فضاءات عمومية بنكهة الفن
حين تحط الرحال بهذه المدينة أو تلك في ربوع العالم العربي، تجد نفسك أمام تشكيل معماري، قد يستهويك بعتاقته كما في القاهرة أو فاس أو دمشق، وقد يأخذ صيغة جديدة كل الجدة، فيثير فيك آثارًا عاطفية متناقضة ومتنافرة، كما هو الحال في دبي أو الدوحة.
تكتفي المدن العتيقة بذاتها، ولا تقبل من الفن غير ما يُبين عن أصالتها وعن تجذُّرها في التاريخ. في فاس أو تونس أو دمشق، تعلن البيوت والمآثر عن كثافة من التزاويق والزخارف التي تجعل البنيان يكتفي بذاته، ولا يمكن أن يتحمل عرْض أي عمل فني حديث أو معاصر يخلخل نظامه الداخلي المتعالي والرمزي. لقد انْبنى العمران الإسلامي على مبدأ يعارض بين الداخل والخارج، وبين الذات والآخر. فالغنى البصري يوجد في النفْس، أي في داخل الكيان المعماري، أما الخارج فإنه مجال العام الذي لا يدخل في التشكيلة البصرية للإنسان العربي المسلم.
هذا الانكفاء ما زلنا ورثة له في مدننا الحديثة والمعاصرة، بالرغم من أن مرحلة الانتداب والحماية والاستعمار قد وسَّعت من فضاء متعتنا البصرية الخارجية بإباحة إقامة تماثيل لرموز تاريخنا العربي القديم والحديث، وأنصاب، ربما كان أشهرها «نصب الحرية» لجواد سليم ببغداد … أما في مدن المغرب العربي فإن المجال العمومي يضيق عن احتواء هذه التمظهرات البصرية المنذورة للعموم، عدا نصب المجاهد الذي يطل على مدينة الجزائر العاصمة، (والذي جاء لمحو وتعويض نصب استعماري في المكان نفسه)، وتمثال ابن خلدون في شارع الحبيب بورقيبة بمدينة تونس. لكن بالمغرب، وحتى حدود نهاية القرن الماضي، كنتَ لا تجد أثرًا لتمثال أو نصب عمومي ذي أهمية، إلا بعض الفلتات، هنا وهناك، في مدن قليلة كالدار البيضاء وتطوان.
إن هذا يعني، من ضمن ما يعنيه، أن العرب لا يزالون معادين للتصوير، وللتشخيص والتجسيم في الفضاء العمومي، في الوقت الراهن. وهو ما يمكن أن نؤوِّله، من جهة، باعتباره أمرًا انتقل من الديني (خوفًا من الإشراك)، ليغدو حقيقة تاريخية ثابتة وراسخة تم تعميمها حتى صارت موقفًا «وجوديًّا». بل هو ما قد يعني — افتراضًا — أن العربي يكتفي بتراثه البصري الزخرفي، ويستعيض به عن كل التحولات الفنية والبصرية التي جاءت بها الحداثة. كما يمكن أن نؤوِّل الأمر من جهة ثانية، بشكلٍ تاريخي، قائلين إن الفن العربي الحديث والمعاصر لم يجد — بعدُ — مكانته في الثقافة العربية كي يتجذَّر فيها، ويغدو جزءًا لا يتجزأ من بنيتها، بل لم يسْتنبت — بعدُ — بشكلٍ طبيعي في المدينة العربية، أي في حداثة الفضاء العمومي، كي يغدو مكونًا يعبِّر عن الهوية البصرية للإنسان العربي.
ليس من الغريب ولا من المدهش أن المبادرات الكبرى في العالم العربي لفتح المجتمع على الفن ليست دومًا مبادرات مؤسسية على مستوى الدولة وأجهزتها التقريرية والتنفيذية. فمثلًا نحن ندين بنواة أكبر متحف للفن العربي والمعاصر («متحف» بقطر، للمجموعة الفنية لأميرٍ عاشقٍ للفن). كما أننا ندين بأكبر تدخل فني للفن الحديث والمعاصر في الفضاء العمومي بمدينة جدة لأحد كبار جمَّاعي الفنون السعوديين، الذي كان في الآن نفسه عمدة لمدينة جدة.
