برازخ الفن أو عدوى الانتقال من صيغة لأخرى
يحدث أن يفاجئنا فنان أو فنانة ممن نعرفهم بالانتقال من الاشتغال على أسندة وحوامل معروفة، تتمثَّل في اللوحة، إلى فن المنشأة أو الفيديو أو المنجزة الفنية. إنه انتقال لا تبرره — أحيانًا — أي صيغة، ولا تشير إليه أي علامة مبشِّرة به في المسير التشكيلي للفنان. قد يكون هذا الانتقال عبارة عن نزوة عابرة، يحس فيها الفنان بضربٍ من الانحباس، أو يكون عبارة عن فتنة يتم فيها تجريب ممكنات جديدة تجعله يحس أنه أيضًا بإمكانه أن يمارس الفن المعاصر بالكثير الأكثر من الحماس.
والحقيقة أن ما يحاط به الفنانون المعاصرون، الشباب منهم بالأخص، من اهتمامٍ وعناية الهيئات الفنية الدولية، والبينالات المعاصرة، سواء في العالم العربي أو أفريقيا أو أوروبا، قد يثير «غيرة» الفنانين «اللوحتيِّين»، مما يجعلهم يخوضون غمار المغامرة الجديدة بهذا القدر أو ذاك من الاقتناع، وبهذا الحجم أو ذلك من الإبداع. يجد الفنان نفسه أمام عوالم جديدة لا يشكِّل فيها اللون ولا الفرشاة ولا المواد المخلوطة ذلك الحظ من الاهتمام. هنا يصير الضوء والعناصر المصنوعة والشاشة والعناصر المستعادة وجدلية الفضاء المفتوح … هي سيدة الموقف. تنقلب المعطيات رأسًا على عقب، ويصير المعنى «البسيط» الذي تعتمده اللوحة في إبراز فرادتها ضربًا من الحالة «البدائية»، التي قد تحيلنا إلى رسوم مغارات لاسكو.
كيف يمكن لتجربة الفنان الطويلة في فضاء مغلق خبَر دروبه وشعابه، وتمكَّن فيه من تقنيات يصعب التخلي عنها، ومارس فيه انزياحات وتحولات صارت أشبه لديه بالتوقيع الذي يعسر الانفلات منه، كيف يمكن له التخلي عن كل هذا فجأة للانغماس في مغامرة غير محمودة العواقب؟ لكن يبدو لنا أن الأمر ليس بهذه البساطة … صحيح أن بعض الفنانين ينصاعون للفتنة التي تمارسها طرائق الإبداع المعاصرة، مستسهلين عوالمها المركبة، وصحيح أيضًا أن بعضهم يجد نفسه مبتدئًا في الميدان، يُسقِط عليه معارفه وخبراته السابقة فيبدو الأمر مصطنعًا.
يحدث هذا، وكثيرًا ما نفاجأ بأن هذا التحرر من سلطة اللوحة يحمل معه أشياء جديدة، ملفتة للنظر، تزج بتجربة الفنان المعني في حساسية جديدة، تفجر مكامنه، وتخرج للسطح أشياء كثيرة تفتقت عنها مغامرة الخروج هذه. وكأن اللوحة والمواد المستعملة فيها كانت تكبت فيه ما يعتمل في بواطنه، أو ما يحمله في جسده وأنامله وعينيه من زخم، فجَّره الفضاء الجديد كالبركان.
لقد حمل الفن المعاصر معه (منذ مبولة مارسيل دوشان) من السجال ومن المناوشات ما جعل تلقيه يتسم بردود أفعال متباينة. وإذا كان الخروج عن اللوحة (ومنها) سِمة القرن العشرين، فإن النقاش النظري لم يأخذ طابعًا إشكاليًّا إلا في أواخر تسعينيات القرن الماضي. فقد بدأ هذا النقاش في فرنسا — مثلًا — على صفحات مجلة «إيسبري»، وصار الحديث عن أزمة الفن المعاصر يتخذ صبغة جادة تجاوزت بكثيرٍ الرفض الضمني الذي كان معروفًا لدى المدافعين عن تاريخية اللوحة المتعالي. هكذا توالت الكتب والتدخلات معلنة تارة عن أزمة جنينية، وأخرى عن الطابع «الغازي» المتبدِّد للفن المعاصر.
