رهان العلامة والحروفية ومأزق الهوية
ونحن نرتاد الكثير من المعارض، هنا وهناك، في العالم العربي، يفاجئنا هذا الهوس بالحرف والعلامة الذي يأخذ باختيارات عدد كبير من الفنانين الشباب، وخاصة ببلدان عربية معينة تعيش مرحلة تأسيس الهوية الوطنية. لقد صار ما يُعرَف بالحروفية أشبه بحصان طروادة لاصطياد الهوية في مرتعها الأكثر بساطة ومطواعية، أعني التقاليد ذات المرجعية الإسلامية والإثنولوجية. بل سار هذا الجموح ببعض الهيئات إلى تمييز الحروفية عن الفن التشكيلي في المسابقات الوطنية التي تقوم بها، فصرنا نراهم يرمون في القفة نفسها فنون الخط أو الكاليغرافيا والمعالجة الفنية التشكيلية لهذا الفن.
أما في البلدان العربية التي تحتضن قوميات وأعراقًا مختلفة، كما هو الحال مثلًا في الجزائر والمغرب وإلى حدٍّ ما تونس، فإن استكشاف اللغة الأمازيغية العتيقة المعروفة صار مطية لدى أغلب الفنانين الشباب لاستنهاض وَهْم هوية تمنح نفسها لهم مباشرة، في اللغة وفي الكتابة والرموز المتداولة.
يعيش الفن العربي إذن ارتجاجات كبرى في الهوية، وفي البحث عنها، بالقدر الذي يعيش الارتجاجات نفسها في مجال البحث عن الجديد وسلوك سبل التجدُّد. وإذا كانت قضايا الهوية لم تكن مطروحة بالحدة نفسها في بدايات القرن، باعتبار جدة عوالم التصوير في عالمنا العربي، فإن الخمسينيات كانت منطلقًا لسؤال الهوية العربية والقومية. لقد جاء ذلك بالموازاة الحثيثة مع المد القومي، ومع صعود الطبقة المتوسطة إلى السلطة، كما بالعلاقة مع هواجسها ومآربها السياسية والثقافية.
لا يهمنا هنا الرجوع إلى تأصيل هذه التجربة الجديدة في العراق في الخمسينيات، بقدر ما يهمنا وضع الإصبع على الحركية التي خلقتها مجموعة البعد الواحد في العراق من جهة، ومجموعة أوشام بالجزائر، وتجربة أحمد الشرقاوي وفريد بلكاهية بالمغرب. إنها تجارب تنتمي كلها للستينيات والسبعينيات، أي لمرحلة تحولات في الهوية السياسية والاجتماعية والبصرية للإنسان في الوطن العربي. وهي أيضًا تجارب اجترحت لنفسها مسارات لصيقة بالهموم الكبرى لإنسان ما بعد الهزيمة، أي لكائن عربي سقطت أحلامه وأوهامه في مستنقع التبديد.
لا مراء أن هذه العودة للعلامة وللحرف العربي والأمازيغي كانت في حينها طفرة مزدوجة: فهي جاءت لمكافحة التصوير الاستشراقي المبني على الغرائبية وعلى تجسيم الجسد، والمطابقة بين تصوير الذات والآخر، اللهم إلا تجربتيْ ماتيس بطنجة وبول كلي بتونس. وهي انتحتْ — مباشرة وبدون مواربة — جانب التجريد. والحقيقة أن التجريد في العالم العربي لم يكن وليدًا لانتهاج توظيف العلامة والرمز والحرف؛ فقد كان العديدون قد باشروا هذا المنحى منذ بداية الخمسينيات (لعل أشهرهم وأشدهم أصالة شفيق عبود والجيلالي الغرباوي).
من ثمَّ يمكننا اعتبار هذا الازدواج المتمثل في التصوير التعبيري الشكلاني والغنائي، وفي التعبير الحروفي والعلامي والرمزي، مسارين للتعبير عن قضية الهوية. فالاتجاه الأول الذي يَعتبر الهوية قضية باطنية جوانية تتفاعل مع العالم الخارجي بالحس والحواس ظلَّ على هامش التعبير الهوياني (إن صح التعبير) واعتبر — بشكلٍ ضمني — أن هوية الفن لا تتسم باختيار موضوعات وعناصر خارجة عن ذات الفنان بقدر، بل تتمثل بالأحرى في صياغة وجدانية للعالم ولمفارقاته كما لمأساة الوجود.
أما الاتجاه الثاني فإن مبدأ الهوية ظل يخترقه حتى حين سعى روَّاده إلى تجاوزه. ويمكن اعتبار عمل وتنظيرات شاكر حسن، كما أعمال وتنظيرات محمد خدة وأعمال أحمد الشرقاوي وسعيد عقل وبلخوجة، تجارب رائدة وشبه نهائية، استنفدت مفهومي العلامة والحرف، وكادت تكون بداية ونهاية لهذه التجربة.
ففي الوقت الذي تطور فيه الاتجاه الغنائي والتعبيري، ومنحنا أسماء مبدعة ومبتكِرة في مجال ارتياد عوالم النفس والعالم، لم يستطع اتجاه العلامة والرمز والحرف أن يفرز لنا امتدادًا أكيدًا وإبداعيًّا إلا فيما ندر، مع كمال بلاطة ونجا مهداوي على سبيل التمثيل. إن هذا يعني أن مسألة الهوية لا تأخذ في الفن الصيغ نفسها التي تأخذها في المجتمع والسياسة. فالهوية الفنية ذات طابع جمالي أكثر منها ذات طابع سياسي أو اجتماعي أو تاريخي. وحين تآلفت الحروفية مع فن الخط الإسلامي سواء في جماليته الزخرفية أو في بُعده الصوفي، وحين استوحى فن العلامة الطابع التجريدي للفن الإسلامي والشعبي المحلي على حدٍّ سواء، كان ذلك أشبه باستكشاف. بيد أن هذا النهل كان من القوة والحيوية والجدة بحيث نضب المعين أو كاد.
إن قوة تجارب الرواد المذكورين وبعضٍ ممن تلاهم جعلت تجربة الحرف والعلامة تجربة فريدة ووحيدة، لا يمكن أن يعمِّقها إلا من أدرك بعضًا من مواطن خفوتها. بيد أن هذه القوة وتلك الفرادة آتية أيضًا من التحولات نفسها في مفهوم الهوية السياسية والاجتماعية والتاريخية. ذلك أن مفاهيم الاختلاف والتعدد والتنوع الثقافي جاءت لتجاوز مجاوزة أكيدة مفهوم الهوية في أحاديته. وصار ذلك أشبه بالمسرح الذي تلعب فيه اللغة والحرف والعنصر الإسلامي أو العربي أدوارًا محدودة. من ثَم، فإن تقويض مفهوم الهوية التقليدي كان وراء انفتاح الفن العربي على آفاق جديدة من التنوع والتجدد، ما جعل الحروفية — راهنًا — دعوة لا تستجيب لانفتاح المرحلة وزخمها وتحمل حدودها.
لا يكمن هذا الخفوت القوي وهذا الالتباس في الحركة إذن في الحرف أو في العلامة نفسها فقط، بل أيضًا في تحول الحروفية إلى نزعة أيديولوجية، وفي تحول نهج العلامة إلى اجترار للمرئي البصري الإسلامي والشعبي.
مع ذلك، وفي ظل تنامي التشخيصية بمختلف أشكالها غير المحاكاتية، أو الكلاسيكية، صرنا نلحظ عودة الكثير من الفنانين للرسم، ومنحه طابع الصدارة في أعمالهم. كما صار الخط يأخذ أبعادًا جديدة في المنشآت الفنية، وفي الأعمال المعاصرة، متحررًا من بُعده الهوياني القديم ليندرج بالأخص في علاقة جديدة مع الذات والهوية البصرية.
يبدو إذن أن أفول الحروفية والعلامة لم يكن أبدًا يعني أفول إمكانية ابتكار العلامة والحرف من جديد. فالعلامات ذات بُعدٍ رمزي وروحاني، لا تمتلكه الكثير من العناصر المرئية الأخرى. غير أن طابعها المشفَّر يجعلها عصية على الاستعمال والتوظيف، ويجعل مرجعيتها ذات سلطة آسرة. ومع ذلك استطاع العديد من الفنانين المعاصرين تحري الخط من بُعده الأحادي ليغدو هندسة جديدة للوجود والمعنى (كمال بلاطة)، وتحولات جمالية محضة أو موسيقية (نجا مهداوي). بيد أن الخط لدى الفنانين المجددين، من قبيل منير الفاطمي، يغدو معنًى أكثر من كونه حلة تزيينية. إنه يجسد الذاكرة كما يجسد قسوة الوجود. وهكذا يتحرر الحرف من حرفيته ليغدو مجازًا لكينونة جديدة. بل إنه يؤخذ مرة أخرى — حرفيًّا — ليعني الحدَّ القاصم الحاد الذي يشكِّل أحبولة تعري مأساوية الوضع الراهن.