فتنة الفن المعاصر
زرته منذ سنواتٍ في تلك الضاحية الرهيبة من مدينة تنطق بناياتها بالفاقة والعوز. كان يسكن مع أمه في بيتٍ صغيرٍ يستغل غرفته السفلية فيما يشبه المشغل. مكان ينضح بفقر مكوناته، لا يدخله النور إلا من جهة الباب، ويكاد لا يسع إلا صاحبه. لوحاته فيها الكثير من خفة الروح وعمق المعاناة؛ وهو الشاب الثلاثيني تُبين ملامحه عن قلقٍ دفين ينطبع على محياه، حتى وهو يطلق ضحكته السريعة الصاخبة.
لم يتابع محمد طويلًا مسيره مع اللوحة. وقبل أن يقوم بمعرضٍ شخصي ويحفر موقعه في الساحة الفنية، استهوته التقنيات الجديدة، فصار يقوم بمنشآتٍ فنية وفيديو آرت. ظل يشتغل بدأبٍ على أحلام أبناء حيِّه الفقير، ويجعل منهم أبطاله، بحسٍّ حكَّائي يكاد يكون سينمائيًّا. يعود من إقامة بألمانيا أو هولندا بأفكارٍ وصورٍ عن منشآت صارت تحظى باهتمامٍ متزايدٍ من قِبَل الغالريهات والنقاد … بل حتى من متحف «التيت» ببريطانيا.
هل كان محمد يحلم يومًا أن يحظى بهذا الاهتمام وهذا الإشعاع لو أنه ظل حبيس لوحاته؟
في بداية التسعينيات، قام أحد الشباب الممارسين للتشكيل بحرق لوحاته وحوَّل عملية الحرق نفسها منجزَة فنية (برفورمنس)، يعبِّر، من خلالها، عن قطيعته مع الحداثة الفنية لولوج معاصرة اختارها لنفسه، وأبدع فيها، وصار فيها أحد رموز الحركية الجديدة، وطليعة من طلائعها المغامرة، تتهافت البينالات في مختلف أنحاء العالم على عرض أعماله. وفي بداية الألفية الجديدة، خرج أحد الشباب من بلده يحمل أحلامه الفنية، فبلورها بين باريس ونيويورك والبندقية، وصار الفتى المدلل لقاعات العرض الشهيرة في العالم، يثير الضجة تلو الضجة حول منشآته الفنية وآخرها من سنة فقط في الدوحة.
هل كان هؤلاء جميعًا، وغيرهم، هنا وهناك، في أرجاء الوطن العربي، سيحظون بما حظوا به، في وقتٍ قصيرٍ جدًّا، لو كانوا اختاروا أن يظلوا حبيسي القماشة واللوحات المؤطرة؟
وراء السؤال تثوي العديد من الأسئلة وتتناسل. وثمة تكمن فتنة الفن المعاصر، تلك الفتنة التي تجتذب العديد من الشباب المتخرجين في مدارس الفنون الجميلة وكلياتها، فينطلقون في تجريب المواد والفضاءات، يمزجون التقنيات، يبحثون في أجسادهم وذاكرتهم عما يمكن أن يكون لهم مكونًا أو موضوعًا، يستخدمون الفوتوغرافيا والرسم والمواد والخامات، يمسْرحون محيطهم وجسدهم، وما تقع عليه عيونهم. ويقدمون تجارب جديدة يجدون فيها ذواتهم. فهل ضاقت اللوحة إلى هذا الحد كي يخرجوا منها باحثين عن متنفَّسٍ جديد لأحلامهم وهواجسهم الكبيرة؟
لست من الذين يتبنَّون ثنائية الحداثة والمعاصرة في الفن، على الأقل بالشكل الذي نسقطها على واقعنا الفني والثقافي؛ ولا من الذين يؤمنون بثنائية الحداثة وما بعد الحداثة التي نلوكها كالعلكة، ونبتلعها كما لو كانت قطعة خبز … فهذه الثنائيات ليست قَدرية ولا كونية. فإذا كانت المعاصرة (أو ما بعد الحداثة) عودة لما كبتته الحداثة بتنظيميَّتها وعقلانيتها، فإنها، حسب منظِّريها الغربيين الكثْر، مديح للاعقلانية والإحساس وحضور الجسد والهجانة والتفكيكات المتعددة للتقليد. إنها أيضًا عودة للأصول والمنابع والأساطير والمتخيل المتحول في الذاكرة.
