المثقف والفنان والثورات الموهومة: سيرة المفاجآت
شيء ما يدعونا للقلق. إنه قلق مصيري يجتاح منا الذهن والعقل والقلب. يغزو حياتنا اليومية ليكدرها. شيء أشبه بالإحباط ينخرنا. يدعونا للتساؤل أكثر فأكثر عن أفق الحاضر ومصير المستقبل. فنحن جيل ترعرع في عز الهزيمة، وعاش إحباطات الثورة الفلسطينية، ومعها انهيار الأوهام الكبرى، مع ذلك نحن جيل ظل يتشبث برواسب أوهامه، بحسِّه النقدي وبقدرته على النهوض مع توالي النكبات.
من منا كان يتوقع ما يحدث الآن؟ وحده بطل رواية «حين تركنا الجسر» لعبد الرحمن منيف ظل يقظًا صحبة كلبه وردان: «وردان يا وردان، الدين والسياسة سبب هزيمتنا يا وردان.»
كان الإرهاب فيما مضى ضربًا من البطولة لأن الهدف منه كان إسماع قضية. أو على الأقل، كنا نعتبره كذلك. كان عمليات محدودة لا يكون القتل فيها إلا حدثًا عابرًا، عبارة عن رد فعل محدود عن عمليات تقتيل جماعي في فلسطين والشيلي وغيرهما. لم يكن يتصور أحدٌ أن التقتيل سيصير ممنهجًا باسم هذا الدين أو ذاك أو هذا العرق أو ذاك، إلى أن عشناه في أفغانستان ونيجيريا وسوريا وليبيا والعراق.
حتى أصحاب نظريات صدام الحضارات لم يتوقعوا أن تأكل حضارة نفسها قبل أن تواجه الآخر. الفيروس قاتل لأنه يبدأ بجلدته، إنه يدمر كل ما حواليه.
لهذا باتت تُطرح قضايا يتم العودة إليها بعد أن استهلكها النقاش في العقود الأخيرة من القرن العشرين عن دور المثقف ووظيفة الفن. إنها القضايا المتجددة التي تستعاد للنظر من جديد في حالنا. كم يكفينا إذن من الوقت لنجمع أشلاءنا من جديد، ونقف ونعيد طرح السؤال، بِكرًا، كما لو أنه لم يُطرَح قطُّ.
فيما مضى من العقود كان المثقف والفنان يقفان على أرضية صلبة، أو هي تكاد تكون كذلك. كان إيقاع التحولات بطيئًا يستوعبانه في سريانه، يلهثان وراءه أحيانًا، لكنهما يتمكنان من الإمساك به. لا تهمنا طبيعة الأجوبة التي كانت تُعطى، سواء في راديكاليتها الاستيهامية أم في يقينيتها المعتدَّة بخلفياتها النظرية. بل لا تهمنا هنا كثيرًا مدى وقع تلك الأجوبة في الواقع السياسي والثقافي. كان للمثقف — كما للفنان — صوت ووجود، ومغامرة اتخاذ الموقف بشكلٍ فردي وجمعي.
ليس ثمة فيما أقوله من حنين، بل الكثير من الرغبة في فهم ما يجري.
فيما مضى كانت الثورات تُبنى لسنوات طوال ثم تُجهض في لحظة، أما اليوم فإنها تنطلق كالشرارة لتخبو في وقتٍ طويلٍ … تفاجئ الكل، ومن ضمنهم المثقف والفنان. ينصاعان لفتنتها من غير أن يدركا ما تحمله لهم من المفاجآت. يندهشان لوهجها، ينساقان مع إيقاعها العجِل لاهثين أحيانًا متأملين أخرى. يحاولان قراءة ما أتت به في عفويتها وفي طابعها الشبابي غير المألوف، كما في إيقاعها العنيف تارة والمسالم أخرى.
