المترجم والكاتب والفنان: علاقات مركَّبة
الترجمة كانت ولا تزال السبيل الأكثر ضمانًا لانفتاح أي ثقافة كانت. بل هي الصرح الأشد متانة في بناء جدليات جديدة تخرِج الثقافات من انعزالها وتقوقعها حول هويتها. وإذا كنا نتحدث عن الترجمة عادة بهذا المعنى، فما الذي يربط بين الترجمة والفن عمومًا، والفنون البصرية منها على الأخص؟
تعوَّدنا على النظر إلى الترجمة باعتبارها انتقالًا بين لسانين، ونقلًا للمعنى بين نصَّين، بيد أن الترجمة تتجاوز ذلك بكثيرٍ؛ إذ هي تخترق كل الميادين التي نعيشها ونعايشها. لنتذكر الديوان الرائع لشيخ الصوفية ابن عربي: «ترجمان الأشواق»، كي ندرك أن الترجمة نقل للوجداني إلى اللساني. وكان جاك دريدا قد انتبه جيدًا (في قراءته لفرويد ولفكر هايدغر) إلى أن الترجمة تحويل وتحوُّل، ونقل وانتقال بين العين والأذن، أي بين اللغة والفكر والإحساس.
نحن نمارس الترجمة يوميًّا بشكلٍ يخترق كياننا من الحسي الغامض إلى اللغوي الأقل التباسًا. نسعى — يوميًّا — إلى التعبير عن هواجسنا وهمومنا ومرئيِّنا ومسموعِنا بهذا القدر أو ذاك من الدقة، أو بتهورٍ نكون فيه — أحيانًا — تحت سلطة فورة الأحاسيس، أو بصمتٍ أحيانًا أخرى تعجز فيه اللغة عن الكلام … وفي تواصلنا اليومي نعيش ترجمة أخرى بين لغة الجسد والإشارة، وبين لغة الملفوظات، بحيث كثيرًا ما تكون لغة الجسد أبلغ وإيحاءاتها أكثر فصاحة.
الترجمة أيضًا تتم في ذهننا بين اللغات التي نمتلك، لغتنا «الأم» العربية الدارجة، والعربية «الأب» التي نمارس بها الكتابة، واللغات الأخرى التي نمارس بها التواصل اكتسابًا، من إنجليزية أو فرنسية أو إسبانية وغيرها. وفي ذهننا كمتعلمين ومثقفين، تتضارب الكلمات والتعابير، وتخلق أحيانًا لغة هجينة لها لذة خاصة، وصفها عبد الكبير الخطيبي، في رواية لم تترجم بعدُ للغة العربية، بعنوان «عشق اللسانين».
الترجمة إذن لعبة سخية وجدية ومضيافة، تضعنا أمام مرآة نفسنا، وتجعلنا آخر ذاتنا، كما لنعلنَ عن النقص الفظيع في الآخرية والغيرية، ونجعل من الآخر يسكن لغتنا وفكرنا. الترجمة ضرورة أنطولوجية حين نأخذها في صيغتها العامة التي تخترق وجودنا، وضرورة ثقافية حين نمارسها أو نتلقاها في صيغتها اللسانية. إنها أيضًا ضرورة تتجاوز مبدأ الخيانة والأمانة، لأن لعبتها ماكرة. فهي لا يمكن أن تكون أمينة لأنها امتلاك عاشق للمعنى في لغة الآخر، بل امتلاك للآخر بطريقة نرجسية قد تنسيه في غيريته. كل ترجمة وجيهة امتلاك نرجسي لنص (أي لجسد) الآخر، يمنحها سلطة إلغاء الأصل، وإعادة بعثه وإحيائه. إنها ضيافة من نوعٍ خاص تجعل فكر الآخر يسري في لغتك أنت، بحيث تؤوِّله وتعيد صياغته لتمنحه لسانًا آخر، وكيانًا ليس كيانه ونفَسًا ليس هو نفَسه. الترجمة تجعل لغة الآخر تعتنق لغة مغايرة، تهاجر إليها، وتستنبت نفسها فيها، لتصير منها، من لحمها ودمها.
تشتغل الترجمة في الفنون البصرية بثلاث طرائق ووفْقًا لثلاث عمليات: ترجمة المرئي واللامرئي إلى لغة بصرية ناجزة عبر التأويل والتحويل والنقل، وفقًا لمعطيات وحساسيات واستراتيجيات تساهم في بلورة العمل الفني. والترجمة التي تخص المعارف النظرية والجمالية من لغات أخرى إلى اللغة العربية، والترجمة الأخيرة التي تخص الكتابة التحليلية والنقدية للنص البصري في النص اللغوي المكتوب.
إذا كانت الترجمة الأولى لا تهمنا مباشرة لأننا نحاول دومًا استعادتها في كتاباتنا التحليلية والنقدية، فإن السبيلين الآخرين يدخلان في صلب موضوعنا.
لنسمح لأنفسنا بالقول بأن ثمة تضخمًا فظيعًا في ترجمة كتب النظريات النقدية والتحليل اللساني والنقدي والبنيوي، ما جعل نقاد الأدب في العالم العربي أكثر عددًا من الأدباء أنفسهم. هذا التضخم جاء على حساب ترجمة كتب الجماليات (ربما لتعقدها الفلسفي)، وخاصة منها الحديثة والمعاصرة، والمؤلفات الخاصة بالفنانين والقضايا التي تخص الفنون التشكيلية والبصرية. قد يعود أحد المعوقات في هذا الإطار لكون الكثير من المصنفات عن الفن والفنانين عبارة عن كتب نفيسة وفاخرة، وأن أغلب ما يُكتَب عن الفن يتضمن صورًا، مما يثبط عزيمة المترجمين والناشرين معًا نظرًا لكلفتها الباهظة، ولصعوبة تسويق كتب من قبيل هذه. بيد أن وراء الأكمة ما وراءها. فما يُكتب عن الفن كثيرًا ما يُقرأ بلغته الأصلية، وكثيرًا أيضًا ما يشل عزيمة المترجمين، وأغلبهم متخصص في كل شيء إلا في الفن. ثم إن الفنون لا تزال في عالمنا العربي مسألة نخبة، ولغتها صعبة مشاكسة ومليئة بالمفردات التي يصعب ترجمتها والتعابير التي يعسر صياغتها في لغة الضاد.
ولهذا السبب قد نجد مترجمين متخصصين كثيرًا في كل الميادين عدا الترجمة الفنية. وهو الأمر الذي يجعل من ترجمة المصطلحات الفنية يخضع لاعتباط كبير أو، في أحسن الأحوال، يتم تعريبه وكأن لغة الضاد فقيرة لهذا الحد، والاشتقاق فيها عاجز عن نحت مصطلحات مقنعة. لذلك تجد الناس يستعملون مصطلح «أنستليشن» و«برفورمانس»، أو في أحسن الأحوال يستعملون اصطلاحات مضطربة مقابلة لها، كالتنصيب (في الفضاء) للمصطلح الأول، أو الأداء والإنجاز مقابلًا للثاني. ومن سنوات اقترحنا مقابلًا بدأ يجد مجال تداوله للمصطلحين: المنشأة (الفنية) مقابلًا ﻟ «الأنستليشن»، استيحاء للآية الكريمة وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ …، وعلى وزنها صغنا كلمة «منجزة» (نظيرًا للبرفورمانس)، محاولةً منا لتجاوز كلمة «تنصيب» التي قد تُطلَق أيضًا على تنصيب رئيس جمهورية أو ما شابهه، أو كلمة إنجاز التي يمكن استعمالها في كل شأن من شئون الحياة، وكلمة أداء التي تنطبق على الأغنية والمسرح وغيرهما.
بعيدًا عن هذا المجال الاصطلاحي تمكِّن الترجمة المتخصصة من تجاوز فقرنا اللغوي في مجال الأدوات والمواد والتقنيات، بل أساسًا إسقاط اللغة الأدبية على لغة التحليل الفني، كالحديث عن العبارة الفنية والجملة التشكيلية ونحْوِ اللوحة أو بلاغتها، الأمر الذي يعقد مقاربة الفني، لأن هذه التعابير والمفردات كلها تكون على سبيل المجاز، في مجال نتحدث عنه باللغة، فيما مكوناته ذات طابع بصري. هنا بالضبط تدخل الترجمة في مفهومها الثالث، لنلاحظْ أن الكثير الجمَّ مما يُكتب عن الفنون البصرية لدينا يقوم كثيرًا بترجمة حرفية لبنية العمل الفني، أو في أحسن الأحوال بترجمة انتقائية من المرئي للمكتوب، مما ينجم عنه إخلال بالطبيعة المركبة للعمل الفني. والحال أن هذا الانتقال من المرئي البصري إلى المكتوب يتطلب تأويلًا مضاعفًا وذكاءً بصريًّا نافذًا وترجمة مركَّبة، أي كتابة تغني العمل الفني وتمنحه من معناها.