شوبنهاور وكيركجارد ونيتشه
من المُمكن بلا شك وضع نظم لاكان الثلاثة في صورة سرد تاريخي، سرد يتتبع في مجاز ماركسي سوقي صُعودَ وأُفُولَ نَجْم الحضارة البرجوازية. وسيُمثِّل هتشسون وهيوم والنظام الخيالي لحظة تفاؤل وثقة بالنفس بارزة؛ حيث لا يزال على الطبقة الوسطى، التي لا تزال متفائلة وتغمرها روح البهجة، أن تسجل كاملًا النتائج الموحشة لأنشطتها، وتستمتع بمشاعرها الإنسانية، وتظلَّ قادرة على تصور المجتمع باعتباره مجتمعًا قائمًا على الروابط الشخصية. أما ما تلا ذلك مع كانط وهيجل فهو النظام الرمزي الأكثر تجريدًا وتنظيمًا وموضوعية، وهو نظام — للمفارقة — اجتماعي وغير اجتماعي في نفس الوقت. وهذا هو ما يمثل أوج ثقافة الطبقة الوسطى، بأسسها الليبرالية والنفعية العظيمة، وحماسها للمساواة والخير الإنساني، ودعمها الباسل لحقوق الإنسان والحريات الفردية.
ومع نهاية القرن التاسع عشر وظهور أفكار شوبنهاور وكيركجارد وماركس ونيتشه التراجيدية أو المتشكِّكة أو الثورية، أخذت تبرز تدريجيًّا أفكارُ الجُمود والتأزُّم والتناقض، لتصل لأَوْجها، في نهاية عهد الأزمة الرأسمالية والصراع الإمبريالي البربري، في تأملات سيجموند فرويد الشديدة التشاؤم. إن هذه الحقبة بالكامل هي ما تمثل — إن جاز التعبير — فترة سطوة النظام الواقعي؛ حيث إن الرغبة، التي كانت مبهجة وإيجابية، قد كشفت الآن عن شيء مريض في جوهرها لا يمكن علاجه، وأخذت المفاهيم الحميدة عن السلطة تتراجع أمام مفاهيم القوة المفترسة أو السادية. ومع مجزرة الحرب العالمية الأولى وما خلفته من تبعات سياسية، يدخل النظام الرمزي الأوروبي في أزمة مطولة، في حالةٍ تأمُلُ الفاشيةُ أن تنقذه منها بإجبار موارد النظام الخيالي (الدم والأرض والشعب والأمومة) على خدمة النظام الرمزي. وفي خلط قاتل بين النظم اللاكانية، يُستغل ما هو بدائي ومهجور في سبيل السيادة والتأويل العقلاني. وتُطوَّع الأساطير لخدمة عقلانية ذرائعية على نحو وحشي. وفي قلب هذه التجربة البربرية، في معسكرات الموت في وسط أوروبا والافتتان الفاشي بالموت يَكمُن الجانب المُرعِب في النظام الواقعي الذي يَستَعصِي على التصوير.
لكن شوبنهاور سيقلب هذه الأولويات، فيصير نموذجًا متقدمًا لفرويد نفسه. وكما أن الهدف الوحيد من تراكم رأس المال هو الاكتناز من جديد، فكذلك تبدو الإرادة — في نقض كارثي للغائية — مستقلة عن كل الأشياء المحددة التي تركز عليها؛ لذا تبدو الرغبة غارقة تمامًا في ذاتها، ساكنة في كيانها كرُوح نرجسية شريرة. وفي ظل نظام اجتماعي تُعتبر فيه الفردية التملُّكية قانون العصر، ربما يكون شوبنهاور أول مفكر معاصر كبير مَكَّنَهُ الظرف التاريخي من أن يضع مفهوم «الرغبة ذاتها» المجرَّد في محور عمله، مقارنة بغيره من أشكال التَّوق. وهذا التجريد الشديد هو ما سيرثه لاحقًا فرويد، الذي اعتبر شوبنهاور — في زَلَّة فكرية غريبة — أحد أعظم ستة رجال على وجه الأرض. لكن سنرى بعد قليل كيف أصبح من الممكن أن نفهم فكر كانط الأخلاقي بصورة مشابهة.
الإرادة إذًا قوة غامضة، شيء هادف بلا هدف (مستعيرين هنا تعليق كانط الشهير على الفن). إن الشيء المعيب الذي يتعذَّر إصلاحه هو مفهوم الذاتية بالكامل، وليس مجرد كَبْتها أو اغترابها؛ فالذاتية الإنسانية هي نفسها صورة من الاغتراب؛ إذ نحمل في أنفسنا حِملًا لا يُطاق من اللامعنى، ونعيش مَحصورين في أجسادنا كالأحياء في زنزانة سجن؛ فالذاتية شيء يُمكن أن نَعتبره بالكاد ملكنا. فإن لم نفهمها بطريقة شوبنهاور باعتبارها هدية مسمومة من الإرادة، فثمَّة مُتبرِّعون كثيرون آخرون: «الفكرة» عند هيجل، و«الرب» عند كيركجارد، و«التاريخ» عند ماركس، و«إرادة القوة» عند نيتشه، و«الآخر الكبير» عند لاكان.
