هل هي نهاية الفن؟
كثيرًا ما نسمع هنا وهناك تعابير من قبيل: «وما جدوى الفن»؟ «إنها نهاية الفن» … تلكم عبارات، إن لم تكن تترجم الحس المشترك والذوق العام، فإنها تحيلنا إلى التحولات العميقة التي تطال مجمل الممارسات الجمالية من أدب وفن وموسيقى. لقد صار التجريب يصل حدودًا من الشساعة بحيث لا يمكن لأي مفكر أو فيلسوف إلا أن يعيد طرح السؤال الماهوي: «ما الفن، وما الأدب، وما الموسيقى؟» ذلكم هو السؤال الجوهري نفسه الذي طرحه هايدغر في بدايات القرن الماضي عن الميتافيزيقا، كي يتمكن من تقويض أسسها المستشرية في الفكر الغربي، من غير أن يستطيع التنصل من حدودها الآسرة (كما ذكَّرنا بذلك جاك دريدا غير ما مرة). وهو السؤال نفسه الذي طرحه جيل دولوز على الفلسفة ليعيد تركيب مكوناتها وأسسها من منطلقات جديدة.
بالشكل نفسه، وقياسًا على هذا التحليل الذكي، الذي لا يزال يلهمنا في حل العديد من المعضلات، فإن القول (أو الحكم القاصم) بنهاية سيرورة تاريخية ما يحملها الإنسان في ذاته (كالفن والكتابة، ومن ضمنها طابعه الإنساني الخاص) لهو ضرب من الفكر الهيجيلي المبسَّط، مع فارق دقيق هو أن هيجل جعل التاريخ المطلق والأسمى منتهى التفكير الإنساني. غير أن هذا التاريخ في شكله الواقعي لم يكن في نظره غير التاريخ الذي جسدته الثورة الفرنسية.
إن هذا يعني أن الحديث عن نهاية الفن (على سبيل التمثيل) هو أيضًا نوع من النوستالجيا، تلك التي جعلت هيجل يتخذ من فن الفراعنة قمة ومنتهى الفن. إنها نوستالجيا تجعل تاريخ الفن ينطلق من أصلٍ أصيل غير قابل للتجاوز. والحال أن لا شيء يموت نهائيًّا لأن ذاكرته تظل تعيش فيما يتجاوزه أو يعوضه. من ثَم نفهم جيدًا كيف أن القائلين بنهاية الفن هم أولئك الذين يجعلون من الماضي والأصل، ومن الوظائف التي أنيطت بالفن جماليًّا واجتماعيًّا، أصل مفهوم الفن.
لنعد للعبة النهاية والغاية، لنعترفَ بأن الفن يولد من جديد كل مرة في صيرورة تحولاته. فحين فقد وظيفته القدسية في الماضي استعادها بشكلٍ مغايرٍ في وظيفته الجمالية، بل والاجتماعية ثم السياسية. لذا تكمن نهاية الفن في غايته ومقاصده التي بها يعيد استكشاف نفسه. لا يمكن لشيء يتصل بخيال الإنسان، وبقواه الروحية، أن يندثر إلا في الأشكال التي يتخذها تبعًا لتطور هذا الكائن. بل إن هذا التطور، حتى وإن بدا وهو يسلك مسارب غريبة (كما هو الأمر حاليًّا)، لهو يستعيد مجمل أصوله، إن لم يعد إليها ليستلهم جذورها.
إن الانتقال من عصر الكتابة إلى عصر الصورة لم يقض على الكتابة بقدر ما منحها أسندة جديدة؛ جعلت الكتاب يُقرأ على صفحة افتراضية هي الشاشة، وجعل المكتوب يغدو من جديد صورة كما كان في أصوله الأولى.
لن يسعفنا هنا أفلاطون في فهم هذا الأمر. قد يسعفنا تفكير ريجيس دوبري أكثر في حديثه عن حياة الصورة وموتها. وقد يسعفنا الخطيبي أكثر في حديثه عن الحياة المزدوجة والموت المزدوج، لنقول معهما إن حياة الصورة تكمن في بعثها من جديدٍ لكل صورة، أي للكتابة (والخط صورة حسب لسان العرب) وللصوت (ألم يسم دو صوسور الصوت صورة صوتية؟) لا شيء يموت من غير أن يجد انبعاثه في شكلٍ جديدٍ، وذلك قانون كل الإبداعات الرمزية للإنسان.
يقودنا كل هذا إلى التشكيك الذي يسري اليوم، سواء بين الفنانين «التقليديين» أو بين عموم المهتمين بالفنون البصرية. فالقول فيما مضى بأن الفن التجريدي هو، عكس التشخيصي التجسيمي فن لا معنى له، كان يعلن هذه النهاية المحتومة، لا للفن، وإنما لممارسة معينة له تربطه بمرجعية المرئي. والحقيقة أن التجريدية لدينا أقرب إلى تاريخ فننا الإسلامي الذي يعتمد الزخرفي وتفكيك المرئي. واليوم حين يزعم المنافحون عن اللوحة، باعتبارها الفن بامتيازٍ، بأن الفن الجديد، في اعتماده على الجسد والفضاء، ضرب من العبث الذي يغتال الفن، ألا ينسون أو يتناسون بأن الفن الإسلامي (وهو فننا الأصيل) فن فضائي بامتيازٍ؟ ألا يتجاهلون أيضًا أن الزمن الحالي هو زمن الصورة وتداخل الفنون؟
يمنح العصر البصري للفن هوية جديدة تتمثل بالفعل في تعدد مكوناته، وانبنائه على التجريب، واشتغاله في سياقه الواقعي. من ثَم فإن كل نهاية مزعومة تمنح الفن تحولات جديدة وانفتاحات أكثر جدَّة تجعل من الفنان أشدَّ حساسية تجاه محيطه … بالجملة الفن حاليًّا أكثر حيوية وحركية ودينامية بفعل الممكنات المتوافرة لديه، والإبداع فيه صار أشد تعقدًا وتركيبًا، ودلالاته صارت أغنى وأشدَّ شساعة، فقط يكفي أن يكون فنانونا في مستوى ما يتطلَّب منهم ذلك من جَهد وبصر وبصيرة … وبذلك، فالفن أكثر حياةً اليوم لأنه أقرب إلى الناس مما كان عليه الأمر قبلًا.