظيًّا عن دنيا التاريخ المميتة.
تتوازى «اللاعاطفية» الأخلاقية عند لوشيو في مسرحية «الصاع بالصاع» مع القصور الروحي الملحوظ عند المُجرم بارناردين، وهو سيكوباتي شبيه بموزيل لا يَأْبَهُ بالحياة والموت، لدرجة أنه لا يعترض على إعدامه إلا لأنه يتعارَض مع نومه. إن بارناردين ميت فعلًا بصورة ما، فهو يتوقع الموت المحتوم فلا يهابه، ويعيش في غيبوبة أخلاقية مَرَضية، وهو إذ يغرق في بلادته الروحية يقف بالفعل عند نقطة النهاية التي تكون فيها كل الاحتمالات متساوية، فالموت يبدو أنه يؤكِّد ما يشك به هو ولوشيو، وهو أن كل القيم واحدة في النهاية، فهما لا يدركان أن هناك سبيلًا أقل سخرية لتساوي الاحتمالات، وهو التسامح؛ فالتسامح انكسار بلا سبب لدائرة المساواة الصارمة، دائرة رد الصاع بالصاع؛ ومِن ثَمَّ فهو يبشر بالموت في ظل أنماط الحاضر المنتظمة.
يصير بارناردين منيعًا بالضرورة بعد أن قهر الموت بهذا الشكل، فالذين يتقبلون مصيرهم عن وعي يَسْمُونَ عليه بعين هذا القبول، فيتحول إلى حرية. إن هذا التلازم هو ما يميز أزلًا البطل التراجيدي؛ إذ يعلن كلاوديو: «إذا لم يكن من الموت بُدٌّ، فسألقى ظلمته كعروس، وآخذها بين أحضاني» (٣، ١: ٩١–٩٣). وفي ظل هذا التلازم بين القَدَر والحرية، يقدم الحدث التراجيدي حلًّا فريدًا للصراع بين اللامضمون والمضمون، بين الحرية والقيود، بين المشروعية والمنع، الذي تتناوله المسرحية. فالدولة يجب أن تؤجل موت بارناردين إلى أن يقبل الأمر عن اقتناع، فما دام لم «ينفذ» بطريقة ما وفاته ليحولها إلى فعل صادق يخصُّه، فلن تكون حدثًا في حياته، وهو ما سيُشَوِّه صورة السلطة التي حكمت به عليه، فموته يجب أن يكون ممارسة واعية وليس مجرد حدث بيولوجي. وفي أصدق لحظات وجودنا — ونحن على شفا الفناء — يجب علينا أن نثبت أننا فاعلون بالمعنى الكامل. يقول الدوق للحكمدار: «أقْنِع هذا الشقي أن يُقبل على الموت» (٤، ٣: ٤٩). وثمة طرق قليلة أكثر فاعلية لمقاومة السلطة من اللامبالاة الصادقة تجاهها، فهذا الرجل المتوحش الميت الحي يفهم بطريقته أن السلطة لا تكمن إلا في رد الفعل التي تُسببه فيمن يخضعون لها. وهكذا — كما حدث — أدرك ديفيد هيوم عندما قال إنه عندما يتعلق الأمر بالسيادة فإن المحكوم له اليد العليا دائمًا.
إن الفوضى والاستبداد في المسرحية — كما يتضح — ليسا بأي حال نقيضين كما يبدو. فمن جهة، الإباحية تُولِّد القمع، فإن سمحت للقانون — كما فعل الدوق — بأن يسقط في مستنقع العار، فأنت تمهِّد الطريق لظهور سلطوي شبيه بأنجيلو في المستقبل. وتعج المسرحية بصور لاستراتيجيات فاشلة وأفعال ذات نتائج عكسية. يعلِّق كلاوديو: «فكما أن الإفراط في الطعام يؤدي إلى الصيام، كذلك الحرية إذا أفرطت في استخدامها، تحوَّلت إلى قيد» (١، ٢: ٧٦–٧٨). وبصفته رجلًا زُجَّ به في السجن بتهمة ممارسة الفحشاء، فمن المفترض أنه على علم بذلك. ومن ناحية أخرى فإن القانون — كما في التحريم الأوديبي — هو ما يُغذِّي الرغبة في المقام الأول. لذا فإن أنجيلو — إذ يواجه إيزابيلا العفيفة عَصِيَّة المنال — يقع فريسة لرغبة تخرج عن السيطرة، ويَعرض عليها أن يعفو عن أخيها إن مارست معه الرذيلة. فمن خلال عرض إيزابيلا مبدأ مجرَّدًا أمام أنجيلو بنفسها، تَكتشف للأسف أنها أغوَتْه بنفسها لا بالمبدأ. ففضيلة الحاكم يتَّضح أنها مثل وصف لوشيو لعظام زبون عاهرة مصاب بالجدري: «كالأشياء الجوفاء» (١، ٢: ٥٧). فإن كان أنجيلو يجسد القانون الأخلاقي فهو يمثل وجهه القبيح، فالقانون أو المنطق الذي هو مثل أنجيلو «لا يُحسُّ أبدًا بوخزات الحس الحقيقية أو حركته» (١، ٤: ٥٨-٥٩) غريب على الجسد، ومن المرجح أنه سيؤخذ على حين غِرَّة على يد رغبة تفاجئه بتمردها.