إن ما يُميِّز عمل شوبنهاور عن رواد النظام الواقعي هؤلاء هو أنه لا يضع في مواجهة فظائع النظام الواقعي شيئًا أقل من النظام الخيالي. ففي ارتداد غريب لعقيدة التعاطف، لا يُمكننا أن نخدع الإرادة من خلال الفعل، الذي ما هو إلا تجسيد آخر لقُوَّتها البغيضة، أو الانتحار، الذي يَسمح لها بأن تتباهى بِخُلودها أمام فنائنا، بل بإطفاء جذوة الأنا التي تعذبها الرغبة في لحظة من الإيثار التامِّ. إن مبعث الرَّتابة الذي لا يُطاق في وجودنا هو أننا لا يُمكن أن نتحرَّر من أنفسنا؛ إذ نَجُرُّ وراءنا ذواتنا البائسة كالأغلال؛ فالرغبة تدلُّ على عجزنا عن رؤية الأشياء على حالها، فهي النظرة الذاتية التي نُحيل بها جبرًا كل شيء إلى اهتماماتنا الشديدة التفاهة؛ فالذات تعني الرغبة، والرغبة تعني الوهم. لكن على المستوى الجمالي تنفكُّ الرغبة عنا، وتُعلَّق الإرادة مؤقتًا، ونتمكَّن للحظة سعيدة من رؤية العالم على حقيقته. إن كلفة هذا التجلِّي الثمين ليست أقل من التفكك التامِّ للذات، ذلك الشيء الأثمن من بين كل المفاهيم البرجوازية، الذي صارَ يتماهى في تضحية بنفسِه مع الشيء؛ إذ لا يمكن للعالم أن يتحرَّر من ويلات الرغبة إلا بتحوله إلى مشهد جمالي، تَنسحِب الذات خلال هذا التحول إلى نقطة فَناء من اللامبالاة التامة. يبدو الأمر كما لو أننا نُشفق على الأشياء المختلفة من حولنا التي أصابتها عدوى التَّوْق، ونُخلِّصها من تلك العدوى القاتلة بمحو أنفسنا من المشهد، ناظرين إلى الصورة العامَّة للأشلاء الإنسانية برباطة جَأْش مراقب عديم الشغف لدرجة أنه لم يَعُدْ موجودًا.
ليس ثمَّة ما هو أشق في نظر شوبنهاور من تلك الموضوعية العسيرة المنال التي هي ثمرة الانضباط الأخلاقي أكثر من مجرد نزعة موضوعية ساذجة أو ملاحظة سريعة قليلة الخبرة. فالموضوعية كما يقول شيء عبقري، فهي شأنها شأن الفكر البوذي، الذي مَيَّزَهُ بصورة كبيرة، عبارة عن «عدم التدخل» وهو ما لا يُمكن المحاربة من أجله؛ حيث إن مثل هذا العمل لا يكون إلا في الأنا، وبذلك فهو جزء من المشكلة التي تَسعى لحلِّها. فلا بد من اختراق حاجز الوهم أو الخداع التقليدي وإدراك وهم الأنا بطريقةٍ ما؛ لكي نتصرَّف تجاه الآخرين دون لا مبالة حقيقية، وهو ما يعني انعدام التمييز الحقيقي بينهم وبين النفس. وعلى هذا الوجه يظهر النظام الخيالي من جديد في كتابات شوبنهاور. وبمجرَّد انكشاف «مبدأ الفردية» المخادع على حقيقته يُمكن للأنفس أن تتبادَل العواطف في رحمة وحب. فالمصدر الرئيسي لكل الأخلاق — كما يقول شوبنهاور — هو مشاركة معاناة الآخر بعيدًا عن الدوافع الأنانية، فالتصرُّف السليم أخلاقيًّا لا يعني التصرف من وجهة نظر معينة، بل يعني التصرف دون وجهة نظر إطلاقًا، فالذات الخيِّرة حقًّا هي ذاتٌ ميتة، أو على الأقل تعيش في حالة معلَّقة دائمًا. وحيث إن الذات هي وجهة نظر معيَّنة للواقع، فكل ما يبقى بعد التغلُّب عليها نوع من السلبية الخالصة أو النيرفانا بالمعنى البوذي. إن فلسفة الذات عند شوبنهاور تُدمِّر ذاتها، غير تاركة وراءها سوى تأمُّل إيثاري لا يتعلَّق بأي شخص على وجه التحديد.
إن كان للنظامين الواقعي والخيالي دور في عمل التعاطُف عند شوبنهاور، فكذلك النظام الرمزي، وهو عين ما تتضمَّنه الرؤية المحايدة المجرَّدة من وجهة نظر شوبنهاور. فللنظام الرمزي دور في رؤية العالم على حقيقته، بعيدًا تمامًا عن احتياجاتنا ورغباتنا، وتأكيد الحقيقة المدهشة القائلة بأن الأشياء تكون على ما هي عليه دائمًا، مهما كانت مزاعمنا الملِحَّة بخصوصها، وهو ما يُسميه شوبنهاور التجرُّد الجمالي أو السامي، وهي الحالة التي نتخلَّى فيها عن تذمُّر الأنا الصبياني ونُسَرُّ على نحو جانح بحقيقة أن الواقع ليس بحاجة إلينا على الإطلاق، وهذا أفضل بالنسبة له بلا شك.
•••
إلى هذا الحدِّ يتشارك المُستويان الجمالي والخيالي في عدد من السمات، أما اختلافهما العميق فيَكمن في أن المستوى الجمالي عند كيركجارد نوع من «اللانهاية الشريرة» الهيجلية وكذلك «الآنية الشريرة» التي تَغرق فيها الذات؛ إذ ينقصها مركز واضح للنفس، في هاوية الانعكاس الذاتي اللامتناهي التي تتعثَّر فيها المفارقة الذاتية في مهرجان من الاحتمالات غير المتحقِّقة. ومن هذه الزاوية لا تملأ الذات الجمالية فراغها باستغلال الإحساس الهارب، بل بإعادة اكتشاف نفسها من العدم من لحظة للحظة التي تليها، ساعية للحفاظ على حس حرية غير محدودة هي في الحقيقة سلبية تستنفد ذاتها. فالشخص الساخر الجمالي؛ إذ يخدره فراغه الزائد، يعيش حياة احتمالية لا دلالية، فيُخفي عدمه وراء زُخرف هذا التكوين الذاتي اللامع. فبينما تجمع الذات المتدينة بين المتناهي واللامتناهي في مفارقة «التجسُّد» غير المتصوَّرة، تترنح الذات الجمالية بينهما، فهي إما تغوص في عالم المحدودية الحسية طامسةً نفسها في انسياق جبان للنظام الاجتماعي، أو تنتفخ وتطير على نحوٍ كبير، فتهجر الحاجة للتماهي مع النفس، في دوامة لا تنتهي من المفارقات التي تلغي الذات.
