الفن من الإبداع إلى السوق
نحن الآتون جميعًا للفن من كواليس الأدب والفلسفة، ورافقنا منذ عقود فنانون أغلبهم كانوا مناضلين باللسان أو بالقلب، نحن المتعففين في أمور المال والعقار واليسر، لمَ نقف فاغري الفاه أمام التحولات التي طرأت على الممارسة الفنيَّة في العقدين الأخيرين؟ حتى إننا نهمس لأنفسنا، لمَ تعففنا في أوقات مضت في اقتناء اللوحات من هذا وذاك، ولم رفضنا الهدايا من هذا الفنان أو ذاك، مع أننا كنا نعلم علم اليقين كيف أن نجمه سيسطع في سماء الفن والإبداع؟ لو كنا فعلنا، ربما كنا حميْنا أنفسنا من حرِّ هذا الزمن وقرِّ الحياة فيه، ولفحات غلائه الفاحش في كل المجالات … لكن الأمور لا تجري إلا بما يحكمها من منطق.
هذه التحولات لا تمس فقط أنماط التشكيل وخروجه من فضاء الحوامل التقليدية للفضاء العمومي والخصوصي، وإنما تصورنا أيضًا للعمل الفني، وبالأخص أنماط وأشكال وقِيَم تداوله، فما تغير بالأساس هو نوع النظرة لقيمة العمل الفني، ولعلائقه بالعالم وبالمبدع.
من الرواق إلى المزاد
وأنا أعدُّ لمعرضٍ عن الشباب المبدع المعاصر لصالح إحدى المؤسسات المرموقة، اتصلتُ بشابة عصامية تمارس الفوتوغرافيا، داعيًا إياها — برسالة رسمية — إلى المشاركة في هذا المعرض الجماعي المحتفي بأشكال الابتكار الإبداعي بالوسائط غير التقليدية. وقبل أن أتوصل من الفنانة المعنية بالأمر، كان بريدي الإلكتروني قد توصل برسالة من رواق مختص بعرض الإبداع الفوتوغرافي تملكه امرأة أجنبية مستقرة بالبلاد منذ مدة تخبرني فيها أنها المندوبة التي عليَّ التفاوض معها بخصوص مساهمة الفنانة.
لقد صار أصحاب الأروقة يتصيدون الفنانين الشباب من مدارس التخرج ومن أولى مناسبات ظهورهم في الساحة الفنية كي يدخلوهم إلى حظيرة السوق، مانحين إياهم الوهم بالاستقرار المادي والرواج الدولي.
ما الذي يحدث في حالة من قبيل هذه؟ إنها صدمة المردودية المالية للعمل الفني من جهة الفنان، الذي يجد نفسه في حال من الاحترافية تجعله لا يهتم إلا بعمله، وهو ما يتمناه كل فنان طبعًا؛ وتسويق هذا الأخير في البينالات والمهرجانات وأسواق الفن العالمية التي تحبذ الغريب والعجيب والإكزوتيكي من جهة الرواقي (لا بالمعنى الفلسفي!)، الذي يهتم بكل الأشكال، وبكل ما يخوله له العقد المبرم مع الفنان. هكذا صرنا نعيش المصير العالمي الجديد للفن: الرواق هو الذي يخلق الفنان، كما كان الأمريكي كاسطيللي في وقته يصنع فنانيه.
لست مع ذلك من الذين يقفون ضد هذه البنيات التسويقية والاستحواذية. فالعلاقة بين القيمة الرمزية والجمالية والمادية للعمل الفني لا تستوي إلا بهذا الثالوث كاملًا مكتملًا، والجانب التداولي إذا كان لا يخضع دومًا للقيمة الجمالية، فإنه مع ذلك يمتح منها وجوده. فلقد شهدنا تلك البنيات تولد وتنمو في بعض الأروقة المهتمة بالفن الأفريقي والشرق أوسطي ببعض العواصم الغربية، بالأخص بباريس وبرلين، ثم شهدناها تستقر بالدار البيضاء والقاهرة وبيروت ودبي وأبو ظبي وتونس … ثم عشنا ولادة فروع لدور المزادات الغربية الكبرى (كريستيز وسوثبيز) ببعض بلدان الخليج.
وإذا كانت الأروقة الاحترافية في الغرب تمنح للفنانين العرب، المتعاقدة معهم أو الذين تعرضهم، قيمة وموقعًا في السوق الفنية العالمية، فإن العديد من الأروقة تساهم في منح هذه القيمة والمكانة لفنانيها المحليين من خلال عرضهم وتسويقهم، ومن ثَم من خلال إنتاج كتالوغات جيدة لأعمالهم ومعارضهم.
ولا يخفى أن هذه الأروقة لا تكتفي بذلك، بل تعمل على تسويق تلك الأعمال، وضخِّها في المجموعات الفنية الكبرى، كما في المتاحف العربية، ومن ثَم منحها المكانة التي تسمح لها بالتسويق أيضًا في المحافل الغربية.
