سحر التصوير
في بداية الألفية هذه، وصلني — يومًا — فاكس غريب، يكاد يكون مجهول المصدر، يدعوني فيه «أصحابه» إلى المشاركة في تظاهرة عربية و«إسلامية»، احتفاءً بتحرير جنوب لبنان. وطبعًا يدعوني الفاكس — بنبرة محايدة — إلى اقتراح أسماء فنانين عرب، للمساهمة في هذه التظاهرة، التي كانت ستتم في معتقل الخيام، على بُعد ما لا يزيد عن مائة متر من المنطقة العازلة بين جنوب لبنان وشمال فلسطين، غير بعيد عن نهر الوزاني المحاذي للحدود، وعن مزارع شبعة وغيرها من المواقع المعروفة في جنوب لبنان، كستي فاطمة وغيرها.
كان أغلب المشاركين من لبنان، وقد أكون الناقد العربي الوحيد المشارك في التظاهرة، بحيث أحسست من البداية أن مهمتي كانت مواكبة هذه التجربة الاحتفائية التي مَنحت للفن فرصة، بل فضاء التعبير المشترك، وإن الغامض والملتبس، عن إحدى إشكاليات تصوُّر الفن، في علاقته بالسياسة والأثر السياسي والتاريخ والذاكرة السياسية.
طبعًا لم أكن شيعيًّا، ولا مساندًا للشيعة، ولم أكن حتى ممن يتبنَّون تصورهم للفن وللمقاومة، فعلاقتي الشخصية والفكرية بلبنان تتجاوز التحيز الديني، ومطبوعة بعلائم أخرى، ليس هنا مجال الكشف عن مرجعياتها. كنت فقط عاشقًا للفن، يسعى إلى أن يمنحه تلك الأبعاد التي تأكدت — حثيثًا — أنها أبعد عن سياسة رجال الدين، حتى وهم يحتفون بالمقاومة، وبالتصدي لإسرائيل وبتحرير جنوبٍ، ظللنا نحمله في القلب، كما حملنا تراب فلسطين ذرةً ذرةً. والنص الذي كتبته — آنذاك — لكاتالوغ التظاهرة لا يزال يشهد على تبسيطية، ومحاباة العديد من الفنانين المشاركين لمقاصد الحزب، المنظِّم، من هذا الاحتفاء. جاءت تلك المحاباة عبارة عن شعارية مبسَّطة، تستعيد رموز الحركة السياسية هذه وألوان رايتها.
وأنا أستعيد هذه الذكرى اليوم، وأستحضر هذا الاحتفاء بجميع مغامراته وأحداثه، وما خلقه من دينامية تجاوزت مقاصده الضيقة، أستعيد معها السؤال الخائب الذي عليه انبنت: كم يكفينا من الوقت كي نقرَّ بأن العلاقة بين التديُّن والتصوير، أو بلغة أقل اعتبارية، بين الفن والدين، هي علاقة استكشافية، لا علاقة إنكارية، وهي علاقة تحريرية، لا علاقة استعراضية.
وبما أن همَّنا هنا ليس طرْق الموضوع هذا، بشكلٍ مباشر؛ فإننا سنكتفي منه بما يسمح لنا باستجلاء مفارقات الفن العربي، في علاقته بالصيرورات الحالية، ورهاناتها المستعجلة أو المرتقبة … إنها مفارقات، نجازف هنا بطرح بعض ملامحها؛ علَّنا — بذلك — نضع اليد على مفارِقها.
نحن لا نزال نتذكر كيف كان التجريد في الخمسينيات الموضوع الأثير، الضمني، ثم العلني، للحداثة في الفن العربي. وبعده صار الخط في طابعه التشخيصي ثم التجريدي مهمازًا للبحث عن هوية للفن العربي. لقد قضى الفن العربي أكثر من نصف قرن كي يستكشف محاسن تدمير المحاكاة والمرجعية الواقعية، مع مجموعة الفن والحرية، ثم مع الحركة التجريدية التعبيرية، التي يمثِّل لها العديد، ومن بينهم محمد خدة الجزائري وشاكر حسن العراقي والجيلالي الغرباوي المغربي.