إن كان الاتفاق بين المستوى الخيالي عند لاكان والمستوى الجمالي عند كيركجارد لا يكاد يكون تامًّا، فإن الصلة بين دائرته الأخلاقية والدائرة الرمزية اللاكانية تتضح أنها مباشرة أكثر. فالملتزم بالأخلاق — كما يبين كيركجارد في عمله «إما/أو» — اتَّضح أنه الفرد المستقل الحر الذي تعبر أفعاله، بطريقة كانط، عما هو عامٌّ. فالرجل الملتزم أخلاقيًّا رجل اجتماعي مسئول برجوازي، مُستقر في زواجه وعمله وأملاكه، وقائم بواجبه والتزاماته المدنية. وبعكس الكائن الجَمالي المتقلِّب فهو يوجه نفسه باستمرار، ومتصف بلا مبالاة رواقية لتقلُّبات القدر. وفي ظل تواطؤه مع الأعراف والمعايير العامة، تُجسِّد حياته الأخلاقية مثالًا صادقًا على النظام الأخلاقي عند هيجل. وبعكس الشخص الجمالي، فإن العالَمَين الداخلي والخارجي مُتوازنان بتناغُم في شخصيته. إن الشخص الأخلاقي عند كيركجارد متآلف تمامًا مع مفاهيم القرار والالتزام والعمومية والموضوعية والتأمل الذاتي والهوية المركزية والثبات الزمني.
إلا أن هذا الشخص ليس حَسَن السمعة كما يبدو، فمن ناحية، إن إيمان كيركجارد بأن الذات الأخلاقية يجب أصلًا أن «تَختار» نفسها — رغم أنه بالمعنى التامِّ للكلمة لا توجد الذات فيما قبل فعل الاختيار — يتجاوز الاستقلال عند كانط إلى مفهوم وجودي للأصالة. فهو يتضمن مفهومًا لتشكيل الذات أقرب لنيتشه منه لكانط، وإن كانت الذات المختارة لذاتها عند كيركجارد — وهي أبعد ما يكون عن أن تُجسِّد تصورًا للابتكار الذاتي الحر الجمالي — يجب أن تتبنَّى حقيقتها الشخصية بكل ما فيها من يأس من الإصلاح، وتواجه النفس باعتبارها ضربًا من الضرورة كما أنها ضرب من الحرية. إن النفس عند كيركجارد أمر لم يُكتشَف بعد وهدف لم يتحقَّق بعد. وبمجرد اتخاذ القرار الأخلاقي، باعتباره خيارًا أساسيًّا يتعلق بكيان الفرد وليس بشيء محدَّد، يجب أن يُعاد بلا توقُّف، في عملية تجمع تاريخ الذات في ظل هدف متَّسق ذاتيًّا. وسنجد صدًى لعقيدة التكرار هذه لاحقًا في كتابات آلان باديو، فالعيش في العالم الأخلاقي يعني الاهتمام غير المُنتهي بالبقاء في الوجود، فالبقاء عند كيركجارد يمثل مهمة لا منحة، شيئًا نُحقِّقه لا نتلقاه. وفي هذا البعد من اللانهائية يغطي المستوى الأخلاقي على المستوى الديني، مثلما يحمل المستوى الجمالي أثرًا مسبقًا للمستوى الأخلاقي.
وطالَما كان المستوى الأخلاقي مُرتبطًا بما هو عامٌّ وكلي وجماعاتي، يجدُ فيه كيركجارد، البروتستانتي المؤمن بالمذهب الفردي، القليلَ مما يَستحِق إنقاذه. وهو بذلك ليس إلا وعيًا جمعيًّا زائفًا. لكن طالما أنه يدلُّ على الانشغال بالتوجه للداخل في الإنسان، فهو يشير بصورة غامضة إلى المعتقد الديني الذي يتجاوَزه. ويكسر هذا الإيمان أنماط المُستوى الأخلاقي، ويهزُّ دعائم النفس الراضية باستقلالها، ويُمثِّل فضيحة بالنسبة إلى الفضيلة المدنية، فاتجاهه الفردي المُكثف للداخل يتعارَض مع العالم الاجتماعي، ويُدير ظهره باحتقار للحَضارة الجماعية. وكما سنرى لاحِقًا مع مُناصري أخلاق الواقعي الفرنسيين، لا يُمكن أن تُعاد صياغة الإيمان بحيث يتلاءم مع أعراف النظام الاجتماعي ومنطقه، فهو انحراف دائم عن التوافُق وسُبَّة في جبين التقاليد الاجتماعية. فالإيمان قضية متعلِّقة بأزمة داخلية مزمنة بحيث لا يُمكنه أن يسهل دوران عجلة الحياة الاجتماعية مثلما تفعل بعض النظريات الأخلاقية الأكثر مدنية أو اجتماعية. إنه الوقت المُعين وليس التقاليد، الخوف والفزَع وليس الأيديولوجيا الثقافية، فهو لا يُمكن أن يتجسَّد في العادات أو التقاليد أو المؤسَّسات؛ ومِن ثَمَّ فهو معادٍ للتاريخ على نحو شديد. فحال الإنسان — كما يقول كيركجارد في عمله «المرض طريق الموات» — دائمًا في خطر.
فالرجال والنساء في العصر الحديث إذ يَعجِزون عن «الوجود» الحقيقي قد استسلموا دون مقاومة لدائرة المجهول واللاإنساني، للعموميات الوحشية وللكليات الجامدة، في عصر قضى بنحو تناسُبي على الحكمة الروحية بتراكمه للمعرفة. إنها السيادة الصماء ﻟ «المرء» عند هايدجر، انتصار الكمِّي والعمومي على الفريد ومنقطع النظير. وباللجوء للإيمان السيئ، يهجر الناس قضية الوجود الشخصي الحقيقي الإشكالية لينغمسوا في حلم أو آخر بالكُليَّة: الخير العام، روح العصر، مجرى التاريخ، تقدم الإنسانية. وهم بذلك يَتَماهَونَ بطريقة خيالية مع نظام اجتماعي دائمًا ما تختلف معه الذات المؤمنة في تشكُّك، فالتاريخ بعد هيجل لم يَعُدِ المكان الذي تجد فيه الذات انعكاس صورتها ولا غايتها. على العكس فإن الناس يجب أن يَستَمِدُّوا الآن إيمانهم من منطق عامٍّ أكثر وضوحًا وواقعية، فينسحبون من عالم أدنى إلى أعماقهم الداخلية. وسيلاقي المصير نفسه الفن في عصر الحداثة، وما قدمه كيركجارد هو تحويل عين الحرج واللاعقلانية المحيطة بالإيمان في حقبة عقلانية إلى نوع مُنحرف من الدعاية له.
