المواطنة والحق في الفن
كيف للفن أن يكون فنًّا مواطنًا؟ وكيف للفنان في ممارسته الفنية، لا في حياته اليومية فقط، أن يكون كذلك؟ وما العلاقة بين مواطنة الفن ومواطنة الفرد؟
إنها أسئلة تتناسل في ضرورتها الراهنة، أكثر من أي وقت مضى، لتضعنا أمام مفارقات عديدة، تتعلق بوضعية الفن في المجتمعات العربية، وعلائقه بمحيطه السياسي والاجتماعي. فإذا كان رجل السياسة يبني مواطنته بالممارسة والخطاب، ويعلن عن ذاته في عزِّ النضال اليومي، من أجل الحرية والمساواة في الحقوق، واحترام حقوق الأقليات والأنواع وما إلى ذلك … فإن الفنان يعيش مواطنته باعتبارها صيرورة لا تفتأ تتحقق، لا في الواقع فقط، وإنما في واقع إنتاج العمل الفني.
لننطلقْ من فرضيَّتين ستمكِّناننا من بلورة مفهوم المواطنة الفنية لدينا بالعلاقة والمقارنة مع مفهوم المواطنة في بلدان الصورة والفن (أعني الغرب). الفرضية الأولى تقول بأن الفن والصورة — عمومًا — كانا، ولا يزالان، في حدود كبيرة، مكبوت الثقافة العربية، ومن ثَم، فإن ممارسة التصوير عمومًا، والتشكيل تخصيصًا، هو ضرب من النضال التاريخي من أجل الحق في الصورة. والثانية تقول بأن الجسد هو صورتنا في الوجود، ومن ثَم كان، وما يزال، محجوب المجتمعات العربية.
بالرغم من أن الصورة وصناعتها قد وجدت مرتعًا أكيدًا في مجتمعاتنا، وتسارعت وتيرة إنتاجها وتداولها وتواصلاتها، فإنها لا تزال تشكِّل إزعاجًا وقلقًا سيتزايد مع ما تعرفه هذه المجتمعات من انكفاء على المصدر الأصولي، وعودة الديني — في شكله السياسي — إلى الحكم في الفترة الأخيرة. كما أننا يمكن أن نعتبر تعامل المجتمعات العربية مع الصورة الاجتماعية للجسد بمثابة محْرار ومقياس لنوعية الارتكاس الذي تعيشه هذه المجتمعات، منذ ما يزيد على عقدين من الزمن. فالترابط بين الصورة والجسد ظل، وسيظل، مدخلًا لتحليل الثقافة الاجتماعية لهذه المجتمعات ونوعية تحولاتها.
وحتى نلامس إطارًا أعمَّ وأكثر ملموسية، نتساءل: أي موقع (موقف) يتخذه الفنان العربي الحديث والمعاصر إزاء قضية مواطنته ومواطنة فنِّه؟
في الفن العربي الحديث، ظلت القضية الفلسطينية، وإلى حدود الثمانينيات، تبلور هذا الهم النضالي من أجل إنسان عربي. وظلت قضية المواطنة رهينة بقضية إنْسية الإنسان، بل إننا لم نعدْ نتحدث عن قضية المواطنة إلا بعد أن استنزفنا قضية الوطنية بكل مدلولاتها ومؤدياتها.
بيد أن المفارقة الأكيدة التي تتبدَّى لنا فيما يسمى فنًّا حديثًا ومعاصرًا هو إما ركوده وانغلاقه، وإما انعزاليته وتجريبيته اللامتحددة، التي تجعل من بُعد المواطنة السياسية بُعدًا شاحبًا في الحالين معًا. فمع أن العديد من التجارب تطرح — بشكلٍ فني رفيع — قضايا المواطنة، فإن هذا الشحوب يظل — في نظرنا — مرتبطًا بهوية هذا الفن وتعددية تعبيراته، بحيث إن السياسي لم يعد يتبلور فيه باعتباره مقْصدًا، وإنما باعتباره مُنتهًى.
لنقلْ بأن ممارسة الفن، بجميع أشكاله في مجتمعنا، تعتبر أصلًا وبدءًا وبداهةً من باب المجاهدة من أجل المواطنة. فالحق في الخبز والكرامة لا يوازيه غير الحق في المتعة الجمالية والإبداع والتعبير البصري. بل أكاد أقول إن الإنسان قد يشبع من الأكل حتى التخمة، فيما يعاني من السقَم في مجال الإبداع والمتعة الجمالية. وربما لهذا السبب بالضبط تُعتبَر ممارسة الفن في بلداننا العربية ضربًا من المواطنة المسْبقة. إنها مواطنة ضمْنية، سابقة على المواطنة في مفهومها المتداول ولاحقة عليها في الآن نفسه.