كانت التجريدية أُفقًا لمعانَقة رحابة التشكيل والمتخيَّل التعبيري التصويري، وتحرُّرًا من سُلطة المرجعية الواقعية بجميع أشكالها، حتى الرمزية منها. وكانت هذه القطيعة الحداثية تريد لنفسها أن تحقِّق، بشكلٍ تاريخي، العديدَ من الأفعال الحاسمة: منها تدعيم الطابع الشِّعري للتجربة التشكيلية، ومن ثمة طابعها المثقفي والثقافي (مجموعة الفن والحرية)، وهو ما تجلى — بالأخص — في اعتماد التداعيات والتفاعلات الشكلية والتأثيرية المتباينة ظاهرًا. ومنها التحرر من سلطة التشخيص، بما تضمنه من محاكاة للعالم، ومن تقييد وتشبيه يجعل المرجع أغنى من التعبير، ويحوِّل الإبداع التشكيلي إلى عبدٍ، تستغله السلطة السياسية في دعايتها الأيديولوجية المفضوحة المقاصد. كما منها — أيضًا — الإغراق في التجريب بحثًا عن جوهر العمل الفني، باعتباره مادة بحَّاثة عن النور، نور العالم ونور الحقيقة.
بيد أن أهمَّ توجيه، طَبَع هذه الاختيارات الحاسمة في تلك المرحلة، التي لا نزال نعيش امتداداتها، كان — في مضمره ومعلنه — ذا طبيعة مزدوجة: أعني الانخراط في حركية البحث الفني والجمالي العالمي، التي انطلقت منذ بدايات القرن الماضي في تدمير أحادية المرجعية التشخيصية والتشبيهية، من ناحية، ومن ناحية ثانية، استعادة المخزون التجريدي العربي الإسلامي، المعتمد على تفكيك الأشكال وتوريقها وتشبيكها، سواء بشكلٍ هندسي خالص، أم بشكلٍ تنميقي زخرفي، يملك هذا القدر أو ذاك من الحرية التعبيرية.
ومع ذلك، ظل التشخيص يسكن التجربة التشكيلية العربية، مثل ظلِّها الهارب. وكأن هذه الثنائية (تجريد-تشخيص) تعلن عن إفلاسها منذ البداية؛ فثمة حكي وتشخيص لدى عبود كما لدى خدة، كما لدى الغرباوي، يثوي وراء العنفوان التعبيري الصارخ بالانطلاق.
لنعدْ إلى مبتدأ قولنا.
من ثَم، لنقلْ إن للفن (من تشكيل وسينما ورقص وموسيقى) اليوم دورًا أكبر بكثيرٍ مما مضى لاستعادة الإنسان المصور باعتباره كائنًا متساميًا عن الآدمية العمياء، التي صرنا نغوص فيها في العقود الأخيرة. بل لنعلنْ أن استعادة التشخيص بجميع تلاوينه صار — بشكلٍ ما — رهانًا فنيًّا وجماليًّا، له بُعدٌ سياسي وحضاري. يتجلى هذا البعد في رد الاعتبار للواقع ولطابعه المزدوج، إن لم نقل لطابعه المتعدد. فالواقع (الحاضر) ليس تابعًا للمستقبل، سواء أكان ميتافيزيقيًّا أم دينيًّا أم أخرويًّا. إنه الصلب المتحرك لذاك المستقبل. كما يتجلى أيضًا في «رد الاعتبار» للجسد وللمرئي ولغير المرئي بعدُ، باعتباره سندًا ﻟ «اللامرئي». صحيح أننا عابرون بأجسادنا لهذا العالم، غير أن هذا العبور يغيِّر العالم، ويمنحه صورًا جديدة، لا في مخيِّلتنا فحسب، ولكن أيضًا في كيانه هو. إنها الآثار التي يتركها عبورنا، والتي يُعتبَر الفن إحدى ركائزها «الخالدة».
بهذا المعنى، وبغيره، يغدو الفن (والفن المشخص التجسيمي منه بالأخص) اليوم رهانًا ذا طابع سياسي وحضاري ومستقبلي. فتشجيع تدريس الفنون وممارستها، وتشجيع الرسم في المدارس، والجداريات في المدن الصغرى والكبرى، ومنْح المعمار الفني مكانًا في المدينة، لهي أمور تقوِّض من عَمى البصر والبصيرة، التي تحاصرنا كالأخطبوط. كما أن تحرير الفن من السياسة الدَّعَوية، كما دعونا له في البداية، يعني — من جانبٍ آخر — تحويله إلى وساطة تاريخية فعالة في تحرير الأذهان من نكران الصور، ومن ثَم من إعدام الفن. فالفن ضامن للرؤية البعيدة المدى، والصورة ذاكرة المستقبل وأُفقه، والتصوير سحر الحياة الدائم.