قد لا يكون كيركجارد بصفة عامة مناصرًا للمستوى الخيالي؛ لكن ثمة موضعًا يلتزم به فيه بلا تحفظ، وهو في فعل الكتابة نفسه. فالقارئ — حسبما يقول كيركجارد في عمله «وجهة نظري بصفتي مؤلفًا» — يجب ألَّا تُقَدَّمَ إليه الحقيقة المطلقة بأسلوب فَظٍّ، وهو ما سيرفضه حتمًا، بل يجب أن يؤخذ بيده إليها بصورة غير مباشرة، ويخضع لنوع من المفارقة السقراطية لكي يَنكشِف وعيُه الزائف من الداخل بدلًا من مواجهته مباشرة. فمن خلال تقديم سلسلة من الحُجَج الجزئية وتقَمُّص شخصيات مستعارة، يُمكن للكاتب أن يُطلق سلسلة من الغارات غير النظامية على القارئ، فيَسحبه من خلال الخيال والمفارقة والحِيلة إلى لحظة قرار لا يَسَعُهُ سوى أن يكون قراره هو وَحْدَهُ. وكما يقول سارتر بعدها بقَرْن، فلكي تكون الكتابة مفيدة أخلاقيًّا عليها أن تخاطب حرية القارئ. فهي — كما يصيغها كيركجارد — مسألة «تماشٍ مع وهم الآخر»، مسألة دخول من باب التقمص العاطفي الخيالي إلى دائرة القيمة لديه مثلما يفعل الروائي مع شخصياته. وهذا باعتراف كيركجارد يشمل عنصرًا خداعيًّا لا بد منه، تمامًا مثلما الحال في المستوى الخيالي. فالكتابة من هذا المنطلق عملٌ حواريٌّ يَستَرِق باستمرار السمع لنفسه في آذان مُتَلَقِّيهِ ويراجع نفسه بالتبعية. الحقيقة هي الحقيقة بكل تأكيد؛ لكن في عالم الخطاب الإنساني الحقير يجب أن تتصرف بحكمة ملتوية، مثلما يتسلل الكاتب إلى «الأرض المجهولة» للقارئ كمُندَسٍّ في معسكر الأعداء.
ثمة علاقات أخرى بين الأبعاد الثلاثة؛ فقد يكون الإيمان والجمال في صراع لكنهما مشتركان في قُرْب يفتقر إليه البُعد الأخلاقي، فاختيار النفس هو العمل الأخلاقي الأسمَى، وهو يُؤْذِن بظُهور الذات القوية في إيمانها؛ لكن بما أنه يَتُوق للنفس بكل ما فيها من انحلال «جمالي» مُخيف، فهو لا يُغادر هذا النطاق. وكذلك فإن البُعد الديني «يُعلِّق» البُعد الأخلاقي بدلًا من أن يُصفِّيه. مع ذلك لا يفهم كيركجاردر العلاقة بين الأخلاق والبُعد الواقعي بالطريقة المسيحية التقليدية، فالإيمان في العهد الجديد ليس شيئًا يتجاوَز البُعد الأخلاقي بقدر ما هو كشف لأساسه المُطلَق، المتمثل في حقيقة أن الذين يُحبون دون تحفظ مآلهم الموت. ومن هذا المنطلق يُمثل المسيح تحقق القانون الأخلاقي؛ إذ يكشف عن منطقه الداخلي المريع بدلًا من أن يهدمه، فالإيمان لا يتعارَض مع الأخلاق لأنه إيمان برب العدالة والحرية والصداقة والمساواة. إن ما يفرق الالتزام الإنسانوي بهذه القيم في الإيمان بالمفهوم المسيحي هو أن الأخير يتمسَّك بافتراض لا عقلاني هو أنه برغم كل الشواهد التاريخية فالغلبة لتلك القيم. وهذا — كما يرى هذا الإيمان في حمق أكثر — يرجع إلى أنها قد غلبت فعلًا من وجهٍ ما.
•••
أما نيتشه فهو مفكر راديكالي على نحو مدهش، وليست نظرته للأخلاق استثناءً في هذا الإطار، فبدلًا من أن يتدخل في النقاش الأخلاقي ويزن هذه القيمة أمام تلك، فهو أحد أوائل المفكِّرين المعاصرين الذين تَحَدَّوْا مفهوم الأخلاق في حد ذاته. وثمة متشكك آخر هو معاصره كارل ماركس الذي يرى أن الأخلاق في جوهرها أيديولوجيا. وهكذا هي عند نيتشه، وإن كان لا يستخدم هذا المصطلح. فالأخلاق عند هذَين الفيلسوفين ليست قضية تتعلق بالمشكلات بقدر ما هي مشكلة في حد ذاتها. وكلاهما يربط بين الأخلاق والقوة بروابط جديدة لافتة للانتباه، فإن كان الخطاب الأخلاقي في نظر ماركس يَنتمي للبنية الفوقية الاجتماعية التي تُعيق — من بين أشياء أخرى — تطور قوى الإنتاج، فإن وظيفته الأساسية في نظر نيتشه هو منع ازدهار إرادة القوة. فالأخلاق كما نعرفها هي أخلاق «القطيع»، وهي تناسب بقدر كافٍ الجموع الجبانة المُتدنية روحيًّا لكنها عائق أمام تلك الأرواح النبيلة الاستثنائية التي تتَّسم بأكثر من مجرَّد شبه عابر بنيتشه نفسه. فالأخلاق مؤامرة على الحياة من جانب الخائفين من المتعة والمخاطرة والبهجة والمشقة والوحدة والمعاناة والتغلب على الذات، فهي وهمية بقدر الخيمياء. ويجب أن تنهار هذه المنظومة المتعَفِّنة الآن؛ حيث إن دعاماتها الغيبية آخذة في الضعف بصفة متزايدة.
