هجرة الفن تتبع هجرة اللقالق
من شهر فقط، جاءني صوت صديقي القيِّم على بينالي ليون في الهاتف ليخبرني بما لم يخطر لي على البال. يتعلق الأمر بخبرٍ «متداوَل» في فرنسا عن إنشاء فرع لمدرسة الفنون الجميلة بباريس في المغرب. كان ذلك الخبر من صديقة صحفية له تُعِد تحقيقًا في الأمر. وكان صديقي يعتقد أنني لا يمكن إلا أن أملك أسرار الخبر وكواليسه اعتبارًا أني من المتابعين للشأن الثقافي والفني من زمن. كلَّمتني صديقته الصحفية فأخبرتها أن الأمر أشبه بالمفاجأة أو السرِّ … وعدتها بإخطارها بمجَريات الأمور. حينها قمت باتصالات أفرزت عن أن لا أحد من الفاعلين بالبلد على علم بالأمر … هل كان الأمر خدعة أم مناورة؟
غاب الأمر عن ذهني مع إيقاع الصيف، حتى قرأت في جريدة لوموند الفرنسية (طبعة ٦ آب (أغسطس)) مقالًا بعنوان يؤكد سرية الصفقة: «مملكة المغرب تشتغل في سرية على مشروع فرع لمدرسة الفنون الجميلة (بباريس طبعًا) بالرباط.»
الأمر «افتضح» بالصدفة. فقد قامت الوزيرة الفرنسية للثقافة، بإقالة نيكولا بوريو (صاحب نظرية الجماليات العلائقية)، مدير المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة بباريس، من منصبه الذي يشغله منذ ٢٠١١م. ولم يجد هذا الأخير من حجة للدفاع عن حصيلة إدارته بالمدرسة أفضل من الحديث عن مشروع فتح فرع للمدرسة الشهيرة بالعاصمة المغربية.
كان المدير الوحيد أو بالأحرى من القلائل الذين يعلمون بالأمر. والأمر حين يظل سريًّا ولمدة طويلة فذلك إما لأنه قد قُبر في مهده، أو لأنه مشروع يبتغيه الملك لبلده بسرية كاملة … بيد أن الاحتمال الثاني أقوى، ذلك أن هناك آثارًا يمكن تتبعها لفهم الأمر … أولها يعود إلى أن فكرة استنبات المدرسة الباريسية بالرباط تعود للمغرب، لا لرغبة مدير تلك المدرسة. وما يؤكد هذا الزعم، أن إحدى المؤسسات المغربية المالية الخاصة، ومنذ شهور، تحوم حول الفكرة وتسعى إلى منح الرباط مدرسته، وذلك في إطار مشروع حضري وثقافي كبير تعرفه منطقة أبي رقراق، التي ستحتضن مسرحًا هائلًا تشرف على إنجازه المعمارية العربية والعالمية الشهيرة زها حديد.
يبرر الناقد الفني والمدير السابق هذا المشروع بما يلي: «ليس ثمة بالمغرب مدارس جدية للفنون إلا في مدينة تطوان. والتكوين في هذا المضمار ذو مستوًى ضعيف في الوقت الذي يمكن اعتبار أفريقيا منبعًا لمواهب مدهشة وخارقة.» صحيح أن المغرب، مقارنة مع الجزائر وتونس وبلدان المشرق لم يعرف التكوين المحلي إلا ابتداء من أواسط الأربعينيات مع إنشاء مدرسة الفنون الجميلة بتطوان. وصحيح أيضًا أن أغلب الفنانين المغاربة درسوا بمدارس باريس وبرشلونة ومدريد وروما وبروكسيل وغيرها … بيد أن الحركة الفنية المغربية — مع ذلك — تُعتبر إحدى أهم الحركات الفنية العربية، بالرغم من قصر تاريخها … إلى حد أني قلت بنوعٍ من المزحة المرة: ربما تعود قوة التجربة المغربية إلى ندرة مدارس التكوين بالمملكة!