في شتنبر (سبتمبر) ٢٠١١م، كنت عضوًا في لجنة تحكيم المسابقة الإسلامية لتجميل مدينة مكة، في دورتها الأولى. كان الأمر يتعلق بفحص العديد من المقترحات المعمارية والفنية، التي تهم ملتقيات الطرق بمدينة مكة من أجل تحويل تلك التقاطعات المتراكبة إلى فضاءات مرسومة أو منحوتة أو مشكَّلة معماريًّا. كان الأمين (العمدة) السابق محمد سعيد الفارسي رئيسًا للجنة التحكيم، ونظرًا لشغفه بالفن الحديث فقد عضَّد وجهة نظرنا في تجاوز الحروفية كاختيارٍ وحيدٍ، والانفتاح على التشكيلات الهندسية والتشخيصات الرمزية. عندها أدركتُ العلاقة بين جمع نوادر الفن العربي (فسنةً قبل ذلك، حازت لوحة الفنان المصري محمود سعيد «الدراويش»، التي كانت في ملكية الفارسي، على أعلى ثمن حظيت به لوحة في تاريخ الفن العربي الحديث والمعاصر بمزاد كريستيز بدبي)، وتجميل مكة بالأعمال الفنية، وما أسداه هذا الرجل لمدينة جدة بأن منحها أجمل كورنيش في العالم العربي.
إن ما نعنيه بأجمل كورنيش لا يتعلق بتجهيزاته فقط، ولا بما يمنحه للزائر أو المتجول من متعة المشي (فالحقيقة أنني بسبب الرطوبة والحرارة في شهر أيلول (سبتمبر) لم أكن أقدر تجاوز ١٠٠ متر مشيًا على الأقدام!)، وإنما بما يأهل به من أعمال نحتية لكبار الفنانين الغربيين والعرب (فازاريلي، سيزار وغيرهما). صحيح أن المسألة أكبر من مغامرة: فهي تُدخِل التصوير في صلب عالم يحكمه مقدس التنزيه، وهي تجعل متْن الفن مجالًا بصريًّا عموميًّا يساهم في شحذ الذوق الفني للعموم، بل هي تخلق متحفًا عموميًّا يتطلب الحفاظ عليه جهدًا كبيرًا، ذلك أن العديد من الأعمال تتأثر بجو جدة المليء بالرطوبة العالية والحرارة المرتفعة، كما أن بعض الأعمال، خاصة منها الجداريات، قد تتعرض للإتلاف عنوة، وهو ما حدث مؤخرًا مع جدارية «وين رايح» للفنان المصري أحمد زهير.
تبيح لنا تجربة كورنيش جدة أن نرى وجود الفن في الفضاء العمومي العربي من زاوية جديدة. فإذا كانت مصر سباقة لهذا المضمار فإن حصة المنحوتات المخصصة للشخصيات التاريخية فيها أكبر. أما هنا، فإن الانتقال إلى الفن الحديث والمعاصر يتم ضربة واحدة، مما يؤكد على أن التاريخ ليس سلمًا نصعده بدرجات، وأن الثقافة لا تعرف الانغلاق، لأن استنبات التجارب الغيرية قد يكون حافزًا لتطوير الممكنات الفنية والجمالية المحلية.
التجربة نفسها، والتي كنت من المشاركين في لجنة اختيارها وفرزها، تتطور بشكلٍ حثيثٍ بالمغرب؛ حيث إن الشركة الوطنية للطرق السيارة، عمدت إلى تزيين بعض التقاطعات الطرقية بأعمالٍ نحتية لفنانين كبار كمحمد المليحي وفريد بلكاهية وغيرهما … توازيًا مع تبني بعض الشركات، هنا وهناك، بتجهيز بعض الفضاءات العمومية بمنحوتات ذات قيمة فنية عالية.
تسمح متاحف الفضاءات العمومية بخلق تربية بصرية وفنية، تكون — باستمرارٍ — في متناول الجمهور، وهي، من ناحية ثانية، تمارس حوارًا خلاقًا مع المعمار المديني، وتمنحه وهْجًا جديدًا. فالفن الذي لا يخرج من اللوحة، أي من الفضاء الشخصي، إلى الفضاء الرحب للمدينة يجعل الفن نخبويًّا إلى الأبد، والحال أن الفن — أصلًا — متعة جمالية مشتركة في الفضاء العام.