الفوتوغرافيا فن المشاغبات المتجدِّدة
عجيب هو أمر الفوتوغرافيا وتاريخها. فحين نشر والتر بنيامين كتيبه الشهير «الفن في عصر التقنية»، كان إحساسه عارمًا بأن هذه الصورة التقنية تدشن عصرًا جديدًا للفن. ذلك ما حققته الصورة الشمسية في السينما بعد أن منحها السينماتوغراف الحركة. وذلك أيضًا ما حققته في دمقرطة المعرفة بالحياة والأشخاص. الفوتوغرافيا فنٌّ مشاغب، متمرد ومعارض لسلطة الفن السابقة. فإذا كان البورتريه الفني، خصوصًا إذا صدر عن فنان مرموق شهير، يساوي ما يساويه من أموال طائلة، مهما كان أسلوبه، واقعيًّا أو تعبيريًّا أو انطباعيًّا أو غيره، فإن الصورة الفوتوغرافية للشخص نفسه تُنجَز في وقتٍ أقل، ولها من النسخ ما يجعل صاحبها يغيِّر من حجمها.
لم يخطئ هايدغر حين اعتبر التقنية مصيرًا وجوديًّا. فالتقنية هي التي أخرجت الفن — عمومًا — من أحادية مصدره، ومن طابعه الميتافيزيقي. كان ذلك مع اختراع الطباعة التي جعلت الكتاب في متناول الحشود. ثم تبع ذلك بتقنية الحفر تعديد الصور. والتقنية مكَّنت أيضًا الصورة وفعل التصوير في الزمن الرقمي من أن تغدو لصيقة بالإنسان عبر اختراع الآلة الرقمية، ثم من خلال إدماجها في الهاتف الشخصي.
بذلك صارت الفوتوغرافيا فنًّا جماهيريًّا بامتيازٍ. وصارت الصورة غير قابلة للتحريم والتجريم، لأن استخدامها صار يدخل في الاستراتيجيات الشخصية والتواصلية لأكثر الحركات سلفية وأصولية وتزمتًا. ولو أن هذه الحركات اتَّبعت الأحاديث المحرِّمة للتصوير (وما أكثرها، إن جزئيًّا وإن كليًّا) لما استطاعت أن تصل إلى ما وصلت إليه من امتدادٍ وتشعبٍ وقوة. التصوير واستعمال التصاوير (كما تقول الأحاديث) هو الاستثناء الأكثر مثارًا للدهشة في «أصولية» الحركات الجهادية، فهي تستعمله بكثافة ودقة تتجاوز الاستعمال اليومي للمواطن العادي.
كثرة الصور تخلق العماء البصري كما يقول ريجيس دوبري، بل إنها تخلق وثنية جديدة تجعل الإنسان متشبعًا بها إلى حد العبادة والتقديس اللاواعي. ولو أدرك أصوليونا ذلك (وهو ما يتغاضون عنه عنوة) لحاربوا الصور التي يستعملون قبل أن يحطموا تماثيل بوذا أو التماثيل الآشورية في العراق. لكنهم لا يتورعون عن استعمال الفوتوغرافيا وكأنها ليست بصورة، بشكلٍ أكثر من استعمال المراهقين لها في الفايس بوك وفي حياتهم اليومية.
للصورة فتنة لا تضاهيها فتنة. والفوتوغرافيا حوَّلت الإنسان العادي إلى كائن نرجسي بامتيازٍ. كان التقاط الصور فيما مضى يقصد منه خلق الأثر أو الشهادة على لحظة معينة بتثبيتها. أما اليوم فصار «السيلفي» موضة الشباب التي بلغت عدواها حتى للكهول والعجزة. لم يعد المرء بحاجة للمصور، ولا حتى للآخر، يكفيه أن ينقر على أيقونة فتواجهه العدسة. بل سار الأمر بشركات آلات التصوير إلى ابتداع ذراع تمكِّن من تثبيت الآلة أبعد حتى يكون إطار الصورة أكبر … وصرنا نرى مندهشين أناسًا يتابعون أنفسهم بما يشبه عصا الارتكاز ليعيشوا بالتأكيد حالهم وقد تحول إلى صورة.
