الغرافيتي فن المقاومة والمواجهة
نخرج أحيانًا من بيوتنا صباحًا فتصادفنا في الشارع رسوم وخربشات تقترب من الرسم كما من التشكيل من غير أن تندرج في مداراتهما. الغرافيتي سليل الرسوم البدائية التي سجَّل فيها الإنسان ما يعاينه، من حيوانات ونباتات محيطة به. إنه انبثاق الرغبة في خلق المرآة التي يرى فيها ما يعيشه يوميًّا، وكأنه يركز، من خلالها، وجوده في الزمن والفضاء.
والحقيقة أن الخربشات على الحائط كانت دومًا مجالًا للتعبير. ففي طفولتنا في المدن العتيقة، كانت الكتابة على الحائط والرسوم تعبيرًا عن صراعٍ حي مع آخر، أو إفشاء للأسرار والمحرمات التي لم يكن التعبير عنها ميسَّرًا. ففي وقتٍ لم تكن فيه الكتابة حظ الجميع كان المتعلمون يشكِّلون من أنفسهم طليعة صبيان الحي، فيصبحون — بشكلٍ أو بآخر — صوتهم الممكن.
انبثق هذا الفن الوليد مع ثقافة «الأندرغراوند» التي سعت إلى امتلاك الفضاء العمومي عنوة للتعبير عن المهمَّش والغامض الملتبَس، وعن أصوات من لا أصوات لهم. والسمة التي تطبع الغرافيتي هي كونه فنًّا مرتجلًا على مساحة محددة من الحائط يمتلك أصحابه أساليبهم الخاصة وألوانهم المميزة، كما كائناتهم المعبِّرة عن مقاصدهم. بدأ الأمر في أنفاق المترو والفضاءات المهمَلة أو الهامشية في المدن الصناعية، ليمتد، في لحظات الأزمات والصراعات، إلى الأماكن النظيفة من المدينة تعبيرًا عن الاحتجاج السياسي أو ردود الفعل عن بؤس السياسات الداخلية أو الخارجية للقوى العظمى.
وإذا كان هذا الفن في البلدان العربية قد ظل محجوبًا نظرًا للسيطرة المحكمة لسلطات هذه البلدان على الفضاء العمومي، فإن تطوره البطيء سيعرف طفرة في السنوات الأخيرة نظرًا لأن الفضاء العمومي صار رهانًا من الرهانات الكبرى للتعبير والتغيير. من ثَم، فإن هذه الممارسة الفنية «القاصرة» (حسب تعبير جيل دولوز) سوف تنمو وتترعرع في حضن المواجهات، وفي اللحظات الحاسمة.
هكذا يمكن اعتبار فلسطين البؤرة التي تبلوَر فيها هذا الفن بشكلٍ ملفت للنظر. فحين عمد المحتل إلى إقامة سور العار، الذي يجاوز سور برلين في مقاصده ومراميه وبنيته، صار هذا الفضاء الممتد مجالًا مرآويًّا للتعبير عن الحنق والغضب والتنديد، كما عن الوجود المحجوز للفلسطينيين في عقر وطنهم. هكذا يستدعي الفضاء الشباب الفلسطيني — يوميًّا — إلى تفجير مكنونات إحساسه البصري كي يوسع أفق عالمه. فهذه الرسوم التي تستوطن الجدار تشكِّل ثقوبًا محتمَلة في الجدار، لا لترى فيما وراءه فقط، ولكن لتؤوِّل وجود الذات والآخر، وتربط بين ما يفصل بينه الجدار. الرسوم تبدو هنا كأنها امتداد للأرض التي تربط بين الطرفين.
هذه الوضعية الثورية هي التي سيعيشها الشباب (فالغرافيتي فن الشباب بامتيازٍ) في بلدان ما عُرف — خطأً — «بالربيع العربي» خاصة بتونس ومصر. ففي تونس، لاحظت في أسفاري التي تلت مباشرة ثورتها، كيف تحوَّل هذا الشعب المغلول إلى شعبٍ يكتسح، بتعبيره الفني، كل الفضاءات التي كانت ممنوعة عليه تعبيريًّا فيما قبل. هكذا تحوَّل الشارع إلى مزيجٍ من التظاهرات الفنية التي تشمل ملصقات الفوتوغرافيا وفن الشارع «الستريت آرت»، والغرافيتي. بل ثمة أيضًا فنانون غير معروفين كانوا يعلقون لوحاتهم في الساحات المعروفة بمدينة تونس، على أعمدة مصابيح الشارع في الغسق. وحين تمر في الغد لا تجد لها أثرًا … ومن بين الأسماء البارزة في هذا المضمار: إينكمان، فاجو، إيسكا وان، مين وان. وقد نظمت المجموعة لها — مؤخرًا بباريس — معرضًا جماعيًّا، مما يمنح لهذا الفن مشروعية في قاعات العرض. وهؤلاء في الغالب متخرجون في مدارس الفنون، تخصص غرافيك وديزاين، مما ينفي عن هذا الفن طابع الانبثاق العفوي، ويمنحه استراتيجية ترغب في توكيد الذات والاختيار؛ بحيث إن المنجزات الفنية في الشارع تتحوَّل إلى صور فوتوغرافية تؤرخ لها وتشهد عليها قبل أن تمحوها عوامل الزمن أو السلطات المحلية. والملاحَظ هنا أن هذه الأسماء تأخذ طابعًا ملغزًا تعبيرًا عن التباس هذا الفن نفسه، وتتشبَّه كثيرًا بأسماء مجموعات الراب والهيب بوب التي تندرج — بشكلٍ أو بآخر — في معمعتها.
