الفن وممكنات السعادة
كثيرًا ما تركني ذكاء المتنبي متأملًا قدرته على رؤية المتناقضات، والإمساك بها، كما في قوله:
أو قوله:
وهكذا لا أزيد إلا تأكدًا من أن المفارقات عصب الوجود، وأن الأدب السهل، المضمَّخ بماء الورد ليس سوى دغدغة للحواس، وأن النهايات السعيدة، في الأفلام والروايات، ليٌّ فظيع ومروع لِعُنق الواقع، وأن الدرامات المفتعلة يتجاوز فيها مستوى الدموع مستوى الفظاعة في الواقع … وهكذا، فكل شيء يعود في صلب المفارقة للمأساوي، حتى الضحك. لكن الضحك أو المضحك ليس سوى تعبير عن الإحساس إزاء شيء ما، سواء كان صورة أو حادثة. إنه تعبير عن حال أكثر مما هو معطًى أخلاقي أو قيمي.
من مدة قصيرة فقط قرأت — باستغرابٍ شديد ومضاعف — بأن أحد البلدان العربية العزيز أهلها على قلبي توجد في أحطِّ مراتب السعادة، طبعًا، حسب معايير منظمة دولية، تقيس السعادة بمقاييس لا يهمنا هنا مدى صدقيتها. وقد علَّمني تكويني الفلسفي من زمن ألا أثق في تعريف القيم، خاصة منها القيم الضبابية، كالسعادة والخير والشر، وغيرها. فتساءلت ما معنى أن نصف شعبًا كاملًا بكونه سعيدًا؟ وما هي علل السعادة وغايتها؟ وهل نكتفي منها بما يتم تداوله في معاجم لاروس وليتري أو لسان العرب والقاموس المحيط، من كون السعادة اكتفاء ورضا وشبع؟
ليس ثمة قيمة من القيم (كالخير والجمال والسعادة، بل وحتى الحرية) تخلو من بعض اللَّبس، بالرغم من الصرامة الفلسفية والفكرية التي صيغت بها. وحين تؤخذ قيمة السعادة — مثلًا — في ذاتها؛ فإنها تغدو مطلقة، لأنها تصاغ انطلاقًا من نموذج مثالي. لكن السعادة قيمة مفارقة. لذلك تمكننا الفنون، كما العلوم الاجتماعية، من الكشف عن الطابع النسبي الذي تتصف به من جهة، ومن جعْلها قيمة مرتبطة بالحسي والإدراكي واليومي والمعيش. وهكذا تكون السعادة وضعية تجمع أضمومة من الحالات، يختلط بها الانتشاء باللذة والمتعة أمام لوحة أو عمل فني آخر، حتى لو كان موضوع هذا العمل الفني مأساويًّا.
كثيرًا ما يُعاب على الفن التصويري، أو غيره، نبْشه في أغوار النفس الإنسانية، ووضعه اليد على الجراح العميقة في الذات، وتقديم الحزن على الفرح، والمأساة على الملهاة. ولا أدل على ذلك من أننا — غالبًا — ما نمرح لما هو مضحك، ونطرب — أحيانًا كثيرة — لما هو شجي ومحزن. لماذا يملك المأساوي هذا الطابع الخارق الذي يتجاوز وعينا ولاوعينا؟
لنستعدْ هنا ما قاله نيتشه في كتاب «العلم المرح»: «كل فن، وكل فلسفة، يمكن اعتبارهما — في الآن نفسه — وسائل حاسمة ملحقة في خدمة الحياة المتنامية والداخلة في صراع؛ فالفن كما الفلسفة، يفترضان — دومًا — الآلام وكائنات تتألم.» طبعًا هذا الألم — حسب نيتشه — يأخذ طابعين؛ إما الألم من فرض الحياة وفيضها، ومن ثَم النزوع الديونيزي للمغالاة، أو البحث في الفن عن ملجأ من قساوة الألم وضيق الحياة … مهما كان الأمر، وتبعًا لهذه الجدلية الخفية، قد تكون السعادة الفنية في المتعة الجمالية الناجمة عن عيش التصوير الفني للألم.