إن كان كيركجارد يحتقر العامة، فإن نيتشه يتخطَّاه بسهولة في ذلك وبحقد بالغ، فكلا المفكرين يَريَانِ في الأعراف الاجتماعية تجنبًا جبانًا للمخاطرة المميتة التي هي أن يكون الفرد إنسانًا. فالأخلاق في نظر نيتشه طغيان وحماقة وإذعان عبودي وكراهية سادية مازوخية. فهي غريزة القطيع الموجودة بداخل كل فرد التي تضبطه لئلا يكون أكثر من مجرد جزء من كيان جماعي بلا هوية. فهو كيان، إذ يخلو تمامًا من أي حقيقة أو أساس ويمثل انتصارًا للجماعي على الفردي، لا يوجد إلا من أجل نمو المجتمعات والحفاظ عليها وحمايتها وليس التعزيز الضروري للحياة في حد ذاتها. وبذلك فإن الأخلاق من وجهة نظر نيتشه، المناصِرة بشدة للمذهب الطبيعي، وظيفة علم الأحياء وعلم النفس والفسيولوجيا والأنثروبولوجيا والصراع اللانهائي على الهيمنة. فجذورها لا تكمن في الروح بل في الجسد، فهي لا يُمكن اعتبارها بأسلوب كانط ظاهرة في ذاتها، بل لا يمكن تفسيرها إلا من منظور خارجها باعتبارها وظيفة ﻟ «الحياة والطبيعة والتاريخ». يهتمُّ نيتشه شأنه شأن ماركس بالتاريخ الطبيعي أو بالظروف المادية للأخلاق، ويرى أن الأخلاق لا تُمثِّل سوى عَرَض لها، فالأعراف الأخلاقية ليس فيها أي شيء مُهذِّب بل هي طاعة عمياء للعادات والتقاليد وما يمكن أن نسميه اللاوعي الاجتماعي؛ إذ تنبع القيم الأخلاقية المطلقة من الخضوع المستسلم للتقاليد والعواطف التي هي عشوائية كليًّا، فتاريخ الحكم الأخلاقي كله كان خطأً واحدًا استمر طويلًا، وإن كان — كما سنرى بعد قليل — خطأً بِناءً على بعض الجوانب. فعلينا أن ندمِّر الأخلاق إن أردنا تحرير الحياة، وذلك كما يؤكد نيتشه في كتابه «إرادة القوة».
وإذا لم تُوجَد أيُّ أفعال أخلاقية أو غير أخلاقية فذلك يرجع إلى أن هذه الأيديولوجيا للسُّلوك الإنساني تقوم على مفهوم خاطئ للإرادة؛ إذ ليس ثمة إرادة حرة، وإن كان القول إن الإرادة غير حرة ما هو إلا عكس نفس المفهوم الخاطئ، فمفهوم الإرادة الحرة نتيجة للرغبة المَرَضية في المعاقبة والإدانة. فإن كانت الأفعال الأخلاقية تقتصر على الأفعال الناشئة عن حرية الإرادة — كما يعلِّق نيتشه ساخرًا في عمله «الفَجر» — فليس إذن ثمة أفعال أخلاقية على الإطلاق. إن تصور أن الناس يتحركون بإرادتهم ويقررون مصيرهم بصفة كلية؛ ومِن ثَمَّ فهم مسئولون مسئولية كاملة عن أفعالهم، لهو بقعة عمياء للأخلاق «الرمزية». على العكس، فإن كل ما هو واعٍ ومعروف ومرئي ومقصود في الفعل — كما يكتب نيتشه عمله في «ما وراء الخير والشر» على طريقة فرويد — يخص ظاهره فقط. وما يسمى بالإنسان الحر ما هو إلا شخص يستوعب بداخله قانونًا بربريًّا؛ ومِن ثَمَّ يوجه نفسه باعتباره مواطنًا خاضعًا؛ ومِن ثَمَّ لم يَعُدْ في حاجة إلى قَسْر خارجي. وحيث إن القانون في حاجة لموضع كي يزرع نفسه فيه، فهو يطرق بداخلنا باب الندم والمرض والضمير الفاسد الذي يفضل البعض تسميته بالذاتية. إن هذه الجوانب من فكر نيتشه — مِن بَينِ أخرى — هي ما سيرثه لاحقًا ميشيل فوكو؛ إذ يتوسع العالم الداخلي ويتمدد مع انقلاب الغرائز — الصحية في الوضع الطبيعي — الموجَّهة للخارج على نفسها تحت سطوة قوة القانون القهرية لتتمخَّض عن «الروح» والضمير، هذا الشُّرطي الموجود بداخلنا جميعًا. وفي نفس الوقت تُحصِّل الذات المتعة المازوخية من القانون التأديبي أو الأنا العليا المُثبتة بداخلنا. فالحرية هي معانقة الإنسان للأغلال المُصَفَّد فيها.
لا يُقصد من هذا القول أن نيتشه مؤمن متعصِّب بالجبرية، بل يُقصد أنه يسعى لوضع نظرية في علم النفس أكثر دقة من الأفكار شديدة التبسيط التي يجدها جاهزةً أمامه، نظرية تَنقض التعارض التقليدي بين الحرية والضرورة. وسيقوم بهذا من خلال دراسة عملية الإبداع الفني، التي هي من ناحية دافعه من البداية إلى النهاية، والتي لا ترتبط بأفعال الإرادة ولا بالضرورة، فمعظم الناس على أي حال لا يرقى فكرهم إلى هذه المثل العظيمة كالاستقلال والمسئولية، فما أفعالهم إلا ردود فعل شرطية لطبائعهم، بحيث يصير المدح أو الذم الأخلاقي في حالتهم في غير محلِّه إطلاقًا. فالجموع ليس من الممكن تحميلها المسئولية عن الشبَكة المعقدة من القوى الخفية التي تُشكِّل شخصيتهم شأنهم في هذا شأن النمر مثلًا.