كيف تفاعل الفنان العربي المعاصر مع هذه الثورات؟ إلى أي حدٍّ رجرجت فيه طمأنينته المفترضة؟
بعض الفنانين الشباب من المكرِّسين جهودهم للأشكال التعبيرية كانوا أقرب إلى حساسية المرحلة. فالفن الإنجازي والإنشائي يمسرح الذات والآخر، ويمنح حركية أكثر لتفاعلات الخارج. إنه أشبه بواقعٍ ثانٍ قادر على امتصاص الإيقاع المتسارع لظاهرة الثورات العربية. لذلك كان التفاعل مباشرًا. بل إن فنون الشارع والغرافيتي صارت ظاهرة قوية، لم نعرف لها مثيلًا فيما مضى. هذه الفنون في تعبيريتها المفتوحة وجدت مرتعًا في انفتاح الفضاء العمومي. والفضاء هذا الذي ظل تحت وصاية الدولة صار فضاءً عموميًّا بالمعنى الكوني.
بيد أن الثورات العربية، ويا للمفارقة، لم تنتج فنًّا ثوريًّا، أي إنها لم تفرز حركة فنية من بين صلبها وترائبها. فما كادت هذه الثورات في أغلبها تنبثق حتى ركبت عليها التيارات الإسلامية المحيقة بحركتها، أو تحوَّلت إلى حروب أهلية بين الثوار والإسلاميين والسلطات المحلية.
في تونس كما في مصر، وبشكلٍ مخالفٍ في سوريا ولبنان وغيرها، سرت الخيبة لتعم العالم العربي. فالفنان أكثر بكثيرٍ من المثقف ما كاد يهضم انفجار الرباع العربية الموهومة حتى اكتشف أنها مثل تماثيل الرمال تتحلل ما إن يصلها موج البحر، أو مثل قصور الورق، هبَّت عليها رياح آتية من مناطق أخرى … حتى الفنانون الأكثر ارتباطًا بقضايا شعوبهم وجدوا أن الصدمة الأولى تلتها صدمات أخرى.
هكذا يمكن اعتبار أن تلك الخيبة ولَّدت مرارة، والمرارة ولَّدت حيرة فنية. لهذا بالضبط يمكن أن نعتبر أن الانسحاب المبكر بل الغياب أحيانًا، جعل الفنان العربي (باعتباره مثقفًا بصريًّا)، يعيش ضربًا من الحيرة العظمى. إنها حيرة ناجمة عن الالتباس الذي عرفه الحراك العربي والتحولات المتسارعة التي طاولته. فبالرغم من أن الثورة في تونس حافظت على توازنها، فإنها لم تفرز — مع ذلك — إلا حصيلة سياسية. أما الحصيلة الاقتصادية فإنها تدهورت بشكلٍ ملموسٍ عما كانت عليه في السابق. أما في ليبيا فإن الأمور أخذت اتجاهات متعددة، لم يعُد معها أي استقرار سياسي. وفي مصر عاد العسكر للحكم فيما يشبه التدخل في المسار الذي آلت له الثورة. والحصيلة الاقتصادية في البلدين معًا لا تخرج عما عرفته تونس.
ثمة شيء أكيد في كل هذا. الفن العربي لم يستبطن ثوراته الفجائية في بداية هذا العقد، ولم يواكبها بما يجعلها تنطبع في تاريخ متخيلنا. بيد أنه تحرر من الكثير من العوالق التي كانت تشده إلى تاريخه. شباب كثر ولدوا فنيًّا مع هذا التاريخ المتشنج، المليء بالمفاجآت. وأغلبهم امتلك جرأة كانت منْحبسة في دواخله، وبعضهم دخل في تجريب ممكناته حتى تستوي في استكشافها للجديد. الوقت صار إذن لتفجير الممكنات والكوامن، وتحويل الخوف من التجديد إلى مغامرة فنية لها مشروعيتها التاريخية.
ونحن نسائل الآن كل هذا، تبقى في ذهننا صور متفرقة، بعضها ضبابي ومشوش، والآخر يلوك اليقينيات الزائفة للماضي. لنقُلها بكل صراحة: إن كان لما يجري من عثرات وتحولات غير واضحة المعالم، من آثارٍ إيجابية على الثقافة والفن في بلدان الوطن العربي، فهي أنها خلخلت الجاهز، وجعلت المثقف والفنان يدرك بأن مفهوم الثورة نفسه صار على المحك، وأن الإبداع الفني مفتوح على أفق التحولات، مهما كانت عواقبها غير محسوبة سلفًا!