بيد أن الأمر ليس كونيًّا، أو على الأقل هذا ما يبدو لي شخصيًّا. فما قد يكون تطورًا ملغومًا في منطقة ما قد تكون له آثار مغايرة في منطقة أخرى، بحسب التفاوت التاريخي بين الثقافتين. ونعني هنا بالتفاوت التاريخي علاقة العالم العربي بالصورة وبالفن. نحن أمام مجالين متعارضين في تباينهما التاريخي. فمقابل وفرة الصور ومركزيتها في العلاقات الدينية والاجتماعية في الغرب، على الأقل منذ مجمع نيتشي في القرن التاسع للميلاد، نجد أنفسنا في العالم العربي إما مجتمعات منكِرة للتصوير، وإما محرمة له تحريمًا قاطعًا في بعض منها.
ويبدو أن الفن المعاصر في الغرب جاء استجابة لتطورات عديدة استنفد فيها المجتمع المبني على التقنية والرأسمال والسوق بعضًا من ممكنات وجوده الأولى. وهكذا صار الفن المعاصر، بشكلٍ أو بآخر، بحثًا عن أشكال جديدة لإدماج الفن في اليومي، وفي الفضاء العمومي، وفي الجسد الشخصي أيضًا. والحال أن هذه العودة للبدائي وللعمومي التي جاء بها «ما بعد الحداثة» في الغرب (الذي فقد بدائيته وثقافته ومتخيله الشعبي من زمان، كما صرح بذلك رولان بارث لعبد الكبير الخطيبي) غير مطروحة بالشكل نفسه في ربوع العالم العربي. فشعوب هذا العالم يتعايش فيها — بالإيقاعات نفسها — البدائي و«الإقطاعي» والحديث وما بعد الحداثي.
ثمة في مطارح هياكل السيارات المستعمَلة، وفي أزقة المدن العتيقة بمراكش أو دمشق أو القاهرة أو تونس أو ساحاتها، ما يمكن أن يشكِّل أروع المنشآت والمنجزات التي نصادفها يوميًّا. لو اقتُطِعت ووقَّعها فنان لكانت روائع فنية معاصرة، قد تفوق ما يقترحه علينا العديد من الفنانين المعاصرين لدينا. ثمة متخيَّل يومي وشعبي وسلوك وابتكارات كثيرًا ما تثير دهشتنا، ولو استوحاها شبابنا من الفنانين الموجهين بصرهم لغير ما يحيط بهم لكان في ذلك ما يمكن من منح هوية بصرية لأعمالهم، التي تأخذ لها — نموذجًا — فنونًا تبعد عنهم (مع أنها هي على الأقل تستوحي ما يحيط بها).
إذا كان من ميزة، بل من مَزيَّة، للانتقال لأسندة جديدة في العالم العربي، فهو ما أباحه وما زال يبيحه من حرية في الخطاب البصري. ولا أدل على ذلك من أن الصياغات الفنية ذات الحساسية الجديدة، بالرغم من غرابتها أحيانًا، تمكنت من استعادة البُعد السياسي الذي فقده الفن العربي منذ السبعينيات. ذلك ما نجده في الفن اللبناني والتونسي والمصري بشكلٍ أكثر عيانية من غيرها من البلدان … وكأن هذه الحرية متوافقة قبليًّا مع ما يطمح إليه الفنان العربي، الذي انكفأ على ذاتيته وهواجسها (كردة فعل انطوائية) لمدة، قبل أن يجد نفسه في مواجهة معضلات سياسية في التحول الاجتماعي اخترقته بشكلٍ ضاربٍ، فسعى إلى التجاوب الممكن معها.
مع ذلك نجد في تاريخ الفن العربي ما كان — من وقتٍ ليس بالقصير — يسعى إلى الخروج عن اللوحة ومنها، لا تماهيًا مع تطورات الفن في الغرب، وإنما أساسًا لاستعادة منفتحات الذات العربية بكل خصوبتها (القاسمي، شاكر حسن وغيرهما). لكن لنكف عن إيهام أنفسنا: ليس الخروج عن اللوحة إعلانًا عن موتها، إنه أيضًا إعلان ولادتها الجديدة.