إن كان نيتشه قد هاجم النظام الرمزي، فقد هاجم أيضًا النظام الخيالي. ومثلما يزعم سبينوزا أن أخلاق الجَماهير تكمن في التعامل مع العالم باعتباره مرآة لتحيزاتهم وميولهم، فإن نيتشَه يعتبر أن الأحكام الأخلاقية تنبع من النزعة إلى الشعور بأن كل ما يؤذي النفس شر وأن كل ما ينفعها خير. كما تتَّخذ هذه الأنويَّة صورة جماعية في المجتمع نفسه؛ إذ يرى أن فكرة وجود ملَكة أخلاقية فِطرية هي فكرة في قمة السذاجة. فعندما يتصور الإنجليز أنهم يعرفون ما الخير وما الشر على نحو فطري، كما يقول مُتهكِّمًا في كتابه «أُفُول الأصنام»، فهم ضحايا الخداع الذاتي. فالفضيلة التقليدية أكثر من مجرد «محاكاة» كما يقول في نفس الكتاب؛ ومِن ثَمَّ فهو يُنكر رؤية بيرك الخاصة بالتبادلية الأخلاقية، بل إن إحدى نقاط اتفاقِه النادرة مع فلاسفة أخلاقيِّين مثل هيوم هي معاداته الشديدة للواقعية، فالقيم الأخلاقية عنده — كما عند سلفه في القرن الثامن عشر — ليست موجودة مسبقًا في العالم، فهي أجزاء من محتويات العالم التي نصنعها بأنفسنا، وليست أشياء نجدها على نحو مسبق أمامنا.
كما أنه رافض بنفس القدر للإحساس والعاطفة، فالعواطف ما هي إلا أعراض شعورية لما تعَلَّمنا اعتقاده، فإن بَدَتْ طبيعية وتلقائية كما الحال عند هيوم وهتشسون فذلك لأننا ببساطة نجحنا في أن نستوعب بداخلنا قانونًا أخلاقيًّا لا أساس له. ويقول نيتشه في عمله «الفجر»: إنَّ وراء الافتراض المهذَّب بأن الأفعال الأخلاقية أفعال تقوم على التعاطف مع الآخرين يكمن خوف أساسي مما يُمثِّله الآخرون من تهديد لنا. فحب الجار، كما يشير نيتشه في عمله «ما وراء الخير والشر»، سببه الأساسي الخوف من الجار. فهو حذَر ثانوي اعتباطي تقليدي تمامًا؛ فالخوف هو «أبو الأخلاق» لكنه يتنكَّر عادةً في صورة حب. ولا يَختلِف هذا المَنطق كثيرًا عن فرويد الذي يتبنَّى عددًا من أفكار نيتشه.
مع ذلك فإن نيتشه أبعد ما يكون عن مجرَّد الهجوم على النظام الرمزي أو سيادة الأخلاق الجماعية. فمن ناحية، النظام الرمزي أفضل ما يمكن لمعظم الناس أن يتعاملوا معه، فهو من الناحية التطورية عالم يتلاءم بنحو يثير الإعجاب مع حالتهم الروحية البدائية، فالجنس البشري لا يمكنه تحمل قدر كبير من الواقع، وسيهلك على يد الحقيقة إن دفعه حظه العاثر لمواجهتها مواجهة مباشرة؛ لذا فإن ميلاد الذات الإنسانوية ليس مدعاة للندم. ويختلف نيتشه في هذا اختلافًا واضحًا عن الكثير من أتباعه الأقل حذرًا. ومن ناحية أخرى فإن النظام الرمزي — بأعرافه المجرَّدة ومعاييره التي تقوم على المساواة وتقديسه لما هو عادي وتقويضه لما هو استثنائي — له نتيجة بَنَّاءة في نهاية المطاف؛ نتيجة تغيب عن رؤية كيركجارد المريعة له. وهذا يرجع إلى أن نيتشه — على عكس معظم مناصريه المعاصرين — غائي حتى النُّخاع يرى أن الأخلاق تمرُّ بثلاث مراحل تاريخية. وليست تلك المراحل الثلاثة تمامًا هي الخيالي والرمزي والواقعي، بل يُمكن وَصفُها بدقة أكبر بأنها الحيواني والرمزي والواقعي.
غالبًا ما تُعتبر المرحلة الحيوانية — على نحوٍ خاطئ — المرحلة الأخلاقية المثالية عند نيتشه، فهي المرحلة البدائية التي يعيش فيها «الناس أحرارًا، وجامحين، وهائمين»؛ يقاتلون كالطغاة الذين لا يعرفون أي ندم، ويعيشون بغرائزهم الجميلة البدائية في تحرر رائع من القيود، ويؤذون ويستغلون دون أدنى اعتبار. وهؤلاء كائنات أكثر جاذبية من الإنسان الأخلاقي، لكنهم كذلك أقل سحرًا وتعقيدًا منه؛ إذ يبرز الإنسان الأخلاقي عندما تدفن الهيمنة القاسية لتلك الوحوش الشقراء الغرائز الحرة لمَن يَخضعون لهم؛ ومِن ثَمَّ يولدون تلك الحالة الخطيرة المؤذية للنفس من الندم والإيمان الفاسد التي تشكِّل «أخلاق العبودية» في المجتمع التقليدي. وإذ تَعلَق الكائنات الأخلاقية التقليدية في شباك هذا التواطؤ المؤذي بين القانون والرغبة، فهي تَذبل في قبضة الواقعي بالمعنى السلبي للكلمة، بينما يتحرَّك الإنسان الأعلى — كما سنرى في تلك المنطقة الغامضة — بصورة أكثر إيجابًا، بصورة أقرب في عدة جوانب إلى النموذج المثالي لأنتيجون عند لاكان (وإن كانت مجرَّدة من تجهُّمها وعنادها) من نموذج أتباع المسيحية اليهودية التي تُسبِّب الإخصاء لذواتهم.