لقد عجز أنجيلو باختصار عن استيعاب الدرس الذي أراد شيلر أن يعلمه لكانط في كتابه «عن التربية الجمالية للإنسان»، الذي مفاده أنه إن أراد العقل أن يضمن سيطرته على الرغبة فعليه أولًا أن يَخترق صُفوف الحواس بصفته طابورًا خامسًا، فيوجهها من الداخل بدلًا من أن يظل غير مبالٍ، في معزل عن الشهوة. وينطبق الشيء ذاته على قضية السيادة السياسية على الشعوب. ومِنْ ثَمَّ تبرز الحكاية الخيالية الخاصة بالملك الذي يتحرك متخفيًا بين العامة، والذي ما كان دوق مسرحية «الصاع بالصاع» إلا مثال واحد لشكسبير عليها. إن القوة السياسية الفعالة لا هي طاغية ولا هي متساهلة في إهمال، بل هي مهيمنة. إن مشكلة القانون هي ما قد نسميه «معضلة الأمير هال وفالستاف»: كيف تكون على دراية بالضعف البشري تكفي لتفهُّمها من الداخل بينما تفصل بينها وبين نفسك لتحكم عليها دون تحيز؟ إن أمثال الدوق فينسنتيو في هذا العالم يجب أن يتعلموا مع أمثال لوشيو دون أن يَصيروا منفذين لرغباتهم. فعلى القانون أن يحقق المعادلة الصعبة بأن يكون ملازمًا للبشرية ومتساميًا فوقها في آن؛ كما الرب السامي في ضوء السياق الفرعي المسيحي للمسرحية الذي يغفر الخطيئة وهو في نفس الوقت الابن البشري الذي أوصلته الخطيئة للموت. لكن إن كانت الرحمة منبعها التعاطف الداخلي مع الخطيئة فسيبدو الاتصاف بالرحمة والتحلي بالفضيلة معًا متناقضين قليلًا. فمتى يتحول التعاطف إلى تواطؤ؟
إن حوار أنجيلو مع إيزابيلا لم يكن أولى مواجهاته مع قوة الرغبة المدمرة، مهما كان ما يظنه بنفسه. بل على العكس، فإن الأفعى كانت في الحديقة متربصة به منذ البداية. وقد أصابه سمُّها بالفعل في صورة رغبته المرضية في الهيمنة، الذي كان فرويد بلا شك سيرصد فيها شبح دافع الموت. كما يمثل أنجيلو الافتتان بالأنا العُلْيَا بغضبها العاصف المدمر الساعي للنظام، وخوفها العصابي من أنه لولا التعريفات الدقيقة والأسس الصلبة فسينهار العالم في حالة من الفوضى. فنفس القوى التي تسعى للسيطرة على الفوضى تحبها سرًّا؛ لأن المحرِّك الخفي لها هو دافع الموت؛ فالدافع وراء النظام في داخله فوضوي، فهو مستعِدٌّ لإخضاع العالم للعدمية المطلقة؛ فالأنا العُلْيَا — كما أوضح فرويد — تستمد قوتها الانتقامية المخيفة من الهُوَ الجامح.
لهذا يُمكن أن ينهار أنجيلو دون عناء يذكر من السلطوي الزاهد إلى المعتدي الشهواني. نفس الأمر ينطبق على القانون، أو بالأحرى أي نظام للتبادُل الرمزي؛ فلأن هذه الأنظمة التبادلية الرمزية صارمة التنظيم فهي تميل للاستقرار؛ لكن لأن القواعد التي تَحكُمها يُمكن أن تستبدل أي شيء بآخر دونما مراعاة لطبيعتَيهما الخاصة فمن المُمكن أن تنتج حالة من الفوضى يشوش فيها كل شيء على الآخر دون تمييز، ويبدو النظام كما لو كان منشغلًا بالمعاملات لأجلها في ذاتها. فهناك شيء ما في بنية الاستقرار نفسها يهدِّد بتدميرها. وهذا هو الحال مع النظام الرمزي الذي من أجل أن يؤدِّي دوره بكفاءة، يجب أن يتيح تبديلات مرنة بين أدواره المُختلفة؛ ومِن ثَمَّ لا يمكنه تجنب الاحتمالية الدائمة لوقوع زنا المحارم، فمن دون هذا الخطر المرعب في قلب النظام فلن يتمكَّن من أداء دوره.