وخلال الثورة المصرية، وعلى امتداد الصراع الجماهيري الذي تلاها حول السلطة، عاينت شخصيًّا في شوارع القاهرة، كما في ميدان التحرير، إضافة إلى الشعارات المخطوطة على الحائط انبثاق التعبير. لقد غدا الغرافيتي في مصر فن مقاومة، يحرض ويرسم الشهداء ليخلد ذكراهم، ويتابع — عن كثب — تطور الأحداث في البلد. فأمام خصوبة الأحداث وتقلباتها تكفي القنينات اللونية لكي يمارس الشباب من الفنانين سَوْرة غضبهم على حيطان الشوارع. وتتميز هذه الأعمال بجودة بصرية عالية. فإذا كان الغرافيتي في تونس قريبًا جدًّا من التقنيات الغربية للغرافيتي فإنه هنا أقرب إلى التشكيل المصري وتشخيصيته التليدة.
إذا كانت النيويورك تايمز تخصص جائزة لأفضل غرافيتي في مدينة نيويورك، فإن هذا الفن الذي احتضنته أنفاق مترو المدينة ما لبث أن تعرَّض للمنع في بداية السبعينيات. وهو الأمر نفسه في أنفاق العديد من متروهات المدن الغربية، التي تخضع للتقنين وتخصص فضاءاتها للإشهار التجاري المدرِّ للربح. لكنك، وأنت ترتاد تلك المحطات، تكتشف أن الغرافيتي يشتغل أحيانًا على هذه الملصقات بتشويه صورها، وأخرى بالتعليقات، وأحيانًا ثالثة بجعلها أرضية لمشروع بصري غرافيتي. وكما في الغرب فإن الغرافيتي العربي يتراوح بين «التاغ» و«الغراف» و«الأسلوب الحر»، كما أنه قد يعتمد أيضًا على الكولاج.
لقد بدأ البعد السياسي لهذه الممارسة يتوضح مع ثورات «الربيع» العربي وبعدها في الخيبات التي أفرزتها. وهكذا صار الشباب المنتِج في هذا المضمار يشحذ سكاكين نقده، ويتصدى «للمقدسات» الاجتماعية والسياسية. ففي شهر إبريل (نيسان) ٢٠١٢م، تعرَّض الفنان اللبناني سمعان خوام إلى المحاكمة والسجن لمدة ثلاثة أشهر نظرًا لرسمه جنودًا لبنانين مدججين بالسلاح، تعبيرًا منه عن الحرب الأهلية في البلاد. والمعروف أن لبنان عرفت الغرافيتي قبل العديد من البلدان العربية، وأن بعضًا من فنانيها التشكيليين المعاصرين يبنون مشاريعهم الفنية على جدران العمارات التي هتك عرضَها القنابلُ والرصاصُ منذ أول حرب بالبلاد. ولم يتعرض هذا الفن الوليد فيها من قبل للمنع تشريعًا ونصًّا وفعلًا. بيد أن مشكلة الحرب الطائفية لا تزال في الفضاء العمومي قابلة للزجر.
يبدو أن الغرافيتي، مثله مثل الكاريكاتور، سلاح مقاومة فنية ذو بُعد شعبي وجماهيري وعمومي أكثر من غيره من الفنون، التي يظل أثرها المباشر محدودًا. والفورة التي يعرفها هذا الفن تحرر الفنون البصرية من الانغلاق، وتستثمر جميع مقوماتها البصرية والتشخيصية والخطابية بهدف إنتاج أعمال قد تتعرض للزوال، غير أن آثارها الوجدانية والتحريضية والفكرية توسِّع من أفق الوعي، وتفتح له سموات لم يحلق فيها فنٌّ آخر من قبل.