إلا أن ضبط النفس السادي المازوخي عند الحيوان الأخلاقي هو أيضًا — بطريقته الخاصة — عملية رائعة. فثمَّة جمال في الضمير الفاسد؛ فالإنسانية تستمد استثارة شهوانية من تعذيب النفس تمامًا مثلما يستمدُّها نيتشه المنحرف الشرير من تصوره. وبالإضافة إلى ذلك، ورغم أن الفساد المنتظم للغرائز يجعل الحياة الإنسانية أكثر هشاشة وتقلبًا، فهو أيضًا يفتح الباب أمام احتمالات جديدة للتجرِبة والمغامرة، فهذا الكَبْت للدوافع هو أساس كل فن وحضارة عظيمة. فإن أُضعفت عواطفنا فقد زادت تهذيبًا ودقة كذلك، والانضباط الذاتي العقابي الذي يفرضه علينا هذا يمهد لنا الطريق للوصول إلى السيطرة على الذات المتصف بها الإنسان الأعلى، فاعتمادنا الخطير على العقل الحسابي في حقيقته إضعاف ماكر للعواطف وبداية لوجود ثري لا يُضاهى. إن نيتشه ليس مُفكرًا لا عقلانيًّا بسيطًا؛ ففي أعماقه نفسه تجري كراهيته لعصر التنوير. وهو جدَلي في هذا الجانب على الأقل بقدر ماركس، فسقوط الإنسان — الذي هو غائي عند الكثيرين — يتضح أنه سقوط سعيد؛ إذ فقط بانضباط العواطف الهمجية القديمة وتساميها عن طريق فرض أخلاق «القطيع» ينفتح الباب أمام الظهور الكبير للإنسان الأعلى، الذي يتولى هذه النزعات ويُطَوِّعُها حسب إرادته المستقلة. فالذات الإنسانية تُولَد في حالة من المرض والخضوع؛ لكن هذه الإرادة تَثبُت أنها أداة ضرورية لاستغلال القوى المدمِّرة في العادة.
تتَّسم غائية نيتشه إذن بشيء من التراجيديا؛ فحياة الإنسان في نهاية الأمر لا يمكن أن تزدهر إلا بقدر مُريع من العنف والبؤس واحتقار الذات؛ لكن ما من أثر للتراجيديا في الإنسان الأعلى نفسه، الذي يشعُّ فيضًا من اللطف والسكينة وسموِّ الأخلاق وما يسميه نيتشه على نحو غريب «سمو الروح». وإذ يبعد كل البعد عن أن يكون كائنًا وحشيًّا مفترسًا، فهو خبير في البهجة والانضباط والشهامة، يكرس نفسه فقط لازدهاره الذاتي بوصفه فنانًا يرسم لوحته الخاصة؛ فالإنسان الأعلى أو الإنسان الأسمى؛ وإذ يدخل في المغامرة التي لا نهاية لها المتعلقة بالإبداع والتجرِبة الذاتيين، هو فنان وتُحفة فنية في جسد واحد. فهو — إن جاز التعبير — قطعة من الصلصال في يَدَيهِ هو نفسه، وله الحرية في تشكيل نفسه على أي صورة بديعة تُناسب الحياة والنمو والقوة بالقدر الأكبر؛ إذ يجب علينا أن نكون «شعراء نكتب قصيدة حياتنا» بأدق تفاصيلها. إن وجود الأخلاق واجب؛ لكنها يجب أن تكون مصنوعة خصيصى كي تُناسب شخصية الإنسان الفريدة وليست معدة مسبقًا.
ليس هذا شكلًا خاطئًا من أشكال المذهب الفردي؛ فالإنسان الأعلى يُهذِّب ويُثري قُواهُ لا من أجل نفسه، بل من أجل الازدهار الأكبر للنوع البشري، فهو كالقربان على هذا المذبح شأنه شأن تلك الكائنات التي وجَب هلاكها باسم التطور. وفي هذا الإطار يمثل نيتشه نموذجًا فيكتوريًّا بارزًا؛ فالإيثار إذن مَردوده يكون على مستوًى أعلى. فمن ناحية يخضع الإنسان الأعلى لقانون حاكم شأنه شأن أكثر المواطنين المُمتثلين خنوعًا؛ لكن هذا قانون يضعه لنفسه؛ ومِنْ ثَمَّ فهو صورة فريدة لا مثيل لها من القانون العامِّ الذي يُصِرُّ كانط (الذي هو عجوز جبان مخصيٌّ من وجهة نظر نيتشه الساخرة) على أن نخضع له؛ لذا فإن القسر الوحشي هذا يؤدِّي إلى الهيمنة على الذات. ومثلما يَستعير نيتشه من كانط مفهوم الواجب — بينما يُنكر أن ذلك قد يعني واجبًا على الجميع إطلاقًا — فهو يقتبس من سَلَفه رؤية التطويع الحر للقانون؛ لكنه إذ يُطوعه يُجرِّده من وَحْدَتِهِ وعُموميته. فالقانون في المستقبل سيكون ذا طابع لا قانوني غريب، يلائم كل فرد على حدة؛ فالإنسان الأعلى مُقرِّر لكل شيء؛ حيث يَستمد دليله من التدفُّق السعيد لِقُوَاهُ وليس من مبدأ مسبق أو قاعدة عامة، فهو كالعمل الفني يضع قوانينه وأعرافه الخاصة. إن ما يؤكد عليه الفلاسفة الحقيقيون هو تنوع الحياة وليس نمطًا سلوكيًّا معينًا؛ إذ ليس من الواضح أي المعايير تحدِّد ما يُعد «تعزيزًا» لجودة الحياة. ولا يسع نيتشه أن يخاطب الفطرة هنا أكثر من مخاطبته للأعراف السائدة. وكذلك إن كانت إرادة القوة تشمل كل الظواهر بحيث لا يتبقى أي معايير أخلاقية فيما وراءها يمكن بها الحكم عليها، فلن يُمكننا معرفة ما إذا كانت نافعة، وفي تلك الحالة ما المثير للإعجاب في دعمها؟