ونحن نعتبر أن المجتمعات العربية، بالرغم من استهلاكها الكبير للصورة، وإنتاجها لها، لا تزال في العمق مجتمعات غير متصالحة مع التصوير. من ثَم، فما يعتبره البعض ترفًا وكماليات رمْزية، يغدو في المجتمعات المنكِرة للتصوير، ممارسة ضد سلطة الإنكار تلك، مهما كان الشكل الذي تتخذه، عامًّا أو خاصًّا (في حالات تصوير المقدس أو غيره) من جهة؛ وهو يغدو — علاوةً على ذلك — توكيدًا لشرعية الممارسة الفنية، باعتبار هذه الشرعية سابقة على المفهوم اللاهوتي، ولها أبعاد عريقة توازيها في القداسة والعراقة، من جهة أخرى.
لهذا، حين يمارس الفنان العربي إنتاج أعمال ذات حمولة محلية وبُعد عالمي، فهو يبني — في الآن نفسه — مواطنته في بعديْها: المواطنة المحلية والمواطنة العالمية، أي الانتماء الحق لشساعة الكون. وهنا بالضبط يكمن الاختلاف الذي يحظى به الفن عن الممارسات الاجتماعية والفكرية الأخرى؛ فطابعه الرمزي يجعل منتجاته ذات قيمة مزدوجة، وذات علاقة بالزمن لا تتسم باللحظية والراهنية، حتى وهي تقوم — في فحواها — على أحداث ووقائع ومعطيات قابلة للتأريخ زمنيًّا.
إن التصوير لم يحرِّر الإنسان العربي فقط من شبحيته ومن مجهوليته، ومن كونه فقط شخْصًا أي ظلًّا، وإنما حرَّره — ثانيًا — من كونه فاقدًا لذاته. فإذا كان التصوير قد حوَّل نقطة الخلق والإبداع من اللاهوت إلى الناسوت في بدايات القرن الماضي، فهلْ له اليوم أن يكون انخراطًا في مسلسل المواطنة والديمقراطية؟
هذا السؤال يمكِّننا من تحديد العلاقة بين المقْصديات الجمالية والمقصديات الاجتماعية والسياسية، بحيث تكون كل مقصدية جمالية بالضرورة ذات أبعاد اجتماعية وسياسية، مبنية على الخفة والمواربة واللامباشرة، حتى وهي تمارس مواجهةً مباشرة للشروط السياسية والاجتماعية. وعليَّ — من ثَم — أن أقول لأصدقائي الفنانين: ليست المواطنة تتمثل بالضرورة في الانخراط في الحِراكات السياسية، وإن كان الأمر محبَّذًا، ولا في إنتاج «غرنيكات» عربية، وإن كنا نأمل في انخراط الفني في السياسي، وإنما في أن تجعلوا من الفن وطنكم كي تستطيعوا فيه أن تبنوا مواطنتكم، وبعدها يمكننا أن نترقب منكم الباقي.
ولأن الترابط بين مفهومي المواطنة والديمقراطية له شكل العروة الوثقى، فإن الحق في الفن وفي التربية الفنية، والحق في الذاكرة الفنية (المتاحف)، والحق في المتخيل الفني، تبدو أمورًا يتطلبها الفن باعتباره وجودًا ومَزيَّةً. لنلخص كل هذا في مقولة «الحق في الفن» ولنسائلْ هذا الحق باعتباره ذا بُعد مواطن وعلى مدى بعيد.
يمكن البدء بهدم التمييز الكلاسيكي بين ماهية الفن وبين وظيفته؛ لأن اشتغال الأمرين إشكالي وأشد تعقيدًا مما نتصور. فالممارسة الفنية، في وضعية معينة، ومن غير قصْد أحيانًا، تتحوَّل إلى ممارسة مضادة للنظام والسلطة، حتى وإن لم يكن لها أهداف معينة ومحدَّدة تخدمها.
الحق في الفن ليس شعارًا مدنيًّا فحسب، لأنه يفترض أولًا، وبالضرورة، الحديث عن حق آخر هو حق الفن. وحق الفن — باختزالٍ شديدٍ — ليس وضعيته الاعتبارية، وإنما حقه في الوجود بذاته باعتباره مكونًا أساسيًّا في الحياة. أما الحق في الفن فموضوع سياسي بحت؛ لأنه يتصل بحق كل فرد في المتعة الجمالية، بما يتطلبه ذلك من تعليم فني ومتاحف ومعمار فني وفضاءات عمومية تحوي مآثر فنية محلية وعالمية. إن الأمر يتعلق باستثمار استراتيجي يقي المجتمع من الانغلاق والتطرف والإحباط ونكران الصورة والجمال، كما يقيه من الجهل المركَّب.