هذا الضرب من الاستنبات بدأ منذ عقد من الزمن، وصار يضم فروعًا كاملة أو غير مكتملة (بشروط محلية) للجامعات الشهيرة والمدارس العليا الكبرى في كل من كندا وأمريكا وفرنسا … في العديد من البلدان العربية، ومن بينها بلدان المغرب العربي. وهي مؤسسات تعليم عالٍ خصوصي ومؤدَّى عنه، كانت تتمتع فقط برخصة من وزارة التعليم العالي. غير أنها اليوم صارت تتمتع (لظروف واعتبارات يصعب الخوض فيها هنا) بشراكة مع الوزارة ومع التعليم العمومي، وتحظى بوصاية من القطاع التعليمي العمومي.
الأمر، لمن يجهل ذلك، ليس بالجديد؛ فمن عقود عديدة أنشئت في بعض البلدان العربية ما يُعرَف بالجامعة الأمريكية (في بيروت والقاهرة)، التي كانت مصدرًا لتكوين النخب السياسية العربية في تلك البلدان. ثم جاء وقت «كلوناج» العديد من المؤسسات التربوية والمتحفية الغربية والفرنسية بالخصوص في بلدان الخليج وبخاصة في الإمارات العربية المتحدة. وأسال الأمر، من سنوات، ما أسال من مدادٍ ومن لعابٍ. غير أن هذا الاستنبات أو «الزرع» بدأ يعطي أكله؛ إذ إن جامعة السوربون، كما متحف اللوفر، صارا تدريجيًّا — يشكِّلان — جزءًا من معالم واستراتيجيات هذا العالم المتسارع النمو في كل المجالات. كما أن الإصرار على أن يكون الطاقم المسير كما الطاقم التربوي لهذه المؤسسات منتميًا للبلد المصدِّر (فرنسا أو غيرها) يجعل من هذه المؤسسات أشبه بالجزر الافتراضية التي يدخلها الواحد من غير حاجة للتأشيرة أو السفر.
طبعًا في هذه العملية التي تستحضر التجربة التعليمية والمتحفية إلى فناء الدار، ما الذي نربح؟ وما الذي نضيع؟ أليس الأمر ضربًا من عولمة ثقافية تمحي الفروق والاختلافات الثقافية، وتسعى إلى توحيد وتنميط التفكير والإنتاج والإبداع، وتعميم النماذج الثقافية؟
ونحن نتخلى عن المغامرة وارتياد البلدان الأخرى للولوج إلى السوربون أو مدرسة الفنون الجميلة بباريس أو روما، ألسنا — بشكلٍ أو بآخر — مثل ذلك الشخص الذي يتعلم قيادة السيارة في برامج مصورة وتفاعلية؟ طبعًا في هذه المقارنة بعض الإجحاف، كما في الخوف من تعميم النماذج الثقافية ضرب من الخوف والانطواء وعدم الاعتراف بهشاشة «نموذجنا» الثقافي.
ما سنفْتقده (من غير أن نفقده تمامًا)، هو ما يحيط بالتجربة التعليمية، من علاقة بالآخر في عقر داره، وعقر ثقافته وحضارته، أعني التسكع في رحاب باريس أو روما أو بوسطن، وما يفرزه ذلك من هجانة ثقافية وعلاقات تتمسك بالبشرة كعبق العطر. سوف لن نكتب أبدًا معادلًا لكتبٍ من قبيل: عصفور من الشرق، أو موسم الهجرة إلى الشمال أو الحي اللاتيني.
لنعدْ إلى استحداث فرع لمدرسة الفنون الجميلة بباريس.
إنه اعتراف بوضاعة نظامنا التعليمي الفني من جهة، وعولمة إكراهية (ومصلحية)، واستثمارية تمجد النموذج الغربي في التعليم من جهة (وهو تمجيد له أساسه وصدْقيته)، وتجعل مجال الفنون مجالًا استثماريًّا بامتيازٍ في الظروف الحالية. إنه رهان مزدوج: يقرِّب، من جديد، بين فرنسا والمغرب مرة أخرى في المجال الثقافي، بعد أن صار العالم الأنجلو أمريكي يستقر في التطورات التعليمية التي تعرفها المنطقة الفرنكفونية (فأودري أزولاي، ابنة أندري أزولاي، المستشار الاقتصادي للملك محمد السادس، هي المستشارة الثقافية للإليزي)، ومن ناحية أخرى يفتح مجال الفنون البصرية على سوق الاستثمار في شمال أفريقيا، بل في أفريقيا بكاملها.
إنه رهان مزدوج، يتطلب تحليلًا مزدوجًا أيضًا … وهجرة مزدوجة تتبع مسير اللقالق.