ثمة فيما نبتغي مقاربته أمران: المتعة الجمالية، التي تنبع بالأساس من العمق التأملي للفنان في الكون والطبيعة والحياة، وهو ما يدهشنا أو يمنحنا لذة لا تتخللها أي دغْدغة لحواسنا؛ والمتعة التي يتقاسمها الفنان معنا، بحيث يمكن أن تكون هذه المتعة تراجيدية بطريقة معينة، من خلال الضحك، أو السخرية أو المزاح الأسود القارص.
والجميل في الفن يساير هذا السياق. فمن دون هذا العمق التراجيدي المتجلي، منذ الفن البدائي الذي كان احتفاء بالموتى والأرواح، حتى الفن الحديث والمعاصر، الذي أعاد للفن طابعه الخشن اللصيق بخشونة الطبيعة، مرورًا بالتراجيديا الإغريقية التي تحتفي بحدود القدَر الإنساني (أوديب)، ما كان المسرح الإغريقي أن يصبحَ نموذجًا للمسرح لحد اليوم (حتى وهو يفكِّكه)، وما كان للفن البدائي أن يمنح للفن الخام مكانه في صلب الحداثة الفنية، الدادائية والسريالية وغيرهما … الجميل لم يعد ذلك الجمال النموذجي، بل لم يعد الجميل نموذجًا للفن وللمتعة الفنية (السعادة الفنية إن شئنا)، بل صار القبيح والمشوَّه والشاذ ذا مكانة خاصة في صياغة هوية الفن والمتعة الجمالية.
ربما لهذا السبب لم يعُد الكلام وحده، كما هو الأمر في التحليل النفسي، يهيمن على العلاج النفساني، وصار للعلاج بالصورة وبالفن دور متصاعد في تقويم «الاعوجاج» النفسي للذات الإنسانية. فالفن، وهو يرصد مفارقات الحياة، تلك التي وضع اليد عليها نيتشه، وقبله الرومانسيون الألمان، يكشف عن سيرورة أمراضنا وعلاجها، وعن مصادر ألمنا ومعاناتنا. وفي هذه العملية النبوئية يبني سعادتنا. إنها سعادة غير مطلقة، بل لحظية وزمنية، تتمثل بالأساس، لا في تضميد الجراح والشفاء منها، وإنما في التآلف والتعايش معها، وامتلاك القوة للسيطرة عليها، بل ومعرفتها حسيًّا. وهو أمر يشبه — تقريبًا — ما يحدث في تلك الرواية التي يبني عليها فرويد نظريته في الهذيان والأحلام («لاغراديفا» للروائي السويدي ينسن). فالأركيولوجي نوربير يكتشف في آخر الرواية حبَّه لزميلته في العمل «زووي»، بعد أن ظل يُسقِط ذلك الحب على تمثال من تماثيل مدينة بومباي.
لنكن أكثر وضوحًا، ولنعترفْ أن ليس ثمة من سعادة فنية أو جمالية قابلة للتنظير، بل فقط لحظات وومضات، قد تطول أو تقصر، نعيشها أمام عمل فني ما. وسأعترف لكم — همسًا — أني كنت أحيط نفسي في منزلي بلوحات لفنانين مغاربة وعرب كبار، أحس بوجودي بينها كأني في جنان الخلد. وفي الأيام الأخيرة اكتشفت أعمال فنانة مغمورة تعاطت للتشكيل في أواسط عقدها الخامس، وخلقت عالمًا، فيه من العمق والشفافية الكثير. والحقيقة أني ما إن تقع عيناي على لوحاتها، التي تصاحبني في وحدتي، حتى يغمرني إحساس أشبه بالسكينة الصوفية … ذلك الإحساس هو الذي يمنحه لنا الفن، وهو له منطقه، كما يعترف بذلك جيل دولوز. إنه المنطق الذي يحوِّل العالم الغريب والصاعق لفنان كفرانسيس بيكون إلى فضاء نعيشه ونعبره. وحين نخرج منه، نجد أنفسنا قد صرنا أناسًا جددًا، وأن مأساوية العالم، وجروحه العميقة، هي التي تجعلنا كذلك، فيغمرنا إحساس متجدِّد بالسعادة.