تَمتلئ مسرحية «الصاع بالصاع» بأعمال التبادل الرمزي، مع حركة الأجساد بلا توقف، فأنجيلو يُمثِّل الدوق، وتمثِّل إيزابيلا التماس أخيها لرحمته، في الوقت الذي يُمثِّل الدوق نفسه من خلال تحركه وسط الناس متخفيًا. ويريد أنجيلو أن ينال جسد إيزابيلا مقابل جسد كلاوديو، لكن ينتهي به الحال مع ماريانا التي تحلُّ محلَّ إيزابيلا في فراشه. وترمز رأس بارناردين المقطوعة لرأس كلاوديو، لكن بما أن بارناردين متبلِّد بدرجة أكبر من أن يُعدَم تُستبدَل برأسه رأس راجوزين في اللحظة الأخيرة. ويستخدم أنجيلو كلاوديو كمثال لكل الآثمين المُحتملين الآخرين، وبذلك يحوِّله إلى رمز عام، وهو الذي «جُعل خَطيَّة» — كالمسيح — من أجل الآخرين.
ويكون التوزيع النهائي للأجساد في مواضعها الصحيحة في مناسبة الزواج، الذي به — كما يناسب الكوميديا — تَنتهي المسرحية. فالأجساد نوع من اللغة، يُمكنها أن تخدع (كما في حيلة الفراش مع ماريانا) أو تساعد، كالكلمات، باعتبارها وسيلةً سَلِسة للتواصُل. تتعلق المسرحية بحقيقة الكلام وحقيقة الجسد، فالاقتران السليم للأجساد في الزواج يُوازي الارتباط المُتناغِم بين الكلمات والأشياء. ومن هذا الوجه يُعدُّ أنجيلو صورة مرعبة في خستها للدوق، بينما يُظهر إلبو الاقتران غير الملائم الذي تُتِيحه اللغة بين الدوالِّ والمدلولات. فكما نَشعُر بقوة القانون من خلال انتهاكه، لا يُمكن أن يكون هناك صدق من دون الاحتمال الدائم للكذب أو الخطأ في الحديث، فتمثيل الآخر يتضمَّن نوعًا من قيمة التبادل؛ ومِن ثَمَّ يتضمن الاختلاف والتطابق معًا؛ في حقيقة الأمر، المسرحية غنية بصور لشخص يتقمص أو يتلبَّس أو يتشبَّه بشخص آخر. فكما أن العدالة يجب أن تَضبطها الرحمة، فدائمًا ما سيكون هناك بعض الانحراف أو الفجوة بين الصورة والشيء المصوَّر، ففي المرحلة التي يُمكن أن نُسمِّيَها مرحلة ما قبل السقوط — كما رأينا — يقترب أنجيلو من إغلاق تلك الفجوة، حيث يرى أنه ليس إلا حاملًا لراية القانون. لكن التفاوت بين الرجل ودوره جاء في حالته بدرجة شديدة، فالحالة الوحيدة للتطابق التامِّ بين صورة الشيء والشيء تكون في تمثيل الذات، والذي يعد المكافئ السياسي له هو الديمقراطية.
وهذا سبب آخر يفسر وَلَع مسرحية «الصاع بالصاع» الشديد بالطوطولوجيات («النعمة هي النعمة» و«الحقيقة هي الحقيقة» وغيرها) حيث إنها تتملَّص من قيمة التبادل، وإن كان بطريقة لا قيمة لها. إن هذا التشوُّش أو بقايا الاختلاف بين عناصر التبادُل هو ما يفسح المجال للرحمة، فبينما كان أنجيلو في البداية متطابقًا تمامًا مع دوره العام، يعلم الدوق أن الذاتية لا يمكن أن تتطابق مع مضمونها؛ إذ ثمة فجوة بين الدَّوْر الرمزي للقاضي والفرد الذي يؤدِّيه، وهي حالة خلاقة من عدم التطابق تسمح للرحمة بأن تُلطف صرامة القانون. إن انعدام التطابق الحقيقي في التبادل يتضح بقدر كافٍ في ختام المسرحية واضح التكلف، الذي يُعد فيه توزيع الأجساد بالزواج غير ملائم، حتى إن شكسبير يزوج إيزابيلا للدوق، فيما يبدو أنها نزوة للكاتب أكثر منها منطقًا دراميًّا.
ترى النظرية اللاكانية أن النظام الخيالي والنظام الرمزي والنظام الواقعي تتداخل وتتشابك معًا، فبعض أشكال طور المرآة على سبيل المثال ترى أن الاختلاف الرمزي ينتهك فعلًا التطابق الخيالي في صورة الأم، التي يراها الطفل إلى جانبه في المرآة. علاوةً على ذلك رأينا بالفعل أنه يوجد رعب صادم في لُبِّ النظام الرمزي، وهو ليس زنا المحارم بل هو الحضور الشبحي للنظام الواقعي. ليس من الغريب إذًا أن كانط — المناصر والمُمثل بامتياز للأخلاق الرمزية — كان يَنبغي أن يُعتبر أيضًا فيلسوفًا أخلاقيًّا للنظام الواقعي، وذلك كما سنرى في الجزء القادم.