لا يؤيد نيتشه مفهوم الفضيلة، الذي ينحدر من الفكر الأخلاقي الأرسطي الذي سنتناوله فيما بعد. ويُخبرنا في عمله «إنسان مفرط في إنسانيته» أن الأخلاق تبدأ في صورة إلزام، وتتحوَّل إلى عادة، ثم تُحَوِّل نفسها إلى غريزة، وأخيرًا تربط نفسها بالإشباع تحت مسمى الفضيلة؛ فالفضيلة ما هي إلا صورة سامية من الإلزام الأعمى، مثلما تبدو أحيانًا عند جاك لاكان. مع ذلك توجد عناصِر مما يُسمى بأخلاق الفضيلة في حياة الإنسان الأعلى. وكما الحال عند أرسطو، فإن الهدف الأسمى للإنسان الأعلى هو تحقيق الذات؛ رغم أن نيتشه بعكس سلفه القديم يغمره شك عميق في الوجود الفعلي لأي شيء في صورة نفس مستقلة، وعلى أي حال لا يكون تحقيق الذات هذا في نظره هدفًا في نفسه — مثلما يرى أرسطو — بل لتحسين «الحياة» ككل. مع ذلك فثمَّة مواضع يتحدَّث فيها بأسلوب يُذكِّر بأرسطو عن «أسمى صور الرخاء» وعن «الإنسان الكامل»، ويذكر عبارات مثل «مزيد من التطوير الحر للنفس» التي كانت شائعة تمامًا في أعمال ماركس، المؤيد الخفي لأرسطو. فالإنسان الأعلى شأنه شأن الإنسان الفاضل صنيعةُ عادةٍ، عادة تعيش طبقًا للغرائز التي غرست في نفسها أرقى القيم الثقافية والحضارية. ومن هذا المنطلق هو يجمع بين الطاقة الغريزية للمرحلة «الحيوانية» من الوجود الإنساني وبين اختياره الخاص للقيم في حقبته «الأخلاقية».
إن الإنسان الأعلى كائن شديد الإيجابية؛ إذ يفيض بالصحة والبهجة الشديدتين. إلا أنه يختلف جذريًّا عن الإنسان ذي الروح العظيمة عند أرسطو في الثمن الفادح الذي يجب أن يدفعه لإيجابيته الأبدية. والثمن هو مواجهة مخيفة مع النظام الواقعي؛ أي إدراك أنه لا حقيقة ولا جوهر ولا هُوِيَّة ولا أساس ولا غاية ولا قيم فطرية في الكون؛ فالإنسان وهم، وكذلك الأشياء التي تبدو راسخةً أمامه. إن إدراك كل هذا يُمثِّل التحديق في الهُوَّة الديونيسيوسية المظلمة عند المذكورة في عمل «مولد التراجيديا» مع رفض كل مسكنات الوهم الأبولوني. فهو يعني تحويل حتى هذا الإدراك المريع لدافع الموت إلى عادة غريزية، والرقص دون أي يقينيات على حافَّة الهُوَّة؛ فالإنسان الأعلى هو من ينتزع الفضيلة من الإلزام الشديد، ويُحوِّل انعدام وجود أساس للواقع إلى حالة من المتعة الجمالية ومصدر لعملية ابتكار الذات التي لا توقف. فهو شأنه شأن أبطال النظام الواقعي الأخلاقيين عند لاكان قد تخطَّى مرحلة التعميد بالنار التي هي مأساة في مكان فيما وراء هذه المحنة السعيدة، إلا أن الوصول إلى تلك الحالة التي يُحسد عليها يتطلب من النوع البشري أن يستعد لدروس النظام الرمزي القاسية.
إذًا ثمة تفسير يرى أن نيتشه يعتقد أن الإنسان حقيقي الوجود يتقدَّم من السُّقوط السعيد الخاص بالنظام الرمزي، إلى مواجهة مهذِّبة مع النظام الواقعي، ثم إلى حالة من الفضيلة تُحيل العقل الخطابي إلى غريزة تلقائية. فالإنسان الأعلى منَّان وكريم، لكن ذلك مقرون بلا مبالاة السيد النبيل الراقية الخالية من الهموم. وفي هذه الحالة تكون الدوافع والعواطف الجسدية مهمَّتين، وهو ما يجعل هذه الحالة من بعض الجوانب نموذجًا أرقى للنظام الخيالي. وسنرى لاحقًا أن الأخلاق عند جاك لاكان وآلان باديو تكمن في الإخلاص الثابت للنظام الواقعي، الذي يجب أن يتمسَّك به الفرد رغم فخاخ النظام الرمزي وأوهامه؛ فالفعل الأخلاقي الحقيقي عند الطليعة الباريسية هو الفعل الذي يرفض زَيْف وملل ما هو معتاد من أجل الالتزام المستدام بهذه الحقيقة السامية؛ لكن ليس هذا هو الحال عند نيتشه. صحيح أنه من خلال المواجهة المكلفة مع النظام الواقعي وَحْدَها يمكن للإنسان أن يدرك أن العالم بلا أُسُس أخلاقية، وأن الرب ليس ميتًا فقط بل لم يكن حيًّا يومًا، وأن الأنظمة الأخلاقية التقليدية بغيضة ومنحطة في جُلِّها، إلا أنه بمجرد أن يصبح الإنسان سيد نفسه روحيًّا بهذا النحو، تكون النتيجة حياةً تملؤها الفضيلة بطريقة ربما يفهمها إدموند بيرك. على أيِّ حال، فإن بعضًا من فضائل نيتشه المفضلة تتفق بصورة كبيرة مع الفضائل التقليدية؛ الشجاعة والبهجة واللطف والشهامة وما شابه. لذا، فإن أحد الانتقادات الموجهة لنيتشه ليس أن كتاباته تمثل نهاية الحضارة كما نعرفها، بل إن الإنسان الأعلى يحمل شبهًا مخيبًا للآمال بالشخص الأرستقراطي القديم المعهود، فهو أحد شخصيات دزرائيلي أكثر منه شخصية شيطانية.