هذه القيمة الأولية تعضدها — بشكلٍ واضحٍ — القيمة المَزادية، إن لم تدفع بها أشواطًا قُدُمًا، خاصة حين يتعلق الأمر بأسماء معينة أو بأعمال خصوصية. فما تحققه الأعمال العربية في مزادات كريستيز وسوثبيز ينعكس على تداولها في المجال المحلي. بل إن الطفرات التي تحققها من حين لآخر بعض الأعمال الفنية (لمحمود سعيد أو محمد المليحي) مقارنة مع أثمانها المفترضة، تشكِّل ما يشبه الصفعة للأسواق المحلية التي تضطر لإعادة النظر في تداولاتها. بيد أن العكس قد يكون صحيحًا، من قبيل ألا تمنح بعض المزادات القيمة الحقيقية لفنانين معروفين مقابل النفخ في أثمنة أعمال بعض الفنانين المتواضعين لأسبابٍ لا يمكن إلا أن نخمن — أحيانًا — من يقف وراءها.
إن هذه الاعتبارات هي ما يمكن أن نسميه بأحوال الطقس التداولية للفن العربي، التي تصنعها أحيانًا أمزجة مؤسسية، وأحيانًا أخرى عناصر لها علاقة بما تنتظره السوق العالمية من الفن العربي.
من سوق لأخرى
مهما سعى هذا الفنان أو ذاك إلى الانفلات من سوق الفن، فإنه يظل — بشكلٍ أو بآخر — مشدودًا إليها ومرهونًا بتذبذباتها. وإذا كان بعض الفنانين المتواضعين يجدون في أسواق بلدانهم، ولخلفيات ليس هنا مجال الدخول فيها، من الرواج والتداول ما يعجز عنه فنانون مبدعون، فإن هذا التنافر (أو بالأحرى عدم التكافؤ) بين السوق المحلية والسوق العالمية يطرح مسألة البُعد العالمي لفنوننا التشكيلية العربية.
ثمة إذن منطق ثنائي يحكم حاليًّا سوق الفن العربية: منطق ذاتي ينبئ عن حداثتها العمْرية وهشاشتها؛ ومنطق غيري (استيطاني إذا شئنا) ينبئ عن كون هذه السوق هي — جغرافيًّا — امتداد للسوق العالمية (كريستيز وسوثبيز). إلى أي حد تتوافق السوق العربية في «منطقها» الثنائي هذا مع السوق العالمية؟ وهل هناك توافق في الإيقاع بين السوقين أم استقلال يجعل قيم السوق لدينا غير قابلة للتدويل العالمي؟
لا يخفى أن المزادات العالمية تؤقلم استراتيجيتها مع المعطيات المحلية قصد خلق الحدث. فالسوق ليست لها من استراتيجية غير الرواج والربح. وهي من ثَم تكتيكية مطلقًا، أي إنها قابلة لأن تخلخل كل ما تعارفنا عليه: كأن تمنح لفنان مغمور، لدوافع مجهولة أحيانًا، فرصة الانطلاق بشكلٍ صاروخي، أو كأن تراهن على فنان متواضع، غير معروف خارج بلده، وتخصه بثمن ذي بُعد عالمي.
ثمة فنانون يمرون في المزادات المحلية هنا وهناك بالعالم العربي ولا يتجاوزونها ليسموا تاريخ الفن في بلدانهم وفي العالم العربي. وثمة فنانون لا يصلون للمزادات، غير أن بصمتهم في تاريخ التشكيل المحلي والعالمي تظل أكيدة. وثمة فنانون يحملون بشكلٍ مزدوجٍ عُمقهم الفني وقيمة تداولهم كما تحمل الدابة ردْفي حمولتها … فالسوق سوقان، سوق آتية لنا من الخارج بمنطقها وبمعروفها ومجهولها، وسوق نابعة من بين ظهرانينا باختياراتها ومراهناتها … وبين الاثنتين هنالك الحاجة الماسة إلى قوة وسيطة أخرى تمارس الموازنة التاريخية: إنها النقد والتعليم الفني والتأريخ للفن. فالسوق وحش كبير يتحوَّل — أحيانًا — إلى تنين، وأحيانًا أخرى إلى رافعة، وعلى النقاد ألا يهابوا نيرانه، وأن يواجهوه مواجهة القديسين، بشراسة وحكمة في الآن نفسه.
القيمة التداولية للفنانين العرب، أمواتًا وأحياءً، تزداد بشكلٍ حثيثٍ، وهذه القيمة، مثلها مثل الجوائز العالمية (نوبل غونكور، البوكر …) هي ما يمنحهم موقعهم الأكيد في جغرافية الفن العالمي.