عاشت الصورة مرحلة طويلة من التهميش طغت عليها الاستعمالية، من الصور الشخصية إلى صور بطائق التعريف إلى البطائق البريدية وما تلاها … هذا الطابع النفعي جعل الفوتوغرافيا لا تدخل عالم الفن، ولا يُعترَف لها بأنها فن إلا في الربع الأخير من القرن الماضي. وظل كبار الفوتوغرافيين، من نظر إلى كارتيي بريسون، يعتبرون كذلك تجاوزًا فقط، لارتباط ممارستهم التصويرية بمشروع بصري يخرج عن مألوف التصوير الفوتوغرافي.
ثمة حنين إلى التشكيل تحمله معها هذه الممارسة منذ عشرينيات القرن الماضي. وهو حنين فتح للفوتوغرافيا مجالًا شاسعًا من التجريب جعلها تضاهي الحرية التي يمتلكها الفنان التشكيلي. هذا التقارب قد يكون في أصل التفاعلات الجديدة التي صارت الفوتوغرافيا تنهجها مع الفنون البصرية الأخرى. وكأنها — بذلك — تؤكد أن التقنية قادرة على التحرر من إكراهاتها. تعود الفوتوغرافيا بذلك إلى جوهرها المشاغب العنيد، بل والحربائي، لتولد مرة أخرى، بشكلٍ مستقلٍّ، كفنٍّ منفتح. وهكذا صرنا نعيش سيرة جديدة ومتجددة لهذا الفن، يكاد يخترق الفنون كلها: من تصاوير بلاتوهات الإخراج السينمائي، إلى صور إشهار أكبر ماركات الملابس والعطور، مرورًا بالربورتاجات الفوتوغرافية التي يتوازى فيها الفن مع التقاط الوقائع.
لهذا الفن من المقدرة ما لا يوازيه في ذلك، أو يشابهه، فن آخر. إنه عدسة مفتوحة على المرئي، تقتطعه وتقدمه لنا في أشكال مبتكرة. كما أنه بالرغم من طابعه التقني، إلا أنه قابل للاشتغال الشخصي. ولعل هذا الأمر، الذي صاحبه هو الذي جعله يغدو أحد أسس الفن المعاصر.
الطابع المشاغب للفن الفوتوغرافي هو الذي جعله يخترق باقي الفنون البصرية ويمنحه حللًا جديدة. ونظرًا للطواعية التي يمكِّن منها صار الفن الاحتجاجي بامتيازٍ، خاصة في وقت عرفت فيه مجتمعاتنا العربية العديد من الهزات والمنعطفات. إن مزية هذا الفن، الذي ظل هامشيًّا في الممارسة البصرية العربية إلى وقتٍ قريبٍ، هو أنه صالح الفن العربي الشائخ والخائب مع السياسي. فالقدرة اللاقطة، كما الكلفة البسيطة والحركية التي يتمتع بها، جعلت العديد من الفنانين الشباب يتجهون إليه لقدرته الفائقة على الالتقاط، وكذا للإمكانيات التي يبيحها في بناء المفهوم الفني كما للمعالجة التي تمكن منها التقنيات المتقدمة اليوم.
بيد أن المفارقة الكبرى التي يسعى إلى تأسيسها الفن الفوتوغرافي هي أنه، وهو يستعمل التقنية التي تؤسسه، ينفصل عنها ويتحرر منها. إنه يتخلى عن طابعيْن أساسييْن، حددهما رولان بارث في «السامي» (الطابع الفني المتحذلق) وفي «الفحولة» (التي تميز الروبورتاجات). لقد صارت الممارسة الفنية أكثر تصورية مما سبق، متخلية عن التقنية، تنحو بها إلى الانمحاء والإضمار. وفي هذه المفارقة السعيدة والمرحة، يجد شباب الفن العربي الكثير من الحرية الحركية التي صارت، منذ أكثر من عقد من الزمن، تأخذ طابعًا مركبًا. فالفوتوغرافيا صارت تصاحب المنشآت والمنجزات الفنية كظلها؛ وهي غدت، من ناحية أخرى، تؤسس لبناء جديد لنفسها، من خلال استقلالية جموح تجعل منها كيانًا مركبًا.
بهذا يمكن القول إن الفوتوغرافيا تنحو إلى أن تغدو فن المستقبل. فهذا الفن الذي ظل قاصرًا لعقود طويلة، كبر فجأة، وصار يغزو مجمل الحقل البصري، مانحًا لجسد الفن العربي المعاصر الكثير من التجدد، والأكثر من اليقظة لدوامة عالم يحتاج أكثر فأكثر لعيون ثاقبة النظر، ولنورٍ كافٍ كي تخترق فرشاته القاتمة.