والمفارقة أن ما تمتدحه المعاصرة، وما بعد الحداثة، باعتباره تجاوزًا، هو في العالم العربي أمر معطًى حاضر، لا يستوجب العودة إليه لأنه لا يزال فاعلًا، ولا يتطلب الإحياء لأنه لا يزال حيًّا يُرزَق. فنحن في أغلب بلدان العالم العربي، حتى تلك التي تنبت فيها ناطحات السحاب كالفطر (ولا سحاب فيه كي تنطحه أو تخترقه) نعيش وضعية تطور لا قطائع فيها، وتسير بوتائر وإيقاعات متوازية ومتداخلة؛ بحيث لا تزال تتعايش في مجتمعاتنا بقايا عتيقة تحدَّث عنها ابن خلدون مع آخر التطورات التقنية التي تعرفها البشرية. هذه الهجانة الحضارية هي ما جعلت الدولة العربية دولة لم تبلغ مرحلة الأمة (وقد لا تبلغها) لأن الأنظمة السياسية لا تزال تنبني فيها على الطائفية هنا، وعلى الدين هناك، وعلى التوافق العرقي وغيرها من الأشكال الهشَّة للتوافق السياسي. أما من الناحية الاجتماعية فإنك ما زلت تجد في شوارع القاهرة أو مراكش عربة تقليدية يجرها حمار تسير في الطريق جنب السيارات، وقد تجد أحدهم يبتدع عربته من هيكل سيارة يجرها حمار.
هذه الهجانة الاجتماعية والحضارية هي ما يجعل الفنان العربي المعاصر هنا قريبًا من مجتمعه لأنه يستمد هجانة فنِّه وتركيبته المتعددة من مرآة معيشه. يكفيه أن يلِج سوقًا شعبية أو يفتح عينيه على سعتهما من حوله كي يقتطع من واقعه مادة دسمة لأعماله الفنية. بل إني أستطيع أن أجازف هنا وأقول بأن الإنسان الشعبي يبتكر العديد من التركيبات في حياته اليومية التي نجدها في كثير من الأحيان أكثر تعبيرية مما قد نراه لدى بعض المتهافتين من فنانينا «التنصيبيين» (من النصب والاحتيال).
فتنة اليومي والذاتي تجعل شباب العالم العربي يعيشون جاذبية هذا الفن المنفتح، الذي لا يتقيد بأحادية المادة. إنهم يعيشون عصرهم بانفتاحٍ مزدوجٍ: على حركية الفن في العالم بمستجدَّاته التقنية والفنية والجمالية، وعلى غنى واقعهم وتغيراته المطردة. فتعدد الأسندة وثراء الممكنات يجعل الحساسية الجديدة في الفن منفتحة على السياسي والاجتماعي، خاصة بعد عقود الانكفاء التي عاشها الفن العربي منذ السبعينيات. وبالرغم من هشاشة هذه التجارب فالكثير منها أثبت قدرته على بلورة أساليب متجددة ومتجذرة وقادرة على إقناع المرتابين.
وراء هذه التجارب الجديدة ثمة بينالات (الشارقة، دبي، القاهرة، مراكش …) حاضنة، والعديد من الأروقة التي تمنح فضاءاتها لها. ثمة شبكة من الإقامات في الغرب والعالم العربي … غير أن النقد العربي لا يزال عاجزًا عن تتبعها، والارتياب في مشروعيتها الجمالية لا يزال ديْدَن الكثير من الأقلام والمؤسسات. واعتبارها تبعية عمياء للغرب يسبق التمحيص في مدى جدتها وجديتها.
والحقيقة أن هذه «الموجة» هي ريح جديدة تهبُّ على الفن العربي، وتطرح عليه أسئلة التجديد والتجدُّد. إنها فورة متوافقة مع علاقتنا بالفن باعتباره جزءًا من الحياة اليومية ومن المعمار، ولا يكفي أن يكون الغرب مولدًا لها كي نرفضها. يبقى فقط السؤال الحاسم: ما مدى قدرة الفنانين الشباب على إدراك ذلك، وتركيز نظرهم على غنى ما يحيط بهم كي يستمدوا منه مادتهم وشرعيتهم، ويستنبتوا الفن المعاصر في قلب ذاكرة الفن العربي؟