الفن النظيف بدعة أخلاقية
لستُ من الذين يحنُّون للماضي، ﻟ «السكستيز» و«السيفنتيز»، وما قبلهما، لدعوات سارتر للحرية، ولنغمات بوريس فيان وماريام ماكيبا وجون بيز وبوب ديلان ولماي ١٩٦٨م، وللهيبيز يتجولون شبه عرايا في مدينة الصويرة أو القاهرة، ولوقتٍ كانت فيه مدارس الفنون الجميلة تستعمل الموديلات الحية — أنثوية وذكورية — كي يتعلم طلاب الفنون رسم الجسد … لكن أحيانًا ينتابنا هذا الحنين، حين تتعرض أعمال فنية للتحطيم أو المنع. فنحن جيل عاش المنع والحظر بجميع أشكاله، والقمع والتقتيل من أجل الأفكار وحدها — بشكلٍ بشعٍ — تشهد عليه المذكرات وعدد الشهداء.
في الماضي كانت حرية الفن ذات طابع وبُعدٍ سياسيين، وها هي تصير اليوم كذلك أيضًا، بعد عقود قليلة من الانفراج، لكن هذه المرة ببُعدٍ تاريخي أيضًا.
ليست قضية هذا الفيلم مرتبطة بالسينما فقط، ولا بالفن عمومًا، إنها مسألة تهم مستقبل الفنون في بلداننا العربية والسياسة الثقافية فيها.
من سنوات فقط بدأ — في بعض البلدان العربية — تداول مقولة غريبة، تبدو وكأنها خارجة لتوها من آلة تصبين فائقة الجودة، الأمر يتعلق بمقولة «الفن النظيف». وهي في الحقيقة ليست بمقولة أو مفهوم، يمكننا أن نحدده نظريًّا وفقًا لفرضيات وتحاليل فلسفية أو سوسيولوجية أو أنثروبولوجية أو جمالية. إنه — بالأحرى — شعار سياسي يستهدف إلباس البرقة والحجاب لفن مبني على الرؤية والظهور والإظهار.
وحين تسربت لليوتوب مقاطع جريئة من الفيلم ثارت ضجة وصلت أصداؤها عبر الشبكات الاجتماعية إلى العديد من البلدان العربية الأخرى. وصار الجمهور الشعبوي والطهراني ومصلو الجمعة فقط يبينون عن سكيزوفرينيتهم وهويتهم الضيقة وأخلاقهم الرفيعة، التي لا تميز بين الواقعي وبين الواقع، ولا بين المتخيل الفني والمعيش.
كتب صديقي، الروائي والفنان التشكيلي ماحي بينبين، صاحب الرواية التي استوحى منها فيلم «خيول الله» عن الإرهاب، ما يلي: «إلى متى سنظل نعيش في السكيزوفرينيا وفي الإنكار؟ هل إن صورتنا هي التي تُقرفنا إلى هذا الحدِّ، أم أن موطن الداء أعمق من ذلك؟ هل سنظل نرجم الفنانين الذين يداوون جراح مجتمع عليل، ونقوم بالدسائس ضد الموهبة، هذه الثروة الوطنية التي تُعتبَر سبيل نجاتنا، وضد الحرية التي لأجلها أدى أسلافنا الثمن بدمائهم في زنازين العار؟ هل علينا — نحن المبدعين — أن نشتغل وفوق رءوسنا — دومًا — سيف ديمقليطس؟
هيا يا رقباء الجمعة، وأنتم متوارون خلف حواسيبكم، اكشفوا عن سواعدكم، وهمُّوا بإضرام النار … وليصعد لهيب المحرقة إلى عنان السماء. ولتبسطوا بساطًا أحمر على رماد ثقافتنا المحتضرة ليمرَّ عليه الرجعيون، من كل حدبٍ وصوب. ولتتلفَّعوا بكرامتكم الزائفة، ولتنْتعلوا غُمامتكم، ولْتهيموا في الظلام، فأنتم أهلٌ لذلك» (الترجمة لنا).
لم أكن لتهمني الكتابة في هذا الشأن لو أني لم أعرف المخرج منذ أن أصدر فيلمه الأول، ولو أن أفلامه في غالبها ذات بُعدٍ جمالي وعالمي واضح، ولو أني لم أكتب عن أفلامه من زمن، بل لو أني لم أكن من ضمن كُتَّاب عالميين كالطاهر بن جلون ولوكلزيو الحائز على نوبل، الذين كتبوا عن صوره الفوتوغرافية الرائعة التي عرضها مؤخرًا، وأبانت عن فنان ذي عين بصيرة.
نعيب على نبيل عيوش، الفوتوغرافي والسينمائي، أن يطل من ثقبٍ كبيرٍ ليتابع حياة المومسات بوقاحة عين الكاميرا وأذنها. هل كان شريطه سيكون فنيًّا لو حوَّلهن إلى ملائكة تتكلم بأخلاق الفقهاء؟ أتذكر أني قلت مرة لمحمد شكري: لماذا يركز القراء على «الخبز الحافي»، ولا يشيرون أبدًا لقصتك الرائعة «الفردوس الصغير»؟ إنها قصة تبيِّن عن أن شكري أكثر الكُتَّاب العرب طهرانية، لأنه يحوِّل المومس إلى امرأة طاهرة؛ فتنتهي القصة بطرد البطل والمومس من «الفردوس الصغير» (الحانة) لأنهما يقعان في حب بعضهما، ولا يمارسان المجون، كما طُرِد آدم وحواء من الجنة لعلاقة الحب نفسها.
ما لا يدركه الكثيرون من المتابعين والمتلقين للفن العربي، هو أن التحولات الجمالية والتأويلية التي يعيشها هذا الفن تسير به في طرائق جديدة، تبتغي تجاوز المجازية التقليدية، وصار الفن المعاصر (سواء في الفنون البصرية أو السينما) يخترق الحدود التي رسمها مفهوم الفنون الجميلة التقليدي، لأن البشاعة صارت قيمة فنية وصدْم المتفرج بالمشاهد اللامحتمَلة إحدى طرائق الفن لتحريك وعيه.
كانت البشاعة القصوى طريقة لنقد استغلال الجسد الأنثوي في إشهار الموضة بطريقة تحوِّله إلى أقنوم … إنها طريقة جديدة لكشف النقاب عن الواقع الصارخ. قد تخدش «حياء» الجمهور غير أنها تظل قيمة قصوى لنقد أحوالنا، ففي الدين كما في الفن، ليس ثمة من حياء!