الصور والأشياء: الفن نافذةً على التاريخ
لكمْ يحلو لي أن أستعيد علاقتي الأولى بمشيل فوكو. فقبل أن أقرأه مباشرة باللغة الفرنسية، كنت في النادي السينمائي قد شاهدت الفيلم الذي تم إنجازه انطلاقًا من نصٍّ مشهور له عن الجنون في العصر الوسيط. عنوان الفيلم «أنا بيير ريفيير ذبحت أمي وأختي وأبي …» اهتمام مشيل فوكو بالجنون جاء من ثقافته التاريخية، ونبْشه في حفريات ظاهرة هامشية، كان لعلم النفس التقليدي اليد الطولى في جعل الجنون خارج مدارات العقل بأبهته الغربية التي بنى عليها مجده.
أستعيد هذا الرجل أيضًا — بصلعته البراقة — حين كنت أرتاد دروسه الأخيرة في الكوليج دو فرانس، في ذلك المدرَّج الصغير الغاص بالحاضرين. وبما أني لم أكن أجد في الغالب مكانًا شاغرًا؛ فقد كنت أجلس على الأرض، على بُعد ما لا يزيد على مترين منه … كان حينها يلقي محاضراته الأخيرة عن الاهتمام بالذات، وهو الجزء الأخير من تاريخ الجنس … قبل أن يواريه الغياب.
كما أستعيد اكتشافي له أيضًا وأنا أقرأ كتابه «الكلمات والأشياء»، إنه الكتاب الوحيد الذي يمكن اعتباره كتابًا فلسفيًّا بامتيازٍ … وفي هذا الكتاب يبدأ فوكو تحليلَه انطلاقًا من لوحة للفنان الإسباني دييغو فيلاسكيز.
يبني فوكو فكره التاريخي على الوثيقة، مثلما يبنيه على اللوحة. فبين المتحقِّق التاريخي والخيال الشخصي المجنَّح ثمة أواصر يسهر عليها منطق التاريخ. يؤوِّل مشيل فوكو التاريخ كما لو كان قصة أو مشهدًا. يبنيه مثلما يبني الفنان لوحة أو تمثالًا أو تشكيلية فنية. ولهذا لم يكن فوكو بنيويًّا بالمعنى الذي أُسقط عليه … وربما لذلك — أيضًا — تحررت كتاباته من موت الذات؛ لأنها ظلت تكتب العالم كما لو كان لوحة أو رواية.
أستعيد إذن مشيل فوكو ومعه أستعيد، في عالمنا «الفكري» العربي، ما يشبه القحط. إنها تلك النبرة التي ظل يكررها عبد الرحمن منيف من رواية لأخرى، تارة عن الهزيمة التي نحملها في مثل الرائحة الأولى التي تنطبع في الذاكرة، كما عن خيباتها التي مرَّت، والأخرى الآتية على الطريق، وتارة أخرى عن «القحط» الذي يلفُّنا، وعن «المسافات الطويلة» وسباقاتها القاتلة. أعني بالقحط هنا انعدام الخصوبة التي تمكن منها المسارب التي تنشأ في جسم الثقافة بين مكوناتها البصرية (الفن) ومكوناتها المجازية (الشعر) ومكوناتها التحليلية (الفكر والفلسفة).
ما كان يخترق ممارسة مشيل فوكو، كان أشبه بقدرٍ فكري لجيلٍ كامل من المفكرين تتلمذنا عليهم: جاك دريدا، في قراءته الضبابية لأحذية فان جوخ، وجيل دولوز في تلاوينه التحليلية لفرانسيس بيكون … فاللوحة، كما القصيدة، كما القصة أو الرواية، تشكِّل سندًا لاستكشافات فكرية، كان لها بالغ الأثر في التحولات الثقافية التي عرفتها العلوم الإنسانية عمومًا. يكفي هنا أن نذكِّر كيف بنى فرويد تحليله الرائع للهذيان والحلم على رواية الكاتب الدنماركي «يانسين» التي تحمل عنوان «غراديفا». وهذه الرواية — كما كاتبها — لم تكن معروفة، وصارت مشهورة، بفضل القراءة التأويلية الفرويدية. ولِنشِر أيضًا إلى كيف بلور تلميذه جاك لاكان تصوُّره للاواعي، الذي يشتغل كبِنية لغوية، انطلاقًا من الاعتماد التحليلي على قصة قصيرة لإدغار ألان بُو بعنوان: «الرسالة المسروقة».
في لوحة فيلاسكيز «الوصيفات» يبدو الفنان الإسباني وهو يرسم الوصيفات على مسافة معيَّنة بينهن وبين اللوحة. هذه المسافة بين منتِج الصورة وبين «الشيء المصوَّر»، هي التي تهمنا هنا لأنها تعبير عن تصورنا للتصوير أو تمثيلنا للتمثيل، بمعناه كإنتاج للصور والتمثُّلات. وبهذا يتم الانتقال من المنظومة الفكرية (الإبستيمي) للمحاكاة التي ظلَّت تحكم نظام التمثيل، إلى منظومة فكرية جديدة ينتِج فيها المتخيل البصري تأويلًا جديدًا للأشياء. ففي هذه اللوحة يُولَد الفنان، كما يولد معه المتفرج، وبالتالي يتوارى الطابع الميتافيزيقي للفن.
ما يهمنا هنا ليس هذا الانتقال في حد ذاته، وإنما الطريقة التي يجعل بها مفكرٌ ومؤرخ وفيلسوف من لوحة فنية منطلقًا لبناء تصور كامل للتحولات التي تخترق الثقافة الغربية. فالفن (لغويًّا أو بصريًّا) صار مترسِّخًا في بنية الثقافة الغربية، إلى درجة صار معها أشبه بالحكمة التي تشكِّل مرجعًا لفكر وثقافة ومتخيل حضارة بكاملها. وهو من ثَم صار متمازجًا بما يعتمل في رحم هذه الثقافة، إلى درجة صار أشبه بمجازاتها وصورها المهاجرة.
في عالمنا العربي ثمة شرخٌ كبير بين الفكر والفن. فمفكِّرونا لا تراهم — في الغالب الأغلب — يتجاوزون حدود حظيرة قلعتهم العتيدة، المبنية على المفاهيم والتحاليل التي يكون صداها أكبر من قيمتها. إنك تحس بعماهم، كما بعجزهم عن إدماج فيلم أو لوحة أو قصيدة أو رواية في تفكيرهم وتحليلهم ونصوصهم، التي تلمع بقحطها الثقافي. والقليل من هؤلاء المفكرين يبنون بعضًا من تحاليلهم على استيحاء هذا المعطى أو ذاك لبلورة منظور معين لحاضرنا أو مستقبلنا.
وحتى لا نسير بعيدًا بافتراضنا هذا، فنتحدث عن الفن العربي الحديث والمعاصر، فيقال لنا إن هذا الفن ليس من التجذر بحيث يشكِّل جزءًا صلبًا من الثقافة العربية الحديثة؛ وحتى لا يتم الاعتراض من البدء على ذلك، هيا نأخذ مثلًا فننا العربي الإسلامي. أين تجد أثًرا لمنمنمة أو منقوشة أو غيرها في كتاب فكري وفلسفي، اللهم إلا إذا كان الكتاب مخصوصًا لهذا الفن، وما أندرها؟
وحسب علمي، وأتمنى أن تكون معرفتي بذلك محدودة، لن تجد غير المفكر عبد الكبير الخطيبي (وبدرجة أقل، الكاتب التونسي عبد الوهاب المؤدب أو أدونيس)، يجعل من الخط أو من عناصر الزخرفة الإسلامية منطلقًا لتفكير الوجود العربي … كما في روايته «رحلة حج فنان عاشق» (٢٠٠٣م). إنه تفكير يجعل من الصورة النابعة من الفن مسارًا وجوديًّا، يغوص عميقًا في صلب الكيان العربي، وهو المسار نفسه الذي ينحته لنا — بشكلٍ مغاير — الروائي التركي أورهان باموق في روايته «اسمي أحمر»، محوِّلًا الفن إلى ملحمة وجودية، ترسم مصيرنا التاريخي، بعيدًا عن كل طهرانية مفتعَلة أو طارئة.
من هذه البؤر الخافتة، تطل علينا رغبة مشيل فوكو، كما لتقول لنا: ليس الفن هامشًا للفكر، الفن واجهة له … فلنتعلمْ كيف نقرأ في ملامحه تجاعيد التاريخ وبسمة المستقبل.