المشغل مغارة الإبداع الخصبة
للعمل الفني سطوة على النفس، سواء كان يمثِّل الطبيعي أو البشري، وسواء كان بورتريهًا أو مشهدًا، سواء كان تجريدًا أو تشخيصًا، وسواء كان مزيجًا منهما، بل سواء كان ما يقترحه على مرآنا جميلًا بالمقاييس المتداوَلة أم بشعًا بالمعنى نفسه. لكن والعمل قد اكتمل، وتم إنجازه غالبًا ما لا نفكر في سيرورة تكوينه، أي في الطريقة التي بها وصل إلينا في اكتماله، أم في عدم اكتماله القصدي. بل إننا غالبًا ما لا نعرف شيئًا عن حياة ومعاناة الفنان الذي أنتجه. والحال أن سيرورة تكوُّن العمل الفني كما حياة صاحبه تكونان من الثراء ومن الحيوية والتعقد والمفاجآت والتعرجات ما يجعلها أحيانًا أشد غنًى من العمل الفني نفسه، تضيف إليه من مكنوناتها وتضيء بعض ما غمض منه.
لن أشير هنا في هذا المضمار إلا لحيوات البعض ولمعاناتهم الوجودية ولفرادتهم الإبداعية: فان جوخ وبايكون وجياكوميتي … وحين كتب جان جونيه عن مشغل جياكوميتي أدرك أن العالم الذي يبدعه الفنان لصيقٌ بعناصر المكان وأجوائه. وأن ثمة تناغمًا وجوديًّا بين رحم الإبداع وكائناته التي تنبثق منه بين الجرح الذي يحمله الفنان ورغباته الدفينة.
وأنا ما زلت أتلمس طريقي في الكتابة عن الفن التشكيلي في أواسط التسعينيات، قال لي عبد الكبير الخطيبي: «إننا نتعلم الكثير من مراسم ومشاغل الفنانين». ولم أدرك ذلك جيدًا إلا حين ارتدت مرارًا مشاغل فنانين كبار بالمغرب كفريد بلكاهية ومحمد القاسمي وفؤاد بلامين وحسان بورقية، ومن العرب يوسف أحمد وعبد الرزاق الساحلي … أسمي هذه الفضاءات التي تتنفس الإبداع ونتنفسها فيه: مغارة الإبداع ورحِمه. إنها تزخر بالحكايات والوحدة القاتلة والمعاناة والألم. المشغل مرآة يرى فيها الفنان نفسه، وهو يجهد ويصارع كي يتولَّد من يديه عملٌ نتلقاه ببساطة المعاين المشاهِد.
نشأت الصورة أو العمل التصويري، كما يحكي بلاين القديم، من خيال الحبيب الغائب المرسوم على الجدار. ومن ثَم كان أصل العمل استحضارًا للغائب يجرِّده من حسيَّته. كانت الصورة عبارة عن شبحٍ، ومن ثَم كان أصل الفن تجريديًّا، غير أنه كان استحضاريًّا. وهذه الوظيفة ما زالت تخترق العمل الفني. فمغارة الإبداع المنعزلة تستحضر الذات والعالم الخارجي، بل إنها تستنفر الذات لتحوِّلها إلى شلال مرئي ينهل منه الفنان. لهذا يمكننا أن نعرف، أو على الأقل أن نستشف مدى قوة الأعمال الفنية لفنانٍ ما من الطريقة التي يشتغل بها. ومن أنواع الخامات والمواد والحوامل التي يستعملها.
فضاء المشغل جزء من العملية الإبداعية لأنه يحتضن أسرار اللعبة الفنية. إنه المسرح الباطن للفنان، يعرفه بكامل تفاصيله، ويحبه بكامل جوارحه، ويسكن إليه في عز الحيرة الإبداعية. منه يستمد قوته الإلهامية، وفيه يفجر مكنوناته التعبيرية. لهذا تدب في المشاغل حركة الحكايات التي تحتضنها، وأسرار لحظات اليأس والإحباط، والسؤال الحارق الذي يعيشه الفنان في غيبة الآخرين. فتوحُّده ذو طابع أنطولوجي لأنه الشرط الذي يجعله يستمد الطاقة المبدعة من الكون ومن أحشائه.
وبما أن فضاء المشغل يعتبر جزءًا من حياة الفنان فإنه — بشكلٍ أو بآخر — يشكِّل عصارتها الوجودية. وبين المعطيين الإبداعيين ضربٌ من التواشج بحيث تنساب الحياة في المشغل وعلى صفحة العمل الفني مهما كانت طبيعتها، كما على شاشة الحلم. فإذا كانت الحياة الشخصية للفنان مطبوعة بالمأساوية والمفارقات وبالإحباط، وفي أحيان أخرى بالكآبة والانفصام فإن هذا الطابع المأساوي يظل لصيقًا بالبشرة الذهنية للفنان ليعبِّر عن وجوده في الفاصل الواصل ما بين الواقع والحلم (وهو ما شكَّل التجربة الرومانسية الألمانية في فرادتها وعمقها، بعيدًا عن الطابع السطحي للرومانسية الفرنسية)، وبين الرغبة الغنية التي تحملها الذات من جهة وشح الواقع وقصوره. بهذا المعنى يكون المأساوي هو المسار التكويني للعمل الفني من حيث إنه يشكِّل البركان الذي يفجر الإبداع. وهو الأمر الذي يجعل من رغبات الفنان وأحلامه عالمًا أشد شساعة وعمقًا من العالم الواقعي المحيط به، ذلك العالم الذي وصفه روني جيرار بأنه عالم منحط، ووصفه هايدغر بأنه عالم مطبوع بالاختلاف بين الوجود العام والوجود الفردي.
في وقت ما من نهاية القرن الماضي، طلب مني أحد الفنانين أن أشير عليه باسم صحفي يساعده في كتابة سيرته الذاتية والفنية. عامًا بعد ذلك أتاني فرحًا بالمخطوط. قرأت بعجالة السيرة فوجدت أسلوب الصحفي أكثر متعة من مضمون السيرة. كان سيرة هذا الشخص لا تحوي أي شيء عن معاناته، ولا عن لقاءاته، ولا عن الجو السياسي والتحولات التي عايشها، لسببٍ بسيطٍ أنه ليس لديه ما يحكيه. حينها أدركت لمَ كانت أعماله فارغة وطنانة كطبلٍ، ولمَ طغى عليها الطابع الزخرفي التنميقي، ولم أحس أمامها أبدًا بعمقٍ يشدني إليها.
بيد أن مفهوم المرسم أو المشغل قد صار مع التحولات الجديدة للفنون البصرية فضاء مغايرًا. فهو في المنجزات الفنية فضاء مسرحي قد يكون أي مكان، بل قد يكون فضاء الإبداع هو فضاء العرض. وهو في فن الفيديو شاشة الحاسوب ومناطق التصوير. وبهذا المعنى، فإن الفضاء القار صار فضاء محمولًا مثله مثل الحاسوب والهاتف. ومع ذلك يظل لكل فنان، مهما كان تشتت مواطن إنتاجه للعمل الفني، علاقة بمشغلٍ ما، وبأمكنة رمزية يرتكن فيها الفكر والجسد للإبداع.
يغدو تكوين العمل الفني وحكاية إبداعه جزءًا لا يتجزأ من هذا العمل. إنه بالأحرى قطعة من حياة الفنان ومجالٌ تتفجر فيه طاقة الخلق، بل تتبركن فيه أحيانًا مخلفة الكثير من الندوب والجروح … وبذلك تكون حياة الفنان تلك الحكاية الكبرى التي تتجسد في حكايات أخرى عبر إنتاج كل عمل فني، فهي تعبُرها وتتخلَّلها وتعبِّر عنها.
حين يطلب منك أحد أن تكتب نصًّا لكاتالوغه، يبعث لك بالصور معتقدًا أن ذلك يكفي. والحال أن صورة العمل الفني، خصوصًا إذا كان مجسمًا لا يمكن أن تفي بالغرض لأنها محكومة بزاوية النظر والنور، وما إلى ذلك. وحين تطلب منه رؤية اللوحات أو الأعمال عيانيًّا قد يندهش. فكما أن اليد التي صنعت العمل الفني تتلطخ بالمواد والأصباغ كذلك عين الناقد أو الكاتب؛ إذ هي حين تقع على العمل الفني ترجُّ الجسد بكامله، فترى يد الناقد تتحسس العمل، وتراوده عن نفسه، وتستمد من تضاريسه منافذ للتأويل. وفي المشغل تبدو تلك الأعمال مثل وليد تريد أن تتلمسه بيدك وتحضنه وتقبِّله وتتحسس بشرته … أو مثل فتاة عروس تتهيأ للخروج إلى العالم … إنها علاقة عاشقة يمنحها المشغل فتنة لا تقل متعتها عن متعة الإبداع.