الفن والأضحية
في وقتٍ بدأت تلوح فيه آفاق غامضة للسيطرة السياسية لتيارات سياسية تعتبر أنها تجسيد لروح الإسلام، وفي الوقت الذي صار فيه الإسلام يُختزَل في مبادئ قليلة، لو علم بها المعتزلة والأشاعرة وفلاسفة الإسلام لما صدقوا أنهم في أرض الإسلام، يبدو أن علاقتنا بدينٍ يشكِّل هويتنا التاريخية والحضارية صارت رهانًا تاريخيًّا في الوقت الذي كانت فيه من عقدين أو أكثر فقط رهانًا ثقافيًّا لا أكثر ولا أقل.
من المفارقات التي يلزم أن نعتبرها درسًا يمنحنا إياه التاريخ أن أسلافنا العقلانيين والتحرريين وحتى «التقدميين» منهم في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية كانوا على معرفة بتاريخ الإسلام وبعلومه المتعددة (من تفسير وأصول وبلاغة وفقه وغيرها)، كما كانوا على علمٍ بمحيطه الحضاري والفكري والتاريخي. ولا أدل على ذلك من أن المعتزلة، حتى وهم يسعون إلى منح الدين طابعًا عقلانيًّا بالقول إن معاني القرآن إلهية، وكلماته بشرية كانوا يستلهمون ذلك من تمثل تقليد فلسفي ليس ببعيدٍ عن بلاد العرب، انطلاقًا من معرفة عميقة بمحيطهم الثقافي. كما أن ابن رشد وهو يرسي قواعد للفلسفة الإسلامية ستجعله أشهر مفكر عربي إسلامي في الغرب، سوف يكتب كتابًا ما أحوجنا لتطبيق تعاليمه اليوم يبين عن حاجة الفكر إلى الحرية: فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال.
وأنا أستعيد اليوم هذه الوضعية التي كانت تجعل من المفكر الأكثر تقدمًا وطليعية، أكثرهم وعيًا ومعرفة بالإسلام، أكاد أجازف بالقول بأن هذه المعرفة صارت اليوم أكثر ضرورة، لفهم ما يجري أولًا، ولتفادي أن يغدو المثقف والكاتب والفنان العربي اليوم ضحية جهله بالبعد الثقافي لدينه، قبل أن يكون ضحية الجهاديين الذين لم يأخذوا من الدين سوى جوانبه الحربية الانكفائية والإقصائية.
في هذا السياق يحلو لي أن أتساءل: هل يمكن اعتبار الفن، مثله مثل الفكر والثقافة عمومًا، مجالًا لتملُّك الذاكرة الثقافية، ومن ضمنها الثقافة الإسلامية وحكاياتها المؤسسة؟ لماذا لم يهتم الفن العربي الحديث والمعاصر اهتمامًا جديًّا بالمتخيل البصري وغير البصري الإسلامي؟ ومن ثَم، والمناسبة اليوم تدعونا لذلك، بالميثولوجيات المؤسسة للكثير من شعائره التي لا تزال حاضرة، ومن بينها عيد الأضحى؟
في بدايات القرن الماضي قامت مطبعة المنار بتونس بطباعة مجموعة من الرسوم الرائعة التي رُسمت تحت الزجاج، وتترجم تصورًا بصريًّا لحكاياتٍ شعبية من ضمنها حكايات لها علاقة بالإسلام، كقصة سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل وصورة البراق، وصورة أبي بكر الصديق وهو يخطب في الجموع … وظلت هذه الرسوم تُتداول في المدن العتيقة بالمغرب إلى وقتٍ قريب. وحين كنت صبيًّا في أواخر الستينيات، كانت هذه الرسوم تغذي خيالي العاشق للصور، في المدينة القديمة، تزيدها بهاءً صور كوكب الشرق أم كلثوم وجمال عبد الناصر ومحمد عبد الوهاب والعندليب الأسمر عبد الحليم حافظ … إنها ربِّرتواري البصري في أكثر البلدان العربية إنكارًا للتصوير، وفي مدينة هي فاس، باطنها أشبه بمغارة منغلقة على كنوزها الخفية.
وقبل ذلك، إذا كانت المنمنمات، قد اهتمت بشكلٍ واضحٍ بالكثير من الوقائع التي تجسِّد، بهذا الشكل أو ذاك، العديدَ من الحوادث التي تؤسس للمتخيل الديني الإسلامي، وأشهرها إسراء النبي على البراق، فإن الصورة الوحيدة التي تحضرني لعيد الأضحى هنا، هي تلك التي تنتمي لمجموعة رسوم دار المنار التي تحدثت عنها آنفًا. وهي تمثَّل لرجلٍ ذي شيب ووقار (إبراهيم الخليل) يمسك بسكين يضعه على نحر صبي، وفوقه يظهر ملاك يحمل كبشًا.
على عكس التصوير الشعبي، لم يهتم الفن الحديث كثيرًا بالمرجعيات الدينية والمتخيلة التي تتصل به. وربما كان الطابع الواقعي ثم التجريدي للفن الحديث ولتجاربه المتعددة والمتلاحقة هو الذي جعل المتخيَّل الفني ينبني في معزلٍ عن المتخيَّل الديني وعلى هامشه، خاصة أن علاقة الدين بالتصوير ظلت في العالم العربي بالأخص مشوبة بالمحاذير. مع ذلك، فإن بعض التجارب قد استقت — بشكلٍ أو بآخر — بعضًا من مصادرها الإبداعية من هذا المتخيل، سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.
ولعل أحد أهم هذه الاستيحاءات يتمثل في الطريقة التي بنى بها الفنان المغربي فريد بلكاهية تجربته الفنية على الجلد. وهي تجربة تقوم — تقنيًّا — على استعمال جلد الكبش (الأضحية) سَندًا يعوض القماش، كما يعوض الكبش إسماعيل، وفنيًّا على استخدام المواد الصباغية الطبيعية المتماشية مع هذا السند. كما تحضرني هنا أيضًا تجربة فنانة أخرى هي مريم العلج، اشتغلت منذ بداياتها على لحم الخروف وخاصة على الفخذ المعلق، بحيث تقدم لنا الأضحية في وضعيات وتفاعلات لونية وشكلية متعددة. كما ثمة بعض الفنانين الفطريين وغير الفطريين، كعباس الصلادي، يعيدون تخييل العوالم المتخيلة وصياغتها وفقًا لمنظور إيحائي أو استيحائي.
هذه الاستيحاءات تظل عرَضية، بالرغم من شساعة مجال المتخيل الإسلامي (الجنة، القصص الدينية …). وهو متخيل كان الأدب القديم يمتح منه بحرية كبيرة لا أدل عليها من رسالة الغفران للمعري. بيد أن هذا الاهتمام صار اليوم ذا طابع عالمي؛ بحيث ألْفينا العديد من الأفلام السينمائية تستعيد حكايات أصلية كحكاية الطوفان، وتصوغها بمجموعة من الطرق التي تجعلنا لساعة ونصف نعيش يوم القيامة بطريقة باهرة. إنه الفكر الجديد الذي يسود اليوم بأساطيرياته وبقبائله الجديدة وبتحطيمه لعقلانية الحداثة وعودته للاعقلاني والبدائي.
ولو تساءلنا اليوم: كم من عمل أدبي أو فني عربي حديث استقى مادته الدسمة من مفهوم الجنة الإسلامي؟ قصة واحدة لا يعرفها أحد لإحسان عبد القدوس، وبعض أعمال قليلة لعباس الصلادي … أما مفهوم جهنم فالأمر فيه أعوص، وإن كنا نستطيع أن ندخل فيه كل الأعمال الفنية التي تقارب حدود الممكن والحيوي والإنساني.
مع ذلك يبدو أن ثمة أعمالًا لفنانين شباب تكسر قاعدة الحداثة، وتسعى إلى النهْل من مَعين ينتمي لحضارتنا وسلوكنا اليومي ووعينا ولاوعينا الجمعي. هنا وهناك في ربوع العالم العربي، يسعى الفنانون الشباب إلى تملُّك هذا المتخيل، ومعه التاريخ الذي عليه يقوم حاضرنا. فعمق الفن راهنًا لا يكمن فقط في تقديم رؤى لما هو موجود (الحاضر)، وإنما لما يسكن ذاك الحاضر؛ إذِ الرهان الحالي ليس في تملُّك المستقبل فقط، وإنما في تملُّك